مطاردة حلم جلجامش
هذا مقال عن الدور السلبي لبعض الأكاديميين في التشجيع على التداول غير المشروع في تراث العراق الثقافي. ولم يأت هذا الأمر من فراغ، ولا من ظروف طبيعية، فلقد مرّ العراق بنفق خانق إبان الحصار المُهلك الذي فُرِض عليه بين أحداث الكويت عام 1991 وحتى احتلاله عام 2003، تداعت خلاله البنية التحتية للكثير مما جرى إنجازه خلال الانتعاش الاقتصادي، وخطط التنمية الواعدة في سبعينات القرن الماضي، ولم يسلم قطاع الآثار من هذه الكارثة المحققة. وكانت البداية مع أحداث عام 1991 حينما نُهبت بالكامل تسعة متاحف، وأحرِق بعضها، تلاها نبش الكثير من المواقع الأثرية في أُمهات حواضر العراق القديم، وبعض الصور التي تم تداولها لاحقاً أظهرت المواقع وكأنها عُصِفت بوابلٍ من نيازك.
ما الذي كانت تُفتش عنه عصابات الآثار في تلك المواقع؟ من خلال التقارير الصحافية واعترافات بعض أفراد تلك العصابات فإن كل قرية أو قبيلة تسكن جوار موقع أثري تعدّه ملكاً لها، لذلك ينشط بعض أفرادها في استخراج القطع الأثرية ثم بيعها إلى المهربين، وبعض المواقع الأثرية التي جرى العمل بها سابقا، تحوّل عمّالها إلى “نبّاشة”، وأسهموا في النهب، وأصبح كل واحد منهم “متخصصاً” بنوعٍ معين. ويبدو أن التركيز كان منصبّاً على القطع الثمينة (كالحلي والمعدنيات) والأختام والألواح الطينية التي عليها كتابات مسمارية، فبِحُكم الخبرة التي تجاوزت عقداً من الزمن، أصبح أفرادها يعون جيداً وجود طلب متنام من شخصٍ ما يقف منتظراً بشغف وصول أيّ كمية من تلك الألواح.
في كتابنا المشترك “الكـارثة، نهب آثار العـراق وتدميرها”، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2017، تعرضنا إلى نكبة العراق في مُتحفِه عام 2003 وموضوع استباحة تراثه الثقافي، حينها تصدر الموضوع عناوين الأخبار ليتكشف بعدها المستور من حجم الكارثة الأكبر، ألا وهو عمليات النهب الأثري التي كانت تجري على قدمٍ وساق طوال فترة الحصار، وأصبح بالإمكان معرفة حجم تداولات القطع الأثرية المهربة إلى الغرب من خلال متابعة المبيعات في دور المزادات، وكذلك الدراسات والبحوث المنشورة عن قطعٍ تبيّن أنها سُرقت إبان الحصار، وتنبّه العالم إلى أن شبكات السرقة والتهريب والاقتناء، كانت تعمل بلا كلل في ذلك الوقت للاستحواذ على ما أمكنها من القطع العراقية، لإشباع نهمها المتراكم بسبب ندرتها في الأسواق العالمية قبيل أحداث 1991، ولنضرب مثلاً بالأرقام على موقع مدينة أدب السومرية (ويعرف حالياً بتل بسمايا قرب ناحية البدير ضمن حدود محافظة القادسية)، تشير الوثائق إلى وجود 1705 رقيم طيني (مكتشف أو مسروق) ومسجل قبل عام 1991، لكن بعد 2010 ظهر إلى السطح 1965 لوحاً آخر، والمجموعة الأخيرة متوزعة الآن بين المقتنين من حول العالم، ويثير تملكها، بلا شك، أسئلة كثيرة بسبب غياب بعثات التنقيب عن الموقع طيلة تلك المدة، كما أوردنا في الكتاب تفاصيل المقتنين في الغرب، وتملكهم للكثير من الألواح المسمارية التي ثبت أنها مسروقة ومهرّبة، كما في قضية ألواح گرشانا في جامعة كورنيل (نيويورك)، وطاسات التعاويذ الآرامية في كلية لندن الجامعية.
وبالرغم من ذلك، انهمكت بعض مراكز البحوث بنشر الدراسات عنها في الدوريات والنشرات العلمية، وأصبح الأمر من ضمن العُرف السائد والمقبول! وانسحب الأمر إلى أن حقوق الملكية الفكرية لتلك الدراسات تُسجل باسم الباحث أو الفريق المشتغل على النصوص المسروقة، بلا أدنى مراعاة لحقوق البلد الأمّ في ملكية تراثه الثقافي مادياً أو فكرياً، أي أن عملية السطو بحق العراق حصلت مرتين، في الأولى أنتُزع الأثر من رحمِ أرضِه عنوةً من دون أخذ السياق الآثاري بنظر الاعتبار، ثم هُرِب إلى مجاميع المقتنين ومخازن الجامعات، وفي الثانية حصل سطو من نوعٍ آخر، ألا وهو الحقوق الفكرية للنص المدوّن على الرقيم المسروق كتراث غير مادي والاشتغال عليه سراً. وفي كلتا الحالتين لا يستطيع العراق عمل شيء إلا بأن يسير في الطريق المُتعرج الطويل والمكلف، وإتباع لوائح الاسترداد المقدسة التي أقرّتها لِجان الثقافة والتراث الأممية برعاية ذات الدول التي تحتضن ذلك التاجر والمقتني والباحث.
إن المحور الذي سيتناوله هذا المقال هو تحليل دور الباحث الأكاديمي والمؤسسة الراعية له إن كانت جامعة أو متحفا، وكذلك مناقشة دور الجهة التي سمحت بنشر البحث رسمياً من دون مراعاة الضوابط القانونية والأخلاقية المتعلقة بالقطع (المسروقة!) موضوع الدراسة، مما سيسهم في النهاية برفع سعر القطع الأثرية، بشكل سيشجع و بِلا أدنى شك، على حصول شراهة في الطلب للمزيد من النهب من طرف المقتنين وبقية الأطراف المتعاونة، والتي تستحق لقب “الشبكة المريبة “، وتضم فريقاً متكاملاً، بدءاً من اللص الحفّار والتاجر الوسيط والخبير والمتحفي والباحث الأكاديمي والمقتني وهو المستثمر المتمترس خلف فريق من خيرة الخبراء القانونيين الذين يستطيعون لَي عُنق القانون، واختلاق شتى ضروب التبريرات لغرض التغطية على نشاطات موكليهم، و النفاذ من القوانين الدولية والمحلية التي شُرِعت لغرض حماية التراث الثقافي للشعوب من التداول غير المشروع.
إذن، فالسياق الذي ينتج عن هذا التعاون المريب بين الطرفين: الأول (الباحث) الذي سيساهم في رفع سقف السعر للقطع التي تملكها الثاني( المقتني) سراً وبطرق متعرجة، واستخدم لغرض تملكها شتى أساليب التزوير والدهاء القانوني لتبرير الحيازة، والنتيجة تكون زيادة الطلب وتشجيع النبش من البلد الأم، فلولا استعداد المقتني دفع مبالغ سخية للوسيط واللص، آملاً بتعاون مع باحثً ما ليجزيه المكافأة كي يجتهد في بحثه ويرفع من قيمة القطعة الأثرية، لما تشجّعت العصابات الإجرامية على نبش المزيد من المواقع، والتي إن استفحلت، ربما ستؤسس لثقافة الفساد والمحسوبية بمرور الزمن (كانت سياسة الحكومة قبل 1991 تتمثل بدفع رواتب لشيوخ العشائر القريبين من المواقع الأثرية، من أجل تلافي أيّ تجاوزات).
نجد أن من حقنا، كعراقيين وأصحاب الحق الشرعي في الأثر المسروق ومتعلقاته، طرح أسئلة مشروعة بخصوص هذه القضية، منها، على سبيل المثال، هل حاول كلّ من الباحث والناشر الأخذ بنظر الاعتبار حقوقنا في الممتلك قبل الشروع بالدراسة؟ أغلب الظن أن الجواب سيكون بالنفي كون ملكية القطع آنذاك تعود إلى مالك مسجّل خارج العراق، يليه السؤال هل تم اعتبار مسألة التحقق اليقيني من التملك الشرعي باشتراط إبراز شهادات البيع والشراء والإخراج الكمركي…الخ، لاستيفاء الشرط الأخلاقي على الأقل، فيد الباحث ستمتد بعد قليل إلى أمةٍ غافلةٍ عن حق لها.
السؤال الآخر، والمتعلق بموضوع حقوق العراق في موروثه غير المادي، كملكية فكرية للنصوص الأصلية المدونة على الألواح الطينية المسروقة تحديداً!، نعلم أن الباحث الذي يشتغل على ترجمة النصوص وتحليلها، يقوم بتحصين جهده ما أمكنه بما يسمّى التشريعات القانونية الخاصة بحقوق الملكية الفكرية، وبذلك يقطع الطريق على أي باحث آخر قد يفكر بالاستنساخ أو الاقتباس مستقبلاً من دون الحصول على موافقة رسمية خطية منه أو من الجهة الناشرة، ما يمنحه الحق بمقاضاته قانونياً، حتى لو كان الباحث الآخر هو إحدى المؤسسات العراقية (المالكة الشرعية للرقيم ونصه في نهاية المطاف!)، لكن ماذا عن النص الأصلي المدون على رقيم تحوم حول تملكه الشبهات القانونية؟ من يا تُرى له حق الادعاء بتملك حقوقه الفكرية كممتلك ثقافي؟
الجواب سيكون، بلا شك، مؤلماً، فبحسب التشريعات النافذة حالياً، فللعراق الحق باستعادة وتملك اللوح المسروق كممتلك ثقافي مادي. لكن النص نفسه، كقيمة فكرية أو ثقافية غير مادية (Intangible heritage)، لا يبدو أنه سيتبع ملكية اللوح، بل هو من حق الباحث الذي اشتغل عليه، بغض النظر إن كان ذلك قد جرى في النور أو العتمة! فبحسب القوانين النافذة حالياً، فإن استعادة العراق لممتلكه الثقافي (المادي) لا علاقة لها باستعادة الجزء المتعلق بالممتلك الفكري غير المادي (أي النص الاصلي والدراسة المنشورة عنه).
محلياً، فإن ما أشار إليه قانون الآثار العراقي لسنة 2002، والنافذ حالياً، يغطي فقط الممتلك الثقافي كأثر مادي، أي بعبارة أخرى (الطين والحجر)، أما دولياً فموضوع عائدية الملكية الفكرية للأثر، لن نجد له أيّ ذكر، بل مسكوت عنه، فهو في التشريعات الدولية المتعلقة بحماية التراث الثقافي للشعوب (لاهاي 1954 والبروتوكول الثاني في 1999، اليونسكو 1970، روما 1995)، أو تلك الصادرة عن مجلس الأمن والمتعلقة بحماية التراث الثقافي العراقي (661 عام 1990، و 1483 عام 2003 ، 2170 عام 2014 )، وإذا ما أحصينا عدد الدراسات والبحوث المنشورة منذ 1990 حتى يومنا هذا لقطع عراقية مسروقة مشمولة بكافة التشريعات أعلاه، سنجد ما قد يعبأ رفوف مكتبات برمتها.
هوبي لوبي ومتحف الكتاب المقدس
تعود ملكية سلسلة متاجر هوبي لوبي إلى عائلة ملياردير أميركي اسمه ديفيد غرين، وهو من متعصبي الطائفة الإنجيلية، وهو ربما ما دفع العائلة إلى تأسيس متحف الكتاب المقدس في مدينة واشنطن عام 2010، ضمت محتوياته ما يربو على أربعين ألف قطعة أثرية. كان افتتاح المتحف عام 2017، وهو العام ذاته الذي تفجرت فيه الفضيحة المدوية المتعلقة بالقطع الأثرية العراقية التي شكلت جزءًا مهماً من مقتنياتها، والتي ثبُت بطلان تملكها رسميا من طرف المتحف، وأعيدت النسبة الأكبر من تلك القطع إلى العراق بين عامي 2018 و2020 بقرار من الحكومة الاميركية.
(ملاحظة: تم تفصيل الموضوع في مقال سابق للكاتب بصحيفة “العرب” اللندنية، عدد 2 أيلول 2018).
دُرِست مجموعة ألواح هوبي لوبي المسمارية المستردة للعراق، والخاصة بأرشيف “أري ساگرگ”، وهو اسم لموقع أدراي سومري بين عامي 2012 و2016، و نُشرت الدراسة الخاصة بها عام 2019 من طرف جامعة كورنيل في نيويورك، واشتملت على 2078 نصاً مسمارياً. ومن نافل القول أن نذكر أنه قُبيل عام 2003 لم تُعرف أيّ ألواح مسمارية مكتشفة في هذا الموقع، لكن بعد ذلك التاريخ تبين أن ما مجموعه ثلاثة آلاف لوح مسماري تقريباً تنقلت بين مجاميع الاقتناء الخاصة والمتاحف حول العالم، ومن شبه المؤكد أن جميعها تحوم حول تملّكها الريبة، إذ لا يزال الموقع الأثري لمدينة أري ساگرگ غير معروف (أشتهر إعلاميا باسم المدينة الغامضة) وهو بلا تنقيبات مسجلة رسمياً لدى الأوساط الآثارية العراقية.
وتزامناً مع نشر تلك الدراسة، وضعت السلطات الأميركية اليد على ما سيشكّل فضيحة جديدة لمتحف الكتاب المقدس، إذ تبين شراء مجموعة هوبي لوبي عام 2014 للوح مسماري، أصطُلح عليه في وسائل الإعلام بـ”لوح حلم جلجامش”، وقد استمرت التحقيقات في الموضوع، واستدعيت البروفسورة إليزابيت ستون من جامعة ستوني بروك في نيويورك للإدلاء بشهادتها حوله، حتى تداولت وكالات الأنباء في شهر مايو/أيار 2020 خبراً يفيد بصدور أمر قضائي من مكتب المدعي العام الأميركي بحق متحف الكتاب المقدّس بمصادرة اللوح وإعادته إلى العراق، وذلك لثبوت عدم صحة وثائق تملّكه بسبب تزويرها، كما سنفصل في الفقرة التالية من المقال.
وفي شهر مايو/أيار من عام 2020، بادر متحف الكتاب المقدّس إلى التصريح برغبته في إعادة قطع أثرية أخرى من مجاميعه إلى كل من العراق ومصر، وتبلغ حصة العراق منها نحو 6500 قطعة، وأبدى المُتحف، إضافةً إلى ذلك، رغبته في التعاون مع الجهات العراقية ذات العلاقة، وتقديم المساعدة التقنية لهيئة الآثار والمُتحف العراقي في مجالات التوثيق والأرشفة والدراسة والنشر.
مطاردة حلم جلجامش
كان لوح حلم جلجامش، في الأصل، حبيس شقة في لندن تعود ملكيتها إلى تاجر أنتيكات أردني الأصل (توفي عام 2001) (يُنظر كتابنا “الكارثة…”، ص 192)، وهي الموضع الذي جرى فيه شراء اللوح الطيني من ضمن قطع أخرى من نجله. كان ذلك عام 2003، وقد اشتراها منه تاجر أنتيكات صحبة خبير آثار، وبعد سلسلة تداولات للوح بين الوسطاء، أُرسل في النهاية إلى جامعة برينستون الأميركية وأبدى البروفسور آندرو جورج (أستاذ اللغات القديمة من جامعة SOAS في لندن، وزميل الأكاديمية البريطانية العريقة) استعداده لترجمته عام 2005، وهو ما حصل ونُشرت الدراسة عام 2007 في الدورية الفرنسية!
Revue d’Assyriologie et d’archéologie orientale,) (Vol. 101 (2007), pp. 59-80
(يرقى اللوح إلى الحقبة البابلية الوسيطة حوالي 1400 ق.م، والجديد في نص اللوح هو اجتهاد الباحث بإحالة أبطال الملحمة رمزياً إلى آلهة في هذا النص، فجلجامش هو إله القمر سين وإنكيدو هو إله الماء والحكم إنكي ومدينة أوروك تحل محلها أور.. الخ ).
في سبتمبر/ أيلول 2007، أُدرج اللوح في منشور مصوَّر بغية تسويقه من قبل الكتبي وتاجر الانتيكات مايكل شارب من ولاية كاليفورنيا وأعطي الرقم 53 في القائمة الأولى من المنشور، مع إشارة إلى الدراسة أعلاه، وبعد سلسلة عمليات بيع وشراء، يقوم مزاد كريستي الشهير ببيع القطعة عام 2014 في صفقة خاصة من دون مزايدة بمبلغ مليون وستمائة وأربعة وتسعين ألف دولار إلى متحف الكتاب المقدس في واشنطن. شرعت السلطات الأميركية بالتحقيق مع المتحف عام 2019، وصدر القرار بمصادرته وإعادته لمالكه الشرعي (العراق) في مايو/أيار 2020.
البروفسور آندرو جورج استهل دراسته بالتصريح أن مالك اللوح السابق (عام 2007) قد سمح له بدراسة اللوح ولكنه لا يود التعريف بنفسه، وحين سُئل مؤخرا بعد تفجر الفضيحة في الإعلام، صرح بالقول، وبكل ثقة، إنه يفترض دوماً حسن النية ولا يفكر بما لا يراه، فقد تعامل مع مالك بدا له حسن السيرة ولوح طيني عليه نص مهم وفريد، وكان لا بدّ له من دراسته ونشره تعميما للفائدة، ولا يشكّل كونه مسروقا من عدمه عائقا حقيقيا لمن يود أن يشتغل وينفع الآخرين !
تنهمك إدارة هوبي لوبي هذه الأيام بمقاضاة مزاد كريستي، وهذا الأخير يعدو خلف التاجر الذي باعه القطعة، وتنتظر السفارة العراقية اللوح من السلطات الأميركية لإعادته إلى مخازن المتحف العراقي، فالكثير من المستردات، هي في الحقيقة محض متابعات وملاحقات قانونية تحصل خارج العراق وربما من دون علم حكوماته، ليجري إشعارها عبر سفاراتها بالقدوم واستلام قطع أثرية مصادرة !
ما العمل؟
إن العرض الذي تقدم به متحف الكتاب المقدس مؤخرا يمكن اعتباره بادرة حسن نية، ولو على مضض، ولا شك في أن عروضاً كهذه، قد تبدو سخية في ظاهرها، لا بد أن تكون لها اشتراطات محددة بالمقابل، أهمها ربما تتعلق بتنازل العراق عن حقه في المتابعات القانونية (ما عدا الباحث بالطبع بسبب ما تقدم من توضيح).
نعتقد أن الحل الأكثر إنصافا للعراق، في هذا الخصوص، هو أن يكون تنازله عن شرط المقاضاة القانونية مقابل استعادة الأثر المسروق، مضافاً إليه حق تملك، أو مشاركة الحقوق الفكرية للدراسات المنشورة عن النصوص المنقوشة على قطع ثبتت سرقتها، بل واشتراط أن يجري نشر جميع هذه الدراسات (وحتى بأثر رجعي إن أمكن قانونياً، كجزء من التسوية المقترحة واللاحقة التي تنتظرها إجراءات) في مجلة سومر العراقية، وأن تكون شريكا مع أيّ من الجهات التي تبنت نشر البحوث، مع اشتراط إشراك باحثين عراقيين من أصحاب الاختصاص في النشر والاتفاق على توقيت للنشر، وإلا فالشرط الجزائي أن تُرفع دعاوى قضائية تشمل الجميع لسحب كل ما خص القطع وما نشر عنها ورقياً أو إلكترونيا، مع تفهمنا للعراقيل والصعوبات التي ستواجه أيّ خطوة من هذا النوع.
الخطوة التالية تكون بإصدار تعديل أو تشريع يتعلق بتثبيت حق العراق في تراثه الفكري في قانون الآثار، وتغطية كافة ما ورد في أعلاه تحت بند واضح يحمي حقوق البلاد، ويوفر غطاء قانونياً يستطيع العراق من خلاله مقاضاة الجميع (بغض النظر عن طبيعة التشريعات النافذة في البلدان الأخرى)، لأن غيابه سيشجع على استمرار نهم الآخرين في الخارج وجشعهم لتملك المزيد بسبب علمهم بضعف أو عدم قدرة المسؤولين عن الملف الآثاري على استصدار تشريع يخص هذه الفقرة السائبة، التي ستمنح العراق الحق بمقاضاة كل مؤسسة وجامعة ومركز بحث وباحث ومقتن في موضوع ادّعائها حق تملك الحقوق الفكرية لنصوص تخص قطع أثرية مسروقة تثبتت عائديتها للعراق، وجرى غض النظر (بحسن نية أو غيابها) عن عائديتها الشرعية خلال إجراء الدراسة (لا بد من الإشارة إلى سابقة قانونية مهمة تمثلت بالقضية المتعلقة باتهام وتجريم البروفسور الإيطالي ج. بيتيناتو المختص باللغات القديمة، واتهام شرطة الكاربنيري الإيطالية له بدراسته ونشره لنصوص مسمارية من قطع أثرية عراقية ثبت بطلان تملكها كونها مسروقة، يمكن تضمين ذلك في اي تعديل قادم للقانون الحالي).
في مايو/أيار 2019، نشرت جريدة بين نهرين البغدادية مقالا للكاتب بعنوان “عن متحف نابو في لبنان ونزيف الذاكرة العراقية” تناول فيه المجموعة المتحفية المسمارية المعروضة في ذلك المتحف، وفيها مسألة لا تبتعد كثيرا عن وقائع متحف الكتاب المقدس في واشنطن، وهل يا ترى هي من محاسن الصدف أن الألواح المسمارية موضوع المقال هي من ذات الموقع القديم “أري ساگرگ”، وقد قام بنشر الدراسة عنها عالم المسماريات الأميركي ديفيد أوون المعروف بتعاملاته المريبة ودراساته التي تشجع سماسرة تراث الشعوب على اقتناء المزيد من هذه القطع، غير آبهٍ بموضوع الأبعاد القانونية والأخلاقية لنشاطاته، وهو لا يعمل وحده، بل تقف خلفه مؤسسة أكاديمية عريقة هي جامعة كورنيل في نيويورك (يُنظر كتابنا “الكارثة…”، ص 171)، وزمر من أقحاح المقتنين المتنفذين سياسياً في الحكومات الأميركية المتعاقبة. ومن الجدير بالذكر أن متحف نابو طرح عبر أحد مالكيه إمكانية المساومة بإعادة القطع العراقية، وحاول تقديم عرض مشروط للتفاهمات (بلغت الوقاحة ببعض مقتني المسروقات إلى حد عرض اتفاقيات مشروطة لإعادة قطع ثبُت أنها منهوبة على يد لصوص).
لا بدّ من استثمار قضية لوح “حلم جلجامش” جيداً، كونها تمثل حالة مثالية لما ندعوه بالإنكليزية “Text Book Example” من جهة الأطراف المشتركة فيها، لغرض فرض تشريعات حازمة كما أسلفنا، وفتح قنوات تعاون مع المؤسسات القانونية والأكاديمية الدولية ذات التوجه النزيه، والشخصيات النبيلة التي تضامنت مع حقوق العراق في إرثه من أجل الشروع في تجريم ومعاقبة، بل ومحاولة سحب حقوق أيّ ملكية فكرية لمن يتعامل مع تراث العراق الثقافي بطريقة بعيدة عن الأعراف الأخلاقية، وتنافي روح البحث العلمي. ولا بدّ من تذكّر المواقف الصلبة الداعمة لحقوق العراق لكثير من الباحثين لثبات موقفهم الأخلاقي بوجه الشيطان ومحاميه، وقناعاتهم بأن حقوق الشعوب في موروثها الثقافي، مادياً أكان أم فكرياً، فحقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم.