لا رجال ولا نساء
– كتابتك حساسة ومشغولة بالتفاصيل الدقيقة، كتابة نسائية بامتياز.
– لكن، هل قرأت أعمالي بالفعل؟ هي لا تندرج تحت الأوصاف المذكورة، أقصد ليس على هذا النحو الإطلاقي. هذا بخلاف أنني لا أفهم ما يعنيه مصطلح “كتابة نسائية”.
– ما أدراكِ أنت؟ تم وضعك حصرًا في خانة المرأة الكاتبة وانتهى الأمر. لا يعنينا إن كنتِ تكتبين كتابة غرائبية أو فلسفية أو غير ذلك، وإن حدث والتفتنا إلى هذا، فستكون وسيلتنا في مدح كتابتك هي التهجم المبطن على كاتبات أخريات.
– أريد أن تُقرَأ أعمالي من داخلها، لا أكثر ولا أقل.
– أتتبرئين من كونك امرأة؟ أتتنكرين لقضايا بنات جنسك؟
– كل ما في الأمر أنني أرفض التصنيف انطلاقًا من جنسي البيولوجي. هويتي هي جماع ما كتبت، هي نتاج العلاقة الجدلية بل والشائكة أحيانًا بين شخصياتي الروائية رجالًا كانوا أم نساءً.
– ما تقولين مجرد سفسطة.
– أتعرف؟ كافكا كان محقًا حين قال إن الفنان شخص ليس لديه ما يقوله. على الفنان فعلًا ألّا يقول شيئًا مباشرًا، وأن يترك أعماله حمَّالة أوجه، مفتوحة على تأويلات متنوعة، يتركها تتحدث نيابةً عنه.
– لماذا لا تستشهدين سوى بكُتَّاب ذكور. أهذا اعتراف منكِ بأن الكتابة حرفة الرجال؟
– لا أفكر في الكُتَّاب وفقًا لجنسهم، أرى الجيدين منهم ككائنات إندروجينية، بل ربما حتى ككائنات ورقية. لكن لا مشكلة، ربما عليّ أن أصمت تمامًا وأفسح المجال لشخصياتي الفنية كي تحيا حياتها الخاصة.
– قد يكون هذا الحوار المتخيل كاريكاتوريًا، لكنه – مع ذلك – عاكس لنوعية الأحكام والأسئلة الاتهامية التي تُحاصَر بها المرأة الكاتبة؛ لدرجة تشعر معها أحيانًا أن المطلوب منها أن تظل في موقف الدفاع عن النفس أو التبرير لخياراتها وانحيازاتها الفنية.
أستميح القارئ عذرًا إن بدت هذه المقدمة حانقة، في الحقيقة هي أبعد ما تكون عن هذا، فالأمر أصبح مسليًا لي مع الوقت، صار مادة للّعب والتخييل والتفكيك.
لقد اخترت هذه الزاوية نقطة انطلاق لكلامي عن “صورة الرجل” في أعمالي، لأنني وجدتها ملائمة لإلقاء الضوء على التمييز المضمر أو الناعم الذي تتعرض له المرأة الكاتبة حصرًا، إذ ثمة أسئلة نادرًا ما تُوَجَّه للكُتَّاب الرجال، لكنها تلاحق الكاتبات بلا توقف: لماذا بطلاتك من النساء؟ إن حدث وكانت الغلبة في رواياتها للشخصيات النسائية، أو لماذا راوي روايتك الأحدث رجل؟ إن اختارت راويًا رجلًا، في حين لن يُسأل كاتب أبدًا عن سبب أن معظم شخصياته ذكورية، وأظن أننا لن نصادف سؤالًا عن صورة المرأة في كتابات الرجل؛ بل سيكون الكلام –فيما يخص هذه النقطة والكثير سواها- عن صورتها في أعمال كاتب بعينه.
ويحضرني في هذا الصدد، نقاش عاصف حضرته قبل نحو عشرين عامًا عن صورة المرأة في أعمال نجيب محفوظ، كان ثمة كاتبات غاضبات مما اعتبرنه رجعية وتحاملًا على النساء في روايات صاحب “الحرافيش”، وجاءت الإجابة على ملاحظاتهن الحادة بأننا هنا أمام شخصيات فنية فردية ولسنا بإزاء نماذج ممثلة للنساء أو ناطقات باسمهن، والفن ينجذب إلى وينبع من المناطق الشائكة والشخصيات المظلمة، وبالتالي فشخصية فتاة ليل طيبة أو امرأة خائنة ذات شخصية مركبة أثرى بما لا يُقارَن من شخصية فتاة مهذبة رقيقة.
وهذا الكلام يمثلني إلى حد كبير خاصةً في جزئية أن الشخصيات الفنية أفراد لهم حياتهم وأفكارهم وتاريخهم الشخصي الحري به أن يكون مغايرًا لذلك الخاص بمؤلفهم، وليسوا ناطقين باسم جنس أو قبيلة أو شريحة كاملة، حتى وإن لمست تفاصيلهم وحيواتهم قلوب آلاف ممن قد يشعرون أن هذه الشخصية أو تلك تشبههم أو تعبر عنهم.
عندما بدأت الكتابة، قبل أكثر من ربع قرن، لم أنشغل كثيرًا باختلافي عن الرجل، ولم أفكر في نفسي بالأساس كامرأة تكتب، بل ككاتبة إندروجينية. مؤكد أنّي حاولت وما أزال أحاول أن أحقق تمايزي – كذات محملة بخبرات وتجارب وإرث يخصها – عن الآخرين رجالًا ونساءً، لكني لم أعتبر نفسي قط ممثلة لجنس أو لجماعة بعينها، بل حتى لم أعتبر نفسي – كروائية – ممثلة لأفكاري وحدها.
لم أطمح إلى تأنيث المخيلة أو العالم، بقدر ما طمحت إلى إعلان حيرتي المعرفية أمام عالم موسوم بالغموض والالتباس، ومع هذا رأى نقاد كثيرون في رواياتي تأنيثًا للعالم، وهذا يدل على أن للإبداع مساراته الخاصة ومساحاته التأويلية المتمردة حتى على قناعات كاتبه.
لا أسهر الليالي مؤرقة بالتفكير في سؤال الذكورة والأنوثة في الإبداع ولا في صورة المرأة أو الرجل في أعمالي، لكنّي أنام وأصحو وأنا أفكر في عمل أكتبه محاولةً تقمص منطق شخصياته وبلورة ملامحها، وألتمس طريقي ورؤيتي لكثير من القضايا والأسئلة الفنية عبر الكتابة وخلالها أي بالخبرة والتجربة العملية. وأنشغل أيضًا بالمساحات البينية بين الذكورة والأنوثة، بالكائنات الإندروجينية، أو تلك التي تعيش بيننا بهويات ملتبسة.
أزمة مريم بطلة روايتي الأولى وجودية ونفسية في المقام الأول، مثلها مثل أزمة أبيها يوسف التاجي، وإن كان الجد أحمد التاجي صاحب الحضور الطيفي في العمل طاغية، فزوجته الثانية زينب ند له ولا تقل عنه قوة وتحكمًا في مصائر الآخرين.
وفي “وراء الفردوس” الرجال والنساء في براثن نظام بطرياركي ضاغط ومانع للنمو سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمع ككل، غير أن للنساء دورهن في دعم هذا النظام الأبوي، فالجدة رحمة هي من تحميه وترسي دعائمه، في حين يعيش الجد عثمان على هامشه.
أما في “جبل الزمرد”، الموغلة في تأنيث العالم والمخيلة، يلعب الرجال أدوارًا أساسية حتى وإن لم تكن لهم الصدارة. فمحركات العالم والأحداث في هذه الرواية هن بستان البحر ونورسين وزمردة ومروج، لكن والد بستان هو من أهَّلها لدور الكاهنة المنوط بها إعادة الحكاية إلى أصلها ومن ثم إعادة توازن العالم، ووالد نورسين الحكيم فتح أمامها أبواب العلم وغرس فيها بذرة الفضول، وزمردة لم تكن لتبدأ رحلتها لولا ما تلقته من معارف على يد حكيم جبل قاف ولولا مرافقة بلوقيا لها، وكذلك كان الحال مع مروج في علاقتها بالطيف.
وفي “أخيلة الظل” ثمة علاقة شائكة ومركبة للبطلة مع أب طبع حياة ابنته كلها بالخوف والتوجس بسبب ركلة عنيفة أطاحت بتوازنها منذ كانت في الخامسة من عمرها، لكن علاقة هذه الابنة بأمها لم تكن أفضل حالًا.
ينطبق الأمر نفسه، بصورة مضاعفة على “بساتين البصرة”؛ روايتي الأحدث، إذ لا أبرياء فيها، معظم الشخصيات إن لم يكن كلها متأرجحا بين الخير والشر، وبعضها حتى جامع بين النسك وارتكاب الكبائر. لا فارق هنا بين النساء والرجال سوى في مستوى وعي كل شخصية مقارنةً بغيرها.
غير أن هذا لا يمنع أن أصادف، من وقتٍ إلى آخر، تأويلات تبدو منبتة الصلة بما كتبت، وإن كنت لا أعلق عليها لأن العمل، بعد صدوره، مِلك لقارئه لا لمؤلفه، وتعدد التأويلات وتنوعها، بل وربما حتى تناقضها، دليل ثراء أيّ عمل وعلامة على غنى طبقاته وتركيبه.
ومع هذا ذكرني السؤال عن صورة الرجل في أعمالي، بقراءتين تحديدًا لروايتين من رواياتي، الأولى تخص “وراء الفردوس”، حيث قرأت دراسة نقدية قبل سنوات عن صورة الرجل في كتابات المرأة، خلص فيها كاتبها إلى أن الكاتبات يقدمن صورة نمطية، تكاد تكون شيطانية للرجل، تظهره في صورة الظالم والقاهر والمغتصِب. تبدو الدراسة – ظاهريًا – موضوعية، يستند صاحبها في تحليلاته على روايات كتبتها نساء، وعلى إشارات وأحداث واقتباسات من هذه الروايات.
لكن – وثمة شياطين كثيرة تختبئ خلف “لكن” عادة – واقع الحال ونظرة متفحصة في الأعمال محل الدراسة، أو في بعضها على الأقل، يحكيان قصة أخرى قوامها فرض تأويلات بعينها للخروج بحكم حاسم؛ أقرب إلى حكم قضائي ضد كتابة المرأة على إطلاقها.
في تلك الدراسة، يشير هذا الناقد إلى واقعة اغتصاب في روايتي “وراء الفردوس”، ما دفعني إلى إعادة قراءة الرواية، وكانت قد صدرت قبل قراءتي لهذه الدراسة بسنوات ست. لا اغتصاب فيها، لكن يبدو أن البعض لا يمكنه التفكير في المرأة خارج نطاق كونها ضحية، أو مستقبِلة سلبية لشهوة الرجل؛ كائن بلا رغبات، وإن حدث وأظهرت رغبة ما أو تواطأت مع رغبة رجل فيها، فالتأويل الأسلم من قِبل هؤلاء يتمثل في أنها إما مغتصَبة بلا حول ولا قوة أو ربما عاهرة.
وحتى بفرض أنني كتبت عن رجل مغتصب، أيعني هذا وصم جنس الرجال بأكمله بتهمة الاغتصاب؟ أي منطق في هذا؟
أما الحالة الثانية، فتمثلت في تلك الجملة المقتطعة من مراجعة أكبر لأحدث رواياتي؛ “بساتين البصرة” على موقع “جوود ريدز”، وفيها تقصد القارئة العزيزة شخصية مجيبة زوجة يزيد بن أبيه “شخصية امرأة بروح مظلمة، أخذت حظها من ارتكاب الكبائر في الرواية لكن دون لحظة ندم، كأن الندم وأحاديث الضمير والتفكير في العاقبة والمنزلة هو اختصاص الرجال.”
توقفت طويلًا أمام هذه الكلمات، إذ دفعتني للتفكير من جديد في شخصيات الرواية، ونبهني هذا إلى أنني خلال عملية الكتابة، لا أفكر في الشخصيات وفق التقسيم البيولوجي المعتاد: ذكر وأنثى. أو للدقة لا أفكر في شخصياتي الفنية -كما سبق وذكرت – كممثلين لجنس ما. هم أفراد؛ مركبون ومن الصعب وضعهم في تصنيف واحد أو خانة واحدة، معظمهم تقع أفعاله في “ما وراء الخير والشر”، بتعبير نتيشه، الذي سبقه إليه جلال الدين الرومي.
وهذه الشخصية تحديدًا، لم تشعر بالذنب أو الندم أسوة برفيقيها؛ يزيد بن أبيه ومالك بن عدي النسَّاخ، لأن تاريخها وتفاصيل حياتها ومستوى وعيها مغاير لهما، هما المنتميان إلى المعتزلة والمتتلمذان على يد واصل بن عطاء، والمشغولان بسؤال القدر ومصير مرتكب الكبيرة في فكر الاعتزال. مَن لطالما نظر كل منهما إلى نفسه كعابد ناسك ثم سقطا في غواية الشر، كل على حدة وبطريقة مختلفة، في لمح البصر.
أيمكن ألّا يستوقف هذا شخصين مماثلين، ويدفعهما لإعادة النظر في كل ما يؤمنان به مع ما يستلزمه هذا من شك وندم وشعور بالذنب؟ فكرت مجيبة على طريقتها الخاصة، لكنها –كما تخيلتها – ذات دهاء على بساطة تكوينها الثقافي، وكانت تدري ما هي بصدده منذ البداية، هذا بخلاف أن لديها جانبها الإنساني أيضًا. عن نفسي، رأيت في شخصيتها الذكاء والقوة والمكر، ولم أحكم عليها بمقياس الخير والشر، أي لم أحاكمها، كما لم أحاكم شخصيتي رفيقيها.
ثمة شروط موضوعية وتاريخية وثقافية عديدة، أدت إلى أن يحظى الرجلان بفرصة تكوين ثقافي مركب مقارنة بها؛ هي المرأة الفقيرة التي لم تنل حظًا كافيًا من التعليم. لكن هذا لا يعني على الإطلاق أنها أقل منهما أو حتى أكثر شرًا منهما.
لم تندم مجيبة، لكن أيعني هذا أن الندم والتفكير في العاقبة والمنزلة في “بساتين البصرة” اختصاص الرجال فقط؟ ماذا عن شخصية ليلى التي يعد الندم قوام حياتها وعمودها الفقري؟ وماذا عن بيلّا التي لا يكف عقلها عن التفكير والتمحيص في كل شيء والسخرية من كل ما يقابلها؟
غنيّ عن القول إنني لا أرجح رؤيتي للشخصيات على رؤية القارئة العزيزة لها، ولا إنني غاضبة من تأويلها لتصرفات شخصيات الرواية، على العكس أنا ممتنة لما كتبته لأنه حفزني على النظر إلى العمل وشخصياته من زاوية جديدة ومختلفة.
في النهاية، لا أنكر أن ثمة روايات لكاتبات تقدم صورًا نمطية للرجل بالفعل، وهناك من يكتبن كما لو أنهن قاضيات أو محاميات موكلات للدفاع عن النساء في المجمل ومهاجمة الرجال في المجمل، وهذا منافٍ لمنطق الفن، ومن المهم أن يُناقَش هذا بموضوعية وبتخصيص، لا أن ينسحب إلى حكم عام مسبق على كتابة المرأة، من الضروري بالمثل تجنب التعامل مع ما تكتبه النساء باعتباره “غيتو” خاصًا أو جدولًا هادئًا متفرعًا من نهر الكتابة الأوسع والأكثر تدفقًا.