كلام في الشعر
لعل واحداً من أهم عوامل تحرر اللغة الشعرية العربية من قيود الأوزان التقليدية، تمثّل في حركة الترجمة التي نشأت في الوطن العربي، بالإضافة إلى عوامل أخرى أساسية بطبيعة الحال؛ فقد فتحت هذه الحركة آفاقاً للتفكير باللغة وإمكاناتها الشاسعة بما هو أكثر من كونها إيقاعاً لغوياً مقيداً بصرامة، علماً أن أوزان الشعر التقليدية لم تمنع من إنتاج ذائقة حضارية عالية القيمة للشعر عبر عصوره السالفة، ومحطاته المتعاقبة في الأشكال والموضوعات. من هنا نشأت مجلات عربية مهمة مثل مجلة الآداب لسهيل إدريس 1953 ومجلة شعر ليوسف الخال 1957 ومجلات أخرى تبنّت ثورة الشعر الحديث على الأشكال التقليدية وقدمت الترجمات الشعرية كأمثلة على ما يكتب في العالم من شعر.
ثمة أعمال شعرية أساسية نقلت إلى العربية تمثلت في مختارات لشعراء مثل ت. إس إليوت وأرثر رامبو ومالارميه وبول إيلوار وجاك بريفير وفرناندو بيسوا وريلكه وشيمبورسكا وسيلفا بلاث ووالت ويتمان وغيرهم كثر. هناك اقتباس ساحر أدين به لقراءاتي المترجمة عالق في رأسي هو لروبرت لويس بلفور ستيفنسون روائي وشاعر وكاتب مقالات أسكتلندي متخصص في أدب الرحلات. وقد لقي أدبه وشعره إعجابًا كبيرًا من جمهرة من الكتاب والشعراء، أمثال بورخيس وهيمنجواي، ومن أشهر كتاباته جزيرة الكنز “هذا كان العالم وأنا كنت الملك لخاطري جاء النحل ليغني ولأجلي تطير السنونو”.
من البديهي أن نتذكر أن حركة ترجمة الشعر إلى لغات أخرى إنما تعتمد على اختيار المترجمين للشعراء والنصوص، وليس بالضرورة أن يكون دافعها أبعد من الذائقة الخاصة للمترجم.
في تعريفنا للشعر المعاصر، نحن لا نتحدث عن مدرسة شعرية بعينها، فهو ينتمي إلى مدارس واتجاهات وتيارات مختلفة فهو جزء من حركة الشعر الحديث، المعاصر لنا، في حياتنا. وهو حركة شعرية معاصرة وبالتالي فهو لا يقتصر على رموز معاصرة بعينها، بل إن ثمة حركات متعددة داخل المعاصرة الشعرية نشأت ويمكن أن نسميها.. مثلاً هناك اليوم ما يمكن أن أسميه مبدئياً “حركة شعر الربيع والحرب” وهذه احتلت مشهد الحياة الشعرية اليوم، ويمكننا أن نتتبع ملامحها في الكتب المنشورة، وكذلك عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
وهناك داخل هذه الحركة أساليب متنوعة، وشعراء يصدرون عن خلفيات شعرية وثقافة متباينة في الموهبة والقدرة والقيمة والحضور. بعض شعراء هذه الحركة الشعرية يحاولون محاكاة الواقع ونقله بلغة مبسطة يومية خالية من الزخرفة تحاول أن توصل رسالة ما، وهؤلاء ينتمون غالباً إلى شريحة شبابية ظهرت مع الثورات والحروب وقد أتاحت لها شبكات التواصل الاجتماعي التغلب على وسائل النشر التقليدية من خلال الإمكانات المتاحة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وبعيداً عن التقييم النقدي المستند إلى معايير صارمة يمكننا القول إن النتاجات الشعرية في هذه المرحلة تختلف في طبيعتها وتجلياتها وتطلعاتها الفنية والتعبيرية، ويتراوح ما تمتاز به لغاتها ما بين البسيط واليومي، والتثاقف مع التراكيب اللغوية لشعريات مجلوبة عبر الترجمة، وتبرز إلى جانب الانشغالات اليومية للشاعر ملامح من هو وجودي، وقد ينشغل بعضها بالزخرف اللغوي ويميل بعضها الآخر إلى التعبير عن انشغاله بمسألة الجسد واغراءاته، وهناك من ثمّ شيء من الجرأة في التعبير عن الحاجة إلى التمرد الاجتماعي والخروج نوعاً ما على الموروث الديني. ولكن كل هذه الملامح تبدو فوضوية الحضور في ظل غياب حركة نقدية طليعية ومعايير متجددة في قراءة الشعر وظواهره، واستخراج القيمة من خلال فرز الآثار الأصيلة من النسخ المتكاثرة عن تلك الآثار.
لن تكون ظاهرة الشعر المكتوب في ظلال الثورات والحروب ظاهرة عابرة، إذا ما اعتبرنا أن بعض هذه الشعر تحققت له عناصر الجدة والابتكار واستطاع شاعره التعبير عن الذات بلغة تجدد الشعر من جهة، وتعبر عن اللحظة العصيبة للإنسان في لحظة تهديد وجودي ماحق وله طابع جماعي
. أما وسائل التعبير بين الكتاب الورقي والنشرة الإلكترونية، فهذه تبقى صيغاً وممكنات ووسائل تقتصر وظائفها على استقبال المغامرة الشعرية وإرسالها في فضاء القراءة وعبر الذائقة الشعرية التي طالما امتازت بالتطلب، لدى القلة، وبالاحتفاء بالبسيط السهل والدارج لدى الكثرة التي لا تحفل عادة بالمستويات الجمالية الأكثر تركيباً وحداثة في الشعر، وبالتالي هي أقرب إلى التقليد الشعري. الرواج الشعري عبر وسائل التواصل الاجتماعي لن يكون لا اليوم ولا مستقبلاً معياراً لقيمة الشعر. ولنا في منابر الشعر الجماهيري وأدوار الإلقاء الجهوري دليل على ذلك، فقد احتلته إلى جانب الشعراء المجددين كنزار قباني مثلا كثرة من الشعراء الأشباه المقلدين ممن لم يعد لهم في تاريخ الشعر المعاصر ذكر. كذللك الحال بالنسبة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي تزدهر فيها اليوم ظواهر تنتسب إلى الشعر، ولكنها لا تتمتع بقيمة الشعر.
في الخمسينات والستينات وحتى نهايات القرن العشرين كان التجمع الثقافي، والمجلة كمنبر، والملاحق الثقافية في الصحف، في لبنان، والقاهرة، وبدرجة أقل عواصم أخرى، فضاءات ومختبرات للتلاقي الشعري وللحركات الشعرية وللتجديد والابتكار. اليوم هناك السوشيال ميديا. ولكن هل كل من كتب ونشر واجتمع وتحاور في الأمس، وعبر تلك الوسائل ظل شعره في التداول، أو حققت قصيدته ديمومة الحضور في الذائقة المعاصرة؟
الجواب لا، والسبب بداهة هو نفسه، في هذه التواريخ، وعبر العصور. كثرة تحاول كتابة الشعر وقلة تنجح في ذلك. ندرة تجدّد وتفتح الطرق، وكثرة تقلد وتمشي على تلك الطرق.
ولكن هل يعني ذلك أن ننزع عن تلك الكثرة كل قيمة؟
لا، فهذه الكثرة تبقى ضرورية لتقيم العرف، عرف الكتابة الشعرية، وتؤسس السوية، التي يأتي المجددون ليخترقوها بابتكارية شعرهم، وليكونوا أعلاماً منظورين، وبالتالي، ففي كل مرحلة من تاريخ الشعر هناك منعطف يخلقه بشعرهم الباهر الشعراء الرواد، الفاتحون، المغامرون المجددون. وهؤلاء بداهة هم القلة، وأحيانا، الندرة.
لم يقتصر شعر المرحلة المعاصرة على اللغة الفصحى، فهناك شعراء كتبوا بالعامية، كميشال طراد في لبنان، وبيرم التونسي وصلاح جاهين في مصر.
بالرغم من صعوبة نشر الشعر في العالم وخاصة العالم العربي، إلا أن “شعر الربيع والحرب” لقى رواجاً كبيراً لدى فئة الشباب، فوسائل التواصل الاجتماعي باتت منبر من لا منبر له، وصار من الممكن للشباب والشابات العرب أن يعبّروا عن كل ما يرغبون في التعبير عنه متوجهين إلى قرائهم المفترضين مباشرة، من دون الحاجة إلى المجلة والجريدة، والكتاب المطبوع، وذلك عبر فيسبوك وتويتر ويوتيوب، والمواقع والتطبيقات الأخرى، بات الراغبون الشباب يكتبون كل ما يشعرون به وما يفكرون فيه، معبرين غالباً عن سخطهم وغضبهم، عن حبهم وكرههم، مستعرضين أشياءهم الخاصة، متحدثين (ومصورين) حتى طعامهم ولبسهم وشهواتهم، وهو ما يمكن اعتباره عتبة لا بد أن تظهر معها لاحقاً حركة تجديد في لغة الكتابة والتعبير.
عبر الشبكة العنكبوتية اليوم كتابات جادة، لمن يكتبون بحرية، في كل ميدان، محبو الشعر والشعراء الطالعون يواصلون بدورهم إقامة العرف الشعري من خلال الكتابة في الفضاء الذي كانت قد أسست له الحركة الحديثة للشعر، وذلك انطلاقاً من الأفكار الجديدة التي تقول بالتحرر من قيود الأوزان. صار بمتناول الجيل الشاب القراءة والاطلاع بصورة أوسع على مواضيع تهمه خاصة وأنّ الكتَاب في الدول العربية غير متاح دائماً لكل من يريد خصوصاً في دول مثل سوريا بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة في ظل الأنظمة الحاكمة المتسلطة وحيث يجري تفضيل لقمة العيش على الكتاب.
صارت الاقتباسات والترجمات متاحة مضافاً إليها التجربة الشخصية للشباب العربي، في ما يعبر عنه في مدونات كاشفة. في ظل حالات الفقر والفوضى والحروب المتجولة أصبح للجيل الشاب صوت.
ثمة في كثير من الكتابات التي تظهر في فيسبوك مثلا صور لا حصر لها من الضعف والركاكة في لغة التعبير، لكن ثمة تعبير. وهذا مهم تاريخياً. هناك محاولات لخلق أكثر من لغة للتواصل والتعبير داخل اللغة الواحدة، هذا شيء له قيمته، ولكن نلاحظ في كل الحالات ميلا لاستعمال لغة الشعر، ربما لأن اللسان العربي هو لسان شعري.
ربما إنني ابتعدت قليلا عن مبتدأ الحديث في الشعر، ولكن لا بد أن ألاحظ أنه حتى ربة البيت وجدت متسعاً لتعبّر عن نفسها على منصة التواصل الاجتماعي ، وها هي تجرب أن يكون لها صوت في لغة الشعر، من بعد أن كانت هذه الانثى تنتظر شاعرا يكتب فيها قصيدة. إنها برهة لامتلاك الثقة بالنفس، حتى وإن كان ذلك من خلال محاولة الكتابة وانتظار لايكات المعجبين. لمَ لا؟
مازال الشعر اللغة الأحب للعرب لاسيما في ظل الكبت والحرمان والعقوبات من قبل أنظمة بطرياركية قاسية. السوشيال ميديا تنبئنا محقة بأن أكثر صوت سطع في هذه المرحلة هو صوت المرأة، فهي تمتلك اليوم وسيلة ساحرة للتعبير عن كينونتها وأشواقها عن رغباتها الروحية والجسدية، عن حقها بالحب والجنس والتأمل والتفكير والغناء والتمثيل، فلا أحد يقول لها هذا معيب.
لقد تحرك الطفل الكامن في شعوبنا، الرغبة في اللعب، والرغبة في الحرية، والرغبة في قول نعم، ولا، محاولاً الاهتداء إلى وجوده الضائع في ذاته التي ما برحت ضائعة في حظيرة القطيع. وها هو الصوت النسوي شعراً ونثراً ونقداً وتأملات، كما هو الحال بالنسبة إلى صوت الرجل كذات، يخرجان معاً من ظلام الكهف إلى نور الوجود.