مشروع لطفية الدليمي
من الآن فصاعداً سيكون من الأجدى قراءة انتاج لطفية الدليمي في سياق الاطلاع على مشروع متكامل: مشروعُ ذاتٍ تتوهج بحثاً عن كل ما يرمّم الخراب العام؛ إذ يقصر التحليل النقدي أو الجمالي لنصّ منفرد وبأدوات التشريح البارد عن تكوين المعنى الأعمق لنصوص وترجمات وحوارات الكاتبة لطفية الدليمي. طبعاً سيبقى الدرس النقدي والأكاديمي يمارس عمله على هذا المنتج المتنوع اعتماداً على آلياته الخاصة وسينجز أهدافه الجزئية لكنه لن يكون إلا عتباتٍ متنوعة للوصول إلى المعنى الأوسع، أي أنّ تحليل ودراسة أجزاء/مكونات مشروع لطفية الدليمي سيكون عملية نسج لصورة المعنى الكلي للمشروع الذي قد لا يكون مكتملاً حتى الآن ولعله مع استمرار عمل الدليمي سيفاجئنا بتحولات جديدة.
تنتمي لطفية الدليمي إلى صنف المبدع الباحث المثقف المتنوع، ذاك الذي لا يهدأ في البحث، ولعله لا يعرف عما يبحث تحديداً لكنه يقلب كل شيء وكل نص ولوحة وفكرة واسم مشهور ليتمّم به بناء شاهقاً لن نعرف فيما إذا كان يتم وفق خارطة موجودة فعلاً وثابتة أو أنه يتحرك خاضعاً للحدس والدهشة والمصادفات الجميلة والسيئة.
إن نتاجاً متنوعاً في الأجناس الإبداعية وتمرداتها، والترجمة متعددة الثقافات في الرواية والقصة والنقد والحوار، والامتداد الزماني المواظب على العمل خارج المنظومات التقليدية التي تدير العمل الثقافي، راكم نصوصاً تشدُّ بعضها بعضاً، وسيكون من الضروري لفهم هذا العمل اكتشاف الروابط الجامعة بين مكوناته.
إنّ قراءة أيّ نص تكتبه لطفية الدليمي يجب أن تسندها قراءة النصوص الأخرى، ولن يكون سهلاً الفصلُ بين نصوص روايات وقصص لطفية الدليمي وما ترجمته من نظريات أدبية ودراسات نقدية في السرد ولا عمّا ترجمته من نصوص فلسفية ودراسات فكرية ومذكرات، حتى أن القارئ قد يفكر بأن الدليمي ترجمت أحياناً ما كانت لا تريد أن تقوله على لسانها أو أنها ترجمت دراسات لم يسعفها الظرف على كتابات ما يشبه مضمونها، أو مضمونها نفسه كلياً .
تحدّثت لطفية الدليمي في السياسة بعمق دون أن تقول كلاماً سياسياً عندما ترجمت مذكرات الرئيس الهندي زين العابدين عبدالكلام أو مذكرات الدالاي لاما، وتحدّثت في الجسد ليس فقط بما ترجمته من مذكرات أنانييس نن بل بما لم تترجمه من هذه المذكرات فتركته باباً موارباً يتحدث بما لا يقلُّ عن النص المترجم فعالية في الإيصال لتمنح معنى اجتماعياً وثقافياً لصمتها أو توقفها ليتجاور الصمت والكلام في إنتاج المعنى وهو ما يدفعنا لقراءة نصوصها السردية مجدداً لاكتشاف مواضع الصمت والتوقف فيها بما يساعد في تكوين المعنى.
مُقدّماتُ كتب لطفية الدليمي المترجمة تتضمن إحالاتٍ إلى الذات الكاتبة بما يؤدي لإقامة سلسلة متراصة من الأفكار والرؤى المنتظمة، كل واحدة من حلقاتها تكمل الأخرى، وتقدم أيضاً دعوة للفهم، مثلاً في كتابها “قوة الكلمات” كأنها لا تترجم فقط وإنما تتبنى دعوة لفهم الحب وهذا يحيل إلى فهم “الحب” كحالة مترابطة انبثّت في الكثير من نصوص الكاتبة لطفية الدليمي، ومنهج الإحالة هذا يمكن أن نعتمده في مواضيع وأفكار وقضايا كثيرة رعتها الكاتبة أو انشغلت بها وبثّتها في نصوص وترجمات متفرقة؛ فكأننا كقراء يجب أن نردّ الكلام إلى بعضه بعضاً لنبني المعنى، وشخصياً انتبهت إلى هذه التقنية عند لطفية الدليمي في مجموعتها القصصية “مالم يقله الرواة” التي كتبتُ عنها دراسة نُشِرَتْ في أكثر من مكان قبل سنوات لكنني عجزت عن اقتفاء أثرها خلال كتابة هذا النص.
ليس مصادفةً أن تنشغل روائية بترجمة مجموعة كتب أو تترجم مقالات ودراسات متفرقة تجمعها في كتب تتعلق كلها بالرواية، تنظيراً ودراسة ومقالاتٍ وحوارات، لتوفر للدارسين والنقاد مكتبة متكاملة لكنها في نفس الوقت تعبر عن ذائقة، حيث تتقارب النصوص في كونها تفلسف الكتابة الروائية كما تؤرخ لها وتفكك تقنياتها وتشرح اتجاهاتها كأنها تمارس عملية تعريف وإحاطة بهذا الفن فضلاً عن تقديم رؤية لدوره الانساني قد لا تقول به لطفية الدليمي كنظرية خاصة بها إلّا من خلال ما تجمعه من نصوص ساندة لرؤيتها سواءٌ صرّحت بها أم تركتها لانتباه القارئ الذي ستظهر له رؤى لطفية الدليمي في الفن الروائي المنثورة في مقدمات وانتقاءات كتبها ( فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة ، تطور الرواية الحديثة، الرواية العالمية ، الروايات التي أحب ، الرواية المعاصرة..).
ما يدفع إلى تبنّي فكرة وجود مشروع متكامل عند لطفية الدليمي هو الاندفاع الجارف في العمل وتنوعه، وكأنها تشق طريقها الخاص بين آلاف المُدوّنات فتختار منها مسارها وتحفره بدأب ومواظبة مؤمنةً بالعمل المجهد والحَذِر أيضاً؛ فهي خلال اهتمامها بالإنتاج النسوي لم تغرق في تيار النسوية وأبقت مسافة تفصلها عن التيار الجارف مع اهتمامها الخاص بما تنتجه المرأة من نصوص، وفي ترجماتها وشروحاتها للأفكار الجديدة تجذب القارئ إلى الإعجاب بالمغامرة الفكرية وتجاوز المدارس المكرسة لكنها تحمي نفسها وقارئها من التبعية والايمان النهائي؛ فاللغة التي تستخدمها في تقديم الأفكار وشرحها تبتعد عن الدعوية والإطلاقية اليقينية، ولعل هذه المواقف من الأفكار نتاجُ معايشات مريرة لها ولجيلها مع الاعتناقات العقائدية وما تركته من كراهيات وعنف.
أداء لطفية الدليمي الثقافي يعطي درساً في عدم الاكتفاء من المعرفة والجمود عند انتصارات شخصية، وهي نموذج للمُنْتِج الغزير الذي يفاجئ القارئ دائماً ليس فقط بحجم عمله وإنما بتنقلاته بين الأفكار والمجالات الإبداعية، وعندما قلتُ في البداية “من الآن فصاعداً” لم أقصد تحديد سقف للمشروع بل دعوة إلى ضرورة التوقف عند مجمل ما كتبته وترجمته في قراءة نصوصها بعدما تراكمت مؤلفاتها وصارت مكتبة متكاملة متدفقة تتلاحق مفاجآتها مؤخراً بدرجة يصعب على القارئ التقليدي ملاحقتها، ولذلك تنتقل قراءة لطفية الدليمي إلى مرحلة القارئ المتخصص بهذه الكاتبة والمترجمة.
إذا ما وضعنا لطفية الدليمي في سياق جيلها الثقافي، الستيني، سنجد أنها تثأر إبداعياً لذلك الجيل من كل عذاباته ومآسيه؛ فقد استمرت هي مع قلة نادرة في حيوية الاكتشاف والتقدم: لم تدخل مرحلة تأنيب الذات ومعاقبة ومعاتبة المجتمع واليأس، مازالت شابة في الكتابة والاكتشاف ومحملة بالكثير من العطاء، وأظنُّ أنّ التواضع هو سبب ذلك ؛ فهي لا تستكثر حياتها وجهدها على الثقافة والناس، والاستكثار أو المنُّ والغرور هي الأمراض المعطبة للإبداع.
إنّ مشروعاً ضخماً كالذي تقدمه لطفية الدليمي لن يكون من السهل قراءته؛ فهو يحتاج لاجتهاد وصبر لا يقوى عليهما الكثيرون؛ لكن هذه القراءة ستكون مهمة ونافعة لدراسة نمو الذات الإبداعية في محيطٍ يذبل وبعيداً عن بهلوانيات الثقافة واستعراضات الذات الغريرة.