اليد واليد الأخرى
في تأمّل صورة إينياس، بطل طروادة، هاربا من نيران الحرب حاملا والده على ظهره، يطرأ السّؤال: في نطاق “حفظ النسل” وتجديد دمائه، هل تحمل المرأة أمّا ما على ظهرها؟ أم تكتفي برعاية الأب وابنه ليطول عمرهما أكثر؟
لقد نجا الأب العجوز من الموت في هذه الحرب بينما ماتت الزّوجة أي العنصر الثانويّ في المشهد والقابل للتعويض. سيظلّ هذا الأب رمزا للذّكوريّة المهيمنة المتوارثة والمتجدّدة عبر العصور ماثلة وحيّة حتى اليوم، تحمله المرأة في بطنها، والرّجل على ظهره ويشتركان معا في رعايته وتغذيته. وكلّما وقعت محاولة لقتله أو اغتياله أو حتى تجاوزه ببضع خطوات فشل المشروع واستعاد سلطته من جديد. وسنفتح قوسين هاهنا، لنشير إلى ما ورد في قاموس الكتاب المقدّس من أنّ إينياس اسم يونانيّ معناه “حمَد”.
مقابل أب واحد (آدم محمولا على ظهر “حمد” من جيل إلى جيل) مُجسّدا، في عالمنا العربي الإسلاميّ، في صوَر متنوّعة ومعدّلة بحسب السياق التاريخي والثقافي والسياسي الذي يتحرّك، يوجد فيما أرى ثلاث أمّهات هنّ حوّاء وعشتار وشهرزاد، محمولات ليس على ظهر المرأة الكاتبة، بل في رحم الذاكرة العميقة أين يتخلّق الكون السّردي في بداياته قصّة ورواية من “عمَه” التخييل فتولد شخصّياته حاملة الجينات الوراثيّة للأمّ الساكنة في رحم الذّاكرة الأنثويّة والأب المحمول على الظّهر، شخصيات يعيد الكثير منها مؤنّثة كانت أو مذكّرة، تجديد الذّكوريات القديمة، أو إعادة إنتاج نماذج حديثة منها حتى في المضامين التي تهدف إلى كشف المستور وإنطاق المسكوت عنه.
من ذلك، مثلا لا حصرا، كثرة العناصر المشتركة بين الشخصيات النسائية المستلهمة من النموذج العشتاريّ، فهنّ غالبا بجمال جسديّ لافت، مثقفات متحرّرات يتمسّكن بحقّهنّ في ممارسة الحبّ خارج منظومة القيم الأخلاقية والمجتمعيّة السائدة والمحرّمة لحريّة العلاقات خارج إطار الزواج، لكن بسريّة وتكتّم في تناقض صارخ بين مقولات المرأة عن الحرّية والمساواة في الفضاء العامّ الحقوقي والسياسي والثقافي، وصورتها هي نفسها في الفضاء الخاص، الحميمي، إذ لا يعلم بتلك العلاقة “الليلية” التي تذكّر على نحو ما بنساء شهرزاد، إلاّ القارئ الذي تفتح له الكاتبة غرف النوم ومخادع العشاق واضعة بذلك حدّا لعادة التلصّص على النساء، واستراق النّظر إليهنّ من الأقفال والحمامات وجروح الأبواب المغلقة.
نساء يُخلقن من طينة اللغة المنكّهة بنفس شعريّ أنثويّ لكن على مقاس ما يحبّه الرّجل “القنّاص النخبوي” العصريّ في المرأة العصريّة، تمنحه المتعة المرحة في سريّة وإنكار لا يهدّدان استقراره العائليّ أو المهنيّ، وبشكل لا يحرّف مشروعيّة نضاله إلى جانبها “نهارا”. ومثل هذا النمط من المضامين وهذه الفئة من الشخصيات الروائيّة، لا ترفع مستوى النّقاش إلى مرتبة النّقد والنقد الذاتيّ وإعادة بناء نموذج المرأة المتحرّرة في علاقتها بذاتها وبالآخر كشريك في الوجود وطرف رئيسيّ في الحوار بينهما داخل النصّ وخارجه، بعيدا عن الطرّح الروائيّ بأقلام نساء ورجال على حدّ سواء الذي كرّس كيان المرأة كجسد جميل كما لو كان وثيقة إثبات قصوى لهويّتها الأنثوية، وضيّق أفق المساواة إلى حريّة الحياة الجنسيّة في نوع من “حركة تجديد” لـ”مواسم التأنيث” القديمة، عبر استعادة حديثة لغة وبناء ومضامين لصورة المرأة في حكايات شهرزاد عن “كيد النساء”، والمكتوبة بأقلام الذّكور.
عودة على سيرة الأمهات أو الأيدي الخفية التي تحرّك أقلام بعض الكاتبات، نقرأ لابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” أنّه وعند أوّل النزول إلى الأرض، “ذبح آدم كبشا وأخذ صوفه فغزلته حوّاء ونسجه آدم فعمل لنفسه جبّة ولحوّاء درعا وخمارا فلبسا ذلك”. وتروي الميثيولوجيا الشرقية أنّ عشتار الكبرى الوالدة وربّة الخصب والجمال هي أيضا تعرف بـ”الربّة النسّاجة”. المفارقة بين هاتين المرجعيتين هي مركزيّة المرأة عشتار في الكون الميثيولوجي وهامشيّة المرأة حوّاء في القصص الديني والتراث الحضاري للمنطقة العربية الإسلامية، بينما المشترك هو فعل النسج الذي يُنسب في القصص الميثيولوجي إلى المرأة/عشتار ممثّلة في رحِمها الخلاّق يتسرّد منه الخلق تباعا وبانتظام طبيعيّ محكم. بينما يُرجع في التراث الديني إلى آدم وبه أسدل على حوّاء درعا وخمارا تاركا إياها في الدّاخل/البيت أرضا للحرث والإنبات، على أن خصّها بالمقابل بمهمّة الغزل، غزل الصوف على محور من خشب أو نحوه وغزل الكلام على محور اللسان، كلاما غير صالح للاستعمال النّفعي أو الأخذ به وقت الجدّ، ويحتاج في المحافل الرسميّة إلى قول امرأة أخرى ليعادل قول/شهادة رجل واحد. بينما نراه ناسجا أنواعا مختلفة من جُبَب السلطة، ساردا التاريخ والحروب والأفكار والقصص وكاتبا بقلمه كلّ السرديّات السّالفة.
هل شهرزاد، آخر الأمهات زمنيّا، هي “مسيح النّساء” المخلصّة و”الرّسولة” التي أخرجتهنّ من ظلمة الليل والحجب إلى نور الحرية والحياة؟
“نسج” في اللّغة العربيّة هو أحد معاني “سرَد”، فسرد القصّة هو نسج الأحداث والوقائع وفق تتابع وانتظام معيّنين وذلك شفهيّا باستعمال عضو اللّسان (ومن أسمائه لغة: المِسرد) أو بلسان القلم. وسرْد الدّروع والسترات (وهي هنا بمعنى الألبسة الجلديّة الخاصّة بالمحاربين، على خلاف درع المرأة الذي هو ثوب من صوف أو نحوه) هو نسجها أو ثقبها باستعمال المِسرد وهو الإبرة/أداة الثقب وكذا أداة سرد الملابس. غير أنّ حوّاء لم تكن الوحيدة المركونة إلى الخلف والظلمة، عشتار أيضا “سيّدة الرؤى” ما لبثت أن أزيحت بدورها عن موقعها المركزيّ في الكون لصالح الآلهة الذّكور، ومن سيتسرّد بعدئذ من صلبهما على صورة إينياس/حمَد أو آدم أو شهريار الأخير.
ولم يبق من مجد “سيدة الحكمة الليلية الخافية”، و”سيدة الإلهام” سوى جراحات “البغيّ المقدّسة” التي سقطت عن عرشها واختزلتها الذّكوريّة المهيمنة في جسد جميل يتقلّب على “سرير اللّذة”، الذي فقد بدوره رمزيّته وصار مخدعا للغواية ومخبأ للحيّة الماكرة، يُستعمل في محلّ الجزاء الأوفى أو في مقام الانتقام الفعّال، وسلاح حرب نفسيّة أو دينيّة أو سياسية أو بيولوجيّة، ومادّة استهلاكية بحسب السوق التي تروّج له وتضع بالتالي قوانين استعباده المتجدّدة.
في رواية “موسم التأنيث” لبسمة البوعبيدي (صدرت في 2006) تقطع مريم بسكّين من مطبخها عضوها التناسليّ ورحمها ويُلقى بهما بعدئذ إلى الكلاب السائبة كحركة احتجاجية قصوى على الظّلم المجتمعي للمرأة، وعلى شرعيّة الاغتصاب الزوجيّ الذي تبيحه مؤسسة الزّواج والأعراف المجتمعيّة المغلقة للأوساط الريفية بالجنوب التونسيّ الذي تحرّك فيه قلم الكاتبة. وهي الأوساط نفسها التي دارت فيها أحداث رواية “يبكيه الحمام” لحفيظة القاسمي (صدرت سنة 2018)، لكن في ظرفيّة تاريخيّة سابقة، حيث تمرّدت شابّة جميلة عاشقة على الأعراف التي كانت أشدّ فتكا من سمّ العقارب وتزوّجت بمن تحبّ. إنّها “عائشة أو عيشة الصّغيرة الوحيدة التي كسرت القاعدة”. غير أنّ ما حدث هو أنّ حربا ضروسا دارت بين المسلمين بسبب حادثة خطف الحبيب محمّد لعائشة الحبيبة. ولئن نجت عائشة من القتل على يد إخوتها الذّكور، فقد أنجبت ذكورا مشوّهين خلقيّا. وكلاهما، بتر عضو التأنيث وإنجاب ذكر مشوّه شكل من أشكال “الإخصاء”، أيّ محو لأنوثة المرأة وخصوصيتها، وتشريع لإقصائها من الذِّكر والفاعليّة.
في المقابل تتألّه الأنوثة أو تكاد في رواية “العراء” لحفيظة قارة بيبان (صدرت في 2012)، حيث تُرسم شخصيّة دجلة بحبّ وتوهب جمال فينوس، وتُنعم عليها الكاتبة بموهبة الإبداع كتابة وقراءة وحياة وبزوج رياضي وسيم ومحبّ. وفي الأثناء تقف البطلة أمام حقيقة موتها المؤكّدة بسرطان يقرض جمالها الجسديّ الذي أطنبت الساردة في وصف محاسنه، ويفرغها بالتالي من مقوّم من أهمّ مقوّماتها كأنثى، فتحاول بكلّ ما أتيح لها من جهد، أن تزوّج زوجها من أختها لأجل ما رأت فيه مصلحة لأبنائها. وردّ البطلة لأختها على زوجها بعد فقدانها لصلاحيّتها كزوجة وأمّ ما هو سوى حالة تسلّل من الشّباك للمنظومة الأبويّة التي تقضي بردّ الأرملة على شقيق زوجها باعتبارها جزءا من الميراث الأسريّ الذي يجب ألاّ يذهب إلى غريب، وذلك بردّ الأخت على زوج أختها أي الانتقال بالمرأة من الإرث العائلي الذي ينقل من يد إلى يد شقيقة إلى عنصر قابل للتعويض وجاهز لسدّ الشغور. تنجح البطلة في تحقيق مرادها مجبرة زوجها على طلاقها بعد أن تأكّدت (بسعي جدّي منها) من انعدام حالة استثنائيّة يدخل منها الفقه ليحلّل الجمع بين الأختين لرجل واحد، فتزوّجهما تحت عينها وبرعايتها ويقضيان ليلتهما الأولى بمنزلها، في الغرفة المجاورة لغرفتها. تبرع اللغة العاطفية المشحونة بالمشاعر والشعريّة في نقل ألم اللّحظة وقساوتها على دجلة عندما كانت تئنّ محتضرة فيما يتناهى إليها جليّا وبوضوح اهتزاز السرير تحت الزّوجين.
كانت الكاتبة، في اعتقادي، جريئة وصريحة في طرح مسألة مماثلة في نصّ روائيّ يرفع الغطاء عن وضعيات مماثلة كثيرة تجري في أوساط المثقّفين دعاة الحرية والمساواة ومن ضمنهم الكاتبات أنفسهنّ من خلال نموذج دجلة الأمّ والزوّجة والروائية التونسيّة الثوريّة. إحدى الأمهات التي أعتقد أنّها تسكن في الطبقات الخفيّة لذاكرة دجلة هي حوّاء التي يبدو أنّها “أب” آخر لا يموت وأنّ بالإمكان إخضاع آدم/الرّجل لسلطة المرأة التي تصير مركز القرار وسيّدة نفسها وعالمها إذا كان “الخضوع” لصالحه، وكان مجرى السّرد يصبّ في تعزيز مركزيّته الذّكورية بشكل لطيف ودون عناء منه.
الأمّ الوحيدة بين الثلاثة المذكورات سلفا، التي امتلكت سلطة فعليّة وناجعة إزاء سلطة الذّكر القاهرة ممثّلة في شهريار قاتل النساء صاحب الجُبب الثلاث (السياسية والدينية والأسريّة) هي شهرزاد الأمّ الملكة التي أنقذت بنات جنسها ليس فقط من القتل، بل من امتلاك أجسادهنّ بالزّواج ليلا وقبض أرواحهنّ نهارا عقابا لهنّ على خطيئة سابقة ارتكبتها زوجة الملك ومن ورائها “خطيئة حوّاء” المؤسسة لهذا القتل المادّي والرّمزيّ والمبرّرة له انطلاقا من القوانين التي سنّها آدم حال نزوله إلى الأرض، وصولا إلى يومنا هذا في البلاد العربية الإسلاميّة.
فهل شهرزاد، آخر الأمهات زمنيّا، هي “مسيح النّساء” المخلصّة و”الرّسولة” التي أخرجتهنّ من ظلمة الليل والحجب إلى نور الحرية والحياة؟
من الشّائع أنّه كلّما وُلدت كاتبة في المنطقة العربية نُسبت إلى شهرزاد، تلك “الراوية القويّة” التي وظّفت سلطة الحكي في مواجهة سلطة الموت، وجعلت اللسان/أداة الحكي السّلاحَ الندّ للسّيف/أداة القتل وصولجان السّلطة الذكوريّة المهيمنة. بيد أنّ شهرزاد حكت، وفي إطار زمنيّ محدّد للقول المباح الذي هو اللّيل بكلّ شحناته الرمزيّة المختلفة، ولم تكتب. الرّجل هو الذي كتب (عبدالمجيد جحفة “سطوة النهار وسحر الليل”). بل وتعتبرها الكاتبة الإيرانية أفسانة نجم أبادي “شخصيّة غير مناسبة للنهوض النسويّ برغم المحاولات المتكرّرة من أجل إعادة تصوير شهرزاد بوصفها أمّا نسويّة رياديّة للشّخصية النسائيّة المتكلّمة عن الكاتبات والروائيات المعاصرات”، وذلك للتناقض الحادّ بين شخصيّة شهرزاد “المرأة الطّيبة، الشافية، الزوجة الصالحة، الأمّ، الراوية القويّة” وبين “مضمون حكاياتها” عن “كيد النساء” الكارهة للنساء (انظر “الرجولة المتخيّلة – الهويّة الذّكرية والثقافية في الشرق الأوسط الحديث”).
على طرف نقيض من شهرزاد “ألف ليلة” ولدت “صحراء” توجان. شخصيّة مفعمة بالحياة والحيويّة والقوّة الأنثويّة كربّة أسطوريّة، تقاوم عطش الأرض للماء والأرواح بالحبّ والحلم وتُجسّد “حكاية الأرض بمن عليها وما عليها، حكاية الأرض التي تشكل الإنسان ويشكلها، تخلقه ويخلقها، تهبه الماء والعطش، الفرح المشتعل والحزن الأسود، العشق والحقد”. لكن، ولعلّ السياق الزّمني هو الذي فرض ذلك، صحراء لم تكتب. “سلطان” حبيب صحراء الذي عاد من كندا هو الذي كتب، هو اليد التي استعارتها الكاتبة لسرد قصّة توجان المرأة والأرض. (“توجان” رواية للآمنة الرميلي – 2016).
إنّ الكتابة مستوى متقدّم من ممارسة المرأة لحريّتها. يذكر باسكال كينيار في كتابه “الجنس والفزع” أنّ الإله “ليبي” (LIBER) “كان أيضا اسم الكتب”، وأنّ الامبراطور الروماني كاتون قد منع الكتابة عن النساء لأنها “استيطان هذيانيّ في روح الآخر” “وانقطاع عن العالم المعروف”، أي الذّهاب بعيدا جدّا خارج نطاق السلطة الذكورية بمختلف تجلياتها، نحو امتلاك سلطة مضادّة لكلّ أشكال القتل الماديّ والرّمزيّ هي سلطة الكتابة. إنّها استدعاء رسميّ موثّق روائيّا ومباح قرائيّا لكلّ ما سكتت عنه شهرزاد، عند كلّ صباح وما لم يُتح لها أن تقوله بعد صياح الدّيك، عندما تنكتم تلك الصّرخة الصامتة في القلب الأنثويّ المعذّب، والتي عبّرت عنها، بعد قرون تلت، الكاتبة المصرية عنايات الزّيات التي انتحرت سنة 1963 تحت ضغط الواقع الصّعب الذي لم تحتمله، ولأنّها كما قيل عنها “ولدت في الزّمن الخطأ” بقولها “في حاجة إلى يد تخرجني من داخلي”.
لكنّ الخروج من الدّاخل لا يتمّ فقط بعوامل خارجيّة، أي على معنى “أعطني حرّيتي، أطلق يديّ”، كما لا يعني استعارة عين امرأة أخرى مهيمنة بدورها نائمة تحت الطبقات الجيولوجيّة للذّاكرة الجمعيّة لترى من خلالها نفسها وشقيقتها في الحلم والمعاناة، بل أن ترسم نفسها وشركاءها في العالم نساء ورجالا بيدها المفتوحة على العالم لا بيده القابضة عليها. لقد قتلت الزبّاء ملكة تدمر نفسها حتى لا تقع فريسة للأسر جارية أو ملك يمين في قصر العدوّ أو أن تقتل على يده القاهرة، فخلّدت بانتحارها مجدها في جملة: “بيدي لا بيد عمرو.”
خاتمة وقصتان لفتح باب النقاش
في إحدى القصص الموجّهة إلى الأطفال تحت قلم كاتبة عربيّة، سألت البنت أمّها “لمَ تبدين صغيرة إلى جانب والدي؟” فأجابت الأمّ “لأنّه رجل وأنا امرأة.”
في رواية “إله الصدّفة” للكاتبة الدنماركيّة كريستن تورب (صدرت في2011 ثمّ مترجمة في 2013 عن “إبداعات عالمية”) تذهب نانا إلى زميل وصديق عمل قديم بحثا عن فرصة عمل في مجال اختصاصها في إدارة الأعمال بأسواق المال العالميّة. بعد محادثة اختباريّة يختم صديقها باتريك اللقاء قائلا “التحدّث معك لا يشعرني بأنّي أتحدّث مع امرأة إطلاقا، قال بتفكير. لديك ذكاء ذكوريّ واضح”. ما لم يقله باتريك مباشرة وما سيُفهم من السياق اللاحق ليس أنّ الذّكاء حكر على الذّكور على معنى “النساء ناقصات عقل”، بل أنّ الذّكاء ذكاءات في الواقع، وأنّ المرأة إذ تقدر على منافسة الرّجل في أحدها (يُقصد به هاهنا مجال المال والأعمال والتفوّق العلمي) فإنّ مجال الذّكاء الخاصّ بها هو الأنثويّ (المقابل للذّكوري) ممثّلا في الذّكاء الجسديّ. هذا النوع من النقاش الذي “تديره” كاتبة غربيّة، كما نلاحظ، ومن خارج النضال النسويّ يتمّ بين مواطنين يثق كلّ منهما في نفسه وفي الآخر، من “عشّاق الحريّة” الناجحين المستقلّين المتكافئين في الحقوق والواجبات وفرص إثبات الذات في مختلف المجلات، وفي عالم متقدّم مرفّه باهر يتحرّك في “أقفاص الزّجاج” الباذخة، وغير بعيد ثقافيا وحقوقيا “عن تمثال الحرية العملاق المنتصب أمام نيويورك في عرض البحر (استلهم صانعُه) عشتار، سيدة الشعلة المقدسة، مؤكدةً وجودَها في قلب أعتى ثقافة ذكوريّة بطريركية عبر التاريخ.”
إن وضعيّة المرأة الآن وهنا تشهد انتكاسة حقيقيّة مخيفة على الصّعيد الحقوقي والاجتماعي. شتاء يخيّم بظلماته على سماء "الربيع العربي"
ولعلّ النفس العشتاريّ في بعده الإيجابيّ البنّاء هو ما خلق الجوّ العامّ للنقاش داخل هذه الرواية. نقاش بُني على الوضوح، والصدق والاحترام المتبادل: وضوح باتريك/الرّجل في التعبير عن رغبته في امرأة مساوية له وربّما أكثر في الكفاءة العلميّة والذّكاء المهنيّ، لكنّه يرغب أيضا في “الاستفادة” من جمالها الأنثويّ الذي لم تطرحه كورقة من بين الوثائق الضّرورية المودعة بملفّها المهنيّ. وصدق نانا/المرأة في الاعتراف بينها وبين نفسها أنّها لم تكن على طبيعتها في اعتمادها الكليّ وحصرا على ذكائها الذّهني وخبراتها العلميّة على حساب ذكائها الجسديّ والعاطفيّ، والاحترام المتبادل بينهما من جهة “لم تستطع نانا أن تجزم إن كان هذا حكما ساحقا أم إطراء عظيما.
لقد تقلّصت تحت أشعّة نظرة باتريك السينيّة وشعرت بأنّها مُعرّاة. وهو احترام، من جهة ثانية للقارئ، يُدعى إلى المشاركة في النقاش حول الاختلاف بين المرأة والرّجل وخصوصية كلّ منهما دون أن تتحوّل الساحة السرديّة إلى بطحاء “حرب” باردة تُسحب فيها أسلحة أيديولوجيّة وأخلاقيّة ولغويّة ويتطاير فيها رصاص التّهم بين الذّوات المقيمين في مساحة ضيّقة واحدة من العالم.
إنّ النقاش المطروح على الكاتبة العربية اليوم وبشكل أشدّ إلحاحا انطلاقا من المنجز الروائيّ الذي راكمته الكاتبات العربيات ذهابا نحو المستقبل، وفي منطقة الشّرق التي وهبت الثقافة الغربيّة عشتار وشهرزاد وغيرهما واحتفظت لنفسها بنسخة مشوّهة منسوجة على المقاس من حوّاء، هو أيضا حول طبيعة عدالة توزيع الذّكاء بين الجنسين ومجالات تصريفه دون تمييز سلبيّ يستهدف النساء، لكن بما يتجاوز الحقّ في المساواة بحسب ما ترى جوليا كريستيفا “لم تعد تُـخاض المعركة من الآن فصاعدًا في ســعي إلى المــســاواة؛ فـالمعركة تـنشـد الاختلاف والخصوصية (…) إن الاختلاف الجنسي، البيولوجي، الفسـيولوجي المتصل بـإعادة الإنــتـاج، إنما يـتـرجمُ اخـتلافًا في علاقة الـذوات بـالعَـقـد الـرمزي الـمتـمثـل في الـعقـد الاجتماعي (…) وهو يُـزاوج بين الجنسي والرمزي ســعـيًا إلى العـثور في هذه الـمـزاوجة على ما يـميز الأنثــوي في البداية، وكــل امـرأة في نهاية الأمـر” (نقلا عن محمّد برادة – مجلة الفيصل).
إن وضعيّة المرأة الآن وهنا تشهد انتكاسة حقيقيّة مخيفة على الصّعيد الحقوقي والاجتماعي. شتاء يخيّم بظلماته على سماء “الربيع العربي”، في استعادة خطيرة لأشكال الحجب والتغطية والإقصاء القديمة بوسائل حديثة، وارتفاع الأصوات التي تختصرها في وظيفة الآلة الجنسية للمتعة والإنجاب، مقابل مشاريع مضادّة تصّرف فعل الحريّة نحو ما يحوّل الجسد نفسه إلى سلاح فعّال ومادّة لذيذة للاستهلاك في خدمة مشاريع أيديولوجية واستهلاكية معولمة يخوض بها الذّكور حروبهم التي لا تعنيها في شيء بقدر ما تعيد إنتاج ذكوريّات ناعمة ومقنّعة يقع تعديلها جينيّا وتكنولوجيّا لتكون أكثر عتوّا وأشدّ هيمنة.