الخيال السوسيولوجي
يركز المنظور السوسيولوجي على دراسة السياق الاجتماعي المعيشي، حيث يتفحص الكيفية التي يؤثر بها هذا السياق على حياة مختلف الأشخاص. أي أنه يحاول فهم كيفية تأثير المجموعات على الأشخاص، ولاسيما الطريقة التي يتأثر بها كل فرد بمجتمعه. وتكمن أهمية هذا المنظور في تحرير الفرد من النظرة الموروثة الضيقة. (رشا شعبان: علم الاجتماع، منشورات الجامعة الافتراضية السورية، دمشق، 2018، ص4).
كما يقوم علماء الاجتماع، بغية التعرّف على الدوافع التي تكمن خلف تصرفات مختلف الأفراد، بمعاينة الموضع الاجتماعي. ويُعرف هذا الموضع بأنه الزاوية التي يشغلها أي فرد في المجتمع بسبب ماهيته وموضعه في هذا المجتمع، ويعتبر علماء الاجتماع كلاً من التربية، المهنة، الدخل، الجنس، العمر والسلالة من أهم العوامل التي تحدّد الموضع الاجتماعي لكل فرد. فمثلاً إن كل مجتمع ينقسم إلى فئتين متمايزتين وهما الإناث والذكور، يؤثر هذا التقسيم على مختلف مناحي الحياة، إذ لا يقتصر تأثيره على بنات المجتمع الواحد وأبنائه بل يمتد ليشمل شعور كل فرد تجاه نفسه وطبيعة العلاقات ضمن المجتمع سواء الشخصية أو العملية.
إن التفكير بطريقة سوسيولوجية هو التبني لمقاربة تتسم بالاتساع والشمولية، نظرة تتضمن كافة أبعاد الواقع الاجتماعي. بذلك يجب على عالم الاجتماع أن يكون قادراً على التحرر من الظروف الشخصية وأن يضع الأمور في سياق أوسع. إنه ارتقاء من نظرة شخصية تنظر في نفس الاتجاه ومن زاوية واحدة إلى نظرة أوسع تشمل كل اتجاهات زوايا الظاهرة المدروسة. وهذا يعني أن التفكير السوسيولوجي الجاد يعتمد في جانب كبير منه على إعمال الخيال السوسيولوجي (تحسين عصمت عبد الكريم: علم الاجتماع المعاصر، الجنادرية عمان، ط1، 2014، ص ص 16- 17). ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا ما هو مفهوم الخيال السوسيولوجي؟
في حقيقة الأمر، دعا رايت ميلز إلى ضرورة تسلح الباحث في مجال علم الاجتماع بما أسماه “الخيال السوسيولوجي” حتى يتسنى له إدراك أبعاد مشكلات المجتمع. على اعتبار أن هذه الفكرة تمثل أحد الأدوات النظرية والتحليلية التي تشكل هذا الموقف النظري، لفهم مشكلات الإنسان المعاصر في إطار الكلية التاريخية، وذلك كرد فعل لأزمة الرؤية الكلاسيكية في الفكر السوسيولوجي الغربي. ففكرة الخيال السوسيولوجي تكشف لنا عن وجهي النقد عند رايت ميلز، ونعني بذلك النقد السوسيولوجي والنقد الاجتماعي، وهي الأداة التي يجب أن يتوسل بها الباحث في نقده ورفضه لأساليب السيطرة والتحكم التي تضرب بجذورها بأعماق كل عناصر البناء الاجتماعي (حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر- دراسة تحليلية نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص103).
مفهوم الخيال السوسيولوجي: هو السمة الأساسية في تكوين الباحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي على حد السواء، ويمكن تعريفه ببساطة “بأنه رؤية الذاتي ضمن السياق المجتمعي” (حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة الـتأسيس، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، ط1، 2021، ص105).
ويعتبر مدخل المخيال في الدرس السوسيولوجي من أهم المدخلات العلمية الراهنة، في فتح آفاق ومساحات فكرية تحليلية داخل الحقل السوسيولوجي، من أجل فهم أوسع للظاهرة الاجتماعية في بعدها الرمزي (ياسين عتنا: مدخل إلى علم الاجتماع المخيال: نحو فهم الحياة اليومية، مجلة عمران للعلوم الاجتماعية، العدد: 30، المجلد: 8، خريف 2019، ص 180).
وضع الأسس الأولية لهذا المفهوم عالم الاجتماع الأميركي- النقدي رايت ميلز 1916- 1962 في كتاب الخيال السوسيولوجي (C. Wright Mills: The Sociological Imagination، Oxford University Press، London، First edition، 1959)، حيث يسمح لنا في فهم التاريخ العام والسيرة الذاتية والعلاقة بينهما ضمن المجتمع. بذلك يرى ميلز أنه يمكّن الفرد من أن يفهم تـجـاربـه الشــــخـصـيـة عبر موضعـة نفسـه ضمن حقبـة زمنيـة وســياق اجتماعي معين (A group of authors: Introduction to Sociology، Rice University، Texas، 2013، p.10).
أي أن فكرة “الخيال السوسيولوجي” تقوم على الربط بين مستويين من مستويات التحليل: مستوى المجتمع أو (البناء الاجتماعي) ومستوى الفرد، وذلك انطلاقاً من مسلّمة أساسية مؤداها أن حياة الفرد أو تاريخ المجتمع لا يمكن فهم أيّ منهما دون فهم الآخر والعلاقة التي تربط بينهما، فإذا كان الأفراد لا يملكون القدرة على فهم العلاقة بين الإنسان والمجتمع، أو بين تاريخ الإنسان وتاريخ المجتمع، أو بين الذات والعالم المحيط بها، فإنهم بحاجة إلى مجموعة من المهارات العقلية التي تمكنهم من تكوين فكرة جليّة لما يدور حولهم وما سوف يحدث لهم تأثراً بهذا العالم، هذه القدرة العقلية هي ما أطلق عليها رايت ميلز “الخيال السوسيولوجي“. وهي قدرة ليست مطلوبة من الباحثين في علم الاجتماع فقط، وإنما يجب أن يمتلكها الصحفيون والدارسون والفنانون، وحتى عامة الناس (أحمد زايد: علم الاجتماع ( النظريات الكلاسيكية والنقدية)، دار المعارف، القاهرة، 1984 ص 252).
ولتوضيح جوهر الفكرة، قد يطرح أحدهم لماذا نحن هنا في الجامعة، وكيف وصلنا إلى هنا؟ قد يجيب البعض بأنه يستيقظ كل يوم ويكون لديه موعد في الجامعة في ساعة محددة (أي موعد المحاضرة) لذلك هو هنا. أو قد يجيب آخر، بأن لديه الطموح لكي يصبح باحثا اجتماعيا متمرسا في فهم المشكلات والقضايا الاجتماعية لمجتمعه، أو للحصول على شهادة علم الاجتماع التي تخوله الدخول إلى سوق العمل والحصول على الوظيفة وبالتالي الدخل المادي. في حقيقة الأمر هذه هي إحدى طرق التفكير للإجابة على هذا السؤال.
يعتقد ميلز أنه للإجابة على هذا السؤال ينبغي علينا تجاوز نظرة الفرد لكيفية وصولك إلى الجامعة، أو لمكان جغرافي ما. قد تكون وصلت إلى هنا لأنك تحب المدرسين في هذه الجامعة، لكن ميلز يخبرنا بأنك هنا لأنك دائماً ضمن نطاق نفوذ قوى التاريخ، والطبقة الاجتماعية، وعوامل ومتغيرات التغيير الاجتماعي وانعكاساته. كل هذه العوامل تقوم بتشكيل سلوكك الاجتماعي. لذا، فقط من خلال فهم كيفية تقاطع هذه القوى (في حالتنا هذه على الصعيد الفردي) يمكننا فهم سؤال “لماذا نحن هنا؟”. إن هذا السؤال هو مسألة تحقيق وبحث. وإن الجواب على ذلك – حسب ميلز – يكمن في السيرة الذاتية والتاريخ.
في حقيقة الأمر، نقوم كل يوم بعدة أنشطة في حياتنا لكننا لا نقوم بها وِفقَ برمجة آلية، وإنما تظل تلك القوى تشكل وتحدد وتغير من سلوكنا بشكل دائم. وفقط من خلال الإحاطة بتلك القوى، سنفهم لماذا نحن هنا. لقد كان ميلز ملتفتاً لمشاكل المجتمع، خصوصاً مشاكل الفرد. مثل الفقر والمرض والرعاية الصحية والبطالة والتهميش الاجتماعي. فقد يتبادر إلى ذهن المرء مثلاً بأنه هو المُلام على بطالته، فيبدأ التفكير بأنه كان على خطأ عندما درس في اختصاص معين، ويعتقد بأنه لو درس تخصصا آخر في جامعة أخرى لكانت حاله أفضل. لكن هناك طريقة أخرى للتفكير، ماذا عن حال الاقتصاد الوطني، ما هي القوى السياسية والاقتصادية التي شكلت عالمه اليوم، وما الذي أدى لجعل الاقتصاد يقدر وظيفة ما على حساب أخرى؟
بذلك يرى ميلز أن المشاكل الفردية هي المشاكل العامة. إن البشر الذين يعتقدون أن لمشاكلهم طابعاً خاصاً، يفقدون حلقة مهمة من عملية فهم العلاقة بين مشاكلهم الخاصة والمسائل العامة، إلا أن السوسيولوجي الواعي إذا طبّق مفهوم الخيال السوسيولوجي، سيرى أن تلك القوى مترابطة. وليس فقط على السوسيولوجي أن يمتلك الخيال السوسيولوجي بل يجب على الجميع فعل ذلك (حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة الـتأسيس، مرجع سبق ذكره، ص106-107).
إن تفعيل مفهوم الخيال السوسيولوجي يتطلب في المقام الأول أن ننأى بأنفسنا عن المجريات الروتينية لأمور الحياة ليتسنى لنا أن نلقي عليها نظرة جديدة، لأن دراسة علم الاجتماع ليست مجرد عملية اكتساب المعرفة الاجتماعية، بل يُفتَرضَ في عالم الاجتماع أن يكون قادراً على التحرر من الظروف الشخصية المباشرة ويضع الأمور في السياق الأوسع من خلال الرؤية الواعية للعلاقة القائمة بين الفرد والمجتمع الذي ينتمي إليه، حيث تسمح لنا هذه الرؤية أن ندرك كيف يفعل المجتمع ما يفعله، وكيف نحن نتأثر إلى حد بعيد بمجريات الظروف المجتمعية، بتعبير أدق الخيال السوسيولوجي هو أن نرى المجتمع كشيء قائم بعيد عن تصوراتنا الخاصة والتفكير فيما يحدث بطريقة غير اعتيادية وشاملة كما يشير إلى ذلك رايت ميلز بقوله إن الخيال السوسيولوجي أشبه بأداة تمكين تسمح إلى حد ما بفهم التصرفات الإنسانية من أبعاد أخرى غير منظورة، والذهاب بعيداً في تحليلها عما يقرره أو يراه الناس العاديون (مأمون طربيه: علم الاجتماع في الحياة اليومية، دار المعرفة، بيروت ط1، 2011، ص 12). باختصار شديد يعني الخيال السوسيولوجي “القدرة على الانتقال من التحولات اللاشخصية والتحولات البنائية إلى أكثر السمات قرباً والتصاقاً بالذات البشرية، والقدرة على رؤية العلاقات بين هذه التحولات وتلك السمات والخصائص. وتكمن وراء استخدام هذا الخيال السوسيولوجي الرغبة والتطلع إلى معرفة المغزى الاجتماعي والتاريخي للفرد في المجتمع وفي المرحلة التاريخية التي تحدد وجوده وطابعه النوعي” (رايت ميلز: الخيال العلمي الاجتماعي، ترجمة: عبدالباسط عبدالمعطي وآخرون، تقديم: سمير نعيم، دار المعرفة الجامعية، مصر، 1997، ص18). وباستخدام الخيال السوسيولوجي سيشعر الناس الذين ظلت عقولهم محصورة في مجموعة محددة من الدوائر وكأنهم استيقظوا فجأة على حقيقة مغايرة لتلك التي كانوا يظنون أنفسهم على معرفة بها. (حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص 104).
والمثال التالي سيتوضح لنا كيفية إعمال مفهوم الخيال السوسيولوجي إذا تأملنا “سلوك شرب الشاي” على سبيل المثال. هل هو فردي؟ ثنائي؟ أم جماعي؟
إن طبيعة الحديث الذي يتم استلهامه من خلال سلوك شرب الشاي (ومن جلسته)، أيختلف عن جلسة القهوة مثلاً؟ الوقت الذي يتم شرب الشاي فيه؟ ومع ماذا نتناوله؟ هذه التساؤلات عبارة عن تمهيد للفكرة… حيث هناك بُعد اقتصادي، مرتبط ببلد الإنتاج، وضمنه يتراوح تسلسل الأفكار من أصحاب الاحتكار، إلى التفاصيل الحياتية اليومية للمزارعين والقاطفين، ومنها يمكن رؤية طقوس القطاف، كما البنية الاجتماعية ضمن القرى، وعادات الزواج وتأسيس العائلة، نسب الإنجاب، والتفضيل الجندري، ويمكن أن يتجه البحث صوب حركة النزوح ومدن الصفيح، والفقر، مرتبطاً بحالة المناخ والجفاف، ومعدل تساقط الأمطار وأثرها على المحاصيل الزراعية. هذا يعني أن المخيلة السوسيولوجية التي تتكون تتجه باتجاهات متعددة، قابلة للتكميم، كما يمكن أن تُدرس نوعياً، وهذا خاضع للمنظور الذي من خلاله يريد الباحث توصيف “سلوك شرب الشاي“، ولمصادر المعلومات والدراسات المتوفرة، وأسلوب البحث ومنهجه. كما نجد أن البُعد الاقتصادي مرتبط أيضاً بالتصدير، البورصة، الدولة المستوردة، حركة رأس المال، وسياسة العرض والطلب، حتى يصل إلى المستهلك، وكله يحوي نظرة على صعيد الوحدات الاجتماعية الصغرى والكبرى.
أما في الأبعاد الاجتماعية والثقافية فيتم تخطي الحدود بين العلوم ليكون متعدداً ومتكاملاً، وهذا ما يشكل عمق الباحث الذي يمتلك هذه الخاصية عن غيره. ففي البعد الثقافي، المرتبط بطقوس شرب الشاي، الأواني والكؤوس، طريقة تحليته بالعسل أو السكر، أو المحليات الصناعية أو دون تحلية، هذه الفكرة بدورها تتشعب إلى تفاصيل فكرة المرض، والمريض، ومؤسسات الاستشفاء، واحتكار الدواء، وكل قضية لها امتدادات مختلفة وشبكة تتشعب من خلالها تبعاً للباحث ومعارفه وأسباب البحث وأهدافه المرجوّة. وفي البعد الاجتماعي فإنه ينحصر في طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تنبني حول هذا السلوك، من يدعو ويستضيف من؟ ولماذا؟ هل يعتبر من أساسيات الضيافة؟ هل يرتبط بالأفراح أم الأتراح؟
وهناك أيضاً بعد تاريخي، متعلق ببداية انتشار الشاي، ولاحقاً سلوك شربه، وسبب اعتماده، وطبيعة القوى التي ساعدت على انتشاره، وعلاقات الاستغلال للمزارعين خصوصاً إذا كانت النشأة استعمارية، والمستغَلّين مستعبدين.
وهكذا نجد أن الباحث السوسيولوجي، من خلال سلوك شرب الشاي على سبيل المثال، لا يهتم (فقط) بهذا السلوك الذاتي أو الفردي، بل يضعه ضمن سياق مجتمعي أوسع. حتى لو لم يسلط الباحث دراسته عليها جميعها، أو لم يتابعها كلها بالعمق ذاته، إلا أن هذا السياق المتكامل، هو ما يعطي البحث أهميته، والباحث تميزه عن غيره، وهذا يحدث فقط، عندما يستكمل الباحث تكوينه عبر تحويل الخيال السوسيولوجي من أداة بحثية إلى مَلَكَة فكرية عقلية (حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة الـتأسيس، مرجع سبق ذكره، ص108- 109). أي أن من العناصر الأساسية للخيال السوسيولوجي قدرة الباحث الاجتماعي على النظر إلى مجتمعه نظرة الدخيل عليه أو الغريب عنه، وليس من منظور خبراته الشخصية المحدودة ونزعاته الثقافية، فاستخدام هذه النظرة الشاملة لإدراك العلاقة بين تجربتك الشخصية والمجتمع وسوف تساعدك على تغيير وجهة نظرك وعلاقاتك وصولاً إلى المؤسسات الاجتماعية وإلى التاريخ ككل، وهذا يعني بكل تأكيد أنك بدأت الآن في استخدام مفهوم الخيال السوسيولوجي وتوظيفه في قراءة مجريات الحياة الاجتماعية تمهيداً لفهمها وتحليلها وتفسيرها.