المسافر في بريّته والمقيم في مرآته والمغرم بإيقاعاته
منذ خمسينات القرن الماضي كان المشهد التشكيلي المغربي غاصا بالرسامين الذين تميزوا بغزارة إنتاجهم وتنوع أساليبهم واختلاف منطلقاتهم النظرية وطرقهم في التفكير في الرسم. غير أن هناك شيئا واحدا كان يجمعهم ويوحي بأنهم كانوا يسعون إلى الوصول إلى هدف واحد. كانت الحداثة الفنية في المغرب مزيجا من تلق واع وعميق لتحولات الفن في أوروبا ونزعة حرفية كانت وسيلة لمحاولات تمثل مفردات وصيغ المعالجات الجمالية التي انطوت عليها الفنون اليدوية الشعبية كالنسيج والخشب وصناعة الجلود. وهو ما يمكن تلخيصه بعبارة واحدة هي “حياتان في حياة واحدة”.
لقد التفت الرسامون المغاربة إلى مصادر القوة في طرفي المعادلة الملهمين آخذين في نظر الاعتبار قدرة تلك المصادر على أن تشارك في صناعة لوحة تنطوي على خصائص تجمع بين ما هو محلي وما هو عالمي تمهيدا لتشكيل هوية ثقافية من طراز خاص. تلك هوية ليس من اليسير التعرف عليها أو تعريفها من خلال الاكتفاء بواحد من المصدرين. وهو ما كان واضحا في أعمال أحمد الشرقاوي والجيلالي الغرباوي وفريد بلكاهية ومحمد شبعة ومحمد المليحي ومكي المغارة وسواهم من فناني عقدي الخمسينات والستينات.
مصادر إلهام جديدة
في عقد السبعينات دخلت مؤثرات جديدة على الخط. وكما أرى فإن وشائج القربى التي كانت تتنامى بين الفنّين العراقي والمغربي فتحت الباب للتعرف على تجربة الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925 ــ 2004) من خلال الإنصات إلى بياناته المتمردة “البيان التأملي” البعد الواحد” و”الحرية في الفن” إضافة إلى معالجاته للسطح التصويري التي انطلقت في البدء من مبدأ استلهام جماليات الحرف العربي. من وجهة نظري كان المغاربة أكثر قربا من نهج آل سعيد الفكري والأسلوبي من العراقيين. ذلك لأنهم سرعان ما طوّروا تجربته ولم يقفوا عند حدودها. ساعدهم في ذلك اطلاعهم المباشر على الأصل الأوروبي المتمثل بتجربة الفنان الإسباني أنتونيو تابيث. لقد قيّض لي أن أرى في ثمانينات القرن الماضي عددا من لوحات عبدالله الحريري وفؤاد بلامين. يومها أدركت أن المغاربة قد عثروا على المفاتيح التي ستمكّنهم من الدخول إلى مناطق سيظل العراقيون المتأثرين بآل سعيد عاجزين عن الاهتداء إليها. كان الحريري قد درس الرسم في بولندا وهو ما زوّده بعدة فكرية بصرية تختلف عن العدة التقليدية الجاهزة التي كان يملكها الفنانون المغاربة الذين درسوا في فرنسا أو إسبانيا.
كانت السبعينات مرحلة اتسعت فيها الرؤية. ولم تعد القاعدة التي بنيت عليها الحداثة الفنية قادرة على أن تدافع عن نفسها وإن كان سؤال الهوية لا يزال قائما. لقد تم اختزال المنطقة التي تتفاعل فيها المواد والمعالجات الجمالية المحلية إلى درجة الإخفاء وكان هناك شعور بأن تلك التجربة قد استننفدت الغرض الجمالي الذي اخترعت من أجله.
كلفة الحرية
أعتقد أن ما قام به فنانو السبعينات كان فعلا عظيما لا على مستوى ما أنجزوه من لوحات رائعة وحسب بل وأيضا من خلال قيامهم بفك الارتباط بالفنون اليدوية التقليدية، مواد ومعالجات ومفردات وطريقة في التفكير. كانوا أشبه بمصفاة مرّ من خلالها الرسم النقي الخالص والصافي لينهي علاقة نفعية لم تعقد إلا لأسباب مؤقتة، غلب عليها الطابع السياسي. أما وقد انتهت تلك الأسباب فقد بدا جليا أن هناك ما هو سطحي ومباشر ولا يقوى على مقاومة الزمن.
الرسامون الثلاثة الذين اخترتهم من بين عدد كبير من الرسامين المغاربة الذين يقفون اليوم في مقدمة المشهد هم ورثة تلك القطيعة. لقد وجدوا المائدة جاهزة أمامهم وما كان عليهم أن يلتفتوا إلى الوراء. لقد حُلّت مشكلات كثيرة غير أن زمن الحرية سيكون مكلفا. هناك حقائق تتعلق بالرسم صارت مواجهتها هي المقياس. فحين نصفهم برسامي عصر حديث فذلك معناه أنهم صناع ذلك العصر.
شردودي وأزغاي والهيطوط هم أبناء جيل متمرد وضعه القدر في مواجهة الحرية. استحقاق يقف الرسامون الثلاثة بين مقاومة عصفه والمضي به إلى الهاوية.
عبدالله الهيطوط: المسافر في برية الرسم
حين يكون الرسم عادة فإن النظر إلى العالم يكون مليئا بالمفاجآت الجمالية. هناك جمال في كل لحظة نظر. وهناك ما لا يُحصى من المسرات. حينها يكون من اليسير على المرء أن يكون رساماً. فكل شيء يصلح أن يكون موضوعا للتأمل. كل شيء يكتسب نضارة إذا ما امتدت إليه يد الرسام الذي ينصت إلى أصوات الأشياء من حوله.
العيش في الرسم
هذا ما يفعله المغربي عبدالله الهيطوط وهو يحتفي بكل شيء من حوله. يمحو ويضيف. يركّب ويفكّك. يلصق ويزيل. مطاردا “أناه” التي توزعت بين المشاهد التي شكلت نوعا من الذكريات الشخصية. فالرسم بالنسبة إليه هو نوع من ممارسة العيش. إنه يرسم ليحيا.
الحياة كما نُحب. الحياة كما تُحب. تستحق أن تكون موضوعا للرسم. وهي في الوقت نفسه تتحول إلى مغامرة اكتشاف. يعيد الرسام اكتشاف الحياة على الورق لتفاجئه بسحرها. تظهر المشاهد التي مرت عابرة.
لا يتعلق الأمر بمحاولة استحضار بقدر ما يعبّر عن رغبة ملحة في المساءلة حين تقوم عناصر الرسم بالتنقيب بحثاً عن دلالة اختطفها مرح أو حزن كامنان.
لذلك فإن الهيطوط ليس من الرسامين الذين ينتظرون الإلهام. إنه يباشر عمله في أيّ لحظة كما لو أنه يعرف ما يريد القيام به من غير أن يكون كذلك.
ليس هناك من شيء يعيقه عن الرسم. علاقته بالرسم هي أشبه بعلاقة المرء بفكرته عن حواسه. وهو ما ينبئ عن تجريد هائل يعيد تنظيم العلاقات بين ما يُرى من الألم وما يظل خفيا.
أشبه بمَن يكتب مخطوطة، تبقى أسطرها التي لم تُكتب بعد عالقة بخيال زمنها يلاحق الهيطوط عناصر لوحته. إنه لا يزيل عنها الغبار بل يجدها ناصعة وهي تومئ له بحذر وسط الحفلة التي يقيمها.
الهيطوط رسام لا يبالي بما ينتهي إليه من نتائج. تهمه البدايات والمنحى الذي تأخذه حياته وهو يمارس الرسم. الطريق لديه أهم من الهدف. فهو لا يرغب في الوصول إلى بضاعة متقنة الصنع من أجل تسويقها.
كائنات معفية من المعنى
ولد عبدالله الهيطوط عام 1971 في لاله ميمونا بالمغرب. درس الفلسفة عام 1993 وعمل في التدريس. اهتم كثيرا بإقامة ورش فنية للأطفال وهو ما ألقى بظلاله على تجربته الفنية. عام 2011 بدأ بإقامة معارضه الشخصية إضافة إلى المعارض المشتركة التي كان أهمها “ورد أكثر” الذي أقامه عام 2018 مع الفنانين عزيز أزغاي وفؤاد شردودي تحية للشاعر الراحل محمود درويش.
وبالرغم من أن فن الهيطوط يتضمن الكثير من التجليات الشعرية فإنه يتلمس طريقه إلى الالهام عبر تماسه بما هو مادي وهو ما جعله يقف بين عالمي الإسباني أنتوني تابيس والأميركي باسكيات محتفيا بما تطرحه المواد من حلول جمالية وبما تعبر عنه تلك المواد من حيوية تقرّب المخفي من صلابته غير المتوقعة.
كان الهيطوط مسحورا دائما بكفاءة أصباغه وقدرتها على صنع الفوضى وهو ما تعلمه من رسوم الأطفال، لكن بحذر شديد. فهو يحتاط من أجل أن لا يسمح لتلقائيته بالسيطرة على مهارته التي هي عدته في صنع عالمه الذي يسعى إلى أن يكون مرآة لأفكاره. لا يرسم الهيطوط مثل الأطفال ولا يتشبّه بهم غير أنه ينظر إلى النتائج التي تنتهي إليها رسومهم بإجلال، كونهم كائنات معفية من المعاني.
مرثيات لحياة زائلة
“التجريدية سمحت لي بتغيير طريقة النظر إلى الأشياء. أي بالتفكير ببساطة وحرية بكثير من العفوية. لست تجريديا بالمعنى الكامل للكلمة” يقول الهيطوط. ويضيف “إذا كانت التشخيصية تركز على المظهر فإن التجريدية لا تقف عند القشرة بل تغوص إلى العمق. أنا رسام تجريدي بهذا المعنى على الأقل ففي القاع يكمن الجمال”.
لا يميل الرسام إلى الوصف. لذلك فإنه سعيد باختراق القشرة. ولكن العنف الذي يسيطر على السطح التصويري يشي بما يحمله الهيطوط معه من العالم الخارجي من آثار وتداعيات الحروب. فإذا كان الجمال يكمن هناك فلا يمكننا الحديث سوى عن نوع متشنج من الجمال. تسيل الأصباغ كما لو تتدفق من جسد اللوحة مثل دم ضائع.
التجريد بالنسبة إلى هذا الرسام هو محاولة للنبش بحثا عن أصول النظرة التائهة التي يلقيها بشر، قُدّر لهم أن يعيشوا حياتهم على عجل كما لو أنهم كائنات عابرة. رسوم الهيطوط هي عبارة عن تسجيل لما يُرى من أثر للعيش العابر الذي يمس الأشياء بخفة وقلق.
تبدو تلك الرسوم كما لو أنها مرثيات لحياة زائلة. ولكن الهيطوط يحتفي بالمنسيات في محاولة منه للتذكر. تظهر الأشكال الواقعية شفافة كما لو أنها في طريقها إلى أن تختفي. وهي ليست بالنسبة إلى الرسام إلا ذريعة لتنشيط الذاكرة.
الباحث عن أناه في الرسم هو في حقيقته باحث عن ترجمة تلك الأنا من خلال مفرداتها الصغيرة. وهي مفردات لا يمكن جمعها عن طريق لصق بعضها بالبعض الآخر بل عن طريق القبول بتناقضاتها. لا شيء من الانسجام يمكن توقع ظهوره في لوحات هذا الرسام. فالأشياء التي يستلهم الهيطوط عنف ظهورها إنما يقف بعضها أمام البعض الآخر بقدر لافت من التحدي والرغبة في المحو والالغاء.
ألا يمكننا أن نتحدث هنا عن جمال مضاد لا يعترف بمفهوم الراحة؟
وجود ضد الرسم
لا يتبع عبدالله الهيطوط في صناعة لوحاته المبدأ الذي يدعو إلى بث الشعور بالراحة في نفس المتلقي سعيا من خلاله إلى الوصول إلى جمال آمن ومطمئن. إنه يفعل العكس تماما. فهو لا يستثني من شغبه أي شيء تصل إليه يداه. إنه يبث روح تمرده في الأشياء كما في المساحات اللونية التي تهاجمها كما لو أنها تمارس غزوا. فكرة “الغزو” هي التي تؤطر تجربته بقدر هائل من العنف. يذكرني سلوك الهيطوط بما كان يفعله الرسام الهولندي كارل آبل حين يرسم. الرسم باعتباره صراعا ضد عدو غامض، غير مرئي وقوي. نوع من الكفاح من أجل أن يقتنع المرء بكونه يفعل الشيء الصحيح. يقوم الرسام بالفعل ذاته غير أنه ينتج أشياء مختلفة. تلك هي مفاجأة سيكون عليه أن ينتظر تأثيرها النفسي على الآخرين. بالنسبة إلى الهيطوط فإن الرسم هو نوع من القتال. أحيانا يتسم ذلك القتال بالعشوائية فلا يصيب هدفه. في أحيان أخرى يكون تلقائيا وبدافع الغريزة. الرسام هنا يدافع عن نفسه ضد الوصفات الجاهزة. يحاول أن ينسى ما تعلمه. سيكون عليه أن ينسف الطريق التي مشى عليها من أجل ألاّ ينظر إلى الخلف.
لقد درّب نفسه على أن يهدم. غير أن العالم الذي كان يبنيه الأطفال أمامه ترك أثرا عظيما في نفسه. في لحظات يحاول أن ينسى مهمته في الرثاء لكي يعيد إلى نفسه قدرتها على التفاؤل. وهنا بالضبط تبدأ رغبته في إعادة بناء العالم بطريقة تنسجم مع خياله. “تحت الخطوات يرتسم ممشى الأشياء التي تظهر وتختفي” يقول وهو يصف استعادته لوعيه بالعالم ممن حوله بعد أن وهب نفسه للرسم باعتباره عملا سريا خالصا.
يرسم عبدالله الهيطوط كما لو أنه يلقي تحية الوداع على عالم لم يعد في حاجة إليه غير أنه في الوقت نفسه يهب ذلك العالم نضارة هي واحدة من هبات الرسم الخالص.
فؤاد شردودي: الشاعر والرسام في مرآة واحدة
غالبا ما يتميز الحديث عن العلاقة بين الرسم والشعر بالكثير من المجانية والإرسال والغموض وعدم الثقة. ذلك يمكن توقعه إذا أتى ذلك الحديث من خارج التجربة التي يحكمها الإيقاع. فالإيقاع حين يغيب عن الجدل يقع ذلك الجدل في منطقة تجريدية، لا شيء يُمسك فيها.
أما حين يتعلق الأمر بالشعراء الذين مارسوا الرسم من داخله فإن كل شيء يتسم بالحيوية والدفء والكثافة والعمق والوضوح ربما.
الشاعر الفرنسي هنري ميشو هو المثال الأبرز في ذلك المجال. كان ذلك الشاعر المهم مخترعا في مجال الرسم. فـ”التبقيعية” التي اخترعها ما كان لها أن تظهر لولا الشعر. إنها ابنة الشعر.
المغربي فؤاد شردودي هو ابن الشعر الذي تعرف على الرسم باعتباره أثرا شعريا. ذلك رسام لا ينسى كونه شاعرا في كل لحظة إلهام بصري. لذلك يمكن وصفه بالشاعر الرسام وليس بالشاعر والرسام.
الشاعر الرسام أو كلاهما
ربما لا يتذكر شردودي اليوم مَن قاد الآخر إلى الإيقاع ومَن علّم الآخر فن نسيان الواقع، الشاعر أم الرسام؟ إنه سؤال لم يعد له معنى.
فشردودي يرسم لأنه شاعر وهو يكتب الشعر لأنه رسام. وهو عن طريق الرسم والشعر يعيش حياة مترفة يغمرها الإيقاع. إنه ابن اللحظة التي يشتبك فيها نبل الاثنين برفعة الحياة. شيء لا يقع بقصد مسبق. فالفنان لا يسخر حدثا في خدمة حدث آخر. بمعنى أن الشعر لا يخدم الرسم والعكس صحيح أيضا.
اللغة التي تعلم شردودي أسرارها هي لغة الألغاز وليست لغة السرد. إنها اللغة التي لا تقدم نفسها باعتبارها وسيلة تعبير. صحيح أن الرسام والشاعر وهما الشخص نفسه يتصلان من خلالها بنا غير أنها تشكل في الوقت نفسه واحدا من أعظم أسباب القطيعة مع ثقافتنا. سنكون مستعدين لمواجهة عصف متمرد قادم من جهة مجهولة.
الأثر ما أجمله
بالنسبة إليه صار اللعب بالكلمات واللعب بالأشكال هما الشيء نفسه. ذلك لأنه في الحالين إنما يقوم بإعادة خلق الفكرة وليس التقاط تجلياتها المحتملة. إنه ينظر إلى الأشياء انطلاقا من نقصها. وهو ما سيلقي على الشعر والرسم مسؤولية القيام في البحث عن جماليات ذلك النقص وليس تعويضه كما يُخيل للبعض. فالشاعر والرسام يشيدان عالمهما، لكن في منطقة مجاورة.
شردودي رسام تجريدي غير أنه يصر على إجراء حوار تفاعلي مع مفردات الطبيعة والبيئة. إنه يفكر في الأثر. لقد فاتني أن أحدثه عن صديقي الصيني الذي عرض عليّ قبل ربع قرن أن أعلمه رسم الوردة مقابل أن يعلمني اللغة الصينية. ذكرتني رسومه بذلك الرجل الذي اشترط عليّ أخيرا أن أعلمه كيف يصل إلى رسم عطر الوردة. ما يفعل شردودي هو نوع من ذلك القبيل.
رسام وشاعر مسحور بالأثر
ولد فؤاد شردودي عام 1978 في مدينة سلا. أكمل دراسته الجامعية في كلية الآداب. لم يتعلم الرسم أكاديميا بل استند في ذلك إلى نزعة شخصية قادته في وقت مبكر إلى أن يتعلم لغة الرسم إلى جانب لغة الشعر.
أصدر الكتب الشعرية التالية: “السماء تغادر المحطة” (2008)، “أنا غير مسخر” (2013)، “ماسكا ذيل كوكب” (2014)، “من باب الاحتياط” (2016).
في الرسم بدأ عروضه عام 2001 في مدينته سلا. بعدها صار يشارك في لقاءات فنية مغربية وعربية ويقيم معارض شخصية في مدن مغربية مختلفة إلى أن أقام معرضا شخصيا في باريس عام 2016.
غالبا ما يتميز الحديث عن العلاقة بين الرسم والشعر بالكثير من المجانية والإرسال والغموض وعدم الثقة. ذلك يمكن توقعه إذا أتى ذلك الحديث من خارج التجربة التي يحكمها الإيقاع. فالإيقاع حين يغيب عن الجدل يقع ذلك الجدل في منطقة تجريدية، لا شيء يُمسك فيها
“ورد أكثر” هو عنوان المعرض الذي أقيم عام 2018 برعاية مؤسسة صندوق الإيداع والتدبير وبيت الشعر في المغرب يمثل منعطفا مهما في مسيرة شردودي الذي شارك مع زميليه عبدالله الهيطوط وعزيز أزغاي في توجيه تحية من نوع خاص إلى الشاعر محمود درويش.
شردودي هو شاعر محترف وبالقوة نفسها هو رسام محترف. هما الشخص نفسه الذي يتعلم من تقنياته كيف يذهب إلى المعنى ليخفيه. الكثافة التي تتميز بها قصائده ورسومه تتخطى قصدا مبيتا بعينه. ذلك رجل تسحره الكلمات والأشكال أكثر مما تجذبه المعاني. هناك الجمال الذي يبعثره المعنى. المعاني جاهزة غير أن الجمال قليل.
“اللوحة مدينة مقفلة ضاعت مفاتيحها في الأثر” يقول. وهو في ذلك إنما يمهّد لعلاقة من نوع خاص لا تقوم على أساس الاستجابة المباشرة. سيكون لدينا دائما وقت فائض لالتقاط المعاني غير أن المتعة الجمالية لها وقت ضيق قد يمرّ مسرعا من غير أن ننتبه لمروره.
هناك إلهام يمشي معه
“بعض المعاني تضرب عميقا في البئر، وبعضها لا يصلح كأزرار قميص. المعنى صديق خائن للعاشق، حانوته المفتوح دائما كصيدلية حراسة. هو دائما يُسقط العاشق في خطأ التكرار، ويمسح فمه بمنديل اعتذار خشن. حتى كلمة أحبك تظل تجرّه من قدمه كدخان سيجارة قبل أن يسقط كطائرة وسط مدرسة للبنات. لا بد أن تقول أحبك بين الكلمة والآخرى، وربما لسبب غير معلن ترضى بخسارة المعنى حين تعشق.
في العشق
“لا شجر يعرف من أين تأتي الفاكهة“
في هذه القصيدة التي تضمّنها كتابه “من باب الاحتياط” وهي بعنوان “معنى” يدخل شردودي في تفاصيل علاقته بصنيعه الفني والشعري من جهة العلاقة الملتبسة بالمعاني. وهو في ذلك إنما يضعنا في قلب تجربته الفنية حين يكشف عن طريقته في التفكير في الفن.
ولأن شردودي يرسم كما العصف المفاجئ، ذلك لأنه بسبب تربيته الاحترافية غالبا ما يجد نفسه مطاردا بالأفكار والرؤى والأشكال فإنه لا ينتظر لحظة الإلهام ليرسم أو يكتب الشعر. ذلك لأن الإلهام يرافقه أينما مضى وبالأخص إذا كان في مرسمه.
المواد التي يعمل من خلالها تملك سلطة غير محدودة للإلهام. وهناك أيضا سبب دائم لكتابة الشعر. ذلك ما دفع شردودي إلى الإيمان بحقيقة أن العمل المستمر وبطريقة مخلصة وصادقة هو الذي يستدعي الإلهام.
غير أن المفاجئ في الأمر أن الفنان بالرغم من غزارته في الإنتاج لا يخلق أعمالا متشابهة. صحيح أنه يمكننا التعرف على لوحته غير أن ذلك يجري بسبب تعرفنا على سلوك الفنان وهو يصنع سطوح لوحاته وليس بسبب الأشكال التي لا تتكرر إلا نادرا وبعيدا عن السيطرة.
بعد سنوات من الغياب
يبدو شردودي كما لو أنه يحاول أن يقول كل شيء في لوحة واحدة. ذلك الاستنتاج ليس صحيحا. ربما يبدو الأمر كذلك لو اكتفى المرء برؤية لوحة واحدة. غير أن رؤية المزيد من اللوحات لا بد أن تؤدي إلى كسر ذلك الوهم. فالرسام الذي يقبل على رسم كل لوحة جديدة كما لو أنها لوحته الأخيرة يساهم في صناعة ذلك الوهم، غير أنه سرعان ما ينقضه حين يبدأ برسم لوحة جديدة وهكذا تتكرر لعبة، يكون الفنان سيدها.
ولأن فن شردودي يقوم أصلا على اختراع أشكال لا أصول لها في الواقع، فإن الاختلاف في النظر إليه إنما يزيد من سعة المساحة التي يتحرك فيها. فهو ليس صنيعة مكان بعينه وإن كان يعلق على صلته بالأثر شيئا من الأمل وهو لا يرتبط بزمن بعينه لأنه محاول للتنقيب بين السطوح المتراكمة بحثا عن زمنه الخاص. وإذ يحرر الفنان فنه من عنصري المكان والزمان يهب عالمه حرية الاستمرار في النمو والتطور.
شردودي هو ابن الألفية الثالثة وفنه كما هو فن أبناء جيله المتمردين يعيد المغرب إلى صدارة المشهد الفني العربي بعد سنوات من الغياب.
عزيز أزغاي: سيد الحرفة المغرم بإيقاعها
تجعلك تجارب عدد من الفنانين من المغاربة في حالة استعداد للقبول بمنطق اللغة التي تتوزع بين الشعر والمعالجة البصرية. هناك جهد كبير استغرق عقودا لنصل إلى نتائج تبدو اليوم مثمرة وإيجابية. فالعلاقة ليست ملفقة بالرغم من غموضها. هناك شعراء أصيلون هم في الوقت نفسه رسامون حقيقيون وهم في الحالين لا يقيسون المسافة بين فن وآخر الأدوات التقليدية. غير أن عزيز أزغاي يبدو ظاهرة استثنائية في ذلك المجال. فهو شاعر ورسام وهو في الوقت نفسه ناقد فني، درس النقد أكاديميا. تلك مشكلة. كيف؟
لقد نجح المغاربة في التقريب بين لغتي الشعر والرسم، حيث صار مقنعا أن نتحدث عن شاعر رسام أو رسام شاعر. غير أن الناقد لا بد أن يقف في مكان آخر. مكان يوصد أبوابه على نوع محكم من اللغة. وهي لغة يغلب عليها منطق مختلف، تمتزج من خلاله المساءلة بالرصد من غير أن يتخلّيا عن عنصر المكاشفة الجارح.
إن تكن ناقدا فنيا فإن ذلك يوجب عليك أن ترى الظاهرة الفنية من داخلها ومن خارجها في الوقت نفسه وهو ما يحتم عليك أن تكون حرا في الحركة. وهو ما لا يتأتى للرسام أن يفعله.
مبدع بثلاثة رؤوس
الغريب في ظاهرة أزغاي أنه رسام ممتع وهو شاعر حساس وهو في الوقت نفسه يمتلك من الرؤية الفكرية والفنية ما يؤهله لأن يكون ناقدا. من وجهة نظري فإن الموهبة في ذلك المجال لا تكفي. هناك قدر عال من الحرفة هو ما جعل أزغاي قادرا على أن يحوّل طريقته في التفكير الفني إلى نهج نقدي لكي يكون كل شيء تحت السيطرة.
في حالته فإن ازغاي ينتقل من موقع إلى آخر بعد أن يقيس المسافة التي تفصل بين الموقعين. فالناقد سيكون دائما شخصا آخر.
هل ستضطرب المسافة في المستقبل؟ لا أريد هنا أن أخيّب أمل أزغاي وأنا هنا أحتفي به رساما وشاعرا وأيضا ناقدا فنيا، غير أنني أعرف أن الأمر صعب. بل في غاية الصعوبة. ربما كانت موهبته استثنائية. ذلك مؤكد. ومن المؤكد أن احترافه كان على قدر عال من الصرامة. غير أن فتوحاته البصرية في الرسم ولمعان لغته في الشعر سيقفان مثل علامتي استفهام أمام الناقد الفني.
ترى ما الذي يفعله ذلك الرجل الغريب في المحترف؟ تلك بداية غير موفقة لمقال عن رسام وشاعر ناجح أظنه سيجد حلولا لكثير من الأسئلة.
دائما هناك شعر ورسم
عزيز أزغاي هو ابن الدار البيضاء. ولد فيها عام 1965. درس التاريخ ومن ثم الأدب والنقد المقارن، بعدها واصل دراسته الفنية إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه في النقد الفني وكان موضوعها “التشكيل وخطاباته: قراءة في الخطاب النقدي حول الفن التشكيلي في المغرب”. بعدها عمل في تدريس تاريخ الفن.
عُرف في البدء باعتباره شاعرا وأصدر الكتب الشعرية التالية “لا أحد في النافذة” (1998)، “كؤوس لا تشبه الهندسة” (2002)، “رصاص الموناليزا”، “أكبر من قميص” (2009)، “الذين لا تحبهم” (2010)، “أسرى على قماش” (2015)، وأخيرا “حانة الذئب”.
“جاذبية الفراغ في التصوير العربي المعاصر” هو عنوان كتابه الفائز بجائزة الشارقة للنقد التشكيلي عام 2019. أقام أول معارضه الشخصية في الرباط عام 2008 أما ظهوره في المعارض الجماعية فيعود إلى عام 2004، كما اشترك في مناسبات فنية يغلب عليها طابع الجمع بين الشعر والرسم. وفي سياق تفسيره لعلاقة الفنين يستشهد أزغاي بمقولة للشيخ محمد عبده وردت في فتوى كان موضوعها “الصور والتماثيل وفوائدها وحكمها” يقول فيها “الرسم ضرب من الشعر الذي يُرى ولا يُسمع والشعر ضرب من الشعر الذي يُسمع ولا يُرى”.
روح الجمال وقوته
“حيلتك في استدراج الجمال
كانت إيماءة باهظة
في بضاعة لا تؤكل
ارتجاجا يغطي الهدوء
الذي يكذب”.
أزغاي هو وريث اتجاه فني مغربي يقوم على الاختزال. وهو ما ينسجم مع طريقته في إحالة العالم إلى نسيجه الشعري الذي يستند أصلا على التقاط لحظة التوتر. وهي لحظة خاطفة، خفيفة الوطأة بالرغم من حمولتها الثقيلة.
لذلك تبدو المعالجة الفنية أشبه بمحاولة الإمساك بالانفعال في لحظته. ما من تخطيط مسبق. الرسام هنا يعيش حالة إلهام مباشر، تنفّذ يده بطريقة تلقائية ما يمليه عليها خياله الذي يطارد أشكالا لن تكتمل. ما من شيء يُرى فيُوصف وما من حكاية تقع لتُسرد.
يستند أزغاي في معالجاته البصرية على تأثير الواقعة وليس على الواقعة نفسها. تلك مهمة صعبة، ذلك لأنها تتطلب أن يتحرك منفّذها في الفراغ وهو فراغ يؤثثه أزغاي بأشكال لا يستعيرها من الواقع بقدر ما يستخرجها من العناصر الأساسية للرسم التي غالبا ما تكون بالنسبة إلى الرسامين وسائل لإظهار الأشكال وليست هدفا. في حالة أزغاي فإن تلك العناصر تستدرج بحضورها المباشر على سطح اللوحة روح الجمال وقوة تأثيره.
التفكير عن طريق الجمال
النموذج الذي يطرحه عزيز أزغاي من خلال تجربته في تعدد الانشغالات الفنية وإن كان فريدا من نوعه فإنه لا يحقق هدفه إلا من خلال تطور سبل الارتقاء بالتفكير الفني لدى النخب الثقافية. وإذا ما عرفنا أن تلك النخب لم تتحرر حتى هذه اللحظة من أسلوبها القديم في عزل الأنواع الفنية بعضها عن البعض الآخر فإن تجربة أزغاي تتعرض للكثير من سوء الفهم.
فليس المطلوب مثلا أن تتم مقارنة رسومه بقصائده، بهدف المفاضلة بين الشاعر والرسام. فبعد كل هذا الزمن التجريبي يظهر أزغاي باعتباره فنانا لا يعاني من ازدواجية في الموقف من الشعر والرسم. وهو لا ينظر إلى الرسم من جهة الشعر وفي المقابل فإنه لا يرى الشعر باعتباره فعلا ناقصا يكمل من خلاله ما فعله الرسام.
الشاعر والرسام حاضران لديه بقوة الإلهام اللغوي. هناك ما يُكتب وهناك ما يُرسم. لذلك فإنه يجد نفسه مضطرا للتعبير عن مزاجه باللغة التي تفرض نفسها عليه لا باللغة التي يمكن أن يستبدلها بلغة أخرى.
يمكنك أن تقرأ أشعاره ولا تتذكر الرسام. ويمكنك أيضا أن ترى رسومه ولا تتذكر الشاعر. ولكن هناك لحظات فالتة تقع بطريقة غير مقصودة، يكشف أزغاي من خلالها عن ذائقة جمالية هي من نتاج ثقافته وطريقته الخاصة في التفكير في الفن.
أزغاي هو وريث اتجاه فني مغربي يقوم على الاختزال. وهو ما ينسجم مع طريقته في إحالة العالم إلى نسيجه الشعري الذي يستند أصلا على التقاط لحظة التوتر
أما حين يتعلق الأمر بالناقد الفني فإنها مسألة شائكة تدخل في إطار الرسالة الثقافية التي عاهد أزغاي نفسه على القيام بها. يعول أزغاي على النقد الفني في تطوير الذائقة الجمالية لدى النخبة وهو يفكر بتجربته الفنية.
في حقيقة ما يفعل فإن الفنان والشاعر المغربي إنما يفكر في وضع حلول لمشكلاتنا الثقافية عن طريق التوصل لوصفات مبتكرة، هي نتاج عمله في مختبر لغوي تفاعل الصوت والصورة فيه حتى ظن الكثيرون أنهما الشيء نفسه.
ولادة فن جديد
من خلال عروضه المشتركة يُظهر عزيز أزغاي اعتزازه بأنه ينتمي إلى جيل سيُعتبر في ما بعد جيلا مؤسسا لحداثة فنية مغربية جديدة. غير أن ما يعجبني في سلوك ذلك الجيل أنه حين يلتفت إلى الوراء لا يجد عيبا في التعبير عن شكره لعدد من الفنانين الذين ظهروا في أوقات سابقة وكان لهم أكبر الأثر في تشكيل ذائقته الجمالية وميوله الفكرية.
عزيز أزغاي هو ابن جيل يمهد بأصالة لولادة فن تشكيلي مغربي جديد.