أدوار النقاد
1
أحاول فقط أن أقول ارتباكي في فهم الذات والعالم المحيط بي. هذا ما أحاوله في الشعر والقصيدة. وهو أبسط من أن يُشكّل “مشروعًا”. ورأيي أنّ هذا التلمُّسَ الصَّعب للدرب هو غايةُ الشاعر اليوم في زمنٍ لم يعد فيه الاطمئنان تامًّا للشكل الفني أو للقضية كما كان عليه الحال في السابق. حتى قصيدة النثر التي نجرّب الالتقاء بلحظة الشعر تحت سقفها هي لحظة هشّة مفتوحة على سماء عارية أصلًا. إذ لا سقفَ هناك. والمجالُ مفتوحٌ لكل أصناف التجريب ولكل أشكال السَّعي إلى المكان الخاص، والتعبير الأصيل، والخطوة الفريدة. دون أن يعني ذلك نزوعًا من الشاعر للتَّفرُّد بالمعنى النرجسي للكلمة، بل فقط يحاول الشاعر في زمننا أن يكون ذاتَهُ عساه ينسجِمُ داخل قصيدته. لقد كان “الشاعر” في السابق لقبًا له حظوة وسطوة وبريق. اليوم هو لقبٌ لا يبهر أحدًا في مجالنا السوسيوثقافي، بل أحيانًا وَلْنقلها صراحةً يصير مبعَثَ تندُّرٍ في بعض الأوساط. ومع ذلك هناك ألفُ مَنْ يُنازِعك فيه مِن الباحث الأكاديمي إلى الناقد إلى الصحافي. بل حتى الأنداد من الشعراء، يكفي أن تصدر كتابتهم عن حساسية مختلفة ليجرِّدوا رفاقهم من هذا اللقب. لذا، صار الانتماء لفضاء الشعر والشعراء على قدرٍ كبيرٍ من المجازفة. وكل ما يريده الشاعر الحقُّ، الصادر في تجربته عن حاجةٍ صادقةٍ إلى الشعر، هو أن يكابد قصيدته بسلام. لهذا بالضبط أرى في الحديث عن المشروع الشعري ترفًا ومُبالغة. فكلُّ ما نحاول عمله في الشعر هو إقناع القصيدة وقارئِها بأننا نستطيع نحن أيضًا، لا أن نجدّد في الشعر ونُطوِّره ونفتحه على مجهول ما، بل أن ننتسب إليه بأصالة. لقد صارت مطالبُنا بسيطة، ومشاريعنا أيضًا. هل عن تخاذل وانهزام؟ هل لأنَّ زمن الفرسان في الشعر والقصيدة قد ولَّى؟ لكن أين الفرسان في الثقافة والسياسة والتنمية لنبحث عنهم في شِعاب القصيدة؟ ظنِّي أنَّ شعراء هذه الأيام جاؤوا في زمنٍ لا فروسية فيه. ولأنهم يرفضون القبول بالهزيمة، حاولوا الالتفاف عليها فيما يكتبون. القصيدة بهذا المعنى فضاءُ مُمانَعَة. وبهذا المعنى يمكن اعتبار المُمانَعَة أكبر مشروع وجودي لشعراء هذا الزمن. شعراء كل ما يحلمون بهم هو الانتصارُ للعُمق الهشّ للشاعر والإنسان والكلمة، في زمن الهويات القاتلة واليقينيّات المُستفحِلة والشعارات الطّنّانة.
2
بكل صدق، ما كنتُ لأشعر يومًا أنّي حققتُ شيئا ذا بالٍ في الكتابة الشعرية لولا النقّاد. فالناقد اللّمّاح يملك السّبّابة الحكيمة التي تشير إلى الخصائص المائزة في نصك الشعري، تلك التي تذهب إليها عفوَ الخاطر وبالسَّليقة وحدها. وإذا كان لي أن أحدّد ما أنجزتُه بوعي في قصيدتي، فهو البحث الدائم عن الشكل الأنسب.
لقد بدأتُ تفعيليًّا. وكانت قصائدي الأولى تنطلق من وعي سياسي والتزام نضالي لا غبار عليهما. فيها بعضٌ من طمأنينة المناضل وإيمانه العميق بعدالة قضاياه الوطنية والقومية. وكنت أنشر قصائدي التفعيلية في “الآداب” اللبنانية و”الوحدة” التي كان يُصدرها المجلس القومي للثقافة العربية وغيرها. ثم عُيّنتُ أستاذًا للإنجليزية بورززات، جنوب جبال الأطلس، فإذا بي في مهبٍّ جديد لم يكن بالبال: مغربٌ عميق، مُتخلّى عنه، لم أكن أعرفه إلا في شعاراتنا اللاهبة. أصِبْتُ بما يشبه الصدمة، فجاء ردُّ الفعل قاسيًّا. حيث انصرفتُ إلى قصيدة غاضبة تهجو العالم والناس، تهجو بالحدّ الأدنى من البلاغة، وبالدرجة الصِّفر من الموسيقى. تحوّلتُ إلى شاعر قصيدة نثر تبرَّمَ ممّا صار يعتبرُه بلاغيات قديمة، انحاز إلى المفارقة يختبر شعريتها، وانصرف إلى كتابة قلقة تصدُر عن المزاج الخاسر لصاحبها أكثر من أيّ شيء آخر. هكذا كتبتُ “مانيكان” وحصلت على جائزة اتحاد كتّاب المغرب للأدباء الشباب. لكنني وجدت فيما بعد من يُنبِّهني، وأفكّر تحديدًا في الراحل فوزي كريم، إلى أنني بدأت أزوغ عن روح قصيدتي أنا المتشبِّعُ بالإيقاع ذو الأذن الموسيقية وأنا أحرمها من ثراء الإيقاع وبذخ الموسيقى. انتبهتُ أيضًا إلى أنّ خلفيتي الأنجلوسكسونية هي مصدر حماية لي. فكيف لِمَن قرأ إليوت ووالت ويتمان أن ينصرف عنهما لينسج على منوال أصدقاء يكتبون ضمن الأفق التجريبي لقصيدة النثر الفرنسية؟ هكذا حاولت أن أكتب قصيدتي بما يُحقّق لي التوازن بين خلفيتي الإيقاعية الثرية والأفق الجديد الذي ينشده أبناء جيلي لقصيدتهم.
واليوم، وجب الاعتراف بأن مقاربة أصدقائي من النقاد لتجربتي وأخص بالذكر محمد صابر عبيد ومحمد آيت لعميم وحسن المودن ساهمت في تنبيهي إلى أنني بدءًا من نصوصي التفعيلية الأولى حتى “دفتر العابر”، آخر ديوان لي، كنت دائما شاعر “قصيدة سرد” إذا شئنا استخدام المفهوم الذي نحته الدكتور حسن المودن. إذ ظل ما أكتبه يتموقع دائمًا في قلب هذا اللقاء بين المحكي والشعري مع إصرار خاص على دمج خاصيات السرد وسماته في ما أكتبه من قصائد. ولأنّ السّفَر مكوِّن مركزي في نصِّيَ الشعري، اختار محمد صابر عبيد مقاربَة تجربتي المتواضعة انطلاقا من مصطلح “القصيدة الرحلية السيرذاتية” الذي نحَتَه في كتابٍ نقدي خصّصه لكتابي الشعري “دفتر العابر”. لأعترفْ إذن أنّي مدينٌ للنقاد بفهمي الشخصي لكتابتي، وأعتقد أن التواضع أمام النقد العارف مطلوب. فحتى المتنبي هذا النرجسي المعتدُّ بنفسه لم يتردّد في الاعتراف لابن جنّي بالفضل، حين قال: “ابن جنّي أعلم بشعري منّي”.
3
الشعر نهر عظيم دافِقٌ الشعراءُ روافدُه. ولا يضير الشعر في تقديري أن يجفَّ رافد هنا أو يتخلّف جدولٌ هناك. ومع ذلك، فالقارئ العام يميل إلى اختزال الشعر، كل الشعر، في شعراء بعينهم. تمامًا كما اختزلت الاستعارة القرآنية النور الإلهي في المشكاة والمصباح والزجاجة. لهذا يصير الشعر بالنسبة إلى الجمهور العربي هو امرئ القيس أو المتنبي أو نزار قباني أو أدونيس أو محمود درويش. لكن ما إن تنخرط في استكشاف الجغرافيا الشعرية المعاصرة من مختلف اللغات والثقافات، وتبدأ بالنّهل من عيون الموروث الشعري العالمي من الشرق والغرب، حتى تستشعر ضآلة الروافد: كل الروافد التي يتصوّرُها بعضُنا أنهارًا عظيمة. وفي هذا الإطار أستحضر الخلاصات القاسية للشاعر فوزي كريم الذي يرى مثلًا بأنّ أيَّ مقارنةٍ بين شعرنا الجاهلي وبين الشعر اليوناني والهندي والصيني القديم ليست في صالحنا. كما أنّ أيّ مقارنة لشعرائنا في مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية في العصر العباسي (البحتري، أبو تمام، ابن الرومي) مع مُجايليهم من غير العرب كعمر الخيام والشيرازي وجلال الدين الرومي ليست في صالحنا. لهذا علينا كأمةٍ تَعُدُّ نفسها شاعرةً أن نتواضع إزاء الشعر، ونتعلّم من باقي التجارب الكونية دون انغلاق على ذاتنا الشعرية. ونحن نمتح من خوابي الشعر ودنانه، قد تكون القطرة كافية ليفيض النبع الشعري داخل الواحد منا أو يُحوّل مجراه. وهنا مثلا، أذكر كيف أنّ قصيدة معزولة مثل “أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر” لمحمود درويش التي اقترحها علينا مدرّس اللغة العربية في الإعدادي جعلتني أنا الطفل الذي كان يحفظ عن ظهر قلب مقاطع من شعر عنترة والمتنبي والمعري أنفتح على قارة جديدة، ورؤية شعرية مغايرة. هكذا أضع دائمًا هذه الأغنية الساذجة في كفّة وباقي شعر درويش في الكفّة الأخرى بسبب دورها المحوري في تحويل مساري. نفس الشيء حصل لي مع قصيدة أندرو مارفل العجيبة “إلى عشيقته الخجول”. قصيدة فتحتني على أفق مغاير في الكتابة الشعرية، وصالحتني مع مزاجي الخاسر في الكتابة، إذ لم أعد أخفيه أو أتستّر عليه. وهكذا، قد تُحدِث قصيدةٌ فريدةٌ في نفس الشاعر من الأثر ما يفوق كل تاريخ الشعر منذ هوميروس حتى شعراء الفيسبوك.
4
أولًا لنتفق على أنّ الصمت قد يكون موقفا شعريا في بعض الأحيان. وهناك شعراء كبار هجروا القصيدة في مراحل بعينها من حياتهم أو توقّفوا تمامًا عن كتابة الشعر. فللصّمتِ بلاغتُه أكيد. لكن هناك أيضًا ظاهرة الانقطاع، المرتبطة في الغالب برداءة أحوال النشر وصعوبة تداول الكتاب الشعري وتراجع الوضع الاعتباري للشاعر عمومًا. فيما تُعتبر الهجرة باتجاه الرواية ثالثة هذه الظواهر اللافتة. وإذا كان البعض يختزل أسباب هذه الهجرة في جوائز الرواية وغوايتها، فلعلَّ عددا من الشعراء المولعين بالتكثيف والاستعارات والمجازات التي تضرب حجابا بينهم وبين القارئ العام وجدوا في الرواية متنفّسًا، فرصةً لمغادرة انكفائهم السابق على الذات، وإمكانيةً لالتقاط مفارقات الواقع والشهادة على العصر والاشتباك مع قضايا الهنا والآن، وضمانًا لتواصلٍ أوسع مع القرّاء.
الوضع بالغ التعقيد إذن، ويصعب اختزاله في صمتٍ حكيمٍ يلجأ إليه الشعراء الأهمّ من “أصحاب التجارب اللافتة”. بل لعلّ اللافت اليوم برأيي ليس أن تصمت بل أن تواصل وتستمر. وهنا أستحضر مقولة برتولد بريشت الشهيرة: “إنهم لن يقولوا كانت الأزمنة رديئة، وإنما سيقولون لماذا صمت الشعراء؟” وزمنُنا الحالي رديء ليس بسبب “وقائعه الغرائبية” التي تُربك “مخيّلات الشعراء”، وإنما بسبب الاستبداد والفساد المستشريين الذين يُربكان تطلُّعَ شعوبنا العربية إلى المواطنة الحرّة والعيش الكريم. بهذا المعنى، يصير صوت الشاعر مطلوبًا للهجس بما في ضمائر الناس دون أن يسقط في المباشرة والتقريرية والتبشير. وهذا تحدٍّ صعب آخر قد يُرغِم الفشلُ فيه بعض أصواتنا الشعرية النزيهة على الخلود إلى الصمت.