كراكوز وعواظ وكباب بكرز
حكايتنا التي نرويها هنا يختلط فيها الفرح بالحزن خلطاً مبرحاً، هي مأساة النرجس وملهاة الفضة، تراجيديا من نوع مختلف، تراجيديا سورية، إن شئت قول ذلك. ملحمة من ملاحم العيش المشترك بين الثقافات والأمم. وقد تبتسم عندما أقول لك إنك قد تسمع في سوريا اللسان الآشوري والكلداني والآرامي والسرياني والأرمني والشركسي والتركماني والكردي والعبري والغجري والداغستاني والعربي. أنت لا تصدق ما أقوله أليس كذلك. ولكن هذه هي الحقيقة يا سيدي. سأعمل على تقريب وجهات النظر عن كيفية العيش المشترك لجميع هؤلاء في بلد واحد يعج بهذه الثقافات المختلفة. وأسألك هل أكلت ذات مرة طبق “كباب بكرز” من مطعم بيدروس “أبو أرتين” في جبل الأربعين بمدينة أريحا في الشمال السوري؟
لا تستغرب السؤال فصاحب هذا المطعم والفندق حكايته تنضح من هذا الوعاء المشترك الذي عاش فيه الشعب السوري زمناً مديداً تجاوز آلاف السنين. يكفي أن أقول لك إن بلدة أريحا صغيرة النزهة بمناخها وسكانها تجد في آثارها الباقية في سفح جبلها معابد من الحقب الوثنية الإغريقية والرومانية ومن الفترة المسيحية الرومانية والبيزنطية ومن حاضرها الإسلامي.
مع كل ما جرى ويجري في سوريا لا يمكن أن تُمحى ذاكرة المدن التي تتجسد في رائحة طعامها وأسواقها وبيوتها وحدائقها وانهارها وسكانها من بشر وحيوان وأشجار. رأيتُ من فترة فيلماً وثائقياً عن عائلات حلبية أرمنية تركت حلب نتيجة الحرب وتعيش اليوم في موطن أجدادها في “يريفان” عاصمة أرمينيا. ظهر من حديثهم على شاشة التلفاز أنهم يتوقون شوقاً للعودة إلى حلب في الشمال السوري. قلتُ يا سبحان الله على طبع البشر، أرمن هُجّروا من مسقط رأس أجدادهم في أرمينيا من أكثر من مئة عام، ثمَّ عادوا إليها نتيجة الحرب السورية، يريدون العودة من جديد إلى حلب الشهباء التي عاشوا فيها. هل كل هذا من تأثير الطبق الحلبي “كباب بكرز”؟
المهاجر الأرمني
كارثة بمعنى من المعاني، جعلت الشاب الأرمني أبكر كناجيان المولود في مدينة الرها أو أورفه التركية عام 1895 وهي مدينة كوزموبوليتية مأهولة عبر حقب تاريخية مديدة، يجمع أعزَّ ما يملك في مَجمع من الخشب، ولأن المستقبل لا يسكن أبداً بين جدران الماضي، اختار درب الرحيل عن مسقط رأسه والذي شهد موجة عاتية من الشغب، اقتحمت حشود من الناس الحيَّ الأرمني، وكان الرعب عظيماً، مئات وربما آلاف من القتلى. أحرق عدد لا يحصى من المنازل. وحين وجد أبكر كناجيان دقائق مناسبة للهرب، هرب حاملاً مَجمعه الخشبي ولم يعد إلى مسقط رأسه أبداً.
في تلك الأيام العصيبة من أيام حرب “السفر بلك” أو ما سُمّي فيما بعد بالحرب العالمية الأولى وصل الصراع بين الأتراك والأرمن إلى ذروته، وشهدت الفترة ما بين 1914 – 1918 أسوأ الحروب في تاريخ الإنسانية. الضعف العثماني والاحتلال الروسي لمناطق في الشرق العثماني والتدخل الأوروبي، كل ذلك صب في تحول التعصب العرقي والديني في شرق الأناضول إلى آلة دمار شامل حولت آلاف القرى إلى خراب، مع قتل مئات الآلاف على الجانبين التركي والأرمني ونزوح مئات الآلاف من الأرمن إلى مختلف دول العالم ومنها مدينة حلب في الشمال السوري التي وصل إليها أبكر كناجيان بعد رحلة شاقة مع زوجته وأطفاله.
صندوق الدمى
حافظت أسرة “أبكر” على الصندوق مغلقاً في مكان أمين وتوارثته أباً عن جد. عندما توفي أبكر في حدود عام 1940 كان الصندوق أمانة في عنق ابنه أرتين وعندما أنجب أرتين ابنه بيدروس انتقلت الأمانة إليه. بيدروس هو أبو أرتين صاحب مطعم وفندق “أبو أرتين” في جبل أريحا المدينة العريقة التي تبعد عن مدينة إدلب في حدود العشرة كيلومترات في الشمال الغربي من سوريا، هذا المطعم الذي اشتهر عالمياً بتقديمه وجبة “كباب بكرز” الفريدة من نوعها بين أطباق الطعام. بعد وفاة أبو أرتين حمل ابنه الأكبر أرتين أمانة المطعم ومعها أمانة صندوق جده الأكبر “أبكر”.
تدمّر المطعم والفندق في أريحا نتيجة الحرب السورية وسافر معظم أفراد العائلة خارج البلاد. قبع الصندوق في مكان ما من مدينة حلب القديمة بانتظار من يعيده للحياة. الحفيدة الجميلة سونا تاتويان عادت بعد اغتراب طويل تبحث عن صندوق جدها في مدينة حلب المنكوبة بالحرب السورية. كانت على علم بوجود الصندوق وكانت تعرف قصته ولكنها تسكن بعيدة عنه في الولايات المتحدة الأميركية وتأخذ جنسيتها وقد شعرت أن الوقت قد حان وربما لن تجد فرصة ثانية مناسبة كي تبحث عن موجودات الصندوق وتظهرها للعالم. الجد “أبكر” كان من صانعي دمى مسرح “كراكوز وعواظ” في منطقة الرها أو مدينة أورفا الحديثة، هذه الدمى الرقيقة التي تصنع من جلد الجمل الذي يعالج بمواد الدباغة حتى يصل مرحلة الشفافية بحيث يخترقه الضوء ثم تُرسم عليه شخصيات كراكوز وعواظ وتُقصّ على هيئة أشكال مختلفة من رجال ونساء وحيوانات وتُلوّن بألوان طبيعية يدوياً.
تتميّز هذه الدمى بوجود مفاصل مرنة متحركة، تجعلها تتحرك بسهولة بعد تعليقها بعصيّ خشبية لتقديم عروض مسرحية شعبية، كانت في حينها الفرجة الوحيد التي سبقت ظهور شاشة السينما. لا يوجد في العالم أجمع مجموعات باقية من هذه الدمى كما هي مجموعة “أبكر” في حسنها وجمال شخصياتها وألوانها.
إعادة اكتشاف
توجهت سونا عندما وصلت إلى مدينة حلب في الشمال السوري بعد غياب طويل إلى حارات مدينتها القديمة، ومرت في طريقها على مقام “مارجرجس الخضر” في باب النصر أحد أشهر أبواب حلب. أشعلت شمعة داعية الله كي يُساعدها في العثور على صندوق جدها الخشبي. تكللت عملية البحث مع المحامي الحلبي علاء السيد والمهتم بالتاريخ والآثار بالعثور على الصندوق الخشبي في حي الأرمن وفيه ما يزيد على مائة وخمسين قطعة سليمة تماماً من هذه الدمى الفريدة التي لا تقدّر بثمن. وقد قام المحامي علاء السيد بتوثيق هذه الدمى من خلال الصور وإخراجها إلى النور. حيث كانت دموع الفرح تسيل على وجه حفيدة صانها أبكر كناجيان وهي تخرج دمى جدها برفقة هذا المحامي الهمام من الصندوق الذي زاد عمره عن مئة عام لترى الضوء مجدداً، كانت تشعر أن جدها قد عاد مع كنزه العظيم إلى الحياة.
هذا الصندوق الذي تركه صاحبه “أبكر كناجيان” وحيداً حضر الحروب العالمية الأول والثانية وحضر الحرب السورية القائمة ما تزال، شاء الله أن يصون هذا الكنز من الحروب والآلاف من القذائف التي لم تخترقه، فهو ذاكرة أجيال تعاقبت على حمايته من قسوة الزمن وبطشه. توارثته هذه الأجيال أباً عن جد ليروي أخيراً حكاياته المرسومة الملونة.
ما بعد الحكاية
سيداتي سادتي انتهت حكاية صندوق أبكر كناجيان نهاية سعيدة ونحمد الله على ذلك. ولكن لن أدعكم تذهبون هكذا لا بد أن نُقدم لكم هدية تليق بهذه المناسبة وتعلق ذكراها في مخيلتكم، لذلك دعوني أُعلمكم طريقة عمل طبق “كباب بكرز” الذي كان يعمله بيدروس “أبو أرتين” في مطعمه في جبل الأربعين.
يُعدُّ طبق لحمة بكرز أو كما يُطلق عليه أيضاً “كباب بكرز” من أندر مأكولات المطبخ الحلبي وجزءاً من تراث المدينة العريق التي تتميز به. وتشتهر حلب بمطبخها الشهي وتفنّن أهلها في صنع الأطعمة لاسيما الكباب والكبب والمحاشي. فأنت لن تجد في مكان آخر من العالم من يأكل مثلاً الكبة مع السفرجل إلا في حلب. حتى أصبح أهل حلب مضرب المثل “حلب أمُّ المحاشي والكبب”.
ويختلف البعض في أصل طبق “كباب بكرز” كونه يُصنع أيضاً في بلدة أريحا في محافظة إدلب، وكون هذه البلدة تشتهر بزراعة الكرز. كما أن اللمسة الفنية والحرفية العالية لأهالي هذه المنطقة في صناعة الأطباق وعصير الكرز تجعلها مقصداً لكثير من أبناء المحافظات لتذوّقها. حلبيّة كانت أم ريحاوية، فإن اللحمة بكرز هي من أطيب المأكولات السوريّة التي ستتذوّقها في حياتك وسيبقى طعمها يُرافقك دهراً مديداً.
مكوّنات طبق كباب بكرز أبسط ممّا نتصور حيث يلزمك كيلو لحم غنم كباب. 2 كيلو غرام من كرز الوشنة الحامض. والكرز له أصناف كثيرة منها ما يُسمى في مدينة أريحا وعموم الشمال السوري “وشنة” وهي كلمة تركية تُقال للكرز الحامض سمعتها من فم الباعة في بازارات مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة. نصف كوب من السكر، بصلة مفرومة، ربع ملعقة من القرفة، ربع ملعقة من البهارات، بقدونس.
يُكوَّر اللحم المفروم ناعماً بعد تتبيله على شكل كرات كباب صغيرة متساوية الحجم بقدر الإمكان بحجم حبّة الجوز تقريباً. ثمَّ تُقلى بالزيت على نار هادئة حتى تنضج. أو تشوى على فحم الحطب كما يشوى الكباب. يُنزع بذر حبات الكرز الحامض ثمَّ تُعصر يدوياً في مصفاة. ضمن نفس الوعاء الذي قمنا باستخدامه أثناء طهي اللحم، نضع القليل من الزيت الإضافي فوقه ونضيف له البصل. نضع الوعاء على نار متوسطة، ونقوم بتحريك البصل حتى يتغيّر لونه وينضج. نُضيف عصير الكرز الحامض والسكر والملح والقرفة. ونترك الخليط يغلي حتى يصبح قوامه غليظاً متماسكاً وفي هذه اللحظة الحاسمة نُضيف كرات الكباب إلى صلصة الكرز ونترك المجموع يغلي حتى تتشرّب كرات اللحم ما يكفيها من صلصة الكرز الحامض. نقوم بتقطيع الخبز السوري على شكل مثلثات، ونقوم بترتيبه في صحن التقديم بشكل دائري. نسكب كرات اللحم فوق الخبز، ومن ثمّ نصبّ صلصة الكرز. نزين الطبق بالبقدونس المفروم والصنوبر المقلي والقرفة. وصحتين وعافية.