أبعد من المكان
يتقدم مسار الفنانة الفلسطينية – البريطانية منى حاطوم (1952)، في المشهد الفني المعاصر، باعتباره تجربة “تَخَلّلات” مسترسلة، وجودٌ “ما بين” الجغرافيات واللغات، وتَمَظْهُرٌ يتخطى الفواصل الثابتة بين الأعراق، وتَشَوُّفٌ إلى مجاوزة العوارض بين الحسي المُمْتَلَك والمُسْتَقْطَر من مسارب الذاكرة، في امتداد تركيبي يولّف بين السرديات المركزية، عن الهجرة، والوضع القهري للنساء، والتمركز الغربي، والاختراقات البصرية لـ”ما بعد” الفن المفاهيمي؛ حيث تَمُدُّ أعمالها، المنتشرة عبر متاحف العالم، من مركز جورج بومبيدو، إلى متاحف نيويورك، وسيدني، وهيلسينكي، وبرلين، وإسطنبول والدوحة… جسورا متراكبة، عبر زمن ناهز أربعة عقود، بين لندن ومدن الشرق الأوسط، وبين غرائبية الفن الطليعي الحديث، والفانتازيا التعبيرية، والاختزالية الرمزية، فتُحكم صوغ المستحدث الصاعق من خامات المعدن والزجاج والصمغ، والنسيج والأرشيف الشخصي، والمتعلقات اليومية.
تدريجيا اختصرت أعمال منى حاطوم المراوحة بين فن الأداء والتصوير الفوتوغرافي والتجهيز والفيديو والنحت وتوليفات النسيج… الصيغة النسائية لتخطّي مأزق التعود القهري والمريح، مع وضع العطب والخسارة؛ بدت، في لحظة ما، أمثولة لتَخَلّلات الفَواصِلِ والعَوَارِض، هل نقول مقابلا جنسيا وخطابيا لإدوارد سعيد؟ شريكها في المواطنة والمنفى ومناهضة التواؤم والنسيان؟ تبدو العوارض الطارئة، في التجربتين معا محصلة للوجود “خارج المكان”، ثم التلاشي التدريجي لمقومات الانتماء الحسي إلى المرتع، واستعاضته بفضاءات الذاكرة والمتخيل، وما يتصل بهذا الاستبدال الرمزي من أعمال مستبطنة لمفاهيم “الحدود” و”الشرق والغرب” و”الهيمنة” و”المحو” “والتشظّي” و”الفصل العنصري”، و”المنفى”، والتفكيك النقدي للخطابات المنبثقة من تلك المفاهيم، ذلك ربما ما جعل إدوارد سعيد يختار أن يقدم أحد أكثر معارضها الفردية، الملتئمة في العالم العربي، شمولا، ودلالة على اختراقاتها الأسلوبية، وصداميتها وبلاغتها البصرية. حيث يقول في أحد المقاطع “في عالم منى حاطوم الفني لم يعد المكان الثابت الدائم ممكناً، فهذا الفن مثله مثل الغرف الغريبة المواربة التي تجعلنا حاطوم ندلف إليها، يعمل على جلاء تفككٍ وانزياحٍ أساسي، وبذلك لا ينقضُّ على الذكرى التي يحملها المرء، لما كان موجوداً يوماً ما فقط، بل على كمّ هو منطقي وممكن، كم هو قريب وبعيد في الآن نفسه، ذلك التفصيل الجديد والمحكم للفضاء والأشياء الأليفة، عن المقام الأصلي” (ضمن كاتالوغ: منى حاطوم، دارة الفنون، مؤسسة خالد شومان، عمان، 2009، ص 11). عبارات تترجم الأعمال البصرية التي تقول الشعور الداخلي لإدوارد سعيد، خارج حيز الكتابة، ودونما ارتهان للقول: تركيبات الأسلاك الشائكة، وحديد الخرسانة المنقبضة على فراغ، والأواني المتحولة، والخرائط الغرائبية،… فضلا عن الرموز الأكثر التصاقا بذاكرة الحواس: “الكوفية” و”الصابون النابلسي” و”السجاد” و”المتاريس”… التي تكشف ترددات الاستعادة، وما يتخللها من تبدُّلات، هي حصيلة لفواصل الوقت، وعوارض الهجرة المؤبدة.
حصون للداخل المفرغ
في سلسلة من المتواليات البصرية المنكبّة على تبيين حالة الوقوع في شرك الفضاء الجغرافي، تبرز أربعة أعمال عن “الانغلاق” الموهم بالامتداد، الذي لا ينتج إلا المجاورة بين الحصون المنقبضة على فراغ؛ فجواتٌ ضيقة تكاد تلغي مساحة “البين”، برؤى فجائعية حريفة ومدوخة. في عمل أول يحمل عنوان “خريطة” أنجز سنة 2015، تركّب منى حاطوم ملامح قارات العالم من حبيبات بلّورية متراصفة، كرات زجاجية شفافة، مضمومة إلى بعضها، لا تُظهر إلا التخوم القصوى، حيث تلتقي الكتلة بالفراغ (اليابسة بالماء)، وتتلاشى فيها الحدود بين الكيانات. تتلون الكريات بأثر الضياء المنعكس على الأرضية الخشبية، على نحو مشطور عموديا إلى أحجام غير متماثلة، تكتسب معها الحبيبات البلورية مقامات بياض/رمادي متدرّج، يعيد تكوين نتوءات اليابسة في القارات الخمس. والحال أنها كريات منقبضة على حدودها الصغرى فقط، ومهيأة باستمرار للانفراط، هي في وضع تضام مؤقت، لا تكونه باسترسال تاريخي، أنوية صغرى لتمركزات منغلقة على هباء.
يوحي العمل بخطورة “الما بعدية” ما الذي سيطرأ في حال تفكك ذلك التلاحم المبني على سلطة مؤقتة في الزمن؟، التشظي؟ التناثر؟ الفناء؟ في هذا التجهيز تبلور منى حاطوم رؤية من فوق لفكرة الحصون المنقبضة على فراغ، التي ستسكن بعد ذلك عشرات الأعمال التي قدمت في معارضها المتلاحقة، عبر القارات الخمس، يبدو ترجمة اختزالية لما فصله، بعد ذلك، عملان بارزان من هذه السلسلة، الأول بعنوان “قفص لاثنين” وهو مجسّم كبير لما يشبه قفص طيور مدجّنة، بداخله مفاصل معدنية لسرير اثنين، غرفة نوم محجوزة، بأسفلها درج ينفتح إلى الخارج، يفتحه آخرون، كذلك الذي توضع فيه الحبوب للطيور بالداخل، لكن لا يكتمل المجاز المخملي لأمثولة “الاقتران الأبدي”، فلا هو بقفص ذهبي ولا يتخلّلُ إهابه الصلب والبارد إيحاء سكينة، هو حصن الفراغ ذاته الذي تشرّبته الحبيبات البلورية في الخريطة، والشرنقة التي تجعل الانتماء قرين الأسْر، والخضوع للضرورة، مزيج من استيهامات غاستون باشلار عن “القوقعة”، واسترجاعات أورهان باموك بصدد “البيت الأصلي”، مسكن الأهل، ومرتع التكوين، فسرعان ما تتحول جدران المنازل إلى حدود قصوى للكون، في تخومه تنتهي طمأنينة الوجود، ويتفاقم في خارجه التيه والفقدان والتلاشي.
لكنها في النهاية مجرد قواقع حاضنة للاشيء، من هنا لجوء منى حاطوم إلى تجريد الدعامات البيتية من لُحمتها الخرسانية، لتبدو في أعمال شتى مجرد هياكل حديدية ناقصة، مستعارة من أبنية اندثرت، أو لم تُشيّد بعد، دعامات قد تكون جزءا من عمائر، بيد أنها هنا مجرد قضبان مقفلة، ذلك على الأقل ما يلمحه المشاهد في تركيبة “كبان إيكي” (2012) الذي تنقل بين معارض إسطنبول وبرلين والدوحة، حيث تنتصب خمسة هياكل حديد مفرغة، غير متماثلة الطول، متقاربة دون تخطيط لمسافة الفواصل، تتجلّى شبيهة بأقفاص، تنغلق على كتلة متضائلة حمراء، من خامة زجاج، يندلق بعضها من مشابك القَعْر، إلى الأرضية، مثل دم متخثر، كتل لا تنهض إلا بوصفها استعارة لجثة غائبة، كانت مستقرة بين المشابك الضيقة لأنصاف الهياكل الحديدية، ينفر مجددا صدى القوقعة المحتوية للذوات، والمختزلة للمدن والقرى والأوطان والمرافئ، التي تلتحم بالأجساد وتتنقل معها عبر المعابر، وتسيح ما بين الحدود، وما بعدها. فضاءات أليفة ومعتقلات إرادية في الآن ذاته، تسند المجال العاطفي وتمنحه التوازن. في المحصلة يجد الناظر نفسه داخلها على نحو لا إرادي، طالما استمر البيت في منح إحساس الحماية، وتحصين الخصوصية، واختصار المدن والشوارع والساحات في نوافذ تطل على الخارج، لكنها تنغلق على ذاتها دوما.
تُوجِدُ منى حاطوم نظائر مختلفة لقياس تحصين الداخل المفرغ، متوسلة تارة بتجهيزات عاتية، أو متضائلة، وبخامات صلبة وأخرى شديدة الهشاشة، وأحيانا بمجرد عروض أداء جسدي أو أشرطة فيديو، لتعيد حبك سرديات الاقتلاع والتهجير وتشبث الذاكرات بماضيها، والانجذاب إلى الأصول، والانزياحات المسترسلة للحدود، فتعيد تأويل العشرات من النصوص والتأملات النثرية والمحكيات التاريخية والشعريات المتصلة بأسطورة الفضاء، والتباساته، وهروبه، بمجازات بصرية لا تقل في مخاتلتها من البلاغات اللفظية.
هندسات للإقامة في الوقت
ولأن لا تحوير لمفهوم البيت وفضاءات الإقامة دونما استدعاء لحاضنة الوقت، فقد كان لمرتكز “الحركة” دور جوهري في هندسة الأشكال الفنية لمنى حاطوم، إنه الفعل المكتوم في التركيبات الموهمة بالثبات، داخل العروض المرتهنة لآلية الانتقال. الفضاء هنا مدمج في “ما بعد” انزياحه عن موقعه الأصلي، واستسلامه لقدر التحول، على نحو يستهدف “جعل الزمن والفكر بصريين” إذا استعملنا تعبير جيل دولوز (الصورة – الزمن، ص 27)، فليست المرايا وقطع الآجر والأسلاك المعلقة والكريّات البلورية إلا استعارات لمفارقة الثبات، والتعلق بما بعده، أي بتَخَلّلات فواصل السفر وعوارض الترحُّل المسترسلين عبر حلقات العمر، معنى لا يتصل بالتغريبة الفلسطينية وحدها، وإنما يدمجها في مصائر الأشباه والنظائر الإنسانية الممتدة في جغرافية الكون، وفي تاريخ الصّراعات والحروب والاحتلالات.
يحمل أحد أعمال منى حاطوم الساعية إلى هندسة الإقامة في الوقت عنوان “معلّق” (2011)، تجهيز من أراجيح متدلّية من سقف غرفة، بسلاسل حديدية، تنتهي بألواح خشبية، حفرت عليها خرائط مناطق عمرانية لمدن شتى عبر العالم، خرائط متجاورة على نحو عشوائي لا نظام له، إذ تتقاطب طولا وعرضا، وبمسافات تكاد تكون متماثلة، تظهر الأراجيح في الصور ساكنة، وإن كانت منطوية على نذير الحركة المندفعة، بيد أن تقاربها يحد من قدرتها على التمادي، يجعل التصادم لا فكاك منه، مثلما هو حال الخروج القهري من الخرائط الحسية لأجل الإقامة في الحركة والوقت، للمنفي والمغترب المطرود من وطنه ومدينته وبيته، الذي يسكنه إيقاع التأرجح بين خرائط يعيشها ويعبرها، وأخرى يحملها في حقيبة سفره، وفي ذاكرته على حد سواء.
تبدو المدن وشوارعها ليست شيئا آخر إلا تلك الألبومات العائلية التي تصاحب المترحّل أنّى ذهب، إنه ينتمي إليها بقدر انتمائه إلى مرافئه الجديدة، لأجل هذا لا مفر من أن تصطدم الخرائط ببعضها، وتتداخل صورها أو تَنْثَلِم في الذاكرة، وتتغبش تدريجيا، فهي منذورة لحركة مصيرها الخبو، قبل أن تكون ظاهرا مرئيا، هنا مرة أخرى تستعيد منى حاطوم نزوعها إلى إكساب العوارض المحلقة في سماء المنافي الأبعاد الشبحية المرزئة، التي تجعل الشارع والغرفة والمقهى ومقر العمل ترتكس من عالم مُمْتَلَك إلى صور هاربة، إلى هالات سديمية تنهض من فجوات “ما بين” الحقيقة وتمثُّلات الذاكرة، وترافق ترددات المهاجر بينها وبين ما يعيشه، في حركة ذهاب وإياب ترافق مسار العمر، ورحلته في الزمن، قبل أن يتوقف في لحظة يبلغ فيها وَهَن الحركة ذروته؛ كما تعلمنا الأرجوحة والمجاز الكامن داخلها.
بعد عمل “مُعلّق” قدمت منى حاطوم تجهيزات الحركة على سطوح متباينة، وبخامات ممتدة من المعدن إلى الورق والشعاع، حمل أحدها عنوان “كومة آجر” (2019) ناقلة يدوية من معدن بأربع عجلات، تحمل أربعة صفوف من آجر، مرصوصة جنبا إلى جنب، يتكون طولها من مجموع خمس طبقات متراكبة عرضا، تَمْثُل واجهتها المخرمة للناظر كعمارة طينية، ينتابها تقعير في الوسط، على نحو متدرج بين الصف الثاني والثالث، تستدعي إلى الذهن مساكن الغيتو، وعمارات العمال المهاجرين في ضواحي المدن الكبرى، تبدو في هيئتها المشدودة إلى مقود يدوي نافر أماما، شبيهة (مرة أخرى) بالقوقعة، البيت المنذور للترحل، والحركة الدائبة الموهمة بالثبات. في عمارة الكفاف لا يضحى البيت مالكا لهويته إلا بما هو محل انكماش ودرء للعري، لا تفاصيل تزدهي بخصوصية الحياة هناك، الداخل الغامض يمنحها صفة البيت المجرد أو المطلق، الذي سرعان ما يتحول إلى “لا بيت”؛ ذلك هو العمق الفجائعي الذي تراهن منى حاطوم على إبرازه خارج خصوصية المنشأ والمحيط الفلسطيني/العربي، حيث بات اللجوء والبحث عن فرص البقاء والتنقل بين المخيمات ومراكز الإيواء المؤقت، ضاغطة على حدود العالم.
هل لا زال ثمة حاجة لتبرير الحركة الساكنة في الوجوه والجدران وتفاصيل الأثاث والأغراض المنزلية؟ يحتاج الأمر بالأحرى إلى تنويع نطاق تلك الحركة ومنحها فجوات أداء مختلف، يستحمل امتدادات المعنى واكتنازه، وهو ما يعكسه عمل المرآة في تخطيط محفور على سطح زجاج في لوحة حملت عنوان “أنت ما زلت هنا”، حيث يقول العمل الناقل لصورة الناظر إليه، ما يعتمل في الذهن، ينقله بمفردات، لتجريد الصفحة من المظهر الطارئ للوجوه المحدقة، وجعلها تحمل عنوان ما توحي به “أنت لا زلت هنا”، هذا ما تقوله المرايا سواء كانت في محلها أو انتقلت إلى عشرات الغرف عبر مدن العالم، فتهندس الإقامة في الوقت لا المكان، ومن ثم فلن تستغني عن إيحاءها ولا مخاتلتها ولا إضمارها لوهم الثبات، إلا حين تتهشم وتغيب.
ثبات العوارض الملتهبة
ولا وجود لحركة دون معيقاتها، وفواصل بين شظايا زمنها، وعوارض استرسالها، ذلك منطق الفعل ومجازاته التصويرية، لذا أوغلت منى حاطوم في بيان تجلّيات الإعاقة، وتنويع “حدّيتها”، فالحدود “تصمد بتحوّلاتها”، بتعبير رجيس دوبري و”هي لا تقهر، لأنه من الجيد التفكير بها” (في مديح الحدود، ص 37). في جاليري ماكس هتزلر ببرلين، عرضت منى حاطوم سنة 2008 تجهيزا بعنوان “حديقة معلقة” متراسٌ من النوع المستخدم في الحروب وصراعات المدن، أكياس خيش محشوة ببذور، بدل الرمل والطين، عددها سبعمئة وسبعون، تمتد عرضا بما يوازي ثلاثة عشر صفا مزدوجا، وارتفاع يناهز سمك ثلاثة عشر شوالا، مرصوفة فوق بعضها، تَطْفُر من جنباتها وسطوحها فسائل البذور النابتة، فتكسوها بالأخضر الناعم، إذ الحدود تنزاح حاملة معها ثباتها وقدرتها على الرسوخ ومد الجذور، وتونع من صلب ما قد يبدو مؤقتا كالمتاريس، لتصير مع مرور الزمن جدرانا عاطفية تفصل بين الذوات برغم غيابها الحسي، إنها نابتة في القرار العميق، في بيروت وسراييفو وقبلهما برلين وقبلها بسنوات طويلة باريس لحظة كمونتها، وُضعت المتاريس لتحصين صفوف الدفاع عن الفرقاء المتحاربين، وللفصل بين عقائد وأهواء سياسية وانحيازات فكرية، ثم تلاشت المتاريس بعد ذلك لتعوضها معازل الداخل بين ذوات لم تصطنع الجسور بينها بسهولة.
ولأن المتاريس حدود مؤقتة، تبدو كأنها حجاب مجازي غير قابل للاختراق، مثلها مثل الأسلاك الشائكة الشائعة في عشرات أعمال التجهيز والفيديو والأداء لدى منى حاطوم، يمكن أن تزاح أو تنقل أو يعاد ترسيمها وتوجيهها، إلا أنها تمثُل في هيئتها الشبحية كشرط بقاء في عالم يسرع الخطى نحو الانغلاق ومضاعفة الحجب والعوارض والفواصل والجدران، ذلك ربما ما سعت إلى تمثيله الفنانة الفلسطينية في عملها المعنون “غير قابل للاختراق”، حيث تتدلى الأسلاك الشائكة من السقف إلى حافة الأرضية، في خطوط متوازية شديدة التقارب في ما بينها، مشكلة مربعا من خيوط المعدن الضامرة والجارحة في آن، وغير القابلة للاختراق، هي هناك لا تفتأ تتحصن بسُمْكها برغم تخلّلات المساحة بينها وفواصل الضياء النافذة منها؛ على هذا المنوال يعاد تخييل تحولات التخوم واكتنازها، كما يُعرَّى تجريدها وتمنعها على العين، بيد أن الأسلوب التركيبي الموغل في الاختزال هنا يستهدف أيضا تصفية حساب مع ذاكرة شخصية لمنى حاطوم، هي التي اضطرت للبقاء في لندن فقط لأن الحرب الأهلية اجتاحت بيروت، واحتلتها المتاريس، لم يكن بمقدورها أن تفكر بعيدا عمّا يفترضه الخطاب البصري من تصفية للإيحاءات والاستيهامات، تصفية بمعنى الإعدام والغربلة معا، إذ يسعى الفن المعاصر عادة إلى تصفية الحساب مع الذات والمجتمع ومع الماضي والحاضر، عبر تنقيح الذكريات وتركيبها داخل نسق له منطق حكاية، ذلك ما ألمح إليه كريسيان بولتانسكي تحديدا حين أقرّ بأن “الذاكرة العاطفية اليومية، عكس الذاكرة الكبيرة المحفوظة في الكتب. هشة للغاية، وتختفي مع الموت، في الآن ذاته الذي تشكل تفرّدنا”، وهو ما قام به حين أعاد تركيب أرشيف الضحايا المجهولين في الحرب العالمية الثانية، الذين حشروا في مدافن متباعدة خارج حدود انتماءاتهم الشخصية.
***
في عبارة لأبي حيان التوحيدي يقول “وظاهر ما يرى بالعيان مفض إلى باطن ما يصدُق عنه الخبر”(الامتاع والمؤانسة، ج:1، ص 23)، ونحن نعيد التأمل في أغراض المطبخ التي تتخذ أشكال أسرّة، وستائر مرعبة، وصحونا عملاقة، في اشتغال منى حاطوم نستوعب آلية “التصفية” قرينة الإعدام، في مصائر المقتلعين والمأخوذين إلى الشتات، إذ في العمق لا تقوم هذه المتعلقات اليومية سوى بتفتيت الكتل وعجنها وإخراجها من أضيق المنافذ، وتحويل اللحمة إلى شتات عصي على اللمّ، وبإعمال النظر في محمولها المجازي، ندرك حجم قساوتها وهجائيتها وعنفها الرمزي تجاه الذات والمحيط والعالم. لا أظن أن فنانا معاصرا اختار حقل الكتابة بالبصري لمجرد البوح أو إفراغ ما يثقل الذاكرة، فالتصوير عيش بين ظلال الآخرين، واسترسال في تقليب أساليب بدأت منذ المئات من السنين، لكن الفن المعاصر على الأقل يضمن حرية الخروج، في لحظة ما، من تقاليد المنجز إلى احتمالات تخص إرادتنا الشخصية، هنا بالذات يمكن أن نقر أن لا كتابة بالبصري دون رؤية فجائعية وهجائية للعالم.