السيرة وطيف الرقمية
“السيرة” في قاموس اللغة: تعني السّنة والطريقة، والحالة التي يكون عليها الإنسان، يُقال فلان له سيرة حسنة. وقد وظف المصطلح نفسه بين الناس، بما يعني قصة حياة لفرد ما.. وهي ليست واحدة، ليس لتنوع قصص حيوات الناس، بل لتنوع أهدافها وأشكالها وبالتالي صياغتها، ومؤخرا نظرا لرواج التقنية الرقمية وتأثير منجزاتها الإلكترونية عليها.
هناك عدد من أشكال السيرة؛ تلك التي تكتب موجزة لهدف محدد، تسمى السيرة الذاتية (C.V) وتلك التي تقدم للحصول على عمل أو وظيفة (مثلا).. والسيرة التي تكتب باستفاضة حتى تبلغ مبلغ الكتاب، ويتشكل “كتاب سيرة حياة فلان”.. وقد تكتب بطريقة فنية حكائية فتصبح “قصة سيرة أو سيرة قصصية أو قصة سيرية”، كل تلك الأشكال تأثرت بدرجات متفاوتة بالتقنية الرقمية.
أما السيرة الذاتية بالعموم يتم تحريرها ليقدم المرء نفسه لصاحب العمل أو الحياة العامة. غالبا قصيرة (عادة صفحة واحدة أو صفحتان)، وﺇن راجت السير الذاتية التي يزيد طولها عن صفحتين (خصوصا في الولايات المتحدة الأميركية).
هناك بدأت علاقة السيرة الذاتية والتقنية الرقمية؛ فقد ازدادت شعبية انتقال السير الذاتية مباشرة لأصحاب العمل في أواخر عام 2002. ثم راجت وانتشرت بفضل توظيف وشيوع التقنية الرقمية الجديدة أو البريد الإلكتروني.
ما يعني بداية ظاهرة توزيع السير الذاتية بصورة هائلة، وهو ما أطلق عليه ظاهرة “تفجير السيرة الذاتية”، مصطلح يعني التوزيع الهائل للسير الذاتية لزيادة وضوح الشخصية داخل سوق العمل، وتوفير فرص أكثر. إلا أن التوزيع الهائل للسير الذاتية قد يكون له تأثير سلبي على فرص المتقدمين في الحصول على التوظيف الآمن، حيث أنها لا تميل إلى كونها مصممة خصيصًا لشغل الوظائف المحددة التي تقدم لها طالب العمل. لذلك يسرعون لتعديل السيرة الذاتية وفقًا للوظيفة المُتَقَدَّم لها أكثر معقولية.
بسبب ما أتاحته التقنية الرقمية من وسيلة اتصال أو نقل للسيرة في سرعة كبيرة وآمنه كانت محاولة الاتحاد الأوروبي لوضع نموذج موحد للسيرة الذاتية (في عام 2004) لتسهيل هجرة المهارات بين البلدان الأعضاء، على الرغم من ذلك لم تستخدم على نطاق واسع.
بمضي الوقت فتحت شبكة الإنترنت الباب لعصر جديد في السير الذاتية. أصبح من الشائع عند أصحاب العمل قبول السيرة الذاتية إلكترونيًا فقط، سواء أكان ذلك من الناحية العملية أم الأولوية. هذه الطفرة الإلكترونية غيرت الكثير في طريقة صياغة السيرة الذاتية وقراءتها والتعامل معها، حيث يقوم الباحث بإعداد (file format) للسيرة الذاتية، وحفظها، ثم الكثير من أصحاب العمل، يجدون السير الذاتية للمرشحين من خلال محركات البحث (search engine).
الميزة التالية؛ الاحتفاظ بالسيرة الذاتية على الإنترنت أصبح أمرًا شائعًا للعاملين في المهن التي تستفيد من الوسائط المتعددة وتحتوي الكثير من التفاصيل المُقدَّمة مثل سير الممثلين والمصورين ومصممي الجرافيك والمطورين، وغيرهم.
هناك ميزة أخرى للسيرة الذاتية الإلكترونية وهي أنها أدت إلى توفير الكثير مما كان يُستهلك ماليا في أساليب التعيين التقليدية. تضمنت منظمة إدارة التوظيف إعلانات الإنترنت في دراسة لتكلفة الاستئجار لعدة سنوات. على سبيل المثال، في عام 1997 تمت الإفادة بأن متوسط تكلفة الاستئجار للإعلان المطبوع بلغ 3295 دولارا، في حين أن متوسط تكلفة الاستئجار على الإنترنت بلغ 377 دولارا. أدى هذا إلى خفض التكاليف، بالإضافة إلى توفير الوقت والطاقة وغيره.
كما أتاحت الإنترنت ظهور تقنيات جديدة يمكن استخدامها في السيرة الذاتية، مثل السيرة الذاتية المصورة وهي شائعة لدى الباحثين عن عمل في مجال الوسائط المتعددة. آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا هي السيرة الذاتية ذات الرسوم البيانية، مثل السيرة الذاتية البصرية.
أما السيرة الفنية تلك التي عرفت في الأدب كفن قصصي يجمع بين التأريخ والأدب، عرفه العرب منذ القدم وهو أحد أهم المصادر التي أمدت القصص الفني بتقنيات السرد. وحديثا راجت في العالم العربي وأصدرت دور النشر العديد منها، ومن أشكالها أن يقص صاحب السيرة عن حياته بأسلوب شيق أدبي مع قدر من الإثارة الفكرية لجذب القارئ. وبقدر مهارة الكاتب في فنون السرد بقدر الاقبال على النص وسماح مديح النقاد.
لعل أشهر السير الفنية والقصصية: طه حسين (الأيام) وأحمد أمين(حياتي) عبدالقادر المازني (قصة حياة) وغيرهم كثير في العالم العربي الآن لدرجة يصعب حصرها.
وقد يكتب السيرة، كاتب آخر غير الشخصية التي تتناولها السيرة، فمن المعتاد أن يكتب السيرة صاحبها، ولكن أحيانا وعند المشاهير وخصوصا السياسيين منهم، يكتبها أحد المقربين من الشخصية، سواء من الأسرة أو العائلة أو ممن عمل مع تلك الشخصية. هنا بدت التقنية الرقمية ذات وظيفة تقليدية ولم تضف جديدا إلى أن أصبحت شاشة الكمبيوتر أشبع بالصفحة الورقية، ثم تشكل الفايل ثم حفظه أو ﺇرساله إلى جهة ما أو إلى ناشر أدبي.
لعل اللافت هنا أن شاعت على شبكة الإنترنت مواقع خاصة بالسير المصورة. وكيف لا؟ وقد باتت “الصورة” هي الأيقونة والجوهر الجديد أو لنقل لبنة تشييد ثقافة القرن الحادي والعشرين!
لا شك أن شبكة الإنترنت فتحت الباب لعصر جديد في السير بأنواعها، حتى أن أصحاب العمل ودور نشر الكتب وحتى الدوريات والصحف اعتمدوا جميعا على توظيف الرقمية بداية من استقبال السيرة، ثم ﺇعدادها للغرض الموكول لها، ثم الاضافة باﻹخراج الفني واﻹعداد المناسبين.. وهكذا.
وأخيرا، تتيح التقنية الرقمية تسريد السير (أي تحويل السيرة إلى سرد قصصي) من خلال عدة مداخل، بداية بالبحث عن الأفكار والأحداث التاريخية والاجتماعية المتوفرة على الشبكة والتي يمكن للسارد القصصي توظيفها، ثم العمل على تحويلها إلى نص سردي تخييلي (إلى رواية مثلا أو قصة) وهي المغامرة الفنية التي في النهاية وفرتها أطياف التقنية الرقمية من المباشر الخطي إلى السردي التخييلي ثم نشره، مع العلم أن تلك الميزة أكثر وفرة في النصوص التاريخية.