المُمْرِضات في الثقافة الشعبية
فتح ملف الأوبئة والمُمْرِضات مجددا بسبب جائحة “كوفيد – 19” الشهيرة بكورونا وهو وباء خطير نغّص حياة الناس وأقلق راحتهم منذ ظهوره أواخر العام الميلادي 2019، ويبدو أنه لن يغادر بتلك السهولة التي حلّ بها ضيفا ثقيلا على عالمنا الذي اتفق لأول مرة ربما في التاريخ الإنساني على قرار واحد هو “الحجر الصحي المنزلي” لأجل الحد من سرعة انتشار هذا الفايروس الخطير والوقوف في وجه هذا الوباء المرعب الذي أسهم في التهويل من شأنه التقنيات الحديثة التي هيأت سرعة تبادل المعلومات وانتشار الأخبار ما أطلع كل الناس أولا بأول على مستجدات الأخبار ومدى انتشار المرض وسهولة انتقال العدوي وانتشرت كذلك أخبار موت الأطباء أنفسهم وهم في الثقافة الشعبية درع واق لمقاومة الأمراض إذ يفترض عامة الناس أنهم أهل علم بوسائل التحصن والإفلات من عدوى المرض.
ساهمت التكنولوجيا أيضا في سرعة الوصول إلى تاريخ المُمْرِضات مع البشر، وعدد الأرواح التي حصدها الأوبئة في كل زيارة لها روّجت لذلك وسائل الإعلام فأجبرت المليارات من سكان العالم على الالتزام والاستسلام للحجر بما وفرت للناس من معرفة بالأوبئة والمُمْرِضات حتى إذا أصبح أغلبهم في حاجة إلى علاج نفسي كي لا تتحطم أجهزتهم المناعية ويصبحون أكثر عرضه للمرض الذي امتدت حالة الهلع الشديد منه إلى القيادات والحكومات لتعطي وسائل الإعلام المفتوحة على مصراعيها لكل الآراء تعليمات جديدة بالحد من التخويف والتهويل فانتشرت أخبار جديدة تروّج إلى أن الأمر مجرد وهم يراد به تحطيم المعنويات بقصد الإضرار بالمناعة الطبيعية للأفراد التي هي كفيلة وحدها بردع المرض إن كانت بحالة جيدة ولذلك يجب الحفاظ عليها بعدم الإسراف في الخوف، وقيل إن الحروب العالمية القادمة هي معارك بيولوجية تعتمد على ممرضات تضرّ بحياة الناس لهدف تقليص عدد سكان العالم إلى أقصي حد ممكن كي يملي البعض إرادتهم ويحققوا أطماعهم.
بات الوضع كما لو أننا عدنا إلى زمن الأساطير والحكايات الخيالية يضرب بعضها البعض لتجعل الناس أكثر إنسانية لأنهم لا تغادرهم فكرة الموت التي نؤمن في عمق ثقافتنا الإنسانية أننا لم نكن في أيّ وقت بمعزل عنها فالبشر طوال الوقت يولدون ويرحلون من الحوادث والزلازل والطوفانات والحروب والبراكين إضافة إلى الحوادث والانهيارات والأمراض.
وقد قارن أحد المفكرين بين عدد الوفيات في يوم بعينه بأحد البلدان الأكثر ذعرا من المرض في نفس اليوم من عام 2020 فإذا بعدد الوفيات من دون كورونا أكثر منها مع كورونا في دلالة واضحة أن الموت عندما يأتي موعده لا يرتبط فقط بالمرض، وأن الناس إذا انتهى أجلهم لا يبقون لحظة واحدة على قيد الحياة فإنما هي أعمار مكتوبة وحياة محسوبة وأسباب مقدرة.
أصبحت سيرة المُمْرِضات التي كانت تمر علينا في عشرات القراءات مرور الكرام هي محور انتباهنا تهدد الوجود بصورة ليس لها مثيل وكان رد الفعل الطبيعي بعدما طالت إطلالته العودة إلى مراجعة الموروث والتاريخ الإنساني من باب المُمْرِضات والأوبئة بحثا عن العظة والعبرة والخبرة بعدوّ خطير اختفي طويلا ثم عاد أشد فتكا وأكثر خطورة حيث عجز الطب بكل تقدمه غير المسبوق عن التصدي له.
وأعلنت أعتى الأنظمة عدم قدرتها على تقديم العون والمقاومة والصمود، وتوقفت عجلة الحياة حول العالم عن الدوران، ولزم أغلب الناس بيوتهم خوفا من المرض وفي مقدمة المستسلمين بشدة للعزل الصحي والحجر المنزلي كان الكتّاب والباحثون.
وبعد الهدوء النسبي والتقاط الأنفاس قررنا مراجعة ماهية المُمْرِضات والكوارث الإنسانية من مختلف المناظير، وفي هذه المقالة نتصفح أمرها في الثقافة الشعبية الخبرات الموروثة بشأن الأوبئة والمُمْرِضات وكيف تداولتها الحكايات والسير والموروثات الشعبية العالمية والعربية.
يرجع تاريخ المُمْرِضات الذي أصبح متاح لكل مهتم بسبب ثورة المعلومات إلى سنة 1650 – 1550 قبل الميلاد عندما ظهر وباء الطاعون الدبلي أو الأنفلونزا لأول مرة في التاريخ بمصر القديمة ويليه في التاريخ 430 – 427 قبل الميلاد طاعون أثينا الذي خلدته الأسطورة الإغريقية على أنه غضب من الآلهة نتيجة ذنوب ارتكبها أوديبوس الملك الذي قتل أباه وتزوج أمه، وكانت جراثيم المُمْرِضات أول الأمر تشتغل على بقعة معينة من الأرض حتى ظهر وباء جستنيان في الإمبراطورية البيزنطية 541 – 542 ميلادية وقضي على ما يزيد عن 25 مليون إنسان وكان من أسباب انتشاره أن العائل الخاص به كان من فئران السفن التجارية التي تنتقل في كل مكان وقضي وباء الموت الأسود 1338 – 1351م على عشرين مليون شخص في أوروبا وكذلك فعل الجدري بأميركا 1500 – 1900م عندما أجهز على ما يقرب من عشرين مليون نسمة أيضا وظهرت الكوليرا في كلكتا بالهند عام 1817م وانتشرت في معظم بلدان القارة الآسيوية ثم انتقلت إلى أوروبا وقتلت الآلاف ولا زالت مستمرة في الظهور من وقت إلى آخر حتى اليوم.
ولا أحد يجهل الأنفلونزا الأسبانية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولي 1914 – 1918م، وقتلت ما يقرب من خمسين مليون نسمة، وفي السنوات الأخيرة ظهرت “أنفلونزا الخنازير” فأصابت أكثر من خمسين مليونا وقتلت 550 ألف شخص، وآخر حلقة في سلسلة المُمْرِضات قبل كورونا كان وباء الإيبولا الذي اجتاح ثلاث دول أفريقية هي غينيا وسيراليون وليبيريا فقتل عشرة آلاف إنسان العام 2014، وبعد كل ذلك يأتي كوفيد – 19 ليحملنا على اجترار كل هذه الذكريات المؤلمة ونتبادل أحاديث الإصابات والوفيات وسيرة المُمْرِضات على أوسع نطاق وعلى كل القنوات فنلتزم بالخوف ونلزم البيوت لأن وسائل الإعلام تؤكد أن أشجع الشجعان يصابون ويرحلون والوفيات بالعشرات والمئات يوميا ولا أحد من الأطباء نجح حتى في الحفاظ على نفسه من المرض ولا على حياته من الفناء.
كانت الجدات يرحمهن الله لا يتوقفن عن ذكر الأوبئة كالكوليرا والتيفوئيد والطاعون والبلهارسيا وغيرها من المُمْرِضات التي أزهقت حياة الأحبة من الأشقاء والشقيقات والأخوال والأعمام، وكان الناس في قرانا القديمة يحملون ضحاياها إلى مدافن الموتى وهم يتوسلون إلى الله أن يلطف بعباده ويرحم فيأتي الوباء ويأخذ ضحاياه ثم يرحل ليعود الرجال إلى أعمالهم يكدون ويكدحون لكي يؤمّنوا حاجة أسرهم، أما السيدات والجدات فإنهن إلى جانب العمل المضني لا تغادر ذاكرتهن ذكرى من ذهب من الأحبة والأبناء. وكانت القرية وقتها عندما تفقد أحدهم يكون من صفوتها مثل شاب على وشك إنهاء دراسته بالمدينة فأصابه الوباء ولم يستطع إنقاذه أحد ويسارع الأهل بدفنه حتى لا تحرق جثته الصحة حيث كانت كل ما تفعله الأنظمة قديما أن تتخلص من جثث الموتى عن طريق الحرق كما كان يفعل بأجساد الطيور والحيوانات النافقة عندما تموت بسبب ما عرف في الثقافة الشعبية بالشوطة، إذ يأتي مرض يقضي على الطيور جميعها أو الحيوانات لا يترك منها شيئا ساعتها تكون جثث الموتى خطرا على من بقي حيا وهذا ما تم تنفيذه على الناس عندما هاجمهم الوباء وكان الناس يحتالون لكي يكرّموا جثث موتاهم ويدفنونهم بطريقتهم وكأنهم من فرط تعلقهم ببعضهم ينكرون تلك الحقائق العلمية بأن بعض الأمراض تنقلها الجثث وهذه القيمة الإنسانية النبيلة أزهقتها كورونا حيث أجبرت بعض القرى على استقبال جثث أبنائها في مدافنهم خوفا من العدوى وأجبرتهم الحكومة هذه المرة على الموافقة على دفن الموتى أولا لأن الوضع آمن وثانيا لأن هؤلاء المرضي لم يكن لهم يد في الإصابة التي وصلت إلى كثير من الناس من دون أن يعوا إليها وهكذا بيّن كورونا كيف تفككت أواصر الإنسانية وانفرط عقد المحبة الذي كان بين البشر من الأجداد الذين كانوا في السيرة الشعبية للمُمْرِضات من فرط حبهم لبعضهم يخفون المرضي غير مبالين بالعدوى وكانوا يتعايشون مع المرض يسلمون أمورهم إلى خالقهم فيبلغون من الاطمئنان وسلامة النفس ما كفل لكثير منهم النجاة ولو لم يحدث ما كنا لنأتي ورضوا بقضاء الله فأرضاهم.
يختلف كورونا عما سبقه من أوبئة ومُمْرِضات أصابت العالم على مر التاريخ بحسب ما تحفظه لنا ذاكرة الموروثات في شأن الأوبئة والمُمْرِضات في أنه جاء في وقت ظننا فيه أننا نملك زمام العلوم حيث عصر المعرفة الذي بلغت فيه الإنسانية من التقدم العلمي والتطور التكنولوجي في مختلف مجالات التقنية والعلوم وفي مقدمتها الطب ما لم يبلغه أحد قبلنا حيث أصبحت أدق وأخطر العمليات الجراحية تجري بالليزر والليزك، وتطور العلاج ليصبح بالمسح الذري والعلاج الإشعاعي، وقضي على أغلب المُمْرِضات الأسطورية التي أبادت في السابق كثير من الآباء والأجداد وأصبح علاجها من أيسر العلاجات.
جاء كورونا عندما بلغنا حدا أقصي من الثقة بالتكنولوجيا والعلوم وإذا بهذا الوباء يخترق كل حصون الغرور التي تحصنا بها ليسقطها كهلام ويجبرنا على التحصن بالبيوت لعله يفوت لكي تزداد فرصة أيّ شخص في النجاة عليه أن يلزم بيته حفاظا على حياته وحياة من يحب لأنّ الدول الأكثر قوة أعلنت فشلها وصاح قادتها “ودّعوا أحبتكم” وهكذا فرق الفايروس جمعنا وباعد بيننا وبين الأحبة والأقارب كل واحد لا يريد أن ينقل العدوى إلى الآخر ولا يريد أيضا أن يأخذها منه كي لا ينقلها بدوره إلى أقرب الناس إليه وتواترت الآراء وكثرت الشائعات وانتشرت الأفكار السوداء على أوسع نطاق بسبب توفر وسائل الانتقال ومواقع التواصل وتعددها.
أصبح فايروس الإكليل كما أطلق عليه أول من شاهده تحت الميكرسكوب من علماء الطب والمُمْرِضات هو الحدث الأهم والأخطر بين كل أحداث العصر، وأصبحت كلمة “وباء” أو “جائحة” أو كلمة “طاعون” وغيرها من التعبيرات عن المُمْرِضات التراثية ذات المرجعية التاريخية التي كنّا نتداولها في الموروثات والأساطير على أنها من مستلزمات الماضي العريق والتاريخ الغابر العتيق ما قبل الطفرات العلمية والمعلوماتية أصبحت هذه الذكريات المروعة واقع نعيشه بالفعل ويا له من واقع يفوق كل خيال.
وأخيرا ها نحن نكاد نلتقط الأنفاس ونودع القلق الذي غلف واقعنا وسيطر على مشاعرنا وهدد مصائرنا لنعود إلى الحياة التقليدية التي كان البعض يضجر منها ولكننا نراها اليوم أجمل حياة وليتها تعود يوما كما كانت وليتنا نستيقظ من هذا الكابوس المريع على صوت ذوينا يدعوننا إلى الانتباه لأننا تأخرنا عن العمل.. ليته يكون حلما أو كابوسا والمهم أن يمضي إلى حاله لننساه ونرجع إلى نعمة الحياة فنصلح في الأرض ونهجر السيئات ونسعى إلى الحسنات كما نظن في كل مرة نتعرض إلى أزمة موجعة على هذا النحو ونؤكد تحت تأثيرها أننا سنصبح كالملائكة على الأرض وما أن تمر الأزمة حتى نرجع كما كنا لأن الإنسان هو الإنسان مهما تغيير الزمان والمكان وهذا ما يؤكده التاريخ الإنساني أن الأزمة تمضي والناس إلى حالتها تعود.