ضَميرٌ متكلِّمٌ مُصَابٌ بالأَرَق
أكتُبُ الشِّعْر لنَفْسي أولًا، ولأصدقائي الشُّعَراء وغير الشعراء، خصوصًا وقد أَصْبَحَ الشعراء لا يَقْرَؤُهُم غالبًا سوَى الشُّعَراء. كان بورخيس يجيب مَنْ يَسْأَلُه “لماذا تكتب؟” بقوله “أَكْتُبُ لِنَفْسي ولأَصدقائي، ولأجعل مجرى الزَّمَن نَاعِمًا”.
أكتبُ الشِّعْر لأنني أطمح أن أكتب أوطوبيوغرافيا الليل. ففي الليل أقرأ أكثر، وأكتب أكثر في الغالب، وأُحِسُّ بأَن ضَمِيرِي المتكلم مُصَابٌ بالأَرق والحنين.
أكتب الشّعْر لأُدَوِّنَ دَهْشَتِي، وأظن أن الشاعر كالطفل كثير الاندهاش أمام الأشياء كلها. الدهشة فعل إِنساني جميل وناعم وخَلَّاق، والشاعر حارسٌ لهذه الدَّهْشَة ومؤرخها اللَّامَرئي. نعرف أن شُوبَّنهَاوَرْ كان قد اعتبر الإِنسان كائنًا ميتافيزيقيًّا، يندهش أمام العَالَم، أَمام الحياة، وأن الإِنسان هو الكائن الوحيد الذي يندهش ويطرح الأَسئلة على نَفْسِهِ حول نَفْسِهِ، وحول الوجود، لأنه يكاد يختنق بِوَعْيِهِ بالموت. ولذا فَالشِّعْرُ بهذا المعنى نَشِيدُ حياةٍ، به نقاوم عبثية العَالَم، ونكون قادرين على الدهشة أمام الموجودات، ومتابعة مجريات الواقع والأحداث اليومية التي نراها ونعيشها ونسمع أو نقرأ عنها، بنظرة مغايرة.
من الدهشة أيضًا يولَدُ الشِّعْر مثلما تولد الفلسفة، ومنْ ثَمَّ هذا النزوعُ الشّعْري، والإِنساني بصفة عامة، نحو الميتافيزيقا وبعض المتعاليات، وكذا هذا الانشغال بأسئلة الحياة، خصوصًا منها سؤال الموت!
ظَنِّي أَنْ لا شِعْر دون اندهاش، ودون حَدْس؛ فمنهما تنبثق اللحظة الشعرية. ثم تَحْضُر المعرفة وجوبًا في رَصْدِ هذه اللحظة وتَدْوينها وكتابتها وإِثراء معناها الوجودي والشعْري. وعلى هذا النحو، تنطلق التجربة الشّعْرية المتجددة دومًا، المفتوحة دومًا على مُدَّخرات الشاعر وسعة أفقه، اللغوية والجمالية والتقنية، وعلى خبرته الإِنسانية، وذاكرته، ومُتَخَيَّله، وتفاعلاته اليومية مع الأحداث، لأن مَنْ ينتج القصيدة إِنسان أولًا وأساسًا وليس قناعًا في حفلٍ تنكري.
الكتابة الشعرية تجربة إِنسانية بامتياز، وهي في حد ذاتها مشروعُنا الشِّعْري. ما هو المشروع أولًا؟ في أيّ مجال؟ المشروع هو أن تكون لديك خطة عمل، وأهداف مُحدَّدة، وأدوات تنفيذ! هكذا، فالشاعر يُروِّض نَفْسَهُ وكيانه ورأسماله اللغوي والجمالي والمعرفي والثقافي لكي يشيد لِشِعْرِه أفقًا، “مشروعًا” إن شئْتَ. وهكذا، من الفكرة الصغيرة، من اللحظة، من الكلمة، من الصورة، من الجُمْلَة ينطلق ليكتب قصيدته، ثم يجمع قصائده أو شذراته ليشكل كتابًا شعريًّا، وينطلق في مساراته الأدبية ليراكم أعماله من كتاب شعري أو نثري إِلى آخر قبل أن يصل إِلى إِنجاز أعماله الشعرية “الكاملة” كي يُصبِحَ له أَثَر شعْرِي حقيقي (Oeuvre). وهذا هو مشروع الشاعر الأَساس. والجميل أنه مشروع ميتافيزيقي في النهاية ينجزُهُ بّْرُوليتَاري لُغَوي يسهم على الدوام في صناعة الحياة والانتصار لقيمها.
بالتأكيد، الشاعر ليس مجرَّد قصيدة أو كِتَابَ شِعْر، وإِنما هو أيضا حضور في المجتمع وفي التاريخ، يحضر بموقفه ورأيه وفعله الثقافي والسياسي والمجتمعي، وبالتزامه الإنساني والرمزي والأخلاقي بالقضايا العادلة.
قال هايدغر مرةً إِننا “ضيوفُ الحياة”، ولستُ أريد من قصيدتي سوى أن أكون ضَيْفَ حَيَاةٍ خفيفًا، خفيفَ الدَّم والرّوح والضيافة والعبور. أستحضر أَيضًا نيرودا وكتابَهُ الشعري “الإقامة على الأَرض” لأقول بدوري إِنني أكتب القصيدة وأُرَاكِمُ القصائد والأعمال الشعرية لأدرك معنى إِقامتنا على الأرض بل لأُعْطِيَ – أَنا أيضًا، مثل جميع شعراء الكون – مَعْنًى لإقامتنا في العالم.
شخصيًّا، لا أحاول في الشّعْر القيام بأيّ شيءِ آخر غير هذا، أن أكون حليفًا للحياة وللإِبداع والجَمَال واللغة، وربما لا أَصْلُحُ إِلَّا لهذا.
لا أعرف. لا أعرف مَا حققتُه أو ما لم أحققه في الشِّعْر حتى الآن. هل يستطيع شاعر، هل يجرؤ، أن يقدم “تَقْريرًا أَدَبيًّا” عن مُنْجَزِهِ الشِّعْري؟ تَصوَّر، أن يحقق الشاعر الصديق سعدي يوسف ذلك الرصيد الشعري والإِنساني الهائل، ثم يقول لي في حوار مَعَه، إِنه “ليس شاعرًا”! وحين أسأله عن صديقنا الراحل سركون بولص، يقول لي “هو الشاعر”.
من الدهشة أيضًا يولَدُ الشِّعْر مثلما تولد الفلسفة، ومنْ ثَمَّ هذا النزوعُ الشّعْري، والإِنساني بصفة عامة، نحو الميتافيزيقا وبعض المتعاليات، وكذا هذا الانشغال بأسئلة الحياة، خصوصًا منها سؤال الموت!
عندما أُطِلُّ على مختلف جغرافيات وخرائط الشّعْر، وعلى تجارب كبار شعراء العالم، أحسّ على العموم بمحدودية وتَوَاضُع منجزنا الشِّعْري العَرَبي المعاصر. وأنتَ تلاحظ، بعد وفاة محمود درويش وعزوف سعدي يوسف، عن الخوض في فضاءات المنافسة – ودون أدنى مُفَاضَلَة أو تراتبية متحذلقة – ليس لدينا في الحقيقة سوى شاعر عربي واحد يمكن أن نقول عنه إِنه شاعر كوني بامتياز هو أدونيس، وأيضًا بمنجزه الشعري والمعرفي والفكري أولًا، وبدوره البارز في بناء صرح الحداثة الشعرية العربية، وبحجم ترجمات أعماله الشعرية والفكرية إِلى حوالي عشرين لغة، وعدد الجوائز الشعرية العالمية ذات القيمة التي حَازَها حتى الآن، وامتداداته وتَعَدُّد حضوره في مقدمة المَشْهَد الشعري العالمي أكثر من أي شاعر عربي آخر. كما أنه المرشح العربي الوحيد الدائم، في حدود علمي، المطروح على طاولة الأكاديمية السويدية. وهذا الإشعاع لا ينبغي – في تقديري – أن يَسْتَثِيرَ الغيرة أو الحسد أو العداء أو التهجم من أيٍّ كان بل والتهديد بالقتل كما حدث أكثر من مرة من بعض الجهات المتطرفة، وإِنما يتطلب الدعم العربي والمواقف المتضامنة من جانب النّخب العربية بغض النظر عما إِذا كان هناك من رأيٍ أو موقفٍ فكري أو ثقافي أو ديني أو سياسي لأدونيس حول هذه المسألة أو تلك مما يستحق النقاش أو الاختلاف وحتى الاعتراض. فالشاعر أو المثقف لا بد أن يكون جوهرُهُ ديموقراطيًّا.
أما بخصوص ما لم ينتبه إِليه النقَّاد في كتابتي الشعرية، فربَّما عليَّ أن أعرفَه أنا أولًا. وعمومًا فقد كنتُ محظوظًا بحجم ونوعية ومستوى الكتب والقراءات والدراسات والأبحاث التي أُنْجِزَتْ حول أعمالي الشعرية شاكِرًا مُمْتَنًّا. وسَعِدتُ دائمًا بأن النقاد تصرَّفُوا تُجَاه شعْري بحُرية وتلقائية وروح متضامنة. كما تعلمتُ منهم أشياء أساسية وجوهرية ومَا بِهِ أطوِّرُ كتابتي وتجربتي الشعرية. وما أَتَمنّاه أن أدرك من خلال قرائي طبيعة الخصائص المُميِّزَة لقصيدة النَثْر التي أَكْتُبُها، وذلك ما تَمَّتْ ملامَسَتُه جزئيًا حتى الآن.
بكل تأكيد، كانت في صوتي الشِّعْري أصوات أخرى من شعراء العالم، ومن شعراء العربية الكبار. وقد أشرتُ قبل قليل إِلى شعراء عرب مُعَلِّمين، علَّموني كقارئ وكشاعر من بعيد ودون نزعةِ تَلْقين. طبعًا، عندما ينضج الشاعر ويمتلك صوته الشِّعْري الخاص يُصْبِحُ حَذِرًا أكثر تُجَاهَ ما يَقْرَؤُه بل وما يَكْتُبُه أيضًا، خصوصًا عندما تصبح علائقُهُ بهؤلاء الكبار علائقَ صداقةٍ وقَرابَةٍ إِنسانية.
في طريق الشّعْر، وعندما نتقدم في السَّيْر والإِنتاج والسِّنّ، تصبح علاقتُنا بالتَّلْمَذَة مختلفة تمامًا عن البدايات، ويصبح حضور الشاعر – المُعَلِّم حضورًا معرفيًّا أكثر منه شعريًّا. تعرف أنك ستخسر شِعْرَك ونَفْسَك عندما تُكَرِّر المعمار الأدونيسي أو تستعمل المُعْجَم الدَّرْويشي أو تلوذ بِنَبْرَة سَعْدِي الخفيضة وعفوية الماغوط وصوفية أنسي الحاج مثلًا لكي لا أتحدث سوى عن المرجع الشعري العربي، وهكذا، تبدأ تُعَدِّدُ مرجعياتِكَ فتعثر على الشّعْر ومادة الشّعْر في تجربتك الإِنسانية، في سيرة حياتك الذاتية، في فضاءاتك وأمكنتك وأزمنتك الخاصة، في ذاكرتك وفي أجناس إبداعية أخرى غير الشعر، في الرواية والسينما والمسرح والكوريغرافيا والموسيقى والفنون التشكيلية والبَصَرية. ولكم تعلمتُ من هوامش وظواهر أخرى متعددة، سوسيوثقافية أساسًا، مما لا نَعْثُرُ عليه في مُتُونِ الشّعْر العربي.
عَلَيَّ أن أُشيرَ أَيضًا إِلى ما تعلَّمتُهُ من أجيال الشِّعْر المغربي المعاصر، وفيه أساتذة ومُعَلِّمون وأصدقاء كانت لهم قيمة وأَثَر في تكويني الشعْري والأدبي وفي كتابتي. وقد تُتَاحُ لي فرصة أخرى لأَذْكُرَهم، ولأعدِّدَ ما تَعلَّمتُهُ منهم شعريًا ومعرفيًّا وثقافيًّا، وبعضهم جَلَسْتُ أَمامه في مُدَرَّجاتِ الجامعة كطالب قبل أن أصبح صديقًا أو زميلًا أو رفيق طريق وخيار.
4
على الفور، ومع احترامي لكافة الآراء، تأتي إِلى ذهني حكايةُ الذئب والحمار اللذين احتكما إِلى ملك الغابة، الأول يقول إن العشب أخضر والآخر يقول إِن العشب أحمر! وتفاصيل الحكاية معروفة، عندما يفاجئ الأسد جميع الحضور بحُكْمِهِ الغريب، إِذ يَحْكُمُ بِسَجْنِ الذئب. وعندما يُعَبِّرُ الذئب عن استغرابه مع أن جوابه كان سليمًا، يجيبه الأسد بأن رأيه كان بالفعل صحيحًا، ولكنه أخطأ عندما سَمَحَ لنفسه بأن يُسَاجِلَ حمارًا! (الحكاية هكذا مع أنني من الذين يُحبّون هذا الكائن العجيب الصبور، الحمار، الذي له نصيب من الذكاء يعرفه أهل البحر الأبيض المتوسط بالخصوص).
أريد أن أقول إن مثل هذه الآراء عندما تكون حَطِيطةً هكذا لا يُعتَدُّ بها، ولا تستحق الاهتمام وعناء النقاش حتَّى، ذلك لأنها – كما يقول قُدَامَى الثقافة العربية الكلاسيكية – “لَيْسَتْ بِشيء”!.
على العكس تمامًا، هناك شِعْر عَرَبي عظيم – وإِنْ على قِلَّتِهِ – لَدَى شُعرائنا، وهناك شعراء عرب كبار من مختلف الأجيال، في المشرق والمغرب على السواء. والأسئلة التي ينبغي أن نطرحها اليوم بهذا الخصوص: كيف يكون لدينا شعراء كونيون عَرَب؟ كيف ننظم حضورنا الشعري في العالم اليوم؟ كيف نبني خطابًا وربما استراتيجية لتقديم الشعرية العربية المعاصرة إلى المنْتَظم الأدبي الكوني بدلًا من الحروب الصغيرة والمقالات والحَمَلات العَدَائية؟ لماذا لا يستفيد الشعراء والأدباء العرب مثلًا من فصل “الأعداء الأدبيون” في كتاب بابلو نِيرُودَا، سيرته الذاتية (أعترفُ أنني عِشْتُ)؟ أقصد أن علينا أن نَقْرأَ تجربته، وأن نعيد النظر في سلوكنا الثقافي والأدبي العربي، وبالتالي نرتب اختلافاتنا وأولوياتنا من جديد.
5
أظن أن ظاهرة الانقطاع عن الكتابة أو الخلود إِلى الصمت في الوسط الشِّعْري العربي لها أسبابها السوسيولوجية ولا علاقة لها بالضرورة بشعرية الكتابة في الغالب الأَعم. وسنكون في حاجةٍ إِلى دراسات واستطلاعات رأي علمية في الساحة الشعرية والأدبية العربية لنعرف لماذا توقف هذا الشاعر أو ذاك أو هذه الشاعرة أو تلك عن مواصلة الكتابة أو عن النَّشْر. وأكيد، سنكتشف أسبابًا أخرى غير “هروب الواقع” وشطحاته الغرائبية… وما إِلى ذلك.
من الواضح أن الكتابة عمومًا لم تَعُدْ فِعْلًا سهلًا بل أصبحت لها خطورة وكُلْفة في واقعنا العَرَبي. والفئات الاجتماعية التي تنحدر منها شريحة الشعراء والكُتَّاب تَضَرَّرَتْ كثيرًا، مادِّيًا ورمزيًا، شأن أغلب مكونات وأفراد التشكيلة الاجتماعية المتوسطة والصغيرة، مما ظل ينعكس على استقرار هؤلاء المبدعين وعلى وضعهم المادي، وعلى جودة إِنتاجاتهم الشعرية والإبداعية والنقدية والفكرية بالتأكيد، وربما حتى على أنساقهم الأخلاقية والمبدئية.
إن الاندحار الاجتماعي والاقتصادي في أغلب الأَقطار العربية أَلْحَقَ أَضرارًا جسيمة، من دون شك، بالمثقفين والمفكرين والنُّقَّاد والشعراء والكتَّاب والإعلاميين، وبالتزاماتهم الإنسانية والوطنية والقومية. وبالتالي حبَّذَا لو أن هذه المَأْزِقِيَّة كانت فقط بسبب هذه المفارقة التي أشرتُم إليها بين واقع الكتابة وغرائبية الواقع. وفي النهاية، فإن هذا الاختلال ليس جديدًا، فقد كان الشاعر المرحوم سركون بولص يقول “إِنَّ أقصى ما يَحدُثُ هو الواقع”، ويقصد ما يحْدُثُ من أحداث ترقى إلى مستوى الخيال. وفعلًا قد يحدث في الواقع أحيانًا ما لا يحدث إِلَّا في الخيال الروائي والشِّعْري وفي الأَفلام والأَحلام والحكايات. إن الواقع عنيد وغرائبي بالفعل، وقد قال لي مرةً الروائي الصديق حسونة المصباحي إِن ما تَنْشُرُه الشرطة العربية في مَحَاضِر الاتهام أكثر خيالًا مما أصبحنا نَقْرَؤُه في الكثير من الروايات العَرَبية!