بيت الكينونة
يجمع المؤرخون على أن زمن الجوائح والأوبئة هو زمن الإرهاصات بالتحولات الكبرى التي تصيب المجتمعات والدول والإمبراطوريات في شتى مجالات الحياة، فما قبل كورونا ليس كما بعده. قد يحدث الوباء كسرا مباغتا في التاريخ، إلا أن العالم القديم لا يمكن أن يموت مرة واحدة كما أن ما بعد كورونا لا يمكن أن يولد دفعة واحدة فجيلنا الحالي سيعيش هذه اللحظة الانتقالية بين الماقبل والمابعد. فهل سنكون جيل العبور والاحتراق ونعيش التمزقات والآلام؟ وهل سيكون الخوف من الآتي الرحم الحاضن للمخاض المولّد للرؤى الجديدة في مختلف مناحي الحياة؟ لقد لخص شاتوبريان (1768 – 1848)، وهو الذي عاش ما قبل الثورة الفرنسية وما بعدها، هذه الحالة، والترجمة للكاتب السوري هاشم صالح “لقد وجدت نفسي على مفترق قرنين كما يجد المرء نفسه على مفترق نهرين وقد غطست في المياه المضطربة مبتعدا بحسرة عن الشاطئ القديم حيث ولدت وسابحا نحو الشاطئ الآخر المجهول الذي تصل إليه الأجيال المقبلة والذي لن أراه بأم عيني”.
فرض فايروس كورونا على العالم بأسره أن تغلق الدول حدودها البرية والبحرية والجوية وأن تجبر كل دولة متساكنيها لزوم بيوتهم حتى غدا التباعد الجغرافي والتباعد الاجتماعي سمتين بارزتين لسكان الأرض، حدث ذلك في ظرف زماني وجيز، وضع كان من المستحيل التفكير فيه في زمن العولمة.
لقد أصبح المسكن بيت الكينونة، فعودة الأفراد إلى بيوتهم قسرا تجعلهم يبحثون عن براديغمات جديدة يعيدون من خلالها صياغة ذواتهم والعلاقات فيما بينهم وقد تكون هذه العودة استرجاعا لوضع عاشته الإنسانية في تاريخها السحيق. يظل البقاء بالبيت الملاذ الأول والأخير من خطر لامرئي داهم يصبح البيت، في ظل هذه العودة للحميمية الأولى، القلعة الأخيرة لحماية مساحة المناعة التي تبقي جسما سليما في مأمن على نفسه من العدوى. الفايروس تهديد للحياة بوصفها مختزلة هذه المرة في مساحة المناعة التي يحتاج إليها جسم مّا كي لا ينقرض. لقد صار المنزل فجأة مساحة العالم الوحيدة التي يلوذ بها الأحياء من أجساد بعضهم بعضا بعد أن حولهم الفايروس إلى آلات عدوى تعمل ببراءة فظيعة. لقد حوّل الخطر الوبائي العالمي غير المرئي كل آخر مهما كان نبله وقرابته مجرد حيوان أو كائن ناقل لوباء أخرس. فالسؤال الذي طرحه الرومنطيقيون منذ هولدرلين في مطلع القرن التاسع عشر، بعد أن صار الشعر هو الشكل الوحيد للإقامة على الأرض: كيف نسكن العالم؟ قد صار فجأة سؤالا هزيلا وسيء الطرح، صار علينا أن نسأل على الأرجح “كيف نسكن بيوتنا؟” بوصفها “العالم” الوحيد المتبقي لنا كي لا ننقرض. في هذا البيت الذي يقدم نفسه بوصفه مساحة العالم الأخيرة يشعر المرء بأنه لم يعد يمكن تحمل أيّ نوع من الضيافة غير اللائقة أي غير المنسجمة مع الحمية ضد العدوى. إن متوالية من القيم قد انهارت فجأة، قال جبران خليل جبران (ت 1931) “لولا الضيوف لكانت البيوت قبورا”. ولكنّ الخوف من الوباء قد أعاد مشاعر الناس إلى بدائيتها. فالناس أضحت أفعالا لازمة لا تتعدى إلى الآخر، حيث إن فرض التباعد الاجتماعي (la distanciation sociale) جعل أيّ ضيف مهما كانت طبيعته لا يحتمل. لقد غدا البقاء بالبيت تمرينا ما بعد أخلاقي وما بعد سياسي على سياسة الحياة من أجل مجرد البقاء على قيد الحياة وليس استقالة من الإنسانية التي تجمعنا بالآخرين. (جملة هذه الأفكار مستقاة من مقال د.فتحي المسكيني، “عودة الإنسانية إلى البيت” موقع tadwinet.net بتاريخ 26 مارس 2020).
الفردانية/الجمعانية
من المفارقات التي خلفها وباء كورونا، إعادة بناء الثنائيات ودفعنا إلى مراجعتها ثم إلى صياغتها صياغة جديدة. فبقدر ما تغوص الذات في شرنقتها تبحث عن خلاصها الفردي أو خلاص عصبتها، فإن للجائحة وجهها الآخر وهو تخليص المبادرة الفردية/الجماعية من عقالها في تحد لعوائق البيروقراطية المقيتة. فراحت تبدع وتصنع وتكتشف في مجالات شتى متصلة بالجائحة وما فرضته علينا من استعجال لسد نواقص منظومتنا الصحية الهشة، دون أن ننسى المد التضامني غير المسبوق مع الفئات الاجتماعية من ضعاف الحال. لقد هبّ المجتمع بكل قطاعاته العلمية والمدنية والشعبية مدفوعا برغبة في العطاء لا حدود لها أبانت عن جواهر دفينة مخبأة كشفتها الجائحة بعد أن طمرتها السياسات الفاشلة. لكننا بالمقابل تقرح جسدنا الاجتماعي رذائل يعانيها من ذلك الجشع والاحتكار والأنانية والتخاذل في مد يد المساعدة والمضاربة والمتاجرة بآلام الناس حيث ينزل مستوى الإنسانية والإحساس بالانتماء إلى ما دون الصفر. إن العودة إلى البيت فرصة يتيحها لنا كوفيد – 19 لمراجعة بعض المسلمات ولاسيما مسألة الفردي والجماعي، وقضية الذات والآخر متسلحين بما تهبه لنا العزلة من صفاء ذهني، بعيدا عن التوترات التي من شأنها أن تجعل رؤيتنا للأشياء ضبابية تغلب عليها الأيديولوجيا والانفعال وتحركها الغريزة، إننا نعود إلى البيت لنؤسس لكينونتنا أبعادا إنسانية ونعطي لوجودنا معنى جديدا.
تغير في أشكال التدين
إضافة إلى تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، لم تترك جائحة كورونا تديننا وممارساتنا الشعائرية بمنأى عن تأثيراتها فقد أصابه ما أصاب غيره من تغيرات هزت الضمير الديني ورجته فليس من السهل أن تغلق المساجد والجوامع ويحرم المؤمنون من صلاة الجماعة ومن صلاة الجمعة وكذلك تعليق العمرة وربما فريضة الحج، وكأننا عدنا إلى الدين في شكله الأول، لحظة انبثاقه، أصبحت الصلاة عبادة فردية/منزلية بحكم التباعد الجسدي الذي اقتضاه الخوف من العدوى واقتصرت صلاة الجمعة على الإطار المسجدي لكأنها العودة إلى ما قبل تشكل المذاهب الفقهية وإن استأنست وزارة الشؤون الدينية التونسية بالمذهب الحنفي الذي يجيز صلاة الجمعة بثلاثة أنفار ومعهم الإمام وذلك على عكس ما استقر في المذهب المالكي – وهو المذهب الرسمي للدولة – الذي يشترط في إقامة صلاة الجمعة وجود اثني عشر رجلا كل ذلك من أجل استمرار هذه الفريضة. أما صلاة التراويح وللأسباب نفسها فستعود إلى ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كانت صلاة فردية بعد وفاته، قبل أن يجعل منها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة جماعية. أما بالنسبة إلى طقوس الموت ولما للموت من وقع بالغ الأثر على أهل المتوفى ولما يمثله الموت في حد ذاته من جلال وهيبة جعلت الشعوب من مختلف الثقافات والديانات تقيم له الطقوس التي تليق بمقامه، فأن يختزل كل ذلك في عملية دفن يحضرها عدد قليل أغلبهم من المؤسسة الرسمية، فالتخلي عن تغسيل الميت وتكفينه وتوديعه من قبل أهله والصلاة عليه – صلاة الجنازة – لأمر مؤلم لا يمكن تقبله والتعامل معه فهو غير مفكر فيه، إلا أنه في ديننا ما يجعلنا نرضى بالحد الأدنى من مراسم الجنازة وعملية الدفن بنفوس راضية مستسلمة لقضاء الله فمما استقر في الضمير الإسلامي مقولة “إكرام الميت دفنه” التي لم يثبت رفع هذا اللفظ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله ” ثلاثة يا عليّ لا تؤخرهن: الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا” (رواه الإمام أحمد في مسنده).
فدين يكرّم جثة مقبلة على العالم الأخروي جدير بأن يكون مكرما للأحياء تكريما يليق بوجودهم الدنيوي. كما مكننا الدين من صلاة الغائب وهي تكريم للميت عن بعد (بعد زماني وبعد مكاني) وهي بلسم للنفوس المكلومة بسبب الفقد. بقي الحج والعمرة وهما شعيرتان تقتضيان حضورا جسديا لأدائهما وهو ما يعرف بالاستطاعة المادية والجسمانية. إنهما رحلتان تقتضيان الاستعداد الذي قد يتطلب سنوات من الكد في جمع المال وهو ما يجعل شوق المسلم لزيارة بيت الله يزداد يوما بعد يوم، فحين يأتي الأمر بتعليقهما يولّد ذلك خيبة لدى الذين تعلقت نفوسهم بأداء الركن الخامس من أركان الإسلام. هذا الوضع كان بعض المفكرين القدامى قد تنبؤوا بحدوثه واقترحوا لمعالجته حلولا رفضتها المؤسسة الدينية الرسمية، تستند على تجاوز الزمن الطبيعي الواقعي للبشر والانغماس في نوع من الحج الروحي فالحاج أو المعتمر الذي حرم من زيارة بيت الله بإمكانه تشغيل مخيلته في إعادة ترميز الفضاء المعنوي والزمني للكعبة وما يحيط بها من شعائر واستبطان دلالاتها وهذا ما حاول أبو حيان التوحيدي (ت 414 هـ/1023 م) شرحه وبيانه في كتابه المفقود، “الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي”، مع العلم أن القوة القاهرة التي علقت العمرة والحج، تفتح للمؤمن، الحاج أو المعتمر بالقوة أن يتصدق بما جمعه من مال لمعاضدة مجهود الدولة في محاربة هذه الجائحة.
بقدر ما تجبرك الجائحة على الانكفاء، فإنك لا يمكن أن تغفل عما يحدث في العالم ولاسيما في مجال البحث العلمي الذي شهد انكباب العلماء والباحثين من مختلف الجنسيات في تسابق محموم في مختبراتهم من أجل الوصول إلى لقاح شاف من هذا الوباء في أسرع وقت ممكن وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وبما أن العلم لا جنس له فهو إنساني بامتياز. ومما شد الانتباه أيضا في هذا الظرف أن وباء كورونا دفع دولا إلى التخلي عن تشددها في محاربة الرموز الدينية في الفضاء العام فسمعنا آذانا يرفع في عديد الدول الأوروبية وقرآنا يتلى في المتاجر وأمام الكنائس ومواطنون أوروبيون يشاركون المسلمين صلواتهم، لكأنّ العباد ينشدون الخلاص بشتى الوسائل، فالطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.
إن ما أحدثته جائحة كورونا يجعلنا متفائلين بانبثاق عالم جديد بديل عن النظام العالمي الحالي القائم على العولمة ذات التوجه الليبرالي المتوحش، شريطة الاتعاظ من الأخطاء المرتكبة.