طيران عكس الجاذبيّة
بدأت مسيرة الراقص الفرنسي مراد مرزوقي في التسعينات، حينها كان اهتمامه محصوراً بالهيب – هوب وأسس إثر ذلك فرقته الراقصة الأولى “أكرو راب”، وبعد أقل من عشرين عاماً، أصبح واحداً من أشهر الأسماء في فرنسا، إذ توسّع مجال اهتمامه فيما يخص الحركة والرقص والأداء وأصبح أسلوبه مزيجا من أنواع مختلفة يتداخل فيها رقص الشوارع وتقنيات السيرك وفنون القتال، طارحاً أسئلة على فنون الفرجة التي توظف المهارة الجسديّة وعلى مفهوم المكان بخصائصه الفيزيائيّة، كما في عرضه ما قبل الأخير “بيكسل”، الذي يعيد فيه اكتشاف أبعاد خشبة المسرح وإمكانيات التحرك ضمنها مستغلاً مفاهيم الضوء والظلّ والإسقاط ثلاثي الأبعاد.
أتيح لنا هذا الشهر مشاهدة عرض “عمودي” (Vertikal) ضمن ما وفرته منصات النشر الرقمي الفرنسيّة، العرض الذي تنقل بين عدة مدن ضمنها باريس هو محاولة جديدة من مرزوقي لإعادة النظر في الجاذبية وأسلوب الحركة ضمنها، موظفاً جماليات ومهارات “الحركات الهوائيّة”، تلك التي يحاول فيها الجسد التحرر من أشد القوى التي تضبط شكله وأسلوب حركته وتسارعه، والأهم، ثقله على الأرض، مستكشفاً باستخدام خيوط وجدران مفاهيم تتحرك بين الشعريّة وبين مهارات الحركة كالتوازن، والارتقاء والطفوّ، تلك التي تخاطب حلما إنسانياً قديماً، يتحرر فيه اللحم من سطوة التراب الذي لا بدّ من التماهي معه يوماً ما.
يبدأ العرض ببطء، أجسادٌ تتحرك وكأنها تطفو، تتحرر تباعاً من الجاذبيّة دون أسلاك، يستعرض الراقصون أثناء ذلك أول أسلوب لتحدي الجاذبيّة، القفز والاتكاء على “الآخرين” لتصبح الخطوات أطول وأبطأ، وتمتد في الزمن، ويحاول كل راقص يتكوم أو يرتفع فوق زملائه ليبتعد عن “الأرض” التي لا يمكن الفكاك منها بشكل فرديّ، في ذات الوقت هناك أسئلة تطرح على التراب ذاته، اختبارات عضليّة لجدواه وقواه الدفينة، خصوصاً أنه حين يتزحزح يفقد احتمالات الاستقرار ليصبح الراقصون كمن يتمرّنون على الطفوّ فالأرض ذاتها لا يعوّل عليها، لتُستبدل بالجماعة التي ترتقي بكل فرد تحاول منحه لحظات الطفوّ، نوع جديد من العلاقات يراهن على وحدة الأجساد في سبيل خلاصٍ مؤقتٍ لشخصٍ يتبدل كل حين.
هذه العلاقة مع “الجمهرة” أساسها الجهد المبذول للحفاظ على تماسك الكتلة البشرية والسعي لضبط إرادة أفرادها ومنعهم من “الانفلات” الذي يهدد مفهوم الطفوّ ذاته والارتقاء ضد جاذبية الأرض، وهنا تتركب علاقات جديدة بين الجماعة للحفاظ على الحركة، فالثبات في “الأعلى” يرتبط دوماً بلمس شخص آخر، لا بد من نقطة التقاء بين جسدين يطفو أحدهما، في حين أن مس الأرض يعيد الجسد إلى الإيقاع التقليديّ واليوميّ الذي يضبط الزمن وأسلوب تدفقه.
السيرك وألعاب البهلوان
يستعير مرزوقي من عوالم السيرك والرياضة ضمن العرض، فأزياء الراقصين أشبه بتلك التي يرتديها متسلقو الجبال إلى جانب وجود أربعة جدران مشابهة لتلك التي توجد في الصالات الرياضيّة، هذه الأدوات ترتقي بالراقصين إلى أعلى عبر مهارات التسلق أو عبر الأسلاك الخفية المربوطة بهم، وكأنهم يكتشفون جغرافيات “الأعلى”، مُختبرين مهارات التوازن والوقوع أعلى دون مسّ الأرض بشكل كليّ، ما يهدّد طبيعة العلاقات بينهم، هناك من هم “فوق” ومن هم “تحت”، خلال ذلك يتلمس من هم “فوق” تكوينات الجدران، يتحركون حولها، يباعدونها ويلصقونها، وكأن جغرافيا الأعلى غير ثابتة، تختلف بعد كل زيارة لها، لا علاقات ثابتة، بل رهان على احتمالات الهواء اللامتناهية، وتوظيف مهارة الانتقال بينها دون مسّ الأرض، خصوصاً أن تسلق الرياضيين يعتمد على الصمود والتحمّل بالاعتماد على نتوء ما، في حين أن الراقصين يرون في كل نتوء مجرد حافة مؤقتة لترك الجسد حراً، في تناقض مع من هم “تحت”، أسرى التراب وسطوته.
تمارين الجسد الواحد
يتخلل العرض عدد من الرقصات الفرديّة، والتي وإن اختلف أسلوبها والجماليات التي تحويها تشترك جميعها بأنها تسائل الجسد نفسه في ظل غياب سطوة التراب، التي إن تلاشت يُصبح “قوام” اللحم مائعاً، تماسكه قائم على أساس مكوّناته الداخليّة فقط، ولا شيء يشكّل وحدته سوى الجلد واللحم لتتحول كل واحدة من هذه الرقصات سواء كان جسد الراقص معلقاً بخيط أو على الأرض إلى اختبارات لضبط “الأنا” التي تتطابق مع اللحم الذي تحاول مكوناته الفرار، ليظهر سؤال: كيف تمكن الحركة إن كان كل عضو مهددا بالانفلات؟ وهنا نستعيد مفهوم الرغبة، تلك التي “تحرّك” مكونات الجسد نحو نقطة واحدة يتركز عندها الوعي، وفي حالة العرض هذه “الرغبة” تتمثل بـ”الأعلى”، بميل في كل خليّة لأن تنفلت من عقال الجاذبيّة نحو مساحة أخف، أقل جدّية وعنفاً، في استسلام لفيزياء التحليق وأشكاله.
مهارات السقوط
واحدة من العناصر التي يركز عليها العرض هي مهارات السقوط وأسلوبه، أي كيف نقع أو ننجو من الوقوع، سواء كان الراقص مُعلقّاً بحبل أو دونه، هذه المهارات ترتبط بإدراك عميق للجسد وأسلوب حركته، وانفتاح على احتمالات الخطأ والسّهو، في ذات الوقت تُسائِلُ مُتخيّلنا نفسه عن السقوط المرتبط بالرعب والخوف من أن نفقد التوازن، لكن، هناك شعريات دفينة ترتبط بالتسليم للأقصى لاحتمالات المجهول في مداعبة لنَشوة تَرقُبِ لحظةِ الارتطام إن حصل، والتي تظهر في العرض بإيقاعات مختلفة، فتسارع السقوط قد ينتهي بلمسة إصبع على الأرض، يتكئ الجسد إثرها على أصغر نقطة تماس ممكنة، أو قد نشاهد سقوطاً بطيئا تظهر فيه حرية الدوران والتمدد على أسطح الهواء المؤقتة.
حيلُ الدمى
تحيلنا الخيوط والحبال المستخدمة في العرض إلى تقنيات مسرح الدمى التي تكون عادة أسلوباً للإشارة إلى ميكانيكية الجسد والقيود التي تضبطه لكن العرض يتحرك بينها وبين تلك المستخدمة في السيرك متجاوزاً في ذلك مفاهيم “مثاليّة الحركة والانضباط”، ما يحوّل الخيوط إلى ركائز لاحتمالات جديدة يتجاوز فيها الراقص مهاراته الطبيعيّة مكتشفاً اللاجاذبيّة المؤقتة وامتداد الزمن في الهواء للحظات، ما يخلق انطباعاً لدى المشاهد التوّاق للتحليق خصوصاً أن المعلّقين يتحرّرون من سطوة الزمن وحتمية قوانين الفيزياء و”الحركات” المعدودة التي يمكن إنجازها في ظل هيمنتها، لنراهم يترامون في “الأعلى” ويوظفون تقنيات الأكروبات لا فقط لاستعراض المهارة بل لإبراز التوتر بين احتمالات الحبال وتلك التي تختزنها الجاذبيّة، هناك صراع بين ما هو حتمي المتمثل بحركة الجسد التقليدية وبين الاحتمالات المفتوحة التي تختزنها الحركة بالحبال، هذا التوتر ينسحب على الراقصين أنفسهم الذي يمارسون دور الدميّة أحياناً ودور لاعب السيرك أحياناً أخرى.
يراهن مرزوقي في هذا العرض، كما في “بيكسلات” الذي سبقه، على قوى خفيّة غير ملموسة، في ذات الوقت أثرها واضح، وفي كلا العرضين “التصديق” هو الذي يدفع العرض للأمام، ونقصد بالتصديق هو تلك العلاقة بين الراقص ومكونات الفضاء الذي يشغله، سواء كانت الضوء أو الموسيقى أو الجاذبية، تلك المكونات التي تخاطب حواسنا دوماً والتي تمرنّا على “تلقيها” منذ الصغر، لتأتي عروض مرزوقي محاولة لمساءلة الذاكرة الجسدية التي يمتلكها الراقص واختباراً لحدودها وقدرة الأخير على التخيّل.