لغة العيون في زمن الأقنعة
لا تقتصر عملية التواصل المباشر بين البشر على تحريك اللسان والشفتين فحسب، بل إن العملية تتحقق بتوظيف وسائل أخرى غير لفظية متعددة؛ مثل تعابير الوجه وحركات الرأس واليدين والكتفين، وأوضاع الجسد المختلفة، فالرسائل غير اللفظية تعتمد أساسا على الحركة أو الإشارة أو الإيماء أو الغمز أو اللمز. إن الأمر هنا يتعلق اختصارا بلغة الجسد، ولعل لغة العيون ودلالتها ليست إلا واحدة من التعابير غير الكلامية للجسد التي طفت على السطح؛ بسبب وباء كورونا المستجد الذي استطاع بجبروته أن يعيد للغة العيون سحرها وغوايتها وسطوتها وغموضها أيضا.
إن الحديث عن التواصل يستدعي الإحاطة بمفهومين أساسيين؛ يرتبطان بنسقين لغويين متكاملين، لهما صلة بالمرسل والمرسل إليه؛ هما التواصل اللفظي والتواصل غير اللفظي.
التواصل اللفظي
إن القصد من التواصل اللفظي هو التواصل الكلامي الذي يتحقق باستعمال القناة الصوتية والسمعية؛ لإنتاج المعنى وإيصاله للمتلقي، وهو ما يعرف اختصارا باللغة اللفظية أو اللغة الصامتة. والحديث عن هذا المفهوم للغة، ليس موضوعا جديدا في الدراسات اللغوية والتواصلية؛ ذلك أن العديد من الأعمال اللغوية المبكرة التي تناولها علماء اللغة الأوائل كانت تحوم حول هذه الموضوع، لذلك يجد الباحث نفسه، في أحيان كثيرة، مضطرا للعودة إلى الدراسات والأبحاث القديمة ليستمد منها تعريفا أو تأريخا أو نظرية أو مقارنة.
وضمن هذا السياق، عرّف ابن جني اللغة قائلا “أما حدّها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم” (أبو الفتح عثمان بن جني، الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط.2، 1913، ج.1، ص.34). هذا التعريف يتضمن قضايا لغوية تناولها علم اللغة الحديث؛ تهم أساسا طبيعة اللغة من حيث هي أصوات، وظيفتها من حيث هي تعبير، وطابعها الاجتماعي النفسي والعقلي.
ونظر دوسوسير إلى اللغة على أنها نتاج اجتماعي لملكة الكلام ومجموعة من المواصفات التي يتبناها الكيان الاجتماعي لتمكن الأفراد من ممارسة هذه الملكة، “فلا وجود للغة إلا بنوع من الاتفاق يتوصل إليه أعضاء مجتمع معين، وعلى الفرد أن يقضي فترة معينة يتعلم فيها وظيفة اللغة، فالطفل يدرك هذه الوظيفة بصورة تدريجية، واللغة شيء متميز جدا. فإذا فقد المرء استخدام الكلام فإنه يبقى محتفظا بها إذا كان يستطيع فهم الإشارات الصوتية التي يسمعها” (فردناند دو سوسير، علم اللغة العام، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية، بغداد، العراق، 1985، ص.33). فاللغة، بهذا المعنى، ملكة فردية تحتاج إلى هيكل اجتماعي لكي تظهر فيه وتتطور عبره ومن خلاله.
وهذا التصوّر للغة يؤكده فندرس حينما اعتبر أن اللغة محدودة بحدود الفرد؛ ويتجلّى ذلك عندما يقوم الباحث اللغوي على دراسة الظواهر الفردية؛ مثل عواطف النفس وانفعالاتها وأهوائها التي تعكسها اللغة. غير أنه في الوقت ذاته يعتبر اللغة متعددة؛ بحيث لا توجد لغة واحدة فقط في جميع الأقطار والأصقاع؛ فاللغة “واحدة وعديدة في آن واحد؛ واحدة لدى كل الشعوب ولكنها متعددة بتعدد جميع الأفراد الذين يتكلمونها” (جوزيف فندرس، اللغة، ترجمة عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مكتبة الأنكلو المصرية، 1950، ص. 295). ومن ثم، فاللغة مركب معقد يطال كل فروع المعرفة والعلوم.
في حين يرى ماريو باي أن اللغة لا تقتصر على تعريف واحد، حيث تحتوي وتضم، ضمن هذه التعريفات المتعددة، الإشارات والإيماءات وتعبيرات الوجه والرموز من أيّ نوع، ومن ثم فإن “هناك تعريفات أوسع للغة؛ بأنها تلك التي تحمل معنى، أو كل شيء له معنى، أو كل شيء ينقل المعنى من عقل إنساني لآخر” (ماريو باي، أسس علم اللغة، ترجمة أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، ط .8، 1998، ص. 35). كما يرى أن اللغة تخضع لمجموعة من العوامل التاريخية والجغرافية والاجتماعية والسياسية. فكما أن كل هذه العوامل متغيرة ومؤقتة ولا توصف بالدوام، فإن اللغة كذلك ظاهرة متغيرة ومؤقتة، وخاضعة لقوانين التطور (ماريو باي، أسس علم اللغة، ترجمة أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، ط.8، 1998، ص.37). وهذه العوامل هي التي تبرز القيمة العملية للغة، وتجعل منها موضوعا واسعا للدراسة.
أما جون بيرو، فلم يذهب بعيدا عن تصوّره للغة؛ فهي في نظره أداة للتواصل بين الناس، وتوجد حيثما يوجد هناك أناس يعيشون في مجتمع. كما أن اللغة واحدة في أساسها رغم تعدد تجلياتها ووظائفها؛ فهي “تقوم على الجمع بين مضامين فكر وبين أصوات ناتجة عن طريق الكلام. وهذا الجمع يحدّد المعنى الضيق والدقيق لكلمة لغة التي يمكن أن يكون لها معنى أعم. وباعتبارها وسيلة تواصل فهي تندرج حينئذ ضمن مجموعة الأدلة التي تبلغ بإتقان نسبي دلالات تمس كل حواسنا… إلا أن إمكانيات التواصل متفاوتة جدا بالنسبة إلى مختلف الحواس. فللغة البصرية وللغة السمعية مكانة خاصة. وقد شكلت الإشارة؛ التي هي سند للخطاب في تعبيريته الخاصة، نظاما كاملا للتواصل بالنسبة للصم البكم” (جون بيرو، اللسانيات، ترجمة الحواس مسعودي ومفتاح بن عروس، سلسلة العلم والمعرفة، دار الأفاق، الجزائر، ط. 16، 2001، ص. 2-3). ومن هنا يبرز تعدد وظائف اللغة التواصلية والسيميائية.
التواصل غير اللفظي
يعتبر التواصل غير اللفظي أداة مكملة، ووسيلة لتوضيح الرسالة اللفظية وتأكيدها، فالبشر يتواصلون بعضهم البعض بلغتين مختلفتين؛ لغة الألفاظ التي تتحقق بواسطة الأصوات، ولغة الحركات التي يتحول من خلالها الجسد إلى أداة لإنتاج معاني ونماذج بديلة لعملية التواصل غير الشفهية؛ وذلك من خلال توظيف الإيماءة وتعابير الوجه ونظراته، وكل حركات الجسد.
ويركز مارتيني، في هذا السياق، على الجانب السيميائي للغة ﺒوﺼﻔﻬﺎ ﻨظﺎﻤﺎ ﻤن العلامات التي ﺘزﺨر ﺒﺈﺸﺎرات (Andre Martinet, La Linguistique Synchronique: Etudes et recherches, collection SUP, Presses Universitaires de France, Paris, 2eme Edition, 1968, p.2) بحيث تصبح “اللغة أداة الاتصال عن نظام من الرموز لها معان أعطاها إياه الإنسان. فالرمز هو الشيء الذي يمثل أو يرمز إلى شيء آخر. والكلمة عبارة عن رمز يمثل فكرة أو شيئا في الواقع. وقد تكون هذه الرموز على شكل أحرف أو أرقام أو ألوان أو زوايا أو خطوط أو كلمات أو إشارات أو لغة أعضاء الجسم.. ويتفق علماء النفس المحدثون على أن الرموز اللغوية هي أرقى أنواع الرموز وأقدرها على نقل المدركات من مجال الغموض اللاشفوي إلى حيز الوضوح الشفوي، واللغة في نظرهم مجموعة الرموز التي تنقل من إبهام الأحاسيس إلى نور الفكر” (ذكرى جميل البناء، أنواع الاتصال الإنساني، محاضرة قسم الأنثروبولوجيا والاجتماع، كلية الآداب، جامعة المستنصرية، مارس 2020، ص 39). لذلك، يعتبر التواصل غير اللفظي وسيلة لنقل أفكار المرسل ومشاعره، وفق رموز وإشارات ذات معنى، للمتلقي.
ويمكن أن تندرج ضمن المهارات غير اللفظية؛ التي يوظفها الفرد للتواصل مع الآخرين كل من النظرات، تعبيرات الوجه، الإيماءات، التواصل بالصور… فهذه الإشارات والحركات التي تشكل مهارات الجسد؛ قد تكون “إرادية وغير إرادية، تصدر من الجسم بأكمله أو بجزء منه، لإرسال رسالة، من خلال الوجه والصوت والأصابع واليدين واللمس ووضعية وحركات الجسم والمظهر والألوان والمسافات والفراغ المكاني والدلالات الرمزية لاستخدام الوقت” (مدحت محمد أبوالنصر، لغة الجسم دراسة في نظرية الاتصال غير اللفظي، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط.1، 2012، ص 14). ولعل إتقان هذه الإشارات والحركات، كأدوات غير لفظية، تساعد الإنسان ككائن اجتماعي على تحديد نوع علاقته مع الآخرين.
اللغة الصامتة ومركزية الجسد
يعتبر الجسد أحد أهم الأدوات الأساسية التي يرتكز عليها الخطاب في التواصل اليومي بين البشر، ويعتبر من أهم المواضيع لما يطرحه من أبعاد دلالية؛ تنعكس تجلياتها في مختلف المعارف الإنسانية اهتماما ودراسة، فالجسد “يحتل مكانة هامة في حياتنا اليومية، إنه المبدأ المنظم للفعل وهو الهوية التي بها نعرف وندرك، وهو أيضا الواجهة التي تخون نوايانا الأكثر سرا” (سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا، ط.3، 2012، ص 191). لذلك، يعتبر الجسد علامة تستمد دلالتها من السياق الثقافي والاجتماعي والنفسي بكل تجلياته وتمثلاته وأبعاده.
وقد ظل الجسد موضوعا هامشيا ردحا من الزمن مقابل الاهتمام بالروح وتقديسها؛ باعتبارها جوهر الإنسان وكنهه، وقد كرّس هذا التوجه علماء الدين والكتب المقدسة. إلا أن هذا الاعتقاد سرعان ما تغير، وأصبح الجسد تيمة لطرح الأسئلة والتأملات، فلم يعد الجسد مجرد وعاء ذي قيمة مادية، ولكنه بات يكتسب أبعادا ووظائف أخرى؛ ولعل التواصل ليس إلا واحدا من هذه الأبعاد والوظائف ضمن الوظائف المتعددة التي يتميز بها الجسد؛ أبعاد ووظائف تحمل دلالات وأبعاد رمزية مرتبطة بالذات والمجتمع على حد سواء.
ولا يمكن الحديث عن اللغة الصامتة بمعزل عن الجسد باعتباره محددا أساسيا لهوية الإنسان. والجسد ليس إلا وسيلة من وسائل تبليغ الرسائل؛ وفق الزمان والمكان والسياق. فالجسد، لهذا الاعتبار، بمثابة وسيط سيميائي حامل للدلالات والقيم الثقافية والاجتماعية والنفسية والجمالية السائدة في المجتمع. فإذا كانت اللغة، حسب بيير گيرو، عاجزة عن التعبير في بعض الأحيان، فإن حركة الجسد تعينها في ذلك، بحيث أصبحنا نتحدث عن جسدنا وجسدنا يتحدث معنا؛ بطرق متعددة وفي مستويات متنوعة. إن أجسادنا تعبر عن انفعالاتنا التي هي بمعناها الحقيقي بمثابة أعضائنا(Pierre Guiraud, Le Langage: Que sais- je du corps, Collection Presse Universitaire de France, 1980, p.15) ومن ثم، فإن لغة التواصل لا تقتصر على استعمال اللسان وأعضاء النطق فحسب، بل تشمل كذلك باقي أعضاء الجسم وحركاتها.
تشترك كل المجتمعات البشرية في توظيف لغة الجسم وإيماءاته في إيصال المعنى. وتشمل لغة الجسد غير اللفظية الإيماءات والتعابير الصادرة عن أجزاء من الجسد، في مواقف مختلفة، “فكل إيماءة وحركة من أطرافك تشكّل لغة بحد ذاتها، ويكفي أن تراقب شخصا ما لتفهم من حركات رأسه وأصابعه ما يريد أن يقول، وتعرف مـن طريقـة جلوسه وملامح وجهه حالته النفسية. ولغة الجسد من الوسائل السامية التي تحقـق الكثيـر مـن التجاوب بين الناس” (محمد محمود بني يونس، سيكولوجيا الدافعية والانفعالات، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط.1، 2007، ص340). وقد تكون هذه الحركات إرادية أو عفوية، فطرية أو مكتسبة؛ تعزز اللغة اللفظية وتؤكدها بين الأطراف المشتركة في عملية التواصل.
فإذا كانت اللغة الشفهية ، في بعض الأحيان والمناسبات، غير كافية لمنح المضمون صبغة الجمال والجاذبية، فإن اللغة غير اللفظية تساندها لجعل هذا المضمون أكثر وضوحا وانسيابا وتأثيرا على المتلقي؛ ذلك أن “الرسالة اللفظية لا يمكن إدراكها، إلا من خلال الدلالات غير اللفظية المصاحبة لها في الحديث الاتصالي. فمظاهرنا الخارجية وإيماءاتنا الجسدية وحركات الأيدي والأعين ودرجة الخفوت والجهر في الصوت، جميعها تقوم بأدوار مساندة في تفسيرنا وفهمنا لكلمات وعبارات كل منا في الموقف الاتصالي” (عبد الله الطويرقي، دراسة في الأنماط والمفاهيم وعالم الوسيلة الإعلامية، مكتبة العبيكان، الرياض، ط. 2، 1997، ص 79)، بحيث “لا يقتصر نقل الأفكار والمعاني على استخدام الكلمات المقروءة أو المنطوقة، بل هناك وسائل يتم من خلالها الاتصال، وتكاد تكون أكثر من تلك التي نتبادلها من خلال الاتصال اللفظي. وفي الحقيقة فإننا دائما ما ننقل رسائل غير لفظية، وتكون في الغالب من طابع المشاعر والأحاسيس والعواطف، بينما يكون الاتصال اللفظي في الغالب للتعبير عن الأفكار، وتبادل المعارف. فإذا كان الحوار الجيد فنا يتطلب استعدادا فطريا وخبرة مكتسبة في الوقت نفسه؛ فإن الحركة والإشارة والإيماءة تعد وسائل اتصال أساسية وجوهرية في مثل هذا المستوى من الحوار” (أبو عياش نضال، الاتصال الإنساني من النظرية إلى التطبيق، كلية فلسطين التقنية، ط.1، 2005، ص.119)، وهذه الأدوات تؤدي أدوارا وظيفية مكملة للغة المنطوقة في عملية التواصل؛ تدل على خبرات وقدرات وتجارب الإنسان المتراكمة.
ولا يمكن كذلك الحديث عن الجسد دون الإشارة إلى تيمة الجمال؛ باعتبار الجسد ذلك الوعاء والشكل الحامل للقيم الجمالية؛ بحيث أن “خصائص الجمال ومقوماته تتموضع على الهيئة الخارجية أو الشكلية، وهذا كلام عزيز على الطعن إذا أردنا أن نتعامل مع الجمال تعاملا موضوعيا، وحتى ذاتيا، ذلك أننا نفترض أساسا أننا نتعامل مع جمال لا تربطنا به روابط عاطفية سابقة، ولا روابط منفعية لحظية” (عزت السيد أحمد، الجمال وعلم الجمال، حدوس وإشراقات للنشر، عمان، الأردن، ط.2، 2013، ص.66)، والعيون، ليست إلا قيمة من القيم الجمالية التي تساعد على تفكيك الشفرات الدلالية للجسد المختلفة.
لغة العيون في زمن الأقنعة
ما أشبه اليوم بالأمس، بعدما كان اللثام والنقاب والخمار، جزءا لا يتجزأ من لباس المرأة التقليدية؛ سواء العربية أو الأمازيغية، بات القناع اليوم، في زمن كورونا، جزءا من لباس المرأة والرجل والطفل على حد سواء؛ مثله مثل القبعة والقفازات والنظارات، ووفق الأذواق وألوان البشرة والمناسبات والطبقات الاجتماعية. جائحة كورونا أعادت للعيون لغتها وثقافتها وتميزها، أعادت للعيون مركزيتها التعبيرية والدلالية والإيحائية في الزمان والمكان والسياق. وإن وضع القناع قد يساهم ولو آنيا في كسر الطابوهات المرتبطة بالعيون؛ والتي ما فتئت تشكل أنماطا ثقافية سائدة في المجتمعات على مر العصور.
وتعتبر لغة العيون فرعا من فروع لغة الجسد الصامتة. والاتصال بالعين يعتبر جانبا هاما من لغة الجسد، وأقوى أدواته لبعث الرسائل المشفرة بين الناس. فعلى الرغم من أهمية حواس الجسد في اكتساب اللغة، وإرساء دلالاتها إلا أن العين هي أصدق وسيلة يهتدي بها الإنسان في اكتشاف الحياة، ومفتاح التعرف على المحيط.
وضمن نتائج إحدى الدراسات التي أجراها تيموثي لوفين وآخرون، فإن الاتصال غير اللفظي له تأثير أكبر من تأثير الاتصال اللفظي، على المواقف المدركة، وعلى تشكيل الانطباعات الأولى في العلاقات الشخصية؛ ذلك أن الاتصال البصري، يعد واحدا من أكثر عناصر لغة الجسد أهمية في تحقيق الاتصال، والانطباع الأول عند الآخرين. وكذلك يمكن أن يساهم الاتصال بالعين في تكوين الثقة عند الأشخاص الآخرين. وفي معظم الثقافات، يعتبر النظر مباشرة إلى العين رمزا للإخلاص. وقد أكدت الكثير من الدراسات أن المتحدثين الذين حققوا اتصالا بالعين مع الأطراف الأخرى، اعتبروا ذووا مصداقية وود، ومهارة، أكثر من الذين لم يفعلوا ذلك.(Timothy R. Levine, Kelli Jean K. Asada & Hee Sun Park, The Lying Chicken and the Gaze Avoidant Egg: Eye Contact, Deception, and Causal Order, Southern Communication Journal, Vol.71, 2006, N°.4, P.406). ومن ثم، فإن العين، تعتبر عنصرا داعما لعملية الخطاب اللفظي، كما تحظى بالقوة في التأثير في عملية التواصل برمتها.
إن العين تقوم عادة بلغة المترجم للناس الذين يميلون لأن ينظروا لبعضهم البعض على أنهم كتب مفتوحة، فهي “تنقل المعلومات من داخل الجسد إلى الآخر، تنقل الخبر به عمق في الحس، بما يتبعه من متعة جمالية وبصرية، وبما تولده من خطاب معبر يتجاوز الصمت إلى الإبلاغ والتواصل، فالنظر وسيلة الجسد التواصلية الأولى، ومعظم العلاقات تبني في أساسها من الانطباعات الأولى من خلال النظر ولغة العين التي قد تكون ثواني معدودات، لكن الأثر يبقى طويلا، والعين تعطي إشارات الاتصال البشري الأكثر كشفا ودقة” (عريب محمد عيد، علم لغة الحركة بين النظرية والتطبيق، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، ط.1، 2010، ص.143-44)، إشارات تعتبر جزءا أساسيا من القدرة على قراءة المواقف والأفكار، وإصدار الأحكام بين الناس بعضهم البعض.
في زمن الأقنعة، بات للعيون أكثر من معنى، وباتت لغتها تخضع لتفسيرات ثقافية وجمالية ورمزية مختلفة؛ “فهناك العيون الساحرة والخائنة والواثقة والجريئة ومنها الضعيفة المتخاذلة والوديعة والمتكبرة، والعيون التي تنطق بالذكاء والأخرى التي تدل على الغباء والضعف وهبوط الهمة” (زينة محمد السبتي، لغة العيون، دار المرتضى، بغداد، العراق، 2013، ص 21). وكما أن للعيون لغة ومعنى، فكذلك لها نظرات متعددة؛ نظرة قوية، وواثقة، ومراوغة، ومرتعشة، وجذابة، وشاردة، ومنكسرة، وناعسة، وغاضبة، ومحبة، ومعاتبة، ومرحة، وبريئة…
إن المرء، وهو يجد نفسه في أحد الفضاءات العامة أو الخاصة، من متجر أو مقهى أو مكان عمل… أصبح، في أوقات مختلفة، مجبرا على الاستغناء على حركة الشفتين، والاعتماد على قراءة إشارات العيون وأسرارها وألوانها ودموعها وكل تمثلاتها في المخيال الجمعي. العيون في زمن الأقنعة “تتكلم بلا صوت، فتوحي ما توحي من هدى وضلال. تلهب الحواس، وتغزو القلوب، من خلال نظرة، أو دمعة تذهل الناظرين، وتلجم ألسنتهم وتتركهم حيارى لا يدرون ما وراءها من خوالج ومآرب، وما تخفيه من شعور وعواطف. فالعيون، نبض حياة.. سحر وجمال.. بريق وأبجدية صمت” (زينة محمد السبتي، المرجع السابق، ص 12). فلغة العيون، تعكس، حتما طبيعة العلاقات القائمة بين الناس، وتكشف مشاعرهم وانفعالاتهم، بل وتحدد مواقفهم وانتماءاتهم الأيديولوجية.
في زمن الأقنعة، يستدعي المرء كل ما تعلمه بشأن ألوان العيون وصفاتها؛ فالبعض يمتلك عيونا عسلية والبعض يمتلك عيونا بنية، وآخرون لهم عيون سوداء أو زرقاء أو خضراء، ولكل لون فائدة ودلالة، وإلا لكانت كل الألوان لونا واحدا. وقد أنشد الشعراء في كل ألوان العيون، فأجادوا في وصفها والتغزل بها، حيث “أصبحت العين في نظر الشعراء عالما كبيرا بألوانه المختلفة تنسكب فيه زرقة السماء والبحار، أو خضرة المروج والكروم ويذوب فيه سواد الليل كحلا، يناجيه القمر والنجوم، وتكمن وراءه الغوامض والأسرار” (محمد جميل الحطاب، العيون في الشعر العربي، مؤسسة علاء الدين للطباعة والتوزيع، دمشق، سورية، ط.3، 2003، ص 93). وقد تفتقت قريحة الشعراء وانطلقت ألسنتهم في وصف ألوان العيون والتغزل بها على مر العصور والأزمنة.
وفي زمن الأقنعة أيضا، يكتشف المرء، في رحلته عبر جسد الإنسان، أن العين هي المعنية قبل كل الحواس بإدراك المعارف ونقلها إلى الآخرين، فــ”الحواس جميعها مهمة في حياة الإنسان؛ غير أنك بنظرة واحدة من عين مثقفة جميلة تقرأ ما لا يقرأ في كتب عديدة خصوصا إذا كانت العين الأخرى ذات ثقافة عليا من المستوى ذاته” (محمد جميل الحطاب، المرجع السابق، ص 40)، حيث تلعب العين دورا أساسيا في تنظيم الحوار بيننا؛ و”نحن نقضي الكثير من الوقت الذي نلتقي فيه وجها لوجه ننظر في وجه الشخص الآخر، ولذلك تعتبر إشارات العين جزءا أساسيا من القدرة على قراءة موقف الشخص وأفكاره. وعندما يلتقي الناس للمرة الأولى، يصدرون سلسلة من الأحكام السريعة على بعضهم البعض، اعتمادا في المقام الأول على ما يرون” (آلان باربارا بييز، المرجع الأكيد في لغة الجسد، مكتبة جرير، الرياض، السعودية، ط.1، 2008، ص 165)، ذلك أن “النظرة من بين جميع الحركات هي أشد مرايا النفس بلاغة من غير لبس ممكن… ينبغي أن يتعلم المرء مراقبة نظرة محاوريه وهو يسبح في خطابهم لكي يدرك غنى تعابيرها. إن النظرة الهاربة أو التي نشيح بها هي القاعدة عندما تلتقي بنظرة شخص غريب. فالنظرة المتفحصة يفهمها الآخر على أنها انتهاك لحرمة أرضيته” (جوزيف ميسينجر فورريد، لغة الجسد النفسية، ترجمة محمد عبدالكريم إبراهيم، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، سورية، ط. 1، 2008، ص.260-261)، لذلك تختلف عملية استقراء دلالات تختلف المواقف التعبيرية التي تبثها العين، باعتبار الزمان والمكان والسياق.
إن زمن الأقنعة، يذكّرنا بالاعتقاد بخطورة العين الشريرة. هذا الاعتقاد الذي يعتبر موروثا فولكلوريا مشتركا تتقاسمه كل المجتمعات. إن العين الشريرة، تضفي “الطابع النزاعي على العلاقات الاجتماعية وتقوم بإفسادها، وبالتالي فهي بمثابة السلطة التي من المفترض أن يتسلح بها شخص ما لإيذاء شخص آخر لاسيما وأن الطبيعة الإنسانية تتميز دائما بالخشية والاحتراز كما تشير إلى ذلك الأدبيات الفلسفية. فالاعتقاد في العين الشريرة دائما ما كانت له جذور سوسيو – تاريخية توارثتها الأجيال من الماضي حيث كانت تسود المجتمعات ثقافة السحر والخرافة المبنية على ثنائية الصراع بين الخير والشر” (إدريس مقبوب، مجلة الثقافة الشعبية للدراسات والبحوث والنشر، دار أخبار الخليج للطباعة والنشر، المنامة، البحرين، ع. 34، 2016، ص 108). فلا غرو أن يهاب الناس رهاب العين الشريرة، المتراكم في ثنايا الوعي الجمعي للشعوب وفي ذاكرتهم المشتركة، المتسمة بالتعقيد والتركيب؛ حيث يمتزج المقدس والمدنس والعلم والخرافة وكل الثنائيات والتناقضات.
ولا يمكن الحديث عن لغة العيون بمعزل عن الحاجبين؛ اللذين يؤديان دورا تكميليا لوظيفة العينين التواصلية. وبصرف النظر عن وظيفتهما التشريحية؛ فإنهما يلعبان دورا جوهريا في “التبليغ عن تقلب المزاج. يتحرك الحاجبان إلى الأعلى عند الخوف أو المفاجأة، ويحركان إلى الأسفل عند الغضب، ويقتربان من بعضهما البعض عند القلق، ويرتفعان إلى الأعلى في حالة الاستفهام. نرفع الحاجبين أو نخفّضهما لكي نبلغ عن وجودنا عن بعد لصديق. ترتبط أهمية الحاجبين بلا منازع بتعابير الوجه. فكلما تبدل مزاجك تتبدل هيئة حاجبيك فيسفرا عن مجموعة من الدلائل تُفهَم فهما تاما من دون مفردات حركية” (جوزيف ميسينجر فورريد، لغة الجسد النفسية، ص 262 – 263). ومن ثم، فإن وظيفة الحاجبين الأساسية تكمن، إضافة إلى التبليغ عن تقلب الأمزجة، في كونهما موضع الإلهام والإبداع والجمال والجاذبية.
كما أنه لا يمكن الحديث عن العيون، دون الحديث عن الدموع ودلالاتها التعبيرية، باعتبارها ركنا من أركان التواصل غير اللفظي للعيون، ووسيلة من وسائل تفكيك شفرات الحالات الانفعالية والنفسية المختلفة. تتعدد دلالات الدموع وسياقاتها؛ فـ”في الدموع ضعف وقوة، فهي عند الثكالى صرخة في وجه العذاب. وهي جوهر البلاغة إذا تعرض النطق للاغتيال. هي انبعاث النور في مبسم الفجر” (محمد جميل الحطاب، العيون في الشعر العربي، ص 119)، كما تتعدد موضوعاتها ومواقفها؛ فهناك دموع الانتصار، والانكسار، والتوبة، والعزاء، والفرح، والألم، والندم، والخداع… ومن ثم، فالدموع لا تقتصر على البعد السيكولوجي للبكاء، وإنما هي تعبير تواصلي يطفو عندما يعجز التعبير اللغوي الشفهي عن تبليغ الرسالة، ورمز سيميائي مساند للتواصل اللفظي.
يمكن الحديث عن شكلين من التواصل الإنساني؛ تواصل لفظي وتواصل غير لفظي. ويشمل الاتصال اللفظي المنطوق الشفوي والمكتوب، فيما يشمل الاتصال غير اللفظي لغة الإشارات ولغة أعضاء الجسم. والعين وسيلة الجسد التواصلية غير اللفظية الأولى؛ فهي تختزل كل تعبيرات الوجه وحركاته، وتتعدد المواقف والانفعالات التي تبثّها في عملية التواصل؛ يتحكم فيها المشترك الاجتماعي والسياق الثقافي والبعد النفسي والقيمة الجمالية. وزمن الأقنعة، حيث الغموض واللبس والارتباك، سيعيد حتما تشكيل العلاقات بكل تجلياتها التواصلية والاجتماعية، وقبل ذلك سيفضي إلى خطاب لفظي، لا محالة، آيل للأفول.