حصان الشعر وبريّة القراءة
ينبغي أن نعترف أن نقد الشعر العربي المعاصر منذ ربع قرن على الأقل يعاني من تراجع ملحوظ أمام نقد السرد من جهة وأمام النقد الثقافي من جهة أخرى. ولما كان الشعر منذ بدئه الأول متفلّتا من المعايير الفنية الحاسمة بسبب انصياعه للأحكام الانطباعية لدى الجمهور العام، وخضوعه لتقلبات النقد الأيديولوجي وأمزجته لدى أحكام الخاصة من المثقفين، فإن النقد الأدبي تجاهه متعثّر وغير متّزن وغير حاضر بالفاعلية المأمولة منه، وهو خافت ومتردّد لا بل غير واثق من أدائه. كذلك هو لاهث خلف صرعات النقد الغربي باتّباعية ملحوظة وفق مصلحته من مدرسة فكرية فلسفية معينة. إننا نلاحظ مثل هذا التراجع عند العديد من النقاد العرب ولاسيّما الذين درسوا في الجامعات الغربية فعبدالله الغذامي على سبيل المثال عاد إلى بلده منشغلًا بالنقد الأدبي التطبيقي ثم سرعان ما اتجه إلى نقد الأنساق متخليًّا تمامًا عن فكرته الأولى. فالنقد النسقي ذو خصوصية محدودة أمام فضاءات النقد التطبيقي الذي يلائم انطباع المتلقي العام والخاص معًا.
الشعر العظيم إبداع مخيف من حيث هو قائم على عبقرية تخييل بالدرجة الأولى، لذلك لم تحسم حتى الآن مسألة الفن والالتزام، والفن للفن، ولا أراها سوف تحسم أبدًا لأنه مستند في طبيعته الجوهرية إلى منظومة من الجدليات جدلية الانفعال والفكر، وجدلية الخيال والفكر، وجدلية الأنا والجماعة. فإذا اكتفى بالتعبيرية الأنوية الذاتانية عتب عليه الملتزمون المؤمنون بالرسالة الاجتماعية الأخلاقية للشعر وإذا اكتفى بالتعبيرية الالتزامية عتب عليه القائلون بأن لا وظيفة للشعر خارج ذاته.
ومن هنا يتشتت الفكر النقدي ويتجه إلى مصالحه الخاصة، فتضيع معايير النقد المحايد، إلى درجة القصدية في التعامي عن شاعر ما أو تسويق شاعر آخر.. وتظهر في الساحة النقدية آراء مضطربة لنقاد بارزين ينحازون إلى الإقليمية أو الأيديولوجيا، ويضمحل النقد الأدبي المتزن بين اتجاهه لليسار الفكري واتجاهه لليمين. يزاد على ذلك النقد القائم على الشخصنة والمصالح الخاصة.
كما يجب أن ننتبه إلى أن الشكلانية الشعرية تعاني من تعويم نقدي واضح، فالنقاد من أنصار شعر الشطرين يصرّون على أن هذا الشكل هو الأصل الثابت الذي لا ينبغي الحياد عنه، وأنصار شعر التفعيلة يبالغون في انتمائهم الفني لموسيقي التفعيلة، غير أن الأدهى أن أنصار قصيدة النثر ماضون في الترويج لهذا الشكل الذي لم ينل حتى الآن اعترافاً أكيداً من لدن الذائقة العربية بسبب ندرة الجيد من هذا الشعر ولا نكاد نحصي عشرة شعراء بارزين في هذا المجال. أما الأمرّ من ذلك كله فهو ضياع البوصلة عند الهواة من مدّعي شعر الهايكو الذي صارت له ملتقيات منتشرة في الدول العربية.
توشك القيم الفنية الشعرية أن تفقد أصالتها ومعاييرها أمام هذا التجريب العابث من الهواة طلاب الشهرة الإلكترونية السريعة. فهم يؤسّسون جماعات وزمراً تؤكد حضورهم الجماهيري. وإذا انتبهنا إلى مسألة الشعر السياحي المنتشر عبر المسابقات الشعرية الكبيرة في الأقطار العربية فإننا نجد نقادًا محكّمين يبتعدون عن مفاهيمهم الحداثية الخاصة ليجاملوا طبيعة المناسبات الشعرية.
على أنني أرى أن العارفين بماهية الشعر من النقاد قليلون جدًا. فالدراسات الجادة في البنية الشعرية نادرة لأنها تحتاج إلى خبير متمكّن من العمارة الشعرية فنحن أمام معضلتين هما تفلّت الشعر أصلًا من الثباتية الشكلية والرؤيوية وتفلّت المعيار النقدي أيضًا. فكم صاح الشعراء من أنهم جيل بلاد نقاد! وكم رأينا نقادًا ينحازون إلى شاعر انحيازًا أعمى سواء أكان انحيازًا أيديولوجيًا أو إقليميًا أو شخصيًا.
أغلب النقاد يلهثون وراء المشاهير من الشعراء ولا يدرسون مراحل التنامي أو يعالجون الظواهر الشعرية السائدة عند شعراء آخرين. ثم إن أغلب النقاد يقيّمون الشعر بناء على منظوراتهم ومفاهيمهم الخاصة للشعرية. لا أتوقع أن النقاد قادرون على تقعيد معايير نقدية بصفة جمعية. فالنقد مثل الشعر يحتاج موهبة متفردة. وتحت عيني عشرات البحوث والكتب التي تثبت الارتجالية والضعف في نقد الشعر بعامة. لذلك سيغيب المعيار النقدي الجاد وينتشر المعيار الانطباعي المتقلّب. وفي البال كلام موفور عن فهاهة العلاقة بين النقد والشعر. ولأن الشعر العظيم هو الذي يخلق نقادًا عظامًا، فإن معايير نقد الشعر ستبقى مرهونة للتفاوت والتراجع بحسب ثقافة المرحلة.
المعيار الجمالي بين المتلقي والناقد
الشعر جمال، وتقويم الجمال يقوم على الذوق البسيط عند المتلقي العام، وعلى الذّوق المركب المتخصص عند الناقد. فقد يتفق حكماهما الجمالي على عمل واحد وقد يختلف. كما أن المسوّغات الجمالية بينهما مختلفة بالضرورة، ذلك لأن المتلقي البسيط يعبّر عن موقفه الجمالي بانفعال عادي من الإعجاب، في حين يعبّر عن ذلك الناقد بفكر نقدي ذي أحكام مستندة إلى قواعد ومعايير.
ولكن هل يستطيع الناقد أن يلغي أو يهمل آراء المتلقي العام؟ لا أظن ذلك. فثمة ذائقة جمعية قائمة على تراث ذوقي قديم متوارث، فما يسرّ القارئ البسيط قد لا يسرّ الناقد بالضرورة، وهنا يبدأ الاختلاف في الرأي حول ما هو شعري وما هو ليس بشعري. وتلك مسألة قديمة نراها مبثوثة في مطاوي النقد العربي القديم، وليس أدل عليها من نقدات الأصمعي وابن سلام الجمحي وابن قتيبة والجرجاني وأبي هلال العسكري وابن الأثير وحازم القرطاجني وغيرهم العشرات ممن تصدّوا لتفسير الظاهرة الشعرية.
الشعر العربي الآن يحتاج مؤسسة عربية كبيرة تدرس الحركة الشعرية وتمظهراتها المختلفة وتفرز الشعراء البارزين من خلال نقاد موهوبين متخصصين في النظرية الشعرية، حينئذ ستكشف المعايير النقدية عن فاعليتها تلقائيا
إن أبا تمام الذي بهر البلاغيين بصوره الفلسفية العميقة هو نفسه الذي نال استياء كثير من الناس الذين رأوا في شعره تعقيدًا وغموضًا، وكذلك المتنبي الذي انبرى لتجلية جماليات شعره بلاغيون عظماء في الوقت الذي جاهد الكثيرون منهم لبيان سقطات وسرقاته.
وأرى أنه مهما بلغت أحكام الناقد المتخصص من الموضوعية والدقة والنزاهة، فإنها لن تقدر على محو ذائقة المتلقي البسيط، فالناقد الذي لا يرى في البيتين التاليين أيّ شعرية جمالية:
سهرت أعينٌ ونامت عيونُ في شؤون تكون أو لا تكونُ
إن ربًّا كفاك بالأمس ما كان سيكفيك في غدٍ ما يكون
سيقابله قارئ عادي يستعذب الحكمة فيهما، ويستعذب سهولة حفظهما ويستعذب المعنى والموعظة فيهما.
وإذا ربطنا هذا الرأي بالنقد المعاصر رأينا من يقول إن نزار قباني كسب الجمهور وخسر النقاد، فيما كسب أدونيس النقاد وخسر الجمهور، ولما التمع نجم درويش رأينا من يقول إن درويشًا كسب الجمهور وكسب النقاد أيضًا.
المعيارية المتحركة
لعل أهم ظاهرة تبرز في النقد الموجّه لشعر محمود درويش هو أنه نقد احتفالي في مجمله تكاد تصل نسبته إلى (97 %)، في حين ذهبت نسبة (3 %) إلى إدانة أيديولوجيا درويش وليس إلى العورات الفنية في شعره. فالأشقر أدان درويش بوفرة التناص مع الميراث التوراتي ورأى أن درويش انحرف في اتجاهه السياسي إلى تأييد معاهدة السلام، وكذلك اتجه الأسطة إلى نقد ظاهرة الحذف والتغيير في شعر درويش لكي تلائم الإضافات الجديدة انسجام درويش مع السياسة الفلسطينية. وغير ذلك لم أقع على دراسة من بين مئات الدراسات والأطاريح تشير إلى عيوب فنية مّا في ذلك الشعر.
ولعلنا نستذكر تلك الهجمات القاسية على مقترح نازك الملائكة في مسألة شعر التفعيلة، وكيف حاول النقاد تجريدها من ريادة الفكرة، ولم يكتفوا بذلك بل قدّموا نقدات تلمز بشعريتها. ومع ذك رحل النقاد اللامزون وظل اسم نازك متوهجًا.
والمتأمل بالنقد الموجّه لتجربة السياب يجد أن أغلبهم عدّوه رائدًا للشعر الحديث بسبب تميزه الفني، وربما لسبب أيديولوجي أيضًا. لكن ظلت قصيدة “أنشودة المطر” شمسًا لا تغيب في مشهد الشعر العربي الحديث، ليغيب النقد الحاسد ويتلاشى. والأمر نفسه وقع مع أدونيس الذي شغل الثقافة العربية بآرائه النقدية وبشعره المتنامي، لكن ظل عشاق الظلام يهاجمونه أيديولوجيًا، فيما يبقى أدونيس رمزًا مهما للشعر الحديث.
وعلى الرغم من ندرة الدراسات الأدبية في شعر نزار قباني، إلا أنه ظل الشاعر الأكثر انتشارًا في الرصيف والبيت والمدرسة وصالونات الأثرياء، وتلاشى النقاد وبقيت قصائد نزار المغناة في أسماع الجماهير والنقاد معًا. ومن قبل ذلك المتنبي الذي عاش محنة الحساد والكائدين من النقاد، فتخلدت أشعاره وذهب الكائدون إلى مطاوي النسيان.
المعيار النقدي الجمعي حلم خائب
الشعر إبداع متجدد بالضرورة وهو الذي يخلق النقد أيًّا كان اتجاهه. والشعر نهر تعيش فيه الأسماك والنقاد صيادو أسماك فبقدر غنى النهر بالسمك المهم يكون حرص الناقد على اختراع الشبكة أو السنارة المناسبتين.
الشعر متفلّت من أيّ معيار نقدي يُتّفق عليه لأن طبيعته ثورية متناهضة باستمرار. ولذلك تباينت اتجاهات النقد ومناهجه، وستظل مختلفة متنافرة. فلم يستطع المنجز النقدي العربي أو العالمي إيجاد آلية اتفاق جمعي على نظريات نقدية للشعر، ولن يستطيعوا لأن قماش الشعر هو الذي يصنع الخياطين ويؤثر في مواقفهم ونظراتهم فأيّ معيار نقدي مقترح يستطيع شاعر فذّ أن يتفوّق عليه ويهمشه.
فانظر إلى حجم اختلاف البلاغيين العرب القدماء في أيّ ظاهرة فنية في الشعر، وانظر حجم الأفكار النقدية الغربية في المسألة الشعرية، وهي أفكار قائمة على منابع فلسفية أو أيديولوجية. إن حجم الاتفاق بين النقاد على مسألة فنية في الشعر ضئيل جدًا أمام نسبة الاختلاف والتناقض.
إن أغلب النقد السائر الآن في الغرب عبارة عن سوانح فكرية ليست بعيدة أبدًا عن الفكر النقدي العربي القديم، وقد أثبتت الدراسات المقارنة أن نسبة عالية من النظريات النقدية في الشعر هي من أصول عربية. وما الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز إلا مثال عظيم على ذلك. فمسألة لا تفاضل بين الكلمات عند الجرجاني قال بها تي . إس. إليوت في كتابه “الشعر والشعراء”. وأقوال تودوروف في أن الشعر تخيّل الأقوال نفسها عند حازم القرطاجني، فمثلما كانت ألف ليلة وليلة مادة خامًا اشتق منها الأدب الغربي المسرحية والقصة والسينما والحوار والموسيقى والغرائبية، كان النقد العربي القديم أيضًا على تشتته أرومة واضحة للنقاد الغربيين.
فالذي يحدث في نقد الشعر عربيًا وعالميًا إنما هو إعادة تدوير وتنسيق وقولبة، لكن الجوهر المعرفي قديم.
لست متفائلًا بأيّ اتفاق جمعي على قضايا الشعر ومناهجه وفضاءاته، لأن البيئات مختلفة والأيديولوجيات متنافرة، ولأن الشعر نفسه روّاغ مخادع بكّار يحرج الثبات النقدي ويربك قراراته.
المعايير النقدية في الشعر ستستمر في التشتت مثل طيور مذعورة يلاحقها صقر شرس، ذلك لأن الشعر انفعال إنساني تقيمه الذائقة في حين أن النقد فكر استنتاجي. الشاعر مزارع والناقد مهندس زراعي، وما زلت أردد ما قيل سابقًا بأن النقد فشل في أن يكون علمًا أو فنًا إنه تعليق على الإبداع أو توصيف له.
الشعر متفلّت من أيّ معيار نقدي يُتّفق عليه لأن طبيعته ثورية متناهضة باستمرار. ولذلك تباينت اتجاهات النقد ومناهجه، وستظل مختلفة متنافرة
فالمعايير النقدية في الشعر يستهلك بعضها بعضًا ويحاكيه أو يتحايل على الصيغ، الشعراء لاعبون والنقاد حكام، الشعراء يكتبون والنقاد يلحّنون. القصيدة الواحدة يمكن أن يلحنها الموسيقيون بأنماط عدة، وباستطاعة النقاد أيضًا أن يتناولوها بمناهج عدة. القصيدة سيدة جميلة والناقد كوافير. الشعر مَعْلم جمالي والناقد وزارة سياحة. الشاعر العظيم كالمدرّس العظيم لا يحتاج إلى مشرف تربوي أو موجّه فني.
إن كل حركات النقد في العالم هي صراعات ذوقية هدفها إنجاح صراعات أيديولوجية، فكيف سنحصل على معايير نقدية متفق عليها ما دام الشعر نفسه منذورا للاختلاف والنفور من الثبات. لذلك فالنقد زورق فضولي يتابع سباحة حوت تحت الماء. والحوت أدرى بأخلاق الماء وفن السباحة، والزورق طارئ سرعان ما يفكر بالعودة إلى الميناء.
الشعر العربي الآن يحتاج مؤسسة عربية كبيرة تدرس الحركة الشعرية وتمظهراتها المختلفة وتفرز الشعراء البارزين من خلال نقاد موهوبين متخصصين في النظرية الشعرية، حينئذ ستكشف المعايير النقدية عن فاعليتها تلقائيا.