شي شي ران .. الرسم والكلمات
شي شي ران شاعرة ورسامة معاصرة من مقاطعة خبي في الصين، تخرجت في كلية الفنون الجميلة وشاركت لوحاتها في الكثير من المعارض. عضو في اتحاد الكتاب الصينيين، وصدر لها العديد من المجموعات الشعرية مثل “وحدها العتمة تغمر الروح “، “التجول في شوارع الصين”، “شجرة الكاكي”، و”يوميات ملابس الحداد”. وحصدت العديد من الجوائز الشعرية الرفيعة، وتُرجمت أعمالها إلى اللغات الانكليزية والفرنسية والرومانية والسويدية والعربية، ولغات أخرى. في هذا الحوار معها نتعرف على هموم وأفكار وتطلعات شاعرة تمكنت من خلال نتاجها الشعري المميز من وضع اسمها على خارطة أفضل الشاعرات والشعراء المعاصرين في الصين.
أجرت الحوار وترجمته من الصينية: ميرا أحمد
الجديد: عادة ما تكون مرحلة الطفولة العالم الأكثر تأثيرا في حياة الشاعر. كيف كانت طفولتك؟ وما هي العوامل التي أثرت في نشأتك؟
شي شي ران: ولدت في سبعينات القرن الماضي في بلدة صغيرة صوب الشمال. ومن المنظور العالمي في الوقت الراهن، يمكن القول بأنني عشت في فترة زمنية خاصة تتسم بالانغلاق والتحفظ بعض الشيء، وفقر المعرفة وعدم توافر المعلومات. ولقد شعرت بهذا الانغلاق، أو ذلك التحفظ، عندما كانت عائلتي وأصدقائي بمثابة العالم المكتمل في عيني خلال مرحلة الطفولة. يبدو أن الأمر يشبه على نحو مّا ما ذكره الفيلسوف الفرنسي روسو من أن الطفولة هي “مرحلة استرخاء الفهم والإدراك”. وسرعان ما لاحت تباشير الإصلاح والانفتاح في الثمانينات داخل الصين. الذكريات الحلوة المرتبطة بتلك الفترة لم تبرح ذاكرتي؛ ما زلت أذكر معطف أبي العسكري في الشتاء، وعلبة الطعام الحديدية وهو يحملها معه إلى العمل، وعندما اصطحبني إلى مطعم الوحدة بعد أن تقاضى أول راتب شهري، يومها تناولت قطع اللحم المشوية الصغيرة، وأذكر كيف كنت أجلس خلفه على الدراجة، وأمسك بحلوى القرع، مثل هذه التفصيلات ساهمت في نسج خيوط ذكريات الطفولة البعيدة.
مرة اصطاد أبي عصفورًا صغيرًا وأعطاه لي، حتى الآن ما زلت أستشعر الدفء والرقة في راحة يديّ. هناك الكثير من تفاصيل تلك الحياة اليومية، لكنها للأسف، عادة ما تفرّ من باب الذاكرة. كل تلك الأشياء اللطيفة كانت تكفي لكي تمنحني طفولة هنيئة، إلى أن جاء ذلك اليوم، عندما تعرض أبي فجأةً لحادث سير وفارق الحياة، ورحل معه كل الحب الذي كان يمنحني إياه، عندها أدركت أن هذا العالم غير مكتمل. أمي امرأة لطيفة وحازمة في آن، تهوى الأدب والأوبرا الكلاسيكية، ودائمًا ما كانت تصطحبني لحضور عروض الأوبرا، ورغم أنها تولي عناية كبيرة بهذين الأمرين، إلا أنها كانت متحفظة في حديثها مع الآخرين، ولم تسمح لي بالخروج والاحتكاك بالغير، فقد ذاقت مرارة الغدر في تلك الحقبة، وكانت ترجو ألا أخوض مثل تلك التجارب الأليمة التي خبرتها، وأن أبتعد عن كل ما هو غير واقعي، وأقترب من أشخاص أكثر واقعية. ولدت أمي في عائلة عريقة؛ فجدتها وكبار العائلة ينحدرون من عائلة وانغ من سلالة تشينغ، وهذا يعني أن لديها قواعد وآدابا في السير والجلوس، وقد تأثرت بكل ما كانت تراه وتسمعه من حولها. وبعد أن عانت تقلبات الدهر، صارت تتوخى الحذر وتحتاط لكل شيء. من هنا بدأت تتشكل اهتمامات الطفولة لديّ، وتأصلت وترسخت في وجداني، وباتت أساسًا لحياتي، فأضحى الأدب والفن رفيقا روحي، حتى أنني أشعر في بعض الأحيان أنني أعيش حياة أمي.
هوية الشاعر
الجديد: ليس بالضرورة أن يكون نظم الشعر لفترات طويلة بالنسبة إلى الشخص دليلا على بزوغ نجم شاعر جديد. من وجهة نظرك كيف نعرّف الشاعر الحقيقي؟
شي شي ران: لا شك أن ليس كل من نظم الشعر يكون شاعرًا، فهذا أمر مفروغ منه. الشعر يعبّر عن طموح الشاعر وفكره. ومنذ تطور الشعر الحديث، من استعادة كلمات الماضي وصولًا إلى سرد الحاضر، نتلمس أن اللغة تميل إلى التحول من الصور المزخرفة إلى لغة منطوقة مباشرة، يمكن التعبير عنها بطرق شتى، وفي قوالب شعرية مختلفة. وعلى الرغم من ذلك، فإننا وسط هذا الكم الهائل من بحور القصائد يتسنى لنا التمييز بين الشعر الذي يقبع خلفه شاعرٌ عظيمٌ، والشعر الذي يقبع خلفه مجرد شاعر هاو. وبالإضافة إلى بنية القصيدة والمهارات اللغوية، والزخرفة اللفظية والصنعة الشعرية، فإن المعيار الأساسي لتقييم جودة القصيدة هو الأفكار المستقلة والرؤى الذاتية للشاعر. وهنا يتحتم علينا تقدير الشاعر الذي فض مكنون مشاعره، وأفرغ الشحنات العاطفية الزاخرة، ووجّه انتباهه إلى فئة أكبر من الجماهير، وأولى عناية بمصير الإنسانية والمجتمع البشري.
برهان الشعر
الجديد: في جانب منه، الشعر تجسيد لأفكار الشاعر، وتعبير عن مشاعر وانفعالات قوية، وتجارب حياتية لتحقيق توازن نفسي داخلي. ما هي موضوعات نتاجك الشعري؟ وما الذي منحك الشعر إياه خلال سنوات من الكتابة؟
شي شي ران: تتنوع موضوعات قصائدي؛ فمنذ وقت مبكر وأنا أولي اهتمامًا بالتعبير عن الحب ومشاعر الأبوة والأمومة، والموضوعات التاريخية والتعبير عن المشاعر الإنسانية، حتى بلغت مرحلة أخرى من الاستكشاف وتأمل الأشياء المادية في العالم من حولي، ثم تبعتها تسجيلات لأسفاري ورحلاتي عبر بلدان العالم. الشعر بالنسبة إليّ محاولة ترميم ذاتي، وليس فقط دعما روحيا للذات، أو سبرا لأغوار النفس البشرية والغوص داخل العالم الداخلي، أو مجرد سلوى للنفس المتعبة، لكن في الوقت ذاته، هو مراقبة وتسجيل مبصر لصورة العالم الخارجي، وواقع يجسد العالم الموضوعي وانعكاسه في أعماق القلب. الشعر هو برهان ساطع على أنني ما زلت على قيد الحياة.
الكلاسيكي والطليعي
الجديد: يختلف الشعراء في ما بينهم، ولكل شاعر سمة خاصة تميزه عن الآخر. ما طبيعة الاختلاف بينك وبين غيرك من الشعراء الصينيين؟ كيف يمكن الحديث عن سمات عالمك الشعري الخاص؟
شي شي ران: أبدى بعض الشعراء والنقاد رأيهم في أعمالي الشعرية ورأوا أن شعري يجمع بين “النزعة الكلاسيكية” و”البعد الطليعي”، مثل الشاعر شي تشوان، والناقد شي مينغ. ومن ثم عرفت أن ثمة اختلافا بيني وبين غيري من الشعراء. أشعر أن النزعة الطليعية قيمة هامة في شعر الشاعر؛ فهي لا تنطوي على أفكار الشاعر ومشاعره فحسب، بل تعبر عما يفصح عنه الشعر من شعور بمسؤولية اجتماعية معينة، وأن هذه تسهم في تشكل الهيكل البنائي والدعامة الأساسية للقصيدة. أما النزعة الكلاسيكية فثمة علاقة تجمع بينها وبين نشأتي وتكويني؛ أنا أهوى الرسم، وأوبرا كونكو وأوبرا بكين، وأعشق البنايات العتيقة الأثرية، وغيرها من أشكال الفنون الكلاسيكية الأخرى.
ولادة القصيدة
الجديد: لحظة ولادة القصيدة لحظة عسيرة، وتختلف فرصة كل قصيدة عن الأخرى. في بعض الأوقات تأتي القصيدة في لحظة مباغتة، تطوف اللحظة الشعرية وتحلق وتزوغ إلى أن يقبض الشاعر عليها ويمسك بخيوطها. كيف تولد القصيدة لديك؟ وهل تجدين صعوبة في اختيار عناوين القصائد؟
شي شي ران: ولادة القصيدة أشبه بثمرة فاكهة تنمو على غصن الشجرة. قبل أن تزهر الثمرة لا بد للشجرة أن تضرب بجذورها عميقًا في الأرض، وتمتص أشعة الشمس، وتتنفس الهواء وتتغذى من التربة. وما ترغب التعبير عنه القصيدة إنما يتأتى من تجارب حياتية متراكمة ولا يأتي من فراغ، فهي بذرة مدفونة، عن قصد أو دون قصد في قلب الشاعر، وتنتظر الوقت المناسب حتى تنمو وتترعرع. الشاعر هو تلك الشجرة التي تزهر فوق غصونها ثمرات الفاكهة.
لا أجد صعوبة في اختيار عناوين القصائد. أوليس الأصعب هو كيفية الولوج إلى عمق القصيدة؟ ومن خلال تجربتي، عناوين القصائد تنساب أمامي مثل ماء دافق.
الجديد: شاعت قصيدة النثر التي تخلو من الوزن والتفعيلة. فما رأيك بقصيدة النثر؟ وهل أنت مع تصنيفها تحت مسمّى الشعر؟
شي شي ران: بالمقارنة مع القوالب الأدبية الأخرى، أرى أن مواطن سحر الشعر إنما تكمن في تكثيف المعاني واختزال الصياغة، وليس في الإسهاب؛ في تكثيف المشاعر وتجسيد الفكرة في لحظات وكلمات مكثفة وموجزة، من دون الحاجة إلى الإطناب حتى لا يفقد الشعر سحره. وعلى أيّ حال، أنا لا أولي اهتمامًا بقصيدة النثر.
الشعر باق
الجديد: يقول أغلب النقاد إننا نحيا في عصر الرواية، فبعد غزو التكنولوجيا لم تعد هناك حاجة للشعر والمحسنات البديعية والزخرفة اللفظية؟ هل تشعرين أن الشعر فقد قيمته في مواجهة الأجناس الأدبية الأخرى؟
شي شي ران: من قال هذا؟ هناك فئة من الشعراء وقراء الشعر ما زالت تحافظ على قيمة الشعر، وعلى الرغم من أن النسبة ليست كبيرة، لكن معايير قيمة الأشياء ليست معايير كمية؛ في بعض الأحيان نقطة الضوء الصغيرة تكون شديدة القوة والتركيز. ومن الصعب المقارنة بين الشعر في قدرته على التعبير عن مخزون المشاعر وتفريغ الشحنات العاطفية والإنسانية، وما يحققه من عزاء للنفس وتنفيس عن المشاعر حبيسة الصدور التي لا تجد سبيلا لاستيعابها بواسطة الأجناس الأدبية الأخرى، ومن هذا المنطلق، لن يندثر الشعر إلى الأبد.
أمي وأبي
الجديد: مغامرة الشاعر هي خلاصة تجارب حياتية وإنسانية عاشها شكلت وجدانه، وألهبت مشاعره حتى صار لديه فيض من المشاعر. ما هي التجارب الذاتية والإنسانية التي عشتها وكان لها أثر كبير في تشكيل عالمك الشعري وإبداعك الأدبي؟
شي شي ران: إذا خضنا في هذا الأمر تفسيرًا وتحليلًا، فستكون أمي هي أكثر شخصية مؤثرة في حياتي؛ وكان الأثر بالغًا في أمور كثيرة، مثل حساسيتها المرهفة نحو العالم، وإدراكها العالي، وشخصيتها التي تحمل المتناقضات ما بين القوة والمثابرة والوداعة. وقد ألقى حادث وفاة أبي البذرة الأولى داخلي، ودفعني بشكل مباشر إلى كتابة الشعر، وقد ألهمني كثيرًا وشحنني بفيض من المشاعر، وفجّر داخلي طاقات إبداعية كبيرة.
شعور بالفخر
الجديد: تاريخ الشعر الصيني حافل بأسماء لامعة تبوأت مكانة مرموقة فيه، وشكلت معايير لتقييم الشعر. من هو الشاعر الذي تأثرت به؟ وأسهم في تشكل عالمك الشعري الخاص؟
شي شي ران: حينما نشرت مجموعتي الشعرية في عام 2016 “وحدها العتمة تغمر الروح”، طلبت من ثلاثة من الشعراء المقربين إلى قلبي كتابة كلمة على غلاف الديوان، وحينما صدرت الدواوين الأخرى كتب هؤلاء الشعراء قراءات ومراجعات، وقد أفادت القراءات بأن الدواوين تحمل فكرًا رفيع المستوى وإنجازًا أدبيًا كبيرًا، وكان لهذا التقييم بالغ الأثرٌ في مساري الإبداعي (على الرغم من أن العالم الشعري الذاتي تشكل لديّ من أشياء خاصة، إلى جانب المطالعة الدائمة والفكر المتواصل) إني لأشعر بفخر كبير، لكوني أقف جنبًا إلى جنب مع نخبة ممتازة من الشعراء وفي الزمن نفسه. وأعني بهم: شي تشوان، يانغ كه، وانغ جيا شين، يي جيان، بان وي.
الجديد: وقت الكتابة أكثر أوقات الكاتب والشاعر متعة وخصوصية. ما هي طقوس الكتابة لديك؟
شي شي ران: أكتب في لحظات هدوء النفس وسكينة القلب. أبدأ بالكتابة على دفتر الملاحظات، ثم أنقلها إلى الحاسوب، ثم تتكرر عملية التحرير مرات عدة حتى أصل إلى المسودة النهائية. طقوسي بسيطة وليست معقدة.
الشعر النسوي
الجديد: ما هي مشروعاتك الأدبية القادمة؟
شي شي ران: صدر لي حتى الآن أربعة دواوين شعرية هي: “شجرة الكاكي”، “التجول في شوارع الصين”، ” يوميات ملابس الحداد”، و”وحدها العتمة تغمر الروح”. وقد حصل الديوان الأول “شجرة الكاكي” على الجائزة التشجيعية في الأدب في مقاطعة خبي، ثم حصد العديد من الجوائز الشعرية الرفيعة الأخرى. بعدها كتبت مجموعة قصائد، لكنني في الوقت الحالي أتأنى بعض الشيء في نشر ديوان خامس، أنتظر حتى يتوافر لديّ القدر الكافي من القصائد التي أرضى عنها تمام الرضا. مؤخرًا حررت “مختارات من الشعر النسائي الصيني”، وضم فريق التحرير عشر من أشهر الشاعرات الصينيات المعاصرات. وكما تعلمين أنه – حتى على المستوى العالمي – ما زالت مسألة اضطهاد المرأة تمثل قضية هامة لا يمكن تجاهلها. وكم أتمنى تأسيس منصة للشاعرات الصينيات وللمختارات الشعرية النسوية، لاختيار الشاعرات الصينيات وإبراز الإنجازات الشعرية السنوية لأفضل الشاعرات المعاصرات. وقد نشرت لي دار تشجيانغ منذ عام 2017 حتى 2019، وما زال التعاون قائمًا بيننا حتى الوقت الراهن.
الجديد: عادة هناك بعص القصائد التي تكون الأقرب إلى نفس الشاعر من غيرها، ربما يرجع هذا لظروف كتابتها أو الحالة المزاجية التي رافقت نظمه لها. دعيني أسألك ما هي أحب القصائد إلى قلبك؟
شي شي ران: أحب كل قصيدة نظمتها. فقد نشرت العديد من القصائد، وأدرج الكثير منها ضمن مختارات شعرية عديدة، وهناك الكثير مما تداوله الآخرون، لكن ما أقره أنا “وحدها العتمة تغمر الروح”، و”مذكرات التطهير”، و”يوميات شرب الشاي”، و”السير في الأرض”، و”أسير دومًا في شوارع بلادي”، و”أتوق إلى مشاهدة الغروب معك على بحر إيجه”، و”العالم”، و”خارج الشرفة”، وقصائد أخرى.
الشعر والرسم
الجديد: علاقة الشعر بالرسم علاقة جدلية منذ قديم الأزل، فماذا أضاف كل منهما إلى الآخر في نظرك؟ وكيف تتراءى لك العلاقة بينهما؟
شي شي ران: لم يكن الشعراء الرسامون قليلين منذ العصور القديمة، على سبيل المثال: وانغ وي رائد الرسم الأدبي الصيني والشاعر العظيم، ثم جاء من بعده سو شي، ما يوان، تانغ يين، تشو يينغ، دونغ تشي تشانغ، تشو دا، وغيرهم من الشعراء الرسامين. وقد حملت أعمالهم سمة فنية واضحة وهي” بين سطور الشعر ألوان وصور، وبين ألوان اللوحات أبياتٌ من الشعر “. ويمكن إلقاء نظرة على تجربة الشاعر الكاريبي ديريك والكوت البارع في الشعر والرسم على حد سواء، ونأخذ مجموعته الشعرية الأخيرة “طائر البلشون” خير مثال على ذلك، فيتسنى لنا رؤية إحساس الرسم العالي في كل قصيدة من قصائد الديوان. كما أن مهارة الرسم تدفع الشاعر لإيلاء المزيد من الاهتمام بالبنية الكلية للقصيدة أثناء الكتابة، والكلمات التي بين السطور تحتوي على صور عفوية، تضاعف من موضوعية والقصائد حساسيتها. قصائدي تحمل هذه السمة الفنية، أذكر على سبيل المثال “أتوق إلى مشاهدة الغروب معك على بحر إيجه”، و”أسير دومًا في شوارع بلادي”، والقصيدة التي ترجمتها أنت إلى العربية “علمنا الموت”، و”العزلة” وغيرها من القصائد الأخرى. ولا شك أن طريقة نظر الرسام إلى الأشياء وحساسيته الخاصة للألوان تؤثران على أسلوبه الشعري ولغته التي يستخدم.
الجديد: عادة ما يتأثر الرسام ببعض المدارس الفنية، مثل المدرسة الكلاسيكية والرمزية والانطوائية والسريالية وغيرها من المدارس، وفي بعض الأحيان يمزج بين أكثر من مدرسة. ما هي المدرسة التعبيرية التي تأثرت بها وتتجلي في أعمالك؟
شي شي ران: ترتكز أعمالي الفنية على رسم الأشخاص، وليس الرسم التقليدي للأشخاص، لكن تتجلى بعض الأساليب التعبيرية في لوحات غربية عصرية الطراز، مع الحفاظ على الفرشاة التقليدية في الرسم الصيني التقليدي، والتي تعبّر عن الجمال وقيم ومُثُل أحملها داخلي. الرسم هو ترياق الآلام التي نتجت عن استغراق طويل وقت نظم الشعر.
شاعرة ورسامة
الجديد: ما هو تصورك عن مهنتك إذا ما كنت شاعرة أو رسامة؟
شي شي ران: عملي كشاعرة ورسامة ليس أمرًا من قبيل المصادفة، بل أشعر أنه أمر طبيعي. يخالجني على الدوام شعورٌ أنه مهما اشتغلت من مهن، في النهاية سأسلك درب الشعر حتى أصبح شاعرة ورسامة. فلا سبيل للمرء للفرار من قدره!
الجديد: ما هي لوحتك الأولى؟ وهل تتذكرين لمن أهديتها؟
شي شي ران: أولى لوحاتي رسمتها في سن مبكرة بعد مشاهدة فيلم “زواج الجنية” لفتاة من العصور القديمة ترتدي تنورة منفوشة، وكانت من بنات أفكاري بعد رؤية صورة الجنية. وقد علقتها أمي على الحائط في بيتنا.
الجديد: اللوحة الفنية تعبر عن حكاية من خلال الألوان والمشاعر التي تفيض بها، وهي انعكاس لصورة أخرى لا يعلمها إلا الرسام صاحبها. فهل لوحاتك انعكاس لذاتك وشخصيتك؟
شي شي ران: تعبّر لوحاتي وقصائدي عن أفكار معينة، ونزعات جمالية خاصة، وكما يقال، الشعر والرسم يشبهان الإنسان إلى حد كبير. وحتى الآن عجزت عن تجسيد كل التعقيدات والتناقضات التي أحملها داخلي.
خمس قصائد .. شى شى ران
أتمنى رؤية الغروب معك على بحر إيجه
نعم، تمامًا هكذا
ضع يدك اليسري حول خصري
فأنت تعلم أنني أود أن أمنحك كل ما عندي
أصابعك المحكمة على عظم جسدي
مثل موج يطغى ويطغى
في بحر إيجه
أنت الحقيقة
وأنت السراب
غمامات السماء تحلق فوق وجه البحر
وعند اللقاء مشاعر تفور وتمور
مثل نبيذ تركي مركز
في لحظة ما، سينفجر
أحبك
أكرهك
وبين حبي وكرهي
ضاع كل شيء
ضاع كل ما كان
اغفر لي
هواك في طي الفؤاد
وأهجرك وأمعن في البعاد
وسط الشمس الجريحة
النازفة بالدماء على أركان السماء
قفز حوت البحر
وغاص ثانية في فم البحر
واحتجب في حفرة سوداء
فرحة غائبة
هي وحدة متأصلة
سكنت القلب
سكنت في عمق القلب.
الحب
هو قطة جامحة
وديعة ورقيقة
تغريك أن تضمها بين ذراعيك
ثم تفرّ من بين ذراعيك هاربة
وتخدشك
وتترك لك ندبة غائرة
تحيا أبد الدهر
الحب نيران مشتعلة
ملفوفة في ورقة مزخرفة
ومن فرط حرارة ملتهبة
لتصميم الورقة أفسدت
وهو بشيء لا يبالي
ونهاية حتمية
لحريق قد شب
تاركًا رماد مشتعل
لكل الخيوط بيني وبينك قد مزقت
في موعد محدد
تتناول طعامك
وفي ساعة من ساعات اليوم تغفو
لكن لعمرك ما نسيت
ونيران الشوق في قلبك ما خبت
وألسنة الحريق تعلو وتعلو.
البحيرة الغربية
ما زلت أذكر لقاءنا الأول
ومطر السماء على رؤوسنا يسقط
وفي غمازات خديك
سمك صغير يسبح
التقينا
وتحدثنا
وتعانقنا
مثل خيوط مطر رفيعة
تحيك ماء البحيرة
فيا لك من مشهد ساحر!
غاب رماد العالم
واستتر في جوف البحيرة
ولم يبق سوى عاشقين
يتناجيان بكلام الغرام
يتعانقان في شوق وهيام
أرى البحيرة في لون الياقوت
فقط، عندما أحبك
وعندما أكف عن حبك
تراها عيناي شاحبة رمادية.
أحببتني
تقود سيارتك وتشغل المذياع
وتستمع إلى مقطوعة حزينة
ثم تغير المؤشر إلى موسيقى الروك
فتلك الكلمات الحزينة ما سمعت
تحمل الفواكه وتعود إلى البيت
وفي أدب جمّ تلقى تحية على جارك العجوز
وتحدثه قائلًا الجو لطيف جدًا
في الصباح الباكر تصحو
وتقرأ الشعر الكلاسيكي
وعندما يأتي المساء لا تذوق طعم النوم
استطالت شجرة الكافور خارج الشرفة
وفي كل صبح جديد تزهر برعم وليد
تخرج مهرول الخطى
وفي بحور التفكير أنت غارق
وكأنك تفكر في اللاشيء
وفي غرفة الاجتماعات
تعتريك هذه الحالة
تغرق في بحور من التفكير
وسعادة تغمرك
وبشيء غير مبال
تطارد النساء
وتطاردك النساء
تعرض عنهم
ويعرضن عنك
تستيقظ في الصباح
وبعد فوات السنين
تستيقظ فجأة في عز الليل
وتستدعي ذاكرتك قصيدة منسية
وأنت تعلم أنك
في بحور حبي قد وقعت.
تحيات العام الجديد
إلى أبي
زهرات الأوركيد سكنت البيت
ولارتعاشة الأوراق رأيت
ومن تعاويذ كتاب بوذا تلوت
لأصرف أشباح هامت في البيت
خارج الشرفة شخص يضع ألعاب نارية
ورائحة الكبريت تمتزج بندف الثلج وتفوح
وتدوّي على قارعة السماء
مثل صوت الأجراس الأولى للعام الجديد
إلى طعم السعادة العتيق أتلهف
تلك التي غمرتني أنا وأنت
في 1976
أمسكت بيدي الصغيرة وجذبتني
إلى الثلوج المندوفة
فضحكت وجلست
وجذبتني مرة أخر
فانزلقت وسط كومات الثلج
رحت أنا وأنت نزيح كومات الثلج البيضاء
من فوق الأرض
حتى انكشفت تعاريج الأرض
علّمتني كيف أصنع لعبة الحلزون الطائر
وعلّمتنى كيف أخط الكلمات
ولعمري ما خطيت لك رسالة
أبي، منذ أربعين عامًا ما عدت أراك
منذ أربعين عامًا وأنت سكنت هناك
هناك تحت الثرى
والآن أحب ابني مثلما أحببتني يا أبي
في سنين عمر مضت
صوت الألعاب النارية
ما زال يدوي في كبد السماء
والآن صرنا في عام 2020
وثلوج السماء تسقط وتسقط
وبقصاصات الورق الحمراء
عن الأعين قد احتجبت
وقطعة ثلج تسقط تلو القطعة
ندفة
ندفتين
ندفات
هي تحيات العام الجديد
ترسلها لي
ولك بالمثل يا أبي أرسلها
أرسلها تحت الثرى.
1-1-2020
ترجمة: ميرا أحمد