سيكولوجية الشعور بالكارثة
بالرغم من أن الكوارث تنصبّ على رؤوس ضحاياها فجأة، ودون سابق إنذار، إلا أن الإحساس بالكوارث والأزمات قبل وقوعها أو بعد وقوعها بقليل أمر يثبته العلم ويؤكده الواقع. فمن المعروف أن الطيور وبعض الحيوانات، مثل الكلاب، تشعر بالزلازل قبل وقوعها. كما يمكن لهيئات الأرصاد الجوية أن تتنبأ بأحوال الطقس، خاصة الأحوال المتقلبة التي تنذر بهطول أمطار غزيرة، أو هبوب عواصف رعدية مدمرة. كما يمكن للإنسان الذي يشتم رائحة غاز منتشر أو شياط يعبق المكان أن يتوقع حدوث حرائق، هذا بالإضافة إلى أجراس الإنذار الموضوعة في ناطحات السحاب ومقار العمل، التي تمكّن الإنسان من توقع الكارثة والاستعداد لها.
يحدث الشيء نفسه على مستوى الأفراد، فيمكن للشخص الذاهب إلى عمله أن يقرأ أحوال الطقس من خلال النظر إلى السماء من نافذة المنزل. كما يمكن للشخص الذي تعرض للسرقة أو النصب أن يشعر بالحادثة أثناء وقوعها أو بعدها بقليل، نفسياً أو من خلال بعض الشواهد المادية التي يدركها بحواسه.
لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يقع الإنسان في الكارثة دون أن يتوقع حدوثها بالرغم من شواهدها الكثيرة؟
لماذا لا يلتفت للرائحة التي تنذر بالحريق، وللسحب الداكنة التي تنذر بالمطر؟ لماذا لا يكتشف سرقة حافظته، أو وقوعه ضحية عملية نصب، إلا بعد الرجوع إلى المنزل خلال ساعات، وربما أيام؟
إن أهمية هذه التساؤلات تتضح أكثر عندما تتعلق بظواهر تاريخية أو سياسية، كأن يتم اكتشاف جاسوس كان يعمل لسنوات ضد مصلحة البلاد، أو أن يكتشف شعب كامل أنه كان ضحية مؤامرة كبرى تُحاك ضده منذ سنوات بعيدة. وفي هذا السياق، يحق لنا أن نتساءل: كيف صحا العرب، ذات يوم، فجأة على هزيمة 1948؟ كيف صحا المصريون على هزيمة 1967؟ كيف صحوا، بنفس الشعور بالمفاجأة، على كارثة سد النهضة؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تستلزم البحث في سيكولوجية الشعور بالخطر. فالإنسان، ككائن حي، لديه قدرات مماثلة لقدرات الطيور والحيوانات التي تستشعر الكوارث، غير أن “الشوشرة” على الملكات الإدراكية المسؤولة عن الشعور بالخطر من شأنها أن تُضعف هذه الملكات، بل والقضاء عليها كليةً.
والأسباب التي تؤثر بالسلب على حواس الإنسان، الحسية وفوق الحسية، كثيرة. منها “عدم الاستعمال” وفقا لنظرية لامارك في التطور، فالعضو الذي لا يُستخدم لفترات طويلة يفقد القدرة على أداء وظيفته. ينطبق الشيء نفسه على الملكات فوق الحسية، التي تُعرف بالحاسة السادسة، والتي كان يتمتّع بها الإنسان البدائي، الذي كان يعيش في وسط المخاطر في الغابات والكهوف، وجاءت المدنية لتقضي على هذا الشعور بالخطر نتيجة لاختراع شعور بديل بالأمان، جاء مع اختراع الحياة المنظمة، ونشوء فكرة الدولة.
والسبب الثاني، هو “الاعتياد”، فإلف المخاطر والتعود عليها يجعلك تفقد الشعور بها، كأن تعمل في مصنع للغاز، مثلاً، أو في إطفاء الحرائق، أو تجلس طويلاً في مكان يتسرب فيه الغاز، أو يتردد فيه صراخ الجيران طوال الوقت. والأغرب من ذلك هو إلف صوت أجهزة الإنذار. وفي هذا الصدد، حكي لي أحد الأصدقاء أنه عمل، في أحد الأيام، في مبنى يضع أجهزة إنذار بالحريق، وكانت هذه الأجهزة تطلق جرسها على مدار اليوم دون وقوع أي خطر، وعندما حدث أن اشتعلت إحدى الحجرات ودق جرس الإنذار بقوة لم يتحرك أحد من مكانه إلا بعد أن اشتم رائحة الدخان وشاهد ألسنة النيران بعينيه.
السبب الثالث هو “العقل الجمعي” أو “سيكولوجية الجماهير”، ففي أحد التجارب العلمية جلس مجموعة من الأشخاص في حجرة يستمعون إلى محاضرة، وبينما كانوا منهمكين بدأ يتسرب إلى الحجرة دخان كثيف، ولأن التجربة كان متفقاً عليها من قبل، فقد تعمّد الحضور عدم التحرك بالرغم من وضوح الدخان الذي ملأ الحجرة، الأمر الذي منع الشخص الوحيد الذي لم يكن يعلم بحقيقة التجربة، من التحرك كذلك!
ويتضح من هذه الحالة أن الإحساس بالخطر يرتبط بشعور الآخرين. فالإنسان، فيما يبدو، لا يصدق مشاعره إذا لم تجد دعماً أو تأييداً من مشاعر الآخرين.
السبب الرابع يتعلق بـ”تزييف الوعى”، وهي مسألة ترتبط بالماضي (تزييف التاريخ) وبالحاضر(الخطاب الإعلامي المؤدلج). فالتدخل في الأحداث التاريخية بالحذف والإضافة والتعديل من أجل خلق بطولات وهمية من شأنه إحداث نوع من التخدير، أشبه بالتنويم المغناطيسي، للوعي الجمعي بحيث تركن الجموع إلى أمجاد غابرة لم تخضع للفحص والتمحيص. كما أن اللعب في أحداث الحاضر، عن طريق خلق واقع وهمي، من قبل إعلام السلطة من شأنه أن يؤدي إلى نوع من “غسل المخ”، الذي يؤدي، بدوره، إلى الاستكانة والخنوع، والتلقي السلبى لطوفان الأكاذيب الذي يغمر كل شيء، ومن ثم غياب التفكير النقدي على كافة الأصعدة.
والغريب أن خلق الوهم وتصدير الأكاذيب هو من أهم السمات البارزة لعمليات النصب التي يتعرض لها الأشخاص على المستوى الفردي، وهي نفسها التي تتعرض لها الشعوب، وكأن السياسة نوع من النصب. يؤكد ذلك استراتيجية الوعود البرّاقة أو المتاجرة بالأحلام التي يستخدمها كلا من النصابين والناخبين لاستمالة ضحاياهم بالطريقة ذاتها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن الخروج من هذا النفق المظلم؟ كيف يمكن الإفلات من دوامة الوهم والأكاذيب التي تطوق الشعوب بسياج من حديد؟
تاريخياً عرف العرب في الجاهلية فكرة “التطير”، وهي ترتبط بالتشاؤم من سماع أو رؤية بعض الطيور مثل البومة أو الغراب. وترجع كلمة “التطير” إلى عادة كان يقوم بها العربي في الجاهلية عندما يهم بعمل شيء، فيهيج الطيور التي في بيته، فإذا طار الطائر جهة اليمين استبشر خيراً ومضى في مسألته، وإن طار جهة اليسار فهذا علامة على الشر فامتنع عن القيام بما عزم عليه. وقد حرّم الإسلام التطير، ودعا الرسول (ص) إلى التفاؤل.
وحديثاً لم يختف التشاؤم وظل التطير موجوداً، لكن بصور مختلفة، مثل التشاؤم من القطة السوداء، ومن الرقم 13 حتى أن بعض الفنادق الكبرى لا تستخدم هذا الرقم في ترتيب غرفها، وبعض ناطحات السحاب لا تستخدمه في ترقيم طوابقها في أميركا.
والحقيقة أن التشاؤم لا يعتبر شكلاً من أشكال التنبؤ أو الشعور بالكارثة، لأنه لا يستند إلى أي أساس علمي، وهو بهذا المعنى يكون، في الغالب، شعوراً زائفاً، خلوا من الحقيقة، ولا يتطابق مع الواقع إلا عن طريق المصادفة البحتة.
والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن تفسير الظواهر الكارثية بإرجاعها إلى فكرة الحسد، أو توقع الكارثة عند الشعور بالحسد. كما أن العمل على تجنب الكوارث بمحاولة تفادي الوقوع في شرك العيون الحاسدة، سواء بالفرار من مجال رؤيتها أو بتقديم معلومات مغلوطة عن حياتنا للشخص الحاسد، لن يجدي في تفسير الظواهر السلبية التي وقعت، أو التنبؤ بتلك التي على وشك الوقوع، لأن الحسد يستند إلى أساس ديني يحتمل التأويل، كما أنه قد ينجح في توقع الكوارث الفردية إلا أنه يعجز عن توقّع الكوارث الطبيعية أو السياسية الكبرى مثل الحروب مثلاً.
وفي هذا السياق، يقدم علم النفس مؤشراً علمياً للشعور بالخطر قبل وقوعه، فتلخص جوديث أورليف الطبيبة النفسية بجامعة كاليفورنيا، ومؤلفة كتاب “المشهد الثاني” (second sight) التغيرات الجسدية التي تكون مصاحبة للغرائز التحذيرية، التي تعمل عندما يشعر الإنسان بالخطر على النحو الآتي:
برودة في اليدين، قشعريرة عامة، وخز أو صرير في الأمعاء أو الصدر، الغثيان أو حموضة المعدة، الشعور بأنك في “حالة تأهب قصوى”، التعب أو فقدان الطاقة، ظهور الصداع.
كما تطالبنا ماري جاكش، المعالجة النفسية ومؤلفة كتاب “البحث عن الضوء بعد الظلام” (Finding Light after Darkness) بالانتباه واستخدام كل حواسنا لمراقبة البيئة التي حولنا لرصد كل ما هو شاذ وغريب في سلوك البشر بحيث يحتمل أن يحمل في طياته خطراً داهماً لم يكن في الحسبان.
ويُلاحظ أن علم النفس إنما يركز، في الغالب، على المخاطر وشيكة الوقوع، والتي تصيب الأفراد لا المجتمعات.
والحقيقة أن المسألة تحتاج إلى رؤية أكثر شمولية حيث تشمل فترات زمنية أطول، وجموعا بشرية أكبر، ولن نجد أنسب من الرؤية الفلسفية التي تملك النظرة الكلية بحكم طبيعتها، وقدرتها على تجاوز الجزئي والعارض والزائل.
وفى هذا الصدد، أذكر أني في فترة التسعينات من القرن الماضي كنت أعمل في أحد المراكز البحثية، وكنت، بحكم عملي، متابعاً جيداً لما يدور على الساحة العربية والدولية. ومما قرأته في ذلك الوقت ما كان يُعرف بـ”حروب المياه” ومشكلة “سد النهضة”، وقيل وقتها إنها الحرب القادمة مع الألفية الثالثة. والغريب أن المصطلح كان منتشراً، وكُتبت فيه دراسات عديدة، غير أن المسألة كانت تبدو شبيهة بأدب الخيال العلمي وغزو الكائنات الفضائية لكوكب الأرض. أي أن الوعيين السياسي والجمعي لم يكونا على مستوى الوعى العلمي، ولعل السبب يكمن في أن الحرب المطروحة كانت بيننا وبينها سنوات طوال، وربما لأن المشهد السياسي كان مشبّعاً بمخاطر أخرى وشيكة الوقوع مثل الإرهاب وحرب الخليج وغزو العراق.
وفى كل الأحوال تكمن الأزمة في وجود مسافة كبيرة بين الوعي العلمي الذي يلاحظ ثم يدرس ويبحث ويصل إلى نتائج، وبين الوعي الجمعي الذي يحيل النتائج إلى رأي عام من ناحية، وبينه وبين الوعي السياسي الذي يحيل الرأي العام إلى قرار سيادي من ناحية أخرى. والشيء نفسه يمكن أن يُقال عما يُشاع الآن عن صفقة القرن، والحروب البيولوجية، والحروب النووية. فالمجتمعات العربية تمارس حياتها بأريحية لا تتناسب وحجم المخاطر التي تحدق بها، وليس أدل على ذلك من الغرق في تفاصيل يومية صغيرة تصل إلى درجة التفاهة، تستغرق الوقت وتستنفد الكثير من الجهد.
وربما لا يملك المواطن الفرد، أو حتى الشعوب كلها، القدرة على التغيير المباشر لأنه لا يملك سلطة صنع القرار، لكنه يملك الوعي والقدرة على تصعيد الشعور بالمخاطر، فقط يحتاج إلى الانتباه، وقراءة المشهد العام بجدية أكثر. وبهذا المعنى يمكن، نظرياً، تطوير دعوة ماري جاكش للاستفادة من كل الحواس ورصد كل ما يبدو شاذاً وغريباً على السطح، لأننا صرنا نحيا في عالم يتحرك حثيثاً نحو كارثة ما، لم تتضح معالمها بعد، ويكفي أن مكتشف فايروس كورونا تم اعتقاله بتهمة “نشر معلومات كاذبة” ثم تكريمه بعد وفاته مصاباً بالفايروس، وصار بعدها بطلاً ورمزاً قومياً لبلاده!