مفهوم المتمجد في طبائع الاستبداد
ليس من قبيل المصادفة أن يدخل الكواكبي موضوعه – الاستبداد – بذكر المفاهيم المترادفة والمتقابلة. إنما أراد مباشرة أن يضعنا في مناخ الخيارات الإنسانية، فالمفهوم الأساسي هو الاستبداد وتقوم مقامه مفاهيم أخرى استعباد، اعتساف، تحكّم، أما المفاهيم المناقضة فهي مساواة، حس مشترك، تكافؤ، سلطة عامة. أما مفهوم المستبد فمترادفاته: جبار، طاغية، حاكم بأمره، حاكم مطلق. وليس هناك ما يقابله من مفاهيم بل يهيب بالمفاهيم المقابلة. أما الحكومة المستبدة فهي: عادلة، مسؤولة، مقيدة، ودستورية، ثم ينتهي بمفهوم الرعية التي يرى من مترادفاتها: أسرى، مستصغرين، بؤساء، مستنبتين، وصفات المفاهيم المناقضة: أحرار، أباة، أحياء، أعزّاء.
في النقائض هذه يضعك الكواكبي مباشرة أمام حرية الاختيار، إنه في حقيقة الأمر يطلب منك أن تكون إمّا أسيراً أو مستضعفاً أو مستصغراً أو بائساً أو مستنبتاً. وإما أن تكون حراً أبياً حياً عزيزاً ولست تحتاج إلى كبير عناء لتعرف المراد.
المشكلة في الأصل سياسية لأن الاستبداد كما يرى السيد الفراتي صفة للحكومة مطلقة العنان فعلاً أو حكماً، والتي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية من حساب ولا عقاب.. وتفسير ذلك هو كون الحكومة إما غير مكلّفة بتطبيق تصرفها على شريعة أو على أمثلة تقليدية أو على إرادة الأمة.. شر مراتب الاستبداد والتي يتعوذ بها من الشيطان هو حكومة الفرد المطلق.
لكن المشكلة السياسية تنتج وضعاً أخلاقياً، فجميع المفاهيم التي ذكرت هي مفاهيم أخلاقية، إنها مفاهيم دالة إما: على انحطاط أخلاقي هو ثمرة الاستبداد أو مفاهيم دالة على سموّ أخلاقي تنتج بالضرورة عن تجاوز أو نقيضة.
ينتج الانحطاط الأخلاقي من تلك العلاقة بين المستبد والرعية أو من الرعية كما يريدها المستبد، إنه يريدها أن تكون كالأغنام دراً وكالكلاب تذللاً وتملقاً.
مرة أخرى نحن في قلب القيم الأخلاقية. الأغنام والكلاب. رمزان لحال الرعية. أي انحدار الرعية إلى مرتبة الحيوانات، وبالتالي فقدانها الصفة الإنسانية، المفهومان المعبران عن درجة الحيوانية التي تصل إليها الرعية التذلل والتملق. فضلاً عن وظيفتها في مدّ المستبد بأسباب الحياة.
واستخدام مفهوم الرعية ناتج بالضرورة عن مقابله المستبد. فمفهوم الرعية يشير إلى كمّ من الكائنات قائمة خارج مفهوم الأنا الحر. غير أنّ هناك حلقة وسيطة تقوم بين المستبد والرعية هي حلقة المتمجدين. إنها بلغتنا المعاصرة “جمهور الانتهازيين”. ولم يستخدم الكواكبي مفهوم الانتهازية غير الشائع في عصره، ففي نص مدهش من نصوص طبائع الاستبداد بعنوان “الاستبداد والمجد” يعرّي الكواكبي هذا الصنف من الناس، بوصفهم آلة المستبد لإخضاع الرعية. ها نحن الآن أمام مفهومين متقابلين متناقضين: المجد والتمجّد. أما مفهوم المجد فيعرفه الكواكبي كما يلي “المجد هو إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب”، وزيادة في التحديد يضيف إليه صفتين أساسيتين الحرية والكرامة. فالحر يفضل الموت على حياة الذل مثل حياة ابن خلدون الذي خطّأ أمجاد البشر في إقدامهم على الخطر إذا هدد مجدهم، ذاهلاً عن أن بعض أنواع الحيوان ومنها البلبل وجدت فيها طبيعة اختيار الانتحار، أحياناً تخلصاً من قيود الذل، وإن أكثر سباع الطير والوحوش إذا أسرت كبيرة تأبى الغذاء حتى تموت، وأن الحرة تموت ولا تأكل بعرضها.
وهكذا يتحدد المجد في بنية مفاهيم أخلاقية أثيرة لدى الأنا، الحب، الاحترام، الحرية، الكرامة، ولسان حال السيد الفراتي يقول “إن الحياة خارج هذه المفاهيم لا قيمة لها، وبالتالي فالموت أولى بالإنسان إن هو فقد وجوده السامي هذا. فالحب علاقة معشرية طوعية، علاقة تقوم بين الأفراد ويسعى إليها الأنا دون قهر الآخر، والاحترام حالة يجوز الإنسان فيها بالنظر الآن على مكانة التقدير. والحب والاحترام لا يقومان إلا في حقل الحرية والكرامة الإنسانية. ولكن كيف يحقق الإنسان مجده، أي كيف يحوز على الحب والاحترام ويظهر حراً كريماً؟ الطريق إلى ذلك البذل في سبيل الجماعة، فحضور الآخر هو الحضور الأقوى عند الماجد، وبالمعنى الأخلاقي يعني أن الأنا قد تحرر من الأثرة وسار على طريق الإيثار”.
يضيف الكواكبي صفات أخلاقية لإغناء مفهوم المجد، وهي الكرم والفضل والنبل وجميعها صفات ذات ارتباط بالعلاقة بالآخر. رغم أنها صفات ذاتية للمجد والماجد، فالمجد إذن صفات أخلاقية يتميز بها الأنا، وسلوك أخلاقي يقع أثره على الآخر إيجاباً، لكن الاستبداد كما يقول الكواكبي أصل كل فساد “يفسد الاستبداد المجد ويقيم مقامه التمجّد”، فالتمجد في تعريف الكواكبي “القرب من المستبد بالفعل كالأعوان والعمال، أو بالقوة كالمتلقبين بدوق وبارون والمخاطبين بنحو رب العزة ورب الصولة أو الموسومين بالنياشين أو المطوقين بالحمائل” أو هو “أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية، أو أن يتقلد الرجل سيفاً من قبل الجبار يبرهن على أنه جلاد في دولة الاستبداد”.
نحن هنا إمّا فئة بنية تحيط بالمستبد، عماله وأعوانه ومن تكرّم قمعه عليهم المستبد بالألقاب، وأدوات قمعه من كل الأنواع. وكما للماجد بنية أخلاقية تميزه، كذلك للمتمجّد بنيته الأخلاقية فهو “معاد للعدل نصير للجور خال من الوجدان والشرف والرحمة والدين”، إن هذا الصنف من النفوس الوضيعة ذو مهام يفصّلها الكواكبي استناداً إلى وظيفتها الفعلية كما كانت في عصره، وكما أراد المستبد من الإكثار منها لتدعيم الاستبداد كاشفاً حقيقتها الفعلية التي تختفي وراء التظاهر بحريتها. فالمتمجد في حقيقته عبد عند المستبد، وموضوع إهانة، لأنه ليس أكثر من أداة رخيصة تقوم بـ”تغرير الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها. فيسوقها للحرب اقتضاها محض التجبر والعدوان على الجيران، فيوهمها أنه يريد نصرة الدين. أو يسرف بالملايين من أموال الأمة على ملذاته وتأييد استبداده باسم حفظ شرف الأمة وأبّهة المملكة، أو يستخدم الأمة في التنكيل بأعداء ظلمه باسم أنها أعداء لها، أو يتصرف في حقوق المملكة والأمة كما يشاء هو باسم أن ذلك من مقتضى الحكمة والسياسة”.
بلغة معاصرة فإن المتمجّد هو البوق الأيديولوجي عند المستبد الذي يزيّف الوقائع والحقائق، هو الذي يقلب الأمور رأساً على عقب، لأنه يخفي أهدف المستبد الذاتية الضيقة ويحوّلها إلى أهداف باسم الأمة مستخدماً المفاهيم الأخلاقية الأثيرة لدى الناس ولصقها بسلوك المستبد، كحب الوطن، وتوسيع المملكة، وتوسيع المنافع العامة، والدفاع عن الاستقلال. لا شك أن السلطان عبدالحميد هو المقصود بهذا الكشف والتحليل. ربما أنه أخفاها لسببين: الخوف من المستبد، أو لإعطاء معنى كليّ للمستبد والمتمجّد.
أما السبب الرئيسي في سلوك المتمجّد فهو البحث عن المنصب في الحكومة المستبدة. وهنا تظهر آلية اختيار المستبد لمتمجديه.
فالمستبد المحنك “يطيل أمد التجربة في المناصب الصغيرة، فيستعمل قاعدة الترقّي مع التراقي، ويسمّون ذلك برعاية قاعدة القدم. ثم يختمون التجريب بإعطاء المتمرن خدمة ليكون فيها رئيساً مطلقاً ولو في قرية. فإن أظهر مهارة في الاستبداد، ذلك ما يسمونه حكمة الحكومة، فبها ونعمت. وإلا قالوا عنه يا ضيعة الأمل فيه”.
أو أن المستبد يذلّ الأصلاء بكل وسيلة حتى يجعلهم مترامين دائماً بين رجليه كي يتخذهم لجاماً لتذليل الرعية.
ويستعمل عين هذه السياسة مع العلماء ورؤساء الأديان، الذين متى شمّ من أحدهم رائحة الغرور بعقله أو علمه ينكّل به، أو يستبدله بالأحمق الجاهل، من كل ظان من أن إدارة الظلم إيقاظاً منه ولأمثاله من أن إدارة الظلم محتاجة إلى شيء من العقل أو الاقتدار فوق مشيئة المستبد.
في تحليل هذا النص، نحصل على ما يلي: إنّ المتمجد ظاهرة لا أخلاقية، قد يجدها المستبد من جميع فئات المجتمع. من الناس العاديين ومن الأصلاء ومن رؤساء الأديان ومن العلماء.. الخ. وآية ذلك أن المستبد يجعل من الاستبداد حالة كلية، من هنا نفهم قول الكواكبي “الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع”.
نحصل هنا على نوع من العلاقة المتبادلة الآتية، فالمستبد يختار أولاً الأسافل أخلاقياً، ثم يعمّ هؤلاء الأسافل الاستبداد كحالة كلية، فيشيع الاستبداد في كل أرجاء الإمبراطورية، فالكناس الذي هو وظيفة وضيعة في نظر الكواكبي وعصر الكواكبي يتحول في دولة الاستبداد إلى مستبد. إذن كلّ في حقله مستبد في حكومة الاستبداد. وهكذا يتحول المجتمع إلى جحيم. فتدمر الهيئة الاجتماعية كما يزول فعل النظام الأخلاقي المتعالي.
فالأسافل يكثر عددهم ويقل تبعاً لشدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى جيش الانتهازيين واحتاج إلى المزيد من الدقة في اتخاذهم بمعيار السفالة، فكلما كان الانتهازي المتمجّد أكثر سفالة كان أكثر قرباً ويكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم ومن ثم من دونه لؤماً وهكذا.
وبالخلاصة فإن المستبد لا يخرج قط عن أنه كائن خائف محتاج لعصابة تعينه وتحميه فهو ووزراؤه كزمرة لصوص، رئيساً وأعوانا، كما يقول الكواكبي: ترى أليس من صحوة لهذا الصنف من المتمجدين الانتهازيين. ألا يمكن أن يتحول وعيهم بالاستبداد إلى مقارعته؟
يغلق الكواكبي الباب أمام هؤلاء للصحوة وإن أظهروا ميلاً للإصلاح، وبهذا الصدد يقول: لا يغتر العقلاء بما يتشدق به الوزراء والقواد من الإنكار على الاستبداد والتزلف بالإصلاح وإن تلهّفوا وإن تأفّفوا.. فكيف يجوز تصديق الوزير والعامل الكبير الذي ألف عمراً طويلاً لذة البذخ وعزة الجبروت في أن يرضى بالدخول تحت حكم الأمة.
لكنه لا ينكر وجود مصادفة ما تجعل من الذين آزروا الاستبداد عمراً طويلاً يندمون، ولكن لا ينبغي على الأمّة أن تتّكل على من يظهر فيها أمثال هؤلاء، لأن وجودهم من نوع الصدف التي لا تبنى عليها آمال ولا أحلام.
هذه النتيجة التي يصل إليها الكواكبي قادته لأن يصنع الآمال بالأمة التي لا يحكّ جلدها غير ظفرها، ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والإهداء والثبات حتى إذا ما اكفهرّت سماء عقول بنيها قيض الله لها من جمعهم الكبير أفراداً كبار النفوس، قادة أبراراً يشترون السعادة بشقائهم والحياة بموتهم.
وبعد: لا يحتاج المرء لكبير عناء ليكشف عن البديل الذي طرحه الكواكبي للاستبداد ولكن كيف السبيل عنده لتجاوز حالة الاستبداد؟ “الاستبداد ينبغي ألا يقاوم بالعنف، كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً، نعم الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارا طبيعياً، فإذا كان في الأمة عقلاء يتباعدون عنها ابتداء، حتى إذا سكنت ثورتها نوعاً وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسّس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد ولا علاقة لها بالفتنة”.
هنا يبرز موقف الكواكبي من العوام. وهو موقف النبيل النخبوي، أو قل يميز الكواكبي بين تمرد العقلاء والساعين إلى المجد، وخاصة مجد النبالة وهو البذل في سبيل الجماعة. وبين تمرد العوام وهو تمرد آني، ويأتي لأسباب مخصوصة مهيجة فورية كما يقول.
فالعوام لا يثور غضبهم إلا عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبد على مظلوم يريد الانتقام لناموسه، أو عقب حرب يخرج منها المستبد مغلوباً، أو عقب تظاهر المستبد بإهانة الدين، أو عقب تضيق شديد عام أو حالة فاجعة أو مصيبة، أو عقب تعرض المستبد لناموس العرض، أو تضييق يوجب تظاهر قسم كبير من النساء في الاستجارة، أو عقب ظهور مولاة شديدة من المستبد لمن تعتبره الأمة عدوّاً لشرفها.
لا يؤيد الكواكبي هبّة العوام لأن أهدافها من الهبّة غير واضحة وعفوية. فيما مقارعة الاستبداد تحتاج إلى تعقل أهم مظاهره هو معرفة الغاية والخطة، وتعميمها على الناس. إذ دون تحديد الغاية بصراحة ووضوحها وإشهارها بين كافة الناس ينسدّ العمل ويتحول إلى انتقام وفتن.
لكن هذا لا يمنع ضرورة تنبيه الأمّة بآلام الاستبداد وحملها على البحث في القواعد السياسية المناسبة لها، وهذا يحتاج إلى وقت حتى يحصل التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتحتي في الطبقات السفلى. كما يقول الكواكبي.
والحق أن معجم الكواكبي مثير نوعاً من اللبس في فهمه. فهناك العقلاء والنبلاء والمستبد والمتمجّد والعوام والأمّة والطبقات العليا والطبقات السفلى والخواص والرأي العام. ولو أعدنا ترتيب هذه المفاهيم وتحديدها من خلال نص “طبائع الاستبداد” لوجدنا، أن مفهوم الأمة مفهوم يشير لكل فئات الناس الأغنياء منهم والفقراء، العقلاء والبلهاء والنبلاء والعوام والطبقات السفلى والطبقات العليا.
ثم إن العوام مفهوم يشير إلى سواد الشعب دون الخاصة لكنه يضم في ذاته الأغنياء والفقراء. وبالتالي لا ينتمي الأغنياء إلى صنف النبلاء، وآية ذلك أن النبيل صفة عائلية نفسية قبل كل شيء وأحياناً تردّ إلى الأصالة في العائلة. فيما مفهوم الغنيّ ومفهوم الفقير ذوا علاقة مباشرة بالثروة.
أما الطبقات العليا والطبقات السفلى فإن نص الكواكبي يسمح لنا بالقول إن الطبقات العليا هي فئة النبلاء والعقلاء والخواص. فيما الطبقات السفلى هي ما دون ذلك، إنها العوام والفقراء.
ولهذا نفهم لماذا تتلهف الطبقات العليا على نوال الحرية فيما الطبقات السفلى تتمناه. والفرق بين التلهف والتمني فرق في الكيف والكم .
فالمتلهف حزين وشاعر بالكرب والظلم ومحترق. ولهذا فدافعه إلى العقل شديد، فيما التمني شعور سلبي.
بل إن كلّ فئة من هذه الفئات السابقة تبنى علاقة خاصة بالاستبداد. ففيما النبلاء والعقلاء والخواص هم أعداء الاستبداد رغم محاولة المستبد الاستعانة ببعض العقلاء الذين سرعان ما يقعون في تناقض معه. فإن، الأغنياء هم كما يقول الكواكبي “أعداؤه فكراً وأوتاره عملاً، منهم ربائط المستبد يذلهم فيئنون ويستدرّهم فيحفون ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها”.
أما الفقراء، وإن كان المستبد يخافهم خوف النعجة من الذئاب كما يقول الكواكبي فإنهم “يخافونه خوف دناءة ونذالة خوف البغاث من العقاب، فلا يجسرون على الافتكار فضلاً عن الإنكار.. وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرهم فعلاً رضاء المستبد عنهم بأيّ وجه كان رضاؤه”.
ومع ذلك فإن الاستعداد الفكري لاستبدال الاستبداد لا يجوز أن يكون مقصوراً على الخواص، بل لا بد من تعميمه حسب الإمكان ليكون مقصوداً بقبول الرأي العام. وكأن الرأي العام هنا هو المجتمع ككل.
والمتمجّد ليس صفة طبقية بل هو صفة نفسية – أخلاقية، فالمستبد يستعير متمجّده من كل الفئات الاجتماعية على حسب درجتهم في السفالة واللؤم بلغة الكواكبي.
لا شك أن الكواكبي في وصفة الاستبداد وتعريفه جمهور الانتهازيين المتمجّدين قد كشف للعامة السلوك الظاهري للمستبد وأعوانه، كشف آلية سلوك المستبد وآلية دعمه معاً.
لكنه ظل وصفياً، متوقفاً فقط عند ما تشاهده العين المجردة، إذ لا يخفي على المرء سواء أكان من العامة أم من الخاصة آلية سلوك المستبد وأعوانه.
وهو وصف على أيّ حال مفيد كي يدرك المستبد أنه ظاهر للعيان فيما يذهب إليه، ويدرك المتمجّد أن الآخرين الذين يقع عليهم فعل الاستبداد، وهم أدواته – عارفون بهم وبنفوسهم الوضيعة.
لكن سؤال الاستبداد أعمق من مجرد الكشف عن ظاهره، بل السؤال الأساسي في الاستبداد: ما الشروط التي تجعل من الاستبداد واقعاً. فسلوك المستبد وأشكال فعل أدواته لاحقة لظهور الاستبداد، نازعة لاستمراره أنفاً عن رافضيه.
فالاستبداد بكلّ أشكاله ظاهرة تاريخية تجد تفسيرها الأول في بنية اجتماعية – اقتصادية وأخلاقية محددة، قام ويقوم على عصبيات مرتبطة بمستوى التطور التاريخي – الاجتماعي والاقتصاد لهذا الشعب أو ذاك.
فالمجتمع القبيلي الذي يتحول إلى دولة لا يمكن إلا أن تكون القبيلة الأقوى عدة وعدّاً، وبفضل تحالفات مصلحية، هي العصبية التي تحمل القبيلة إلى سدة الحكم الوراثي المستبد.
فيكون الاستبداد حالة طبيعية بهذا المعنى. المهم هو الكشف عن العصبية التي تخلق الاستبداد، العصبية بوصفها ثمرة من ثمرات حال المجتمع الكلية. إنها القاع الأساسي الذي يصدر عنه الاستبداد لأنها تنطوي بالضرورة على المصلحة، والتي هي مفهوم ينتج القوة التعسفية للسلطة.
ثم إن استمرار السلطة كما هي يخلق الوعي بآلية الحفاظ عليها رغم التغيرات التي تصيب المجتمع. وهنا نقع على الظاهرة التالية: فإذا كان الاستبداد نتيجة طبيعية لمستوى تطور المجتمع في لحظة من لحظات تاريخه، فإن استمراره يحتاج إلى مواجهة الشروط الجديدة التي تتناقض مع بقائه، هنا يزداد الاستبداد تعسفاً ويصير بحاجة أكبر لأدوات المجتمع المادية والأيديولوجية.
بل إن وعي الاستبداد حالة ينتجها تطور المجتمع نفسه. إذ قد يمر حين من الدهر دون أن ينشأ لدى الناس هذا الإحساس بالاستبداد. فتطور البنية التي أنتجت الاستبداد سابقاً يخلق الشرط الضروري لمواجهته، لأنها تخلق قوى اجتماعية جديدة، لم تعد قادرة على تحمل الاستبداد كظاهرة تحن إلى الماضي وليس إلى الحاضر.
فآل عثمان الذين حكموا البلاد والعباد منذ القرن السادس عشر ظلوا بمأمن من التمردات النافية للاستبداد بالمعنى السياسي – الاجتماعي للكلمة. صحيح أنهم واجهوا حركات انفصالية، لكنها لم تكن حركات ضد الاستبداد أصلاً. بل حركات تريد أن تخلق استبدادها الخاص بها. حتى جاءت التحولات الكبرى في العالم وفي الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، تحولات في الاقتصاد والثقافة والحراك الاجتماعي والتكون الطبقي، فظهر الوعي باستبداد الدولة العثمانية بوصفها دولة تنتمي إلى عصر مضى، ولم تعد مطابقة لنـزوع الفئات الاجتماعية الجديدة، وعلى رأسها المثقفون الذين عبّوا من معين الثقافة الأوربية وعكسوا نزوعات الفئات التجارية الجديدة.
وفي اللحظة التي يظهر فيها التناقض بين السلطة المستبدة كسلطة تنتمي إلى الماضي، والبنية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية الجديدة، تظهر السلطة المستبدة أقصى درجات الاستبداد الممكنة، من قتل وسجن وتعذيب ونفي، ويتحول المتمجّدون الانتهازيون إلى وحوش ضارية.
وتكون هذه الحالة في الغالب بداية نهاية السلطة المستبدة. دون أن ينفي ذلك ظهور استبداد جديد قائم على عصبية أخرى حيث يتحول النظام الجديد رويداً رويداً من حالة استبداد قديم إلى حالة استبداد جديد استناداً إلى قول أيديولوجي آخر.
وعندها تظل الآليات هي هي مع تغير شكلي فقط. إذ يتحول المتمجّد التقليدي كأبي المهدي الصيادي، إلى متمجّد حديث دون ذكر الأسماء.
ولا شك أن تغير عصبية الاستبداد من عصبية قديمة إلى عصبية جديدة يترافق مع تغير في طبيعة القوة. وليس في آلية استخدامها وفي درجة القمع وليس في كيفيته.
وهنا لا أقصد بالعصبية الجديدة إلا العصبية الأخرى التي أتت على العصبية الماضية. إذ قد تكون العصبيتان متشابهتان من حيث الجوهر. وقد تنشأ عصبية جديدة مختلفة كل الاختلاف عن استمرار آلية الاستبداد على نحو أشد.
فالانتقال قد تم مثلاً في روسيا من استبداد قيصري قديم إلى استبداد ستاليني حديث، هنا تغيرت العصبية وتغيرت أشكال ممارسة الاستبداد دون أن يصيبها – هذه الأشكال – تغيّر في جوهر الممارسة اللهم إلا حفر القبور الجماعية. فالاستبداد ذو المنشأ العائلي أخلى المكان للاستبداد ذي المنشأ الأيديولوجي وهكذا..
أما خوف الكواكبي من العامة أو العوام فهو خوف الأرستقراطي النبيل الذي لديه بالأساس موقف مزدر ممن هم أدنى في النسب والحسب، وشعور بالاستعلاء عليهم، وخوف من عنفهم ولاعقلانيتهم.
وكان الاستبداد لا يقع إلا على عقلاء الأمة ونبلائها وأصلائها، وهي الفئات الأكثر إحساساً كما يفهم في نصه بالغبن والقهر من سلوك المستبد.
لكن التعويل على النبيل والعاقل لا يمنع أن تكون عند الكواكبي نزعة إنسانية أخلاقية تدعو إلى المساواة بين البشر على مستوى الحقوق والواجبات والثروة، وهذا أمر آخر.
وبعد: لقد مدنا الكواكبي بنص للقراءة لم يصبه البلى بعد. وهذه هي المأساة الكبرى.