رمزية الإرث وحيوية الذاكرة لدى العراقيين القدماء
أثير مؤخرا الكثير من النقاش حول الخطط الموضوعة بشأن إعادة إعمار جامع النوري في مدينة الموصل، التي طالها الدمار جراء الإرهاب والحرب عليه. وقد طرحت إثر ذلك مسابقة معمارية عالمية تبنتها منظمة اليونسكو لاعتماد تصميم جديد لبعض مرافق الموقع، ففاز تصميم لم يراع خصوصية الموقع الأثري والثقافة المعمارية الموصلية العريقة، وانقسم أهل العراق بين مؤيد ومعارض له. تبنى التيار المعارض أساتذة معماريون مختصون بالتراث المحلي، ويبدو أنه لم يجر الأخذ برؤاهم بشكل أو آخر، وجوهر الاعتراض كان غياب التركيز عن روح المكان وتفاصيله، كون الأمر متعلق بأثر ثقافي متميز ولا بد من مراعاة خصوصيته.
إن الاهتمام بالحفاظ على التراث الثقافي لا يتعلق بتمجيد الماضي أو بإقحامه قسراً على مسرح الحاضر، وإنما إشاعة الوعي به عند أفراد المجتمع بطريقة منهجية ومبسطة، لكي يكون بناء حاضرهم راسخًا متينًا، كون الماضي رافده الأساس وبمنزلة مدماك لبناء المستقبل، فالأمر لا يتعلق بتقديس الأثر بحد ذاته وإنما باحترامه وفهمه جيدا ضمن سياقاته كجزء من ذاكرة جمعية، هي عرفًا إحدى العناصر المؤسسة للهوية الوطنية، والرافد المغذي لمقومات بناء الامة، هكذا ينبغي فهم التراث الثقافي في سياقه الاشمل.
في قول مأثور لعالم السومريات الشهير صموئيل نوح كريمر (1897 – 1990) إن “التاريخ بدأ من سومر”، شهادة ولا أصدق من عارف أفنى عمره بين ألواح سومر، ستكون بمنزلة المبتدأ والمنتهى للمقال.
عُرف عن أهل العراق القدماء اهتمامهم بإرث أسلافهم، فقد أدركوا جيدا أنهم ورثة بلاد عريقة ذات تاريخ مجيد، أرست الآلهة أسسها بحسب أساطيرهم، فأنزلت الملوكية من السماء على حواضر الحضارة الأولى وسوّرت مدنها وباركتها، ولذا أصبح التعامل مع الإرث واجبا مقدسا على أبناء الشعب إرضاءً للآلهة، سنقوم بسرد بعض من شواهد أرشيفنا الآثاري الغني تتعلق بمكانة الإرث في البناء الفكري.
نصوص الفأل – الشومّا آلو
وردتنا قائمة طويلة من النصوص المتعلقة بطقوس الأدعية المختصة بترميم الأبنية من العصر البابلي القديم والتي استمر العمل بها حتى العصر السلوقي، ترد فيها تعاليم تُعرف بالشومّا آلو (وترجمتها : أذا مدينة في الأعالي) وهي تشمل الأبنية الخاصة بالسلطات الدينية والسياسية وحتى بيوت بعض الخاصة من الناس.
• إذا رمم شخص معبدًا، فسيحالفه الحظ الجيد.
• إذا هدم شخص معبدًا، فسيبتلعه النهر (طقس عراقي قديم، يُستخدم للحكم على السيء من الناس).
• إذا نقل أحدهم هيكلًا، فسينتهي هذا الشخص حطامًا.
• إذا رمم أحدهم مُنشًأ قديمًا، فإن إلهه سيكافئه.
هذا النص مثال لقائمة طويلة من نصوص كانت تتلى كجزء من طقس حماية للمنشآت وتماثيل الآلهة والملوك، ترد بها تعاليم واضحة وصريحة باتباع منهجية محددة لتفادي قلق الآلهة وانزعاجها.
هكذا وصايا يحيط بتفاصيلها كهنة مختصون يدعون “بارو”، ولديهم خبرات بحسابات المساحة والتخمين الإنشائي، وهم يقومون كذلك بمهمة التدقيق بشأن اللقى والعاديات التي يجري العثور عليها في طبقة الاسس القديمة من احجار وشواهد أسس وآجرات، فهذه جميعها تعتبر عرفًا الشواهد المادية لذاكرة المكان، والاهتمام بالحفاظ عليها سيجلب رضا الآلهة وقبولها والمكافأة بالحظ السعيد للأرض ومن سيسكنها.
طقوس صيانة البنايات القديمة
في أحد النصوص العراقية القديمة، والتي ترقى إلى العصر السلوقي (دام من حوالي 312 الى 238 ق.م) بعيد وفاة الإسكندر المقدوني في بابل (عام 323 ق.م)، يرد تفصيل لطقوس تتعلق بالبناء و العمارة وكيفية التعامل مع المنشآت القديمة الدينية منها كالمعابد والحكومية كالقصور، ويبدو أن هذه الطقوس قد تناقلتها الأجيال وسنجد جذورا لها ترقى إلى العصور السومرية في مطلع الألف الثالث ق.م، ينص الطقس على أن يقوم كاهن التعزيم الخاص المدعو الكالوّ (Kalo) برفع طابوقة من المعبد القديم ووضعها في مذبح المعبد الجديد وخلال تلك العملية تجري تلاوة تراتيل قديمة لآلهة البناء والتشييد كولّا (Kulla) أو إلى بنّاء انليل العظيم (šidim galden-líl-lá-ke4)، وبعضها كان يدون باللغة المقدسة للمعابد (السومرية)، الفكرة كانت بالإبقاء على المنشآت القديمة المكشوف عنها ومعاملتها بحذر شديد عن طريق حفظ ما تبقّى، ومن ثم البناء من حوله أو عليه، وفي هذا دلالة على قدسية المُنشأ القديم. هكذا طقوس كانت تسبقها بالعادة عملية مسح دقيقة للموقع بعد إجراء الكشف من قبل الكاهن الخبير المختص (البارو)، كي يجري تفادي الدمار والضرر ما أمكن.
كان أهل البلاد على دراية وفهم لهذا الأمر بدليل كميات النصوص التي عُثر عليها، والتي تفصّل لهذا الأمر بشكل صريح، أن التراكم التاريخي الكبير الحاصل في بلاد النهرين، أورث الشعب بيئة ثقافية غنية دفعت أبناءه إلى الاهتمام بما توارثوه، فوضعوا نصوصا تفصيلية وابتدعوا طقوسًا خاصة لتطمين الآلهة بحسب اعتقادهم.
البناء والترميمات في مدينة أور
قام المنقب البريطاني تشالرز ليونارد وولي، المكلف ببعثة التنقيب المشتركة للمتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا، في الأعوام (1922 – 1934) بحفريات واسعة في مدينة أور العراقية القديمة (تل المقير) في محافظة ذي قار الحالية، وكانت شاملة إلى الحد الذي جعلنا نتعرف على ما كان يجري في هذه المدينة على مسافة زمنية تقرب من (1500 عام) من عمليات ترميم مستمرة للمنشآت والأبنية في حي المعابد على وجه الخصوص، حيث الزقورة الشهيرة (واسمها إي- تيمين- ني – كور) التي شرع ببنائها الملك أور- نامو مؤسس سلالة أور السومرية الثالثة التي دام حكمها من 2113 – 2005 ق.م، والذي أتم بناء طابقها الأول على أسس مصطبة كانت تسبقها بقرون، وربما استكمل بناءها ابنه شولجي من بعده.
وعلى مسيرة ما يربو من 1500 عام، حرص ملوك العراق القديم من بابليين وآشوريين على وضع لمساتهم بأعمال الترميم والتجديد على مرافق الحي المقدس المختلفة، وتركوا نصوصا حول ما قاموا به، فنجد ذكرا لأعمال ترميم على الزقورة قام بها الملك الكشّي كوركالزو من العصر البابلي الوسيط (1595 – 1150 ق.م) تلتها أعمال ترميم على المعابد قام بها الحاكم الآشوري في أور سين- بلاطو- أكبي، أعقب ذلك رعاية خاصة تكفل بها ملوك بابل الحديثة، فنجد آجرات مختومة باسم الإمبراطور البابلي نبوكودوري أوصّر الثاني (نبوخذنصر في العهد القديم، 605 – 562 ق.م) في أرجاء حي المعابد، تشير إلى أنه قد رمم القسم الأكبر من أبنية حي المعابد وسوره بالجدار المقدس (واسمه إي- كيش- شر- كال) وتلت ذلك أعمال تشييد وصيانة لا تزال آثارها واضحة نفذها نبونئيد اخر ملوك بابل الحديثة (555 – 539 ق.م)، فهو الذي جدد الزقورة وعلى النمط القديم مع بعض الإضافات الواضحة في الواجهة الأمامية والسلالم الجانبية، وقد عُرف عن نبونئيد ولعه بالبحث عن القطع الأثرية القديمة وتجميعها ولذا مُنح لقب الآثاري الأقدم في التاريخ، ولا أدل من هذا الشغف أنه قد خصص غرفة في أحد المعابد لتجميع العاديات، وكانت ابنته الأميرة الكاهنة العظمى في أور (بيل شالتي ننار) مسؤولة عن تنظيمها وترتيب القطع وذكر تفاصيل عنها كما في المتاحف المعاصرة، يورد ليونارد وولي في كتابه “أور الكلديين”، خبرًا متعلقًا بالملك نبونيئد مفاده “خلال أعمال التجديد لمعبد الإله سين في أور، فإنه قد أمر بحفر الأرض للتفتيش عن المخطط للمعبد الأصلي، كي يتمكن من إعادة البناء وفق التصميم الأول حفاظا على قدسية المكان، وخلال الحفريات فقد عثر على رقيم طيني باسم الملك السومري (بور سين،) الذي حكم في أور بحدود 1500 عام قبل زمن نابونئيد تقريبًا، فأمر كتبته باستنساخ الرقيم القديم وقام بوضعه في محله وطمره بالتراب، وفي النهاية يسجل وولي شهادة لا أروع بحق هذه البلاد وأهلها بالقول “يبدو أن حرفة التنقيب لدى سكان بلاد ما بين النهرين القدماء، عريقة كتاريخهم، وأن التبجيل لآثار العصور القديمة وخطورة محوها أو العبث بها تسري في دمائهم كسريان الأسطورة في مدوّناتهم”.
تواصل حضاري بين حاكم سومري وملك آرامي
وردتنا نصوص لملك آرامي سمه (أدد نادين أخي) عاصر الحكم الفرثي في أواخر القرن الثاني ق.م، حيث كانت مملكته تتمتع باستقلال شبه ذاتي، وكانت تقع تحديدا في الموقع القديم لمملكة لجش السومرية (وعاصمتها جرسو– وتعرف حاليا تلّو)، حيث عثر بناؤو قصره الجديد خلال الحفر على تماثيل تعود للحاكم السومري الشهير جوديا، وهو أمير من سلالة لجش الثالثة (حوالي 2164- 2144 ق.م) والذي سبق الملك أخي زمنيًا بألفيتين من الأعوام تقريبًا، يرد في النص أن الملك أخي “قد أمر البنائين بجمع اللُقى القديمة وعرضها في ركن خاص بالقصر، وطلب من كتبته قراءة النصوص التي دونت عليها باللغة السومرية، وتقليد الكتابة بذات أسلوبها الأصل وباللغتين الآرامية واليونانية، وكذلك اشترط على البنائين أن يحاكي التصميم المعماري لقصره الطراز السومري القديم للمنشأ”.
إن الأمثلة التي جرى استعراضها أعلاه، تُثبت بلا شك مديات احترام العراقيين القدماء لإرث أسلافهم الغني، ومسؤوليتهم بنقله جيلا إثر آخر، توكيدًا لأمانتهم في الحفاظ على الإرث والذاكرة.
إن التراث الثقافي يعتبر ركنًا أساسيًا من أركان الوعي الجمعي، وما نودّ أن نتلافاه حقا هو أن نفتح حوارا مع جيل عراقي في المستقبل عن المنجز الحضاري لأسلافهم، فنجدهم يحارون بالرد جراء جهلهم بالأمر، وهذا إن حصل فهو نتيجة طبيعية للتغييب الحاصل حاليًا من جهة المناهج الدراسية والوضع الكارثي للإعلام المسيس والتسويق التجاري الذي يسطح عقل المواطن، ناهيك عن عمليات المحو الممنهج لمكامن الحضارة في حواضر العراق القديم وشواهده كما حصل خلال فترة الحصار الظالم على العراق او مع الإرهاب الداعشي في محافظة نينوى وبشكل مخطط له، يهدف إلى قطع حبل المشيمة بين الماضي والحاضر وترك ذاكرة الأجيال نهبًا للتلاشي.
إن محاربة التجهيل الحاصل للأجيال الناشئة بل والمجتمع بشكل عام لهو هدف نبيل ومشرّف، يستلزم منا جميعًا كورثة لمساهمات أسلافنا في مسيرة البشرية، من أن نحفظ للعراق هيبته أمام أمم العالم ومكانة منجزات أهله السامية في منظومة الحضارات، لأنهم والحق يقال وضعونا تحت مهمة جسيمة ولكنها مشرفة بتوريثنا ثٌرى الوادي العريق الذي انطلقت منه عجلة التاريخ.