الخوف من الحرية
“ليبارتيفوبيــا” مصطلح يقصد به معنى “الخوف من الحرية” أو “رهاب الحرية” حالة مرضية مرتبطة بسلوكات الإنسان المتناقضة، وهي ضمن إطارها الأخلاقي علامة على اضطرابات داخلية تصيب النفس البشرية بالاحتقان والغضب والهلع، ممّا يراد التخلص منه أو تملكه أو الفرار منه أو إليه، وتصبح ملازمة للفعل البشري بمجرد انتفائها عن القيم الإنسانية المسكنة لها، “فمتلازمة ليبارتيفوبيا” لها عوارض اجتماعية واقتصادية وسياسية يمكن أن نلتمس بداياتها في سلسلة بقع حمراء متطايرة بكل مكان، حيث الدماء المختلطة ريحها بالعصبية والعنصرية تجتاح عالمنا المغدق على شعوب الأرض بمزيد من أسلحة الدمار والتهجير، فطلب الحرية بوطننا العربي كان وجها بشعا لآلة القمع والقتل الرافضة للانتقال الديمقراطي الآمن، حيث تم تشخيص نضال المقهورين والمهمشين بمنطقتنا العربية كهمجية وبربرية مقيتة لا تنتج سوى الدمار، وكان الغرب المتعقب للانتهاكات والتجاوزات في صحراء مجلس الأمن يتماهى مع هذا الإفراط في الخوف معللا إياه بقرارات دولية مخزية تقصف الضحية لا الجلاد.
كانت عملية “تحرير الاقتصاد” تشوبها تشوّهات مرضية متفرقة، تحمّلت تبعاتها طويلة الأمد مجتمعات بثقافتها وهويتها واقتصاداتها الموازية، فأن تتحرر حركة رؤوس الأموال من دورة الحياة المالية للدولة، وتصبح الشركات متعددة الجنسيات المحرك الفعلي للسياسة الاقتصادية والنقدية بواسطة عرّابين كصندوق النقد الدولي، للسطو على الثروة الوطنية والحد من نمو الاقتصادات الصاعدة، لم يكن ذروة “الهلع من تحريره” حتى بعدما اجتاحت السوق العالمية الأزمة الاقتصادية 2008، بل كان الاهتمام بكيفية مواجهة تداعيات الأزمة وتقديم خطط إنقاذ محفزة، بدل العمل على نقد السياسة المالية للمؤسسات الدولية ونظام الفقاعة البنكية المتجاوز حدود الطبيعة البشرية في الحياة والتملك، لتنفق مئات المليارات لإنعاش البنوك المنهارة والتأمينات المفلسة، في وقت كانت سلالة سارس المتطورة تدق أسافين المجتمعات المقهورة منذرة بخطر أعظم يغشى نظام الرعاية والأمن الصحي للعالم.
حوكمة الخوف: الحجر على النشاط البشري
عندما طرحت صحيفة “ليزيكو” (Les Echos) الفرنسية سؤالا عن حال الاقتصاد سنة 2020، قدمت اقتراحات عدة منها صعود أسواق الأوراق المالية، أو ارتفاع الفوائد، أم أنه عام لغلاء سعر الذهب، أم سيكون عام استراحـــة؟ وكانت الإجابة عن تساؤلها تتوقف بمدى استجابة العالم لمعرفة حقيقة وباء كورونا المستجد الذي ينتشر في صمت، فالقليل من الوقت كان كافيا لأن يدخل العالم بأكمله مرحلة “استراحة شاملة” بسبب تصاعد عدد الوفيات الناجمة عن جائحة كورونا، إذ أنّ الخوف اجتاح العالم كما لو أنّ حربا تتساقط فيها الجثث من غير رمي ولا قصف ولا تسمم، عدوّ غير مرئيّ يفتك بالآلاف من البشر ويغلق الشركات الكبرى ويعطل الملاحة ويلجم الساسة في بيوتهم، بل إنّ الموت الذي أذاعه فايروس كوفيد – 19 كان حملا ثقيلا على اقتصادات لطالما ازدهرت أسواقها المالية بضحايا صفقات التسليح، ومجتمعات استهلاكية آن لها أن تدرك قيمة ما يُدّخر وما لا يُنتفع به، في لحظة استثنائية بدت الحياة أشبه بمدائن خالية وشوارع موحشة وحسابات لا حاجة لأصحابها بها، عواصم لطالما احتفت بملايين السياح والزائرين نزعت عنها الجائحة ثوب التمدن والتحضر وأسلمتها لطبيعتها المادية ممتحنة ما تبقى من إنسانيتها، فما نفعتها بورصاتها الصاخبة ولا أسواقها الضخمة أمام ما تحتاجه الإنسانية من رعاية طبية لمواجهة وباء كورونا، وما بقي لها سوى لباس الخوف يكتنف القرى والمدن المسوّمة بألقاب الحداثة والعولمة ليسلب منها حريتها الموحشة.
ربما منح “الخوف من الحرية” كطريق اتخذته الإنسانية لتبصر مستقبلها المشرق بحياة أكثر عدالة وأمنا للبشر جمعاء، أولئك الذين يرقمون مجتمعاتهم بسياساتهم الاستيطانية الحجج لفرض مزيد من القيود إزاء نشاط الإنسان نحو التحرّر والانعتاق مما ساد سنين عددا، فمتى كانت العدالة في بيئة صحية إلا أنتجت لنا الحرية مجتمعا متوازنا واقتصادا معتدلا وهويات متدافعة، وهذا ما كشفته جائحة كورونا وهي تعيد رسم الخطوط الأولى للدفاع البشري عن حق تملّكه وتنوّعه، فهي لم تمنح الحياة لطائفة دون أخرى ولم تجتبي خيرية لمجتمع دون مجتمع، كما أنها أثبتت مقدرتها على فرض رسوم مكلفة لهوس البشر في تحرير اقتصاداتهم وعولمة أسواقهم بطريقة احتكارية، لنكتشف حجم الخدع المالية والتجارية المبرمة بموجب اتفاقيات الاستحواذ والاندماج، كما أنّ المجتمعات المنهمكة في برامج التسلية والترف المادي ساقته نحو إعادة التعرف على ذاته والتقرب من مجتمعاته الداخلية بغلق الفضاءات المنافسة التي حالت بينه وبين الحياة الأسرية الحميمية، لتصبح القيود المفروضة على حركة البشر وإلزامهم بالحجر الصحي الكليّ تجربة بشرية فريدة من نوعها لفهم معنى أن يكفّ الانسان عن قول “لا”، وأن يصبح قبول الكثيرين “لمناعة القطيع” بمثابة خطيئة أخلاقية مكلفة للحياة الإنسانية، فما الموت إلا ظل الحياة وهو يأذن برحيلها كل ثانية مع إعلان أعداد ضحايا الفايروس المهولة، وفي لحظة ما توقف مصير البشر على اختلاف أمصارهم وأجناسهم بقرار سيادي يكفل أمنهم الصحي، وهم منقادون له كما لو أنّ شغفهم بالحرية في كسر جدر الخوف من الاستبداد والموت، تلاشت أمام رغبتهم الجامحة في البقاء والتمسّك بمزيد من الأحلام والآمال نحو غد أفضل وأرقى.
لقد فرضت الجائحة على العالم حجرا تاما توقفت بموجبه معظم الأنشطة البشرية، فمن أجل أن نحدّ من انتشار الوباء وجب علينا أن نلتزم بقدر لا بأس به من التضامن الإنساني والمسؤولية الأخلاقية تجاه ذواتنا ومجتمعاتنا، وللعمل على تحصيل نتائج إيجابية لمؤشر تراجع أرقام العدوى والاصابات وجب التكاتف والتضامن لتخليص ذواتنا من الأنانية واللامبالاة المهدّدتين لأمننا الصحي، والبدء في تقليم حريتنا ورسم حدود طارئة للفرد داخل بيته وعائلته ومؤسسته ودولته، فعداد الموت كان يحصد الآلاف يوميا بسبب استهتار بعض الحكومات وتهاونها إزاء “التعامل الحذر” مع فايروس كوفيد – 19، الذي على ما يبدو ليس هو الأخير المغير على استقرار اقتصادنا ومجتمعنا، وقد نتج عن العطلة الإجبارية للعالم بسبب جائحة كورونا تزايد المديونة وتعثر السياحة وخسائر مالية لأولئك الذين يزاولون أنشطتهم التجارية والاقتصادية خارج دائرة دافعي الضرائب، إلى جانب حرب ديبلوماسية أميركية – صينية حول المسؤولية الأخلاقية والقانونية لانتشار الوباء، تجلّت أماراتها بتهديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض مزيد من الرسوم الجمركية على الصين لمواجهة تداعيات الجائحة.
الأخلاق وأزمة الوباء
وفي وقت بدت اقتصادات أكبر دول العالم تعاني من أزمة تحقيق اكتفاء ذاتي للمنتجات الصحية وتراجع مستويات الاستهلاك الفردي للبضائع والسلع التجارية، كانت دول أخرى تعاني الأمرّين بسبب نقص الكفاءة الاقتصادية والسلوكات “الاجتماعية اللاتشاركية” لمواجهة تراجع الصادرات وتذبذب أسعار النفط المموّلة لموازنتها العامة، معززة إجراءاتها بقرارات شعبوية لتوزيع طرود الإغاثة والمساعدات الإنسانية الهشة، وبدل الاستثمار في حالة الخوف التي يعيشها العالم بسبب الوباء لتقييم الأداء الاقتصادي والسياسي “ما قبل الجائحة” الموجه لقطاع الاستغلال والاستهلاك لا خدمات الرعاية الصحية، أصبح العمل على فرض واقع متأزم بتجديد قيود “الحجر العبثية” وتمرير قوانين وافتعال مسودّات، يُظهر مدى تراجع مستويات النشاط الديمقراطي والحريات العامة ببلدان تألق اسمها ذات ربيع في الحراك العربي، إذ الغاية من فرض قيود على حركة الناس والاقتصاد زمن المحن والأوبئة تقليل معاناتهم والتكفل بضروراتهم المعاشية ودفع ضرر ما لا طاقة به لنظام الرعاية الصحية التصدي له، فترشيد الخوف بإمكانه تقليل معاناة المحجور عليهم وتخليصهم من اللامبالاة المنافية لسلوك التشارك والاعتراف والمسؤولية الجماعية، كما أنّه يمنح إدارة الأزمة وقتا مستقطعا لتفادي انتكاسة أخلاقية في تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية.
إنّ أكثر ما يخشاه العالم الآن رفع قيود الحجر الصحي المفروضة على الناس، لاعتبارات اجتماعية ونفسية تجاه صحة الأطفال وغيرهم من المرضى، لكن ثمّة أمر شديد الأهمية يسمح بتلك القيود بالزوال التدريجي والممنهج، إنّها أرباح الشركات الكبرى واقتصاد الرأسمالية المستحوذ على أبسط منتجاتنا اليومية، واللقاح المنتظر ليس بمعزل عن سوق الاحتكار والمضاربة لتسجيل مزيد من الأرباح، ومهما سعت الطبيعة لتقليم طغياننا والإحاطة بمساوئنا ودفعنا للتخلص من أنانيتنا وشرنا، فإنّ الكثيرين ممن تعوّدوا على حروب الوكالة وتهجير شعوبهم وتحميلها وزر خطاياهم، ينتهزون تغافل الناس وانشغالهم بالتمسك بالحياة لفرض نظام حكم جديد يرفض التعدديـــــة والحريــــــة، ولعلّ ما فرضته الجائحة وهي تعيد رسم حدود الخوف تجاهها تلك الإرهاصات ببداية مرحلة جديدة من تاريخ العولمة والإنسان، فما بعد كورونا لن تحكى فيه آهات الموتى ولن تروى فيه عاهات المرضى، بقدر ما تعاد فيه “صيانـــــة نظام دولي” يتأبـط الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحرير الاقتصاد بأكثر وحشية وخبثا، لتعويض ما ذرته موجة الجائحة من خسائر اقتصادية ومالية فادحة، ومهما بد الأمر كما لو أنّ قوة تستغل ضعفنــا وهواننــا، فإنّه من الحكمة أن ينقـاد “العــــالم الحر” نحو خلاصه بكثير من الإنسانية.
كاتب من الجزائر