يوسف وقاص.. الصوت المهاجر
يوسف وقاص، روائي وقاص من مواليد سوريا عام 1955. بدأ الكتابة عام 1995 من خلال مشاركته في مسابقة “Eks & Tra – الأجانب بيننا” الأدبية، وهي مسابقة مخصصة للمهاجرين المقيمين في إيطاليا. في عام 1998 نال ميدالية استحقاق أدبي من رئيس الجمهورية الإيطالية لمساهماته في أدب المهاجرين الإيطالي. في عام 2003 أنجزت القناة الثالثة الحكومية Rai3 فيلماً وثائقياً يتحدث عن نقطة تحوله الأدبية وحياته بشكل عام، وفي عام 2004 قام التلفزيون الإيطالي السويسري بإنجاز ريبورتاج عن نفس الموضوع. في عام 2005، اضطر إلى مغادرة إيطاليا للعودة إلى سوريا، ثم عاد إلى إيطاليا في أواخر عام 2015 (بعد فراره من وطنه) بسبب الأحداث المأساوية التي بدأت تشهدها سوريا منذ اندلاع الثورة في عام 2011.
الأعمال باللغة الإيطالية:
“أوراق مشطّبة – رحلة سريالية بين السجناء والمهاجرين” (دار نشر إكس & ترا 2002)، “الأرض المتحركة” (دار نشر كوزمو يانّوني – سلسلة أدب المهاجرين والدراسات عبر الثقافات 2004)، “الخلد في السقيفة” (دار نشر ديل آركو 2005)، “الرجل الناطق” (دار نشر ديل آركو 2007، “أوبرا 99. حافلة الأحلام” (يوكانبرينت 2016)، “في الطريق إلى برلين” (دار نشر كوزمو يانّوني – سلسلة أدب المهاجرين والدراسات عبر الثقافات 2017). وله قيد الإصدار “أرض الغار”.
الأعمال المترجمة إلى العربية:
“بينوكيو – كارلو كولّودي” (دار المتوسط – ميلانو 2017)، “لكنك ستفعل – جوزيبِّهْ كاتوتسيلا “، (دار المتوسط – ميلانو 2019 )، “قطار الأطفال – فيولا أردونِهْ” (دار الساقي – بيروت – لبنان 2019)، “قصة القصص – جامباتيستا بازيلِهْ” (ترجمة يوسف وقاص وأمارجي 2020 – دار المتوسط – ميلانو – قيد الطيع)، “في الطريق إلى برلين” (دار المتوسط – ميلانو – 2021)، “جدار على الحدود” – قصص من أدب المهاجرين في إيطاليا (2021 قيد الإصدار).
في هذا الحوار مع الكاتب والقاص نتعرّف على روائي وقاص من طراز خاص في تكوينه وتطلع ورؤاه، كاتب يستند إلى تجربة طويلة ومتشعبة في العيش العابر للجغرافيا والكتابة العابرة للأجناس. وهو صاحب تجربة أدبية فريدة نأمل أن يمكن القارئ العربي من التعرف عليها عن قرب من خلال ترجمة المزيد من أعماله إلى العربية. هذا الحوار يشق النافذة لنتعرف على أفكار وتطلعات كاتب من طراز استثنائي ما كان لنا أن نتعرف على نماذج من أدبه لولا دار “المتوسط” التي أطلقت من ميلانو مشروعا نشرياً طموحا لترجمة ونشر الأدب المكتوب بالإيطالية.
قلم التحرير
الجديد: متى بدأت الكتابة؟ لطالما تساءلت عن مسار الكتابة الذي يبدأ من الطفولة.
يوسف وقاص: لا أعرف بالضبط متى بدأت الكتابة، إلا أن الذاكرة تقودني إلى أكثر من مرحلة، بدءاً من سن الطفولة، ثم مصادفة في وقت متأخر نسبياً، أي في عام 1996، عندما فزت بالجائزة الخاصة للجنة التحكيم في مسابقة أدبية مخصصة للكتاب المهاجرين المقيمين في إيطاليا. كانت قصتي الأولى باللغة الإيطالية تحمل عنوان “أنا مغربي بحرفي الكاف”، (Io marokkino con due kappa)، تقمصت فيها شخصية مهاجر مغربي، لما رأيته من أحكام مسبقة بحقهم. ثم تابعت الكتابة على نفس المنوال، متوغلاً أكثر فأكثر في عالم المهاجرين وما يعانونه من مشاكل في حياتهم، بأسلوب غرائبي بعض الشيء، وبسخرية سوداء، مقتفياً بطريقة ما أسلوب الكاتب التركي الكبير عزيز نسين، الذي كنت قد ترجمت له قصة قصيرة أثناء مرحلة الدراسة الإعدادية بعنوان “من الهواء والماء” (Havadan sudan) ونشرتها في مجلة العربي الكويتية. إلا أنه من الضروري التوقف عند مصدر إلهامي الذي يعود بلا شك إلى مرحلة الدراسة الابتدائية، عندما كنت أصغي باهتمام كبير إلى قصص أمّي القادمة من قرية صغيرة في جبال طوروس وجدّي الذي كان قد حارب مع الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى على الجبهة البلغارية والرومانية. كانت أمي تروي لنا قصصاً مدهشة عن الدببة الذين يطرقون باب منزلهم الريفي، الموصد بعارضة خشبية، متوسلين بعض الطعام، أو حوريات النبع “Periler” اللاتي كن في منتهى اللطف ولا يتوانين عن مساعدتهن في حمل جرار الماء إلى بيوتهن. ثم، في أيام الجمعة، بعد الصلاة، كنت أذهب إلى منزل جدّي القريب من الجامع لأقرأ له بعض الفصول من كتاب “حضرتي علي جانكلر Hazreti Ali Cenkleri” (حروب سيدنا علي، باللغة العثمانية القديمة). عندما كنت أصل بالقراءة إلى المقاطع التي تتسم بالبطولات الخارقة للإمام علي، كان جدّي يقفز من مكانه على الفراش وهو يصرخ بحماس قلّ مثيله: يا الله! دورمادان صالْدِر كَهْرَمانيم، صالْدِر. (اهجم دون توقف يا بطلي، اهجم).
ثم كانت هناك القصص العجيبة التي كان الناس يتداولونها في المقاهي والأسواق حول البيارق التي كانت تطير أثناء المواكب الدينية من مزار إلى مزار، والمخلوقات الغريبة التي تظهر في ليالي الشتاء الحالكة وتسلب الأفكار من عقول الأشخاص، فتراهم يعانون من الخرف (كان مرض الزهايمر المبكر غير معروف بعد، على الأقل لدينا) ويهيمون على وجوههم في البراري للبحث عن ذواتهم التي سرقها الشيطان في لحظة سهو، أو نتيجة عمل أثيم ارتكبوه خلسة لتحل عليهم لعنة النسيان إلى أبد الآبدين.
كل هذه القصص كانت تثير في داخلي الأسئلة، وتدفعني للبحث والاستقصاء، وهذا ما كان يجعلني أقضي معظم وقتي مع الكتب، والتعرف في وقت مبكر على أفكار كبار الكتاب والفلاسفة، إلا أن هذا الحماس كان ينطفئ من وقت إلى آخر، فقد اضطررت للعمل في سن يافعة، في الثانية عشرة من العمر لإعالة إخوتي بعد وفاة والدي.
كانت البداية مع الحجّاج الأتراك الذين كانوا يتوافدون على المقهى الذي كنا نملكه بعد عبورهم الحدود. كانت تستهويني عاداتهم، ألبستهم، لهجاتهم المختلفة، وفوق كل شيء هوسهم في تناول الشاي مع الخبز السوري الطازج والتمر والبصل الأخضر. كنت أصغي إلى حكاياتهم بانتباه شديد، وكانوا يبدون حنوّاً بالغاً تجاهي، حتى أن جلّهم كان يناديني، أسوة بإحدى قصص عزيز نسين: الله كوروسون، بيزيم طورونيميزن ماشالّاهِ فار! (ما شاء الله، حفيدنا فلتة).
المدينة والكاتب
الجديد: المدينة التي ولدت فيها، حلب، لها إرث تاريخي مهم. يجب أن يكون لهذا الإرث العظيم تأثير كبير في كتاباتك. ما هو أكبر مصدر إلهام لك. ما الذي يثيرك أكثر في مدينتك؟
يوسف وقاص: تلعب المدن دائماً، بإرثها وتاريخها وعادات سكانها، دوراً مهماً في حياة كل كاتب. أذكر في هذا الصدد ما كتبه أورهان باموق عن إسطنبول، أو لوركا عن غرناطة. وحلب التي تعد واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، طورت مع الزمن مناخاً ثقافياً قوياً أدى إلى ولادة شعراء وكتّاب وأطباء وفلكيين ومفكرين ساهموا في إغناء الأدب العربي، ولا زالت أعمالهم متداولة على ألسنة الناس حتى اليوم، مثل أشعار أبي فراس الحمداني. وكان آخرهم خيرالدين الأسدي، مؤلف “تاريخ القلم العربي”، وهي موسوعة في النحو استغرق في كتابتها ثلاثين عاماً، و”موسوعة حلب المقارنة” التي سجل فيها تراث حلب الثقافي من حِكَمٍ وأمثال وعادات وأخبار. إرث هائل، وتمازج لا مثيل له بين مختلف الحضارات التي شهدتها هذه المدينة، ابتداء من العصور القديمة وحتى زمننا الحاضر. قد لا أذكر حلب مباشرة في كتاباتي، إلا أنها حاضرة دائماً في كل ما أكتبه، برموز أو إشارات خفية، أو حتى في الأسلوب الذي هو في النهاية خلاصة ثقافة عريقة تراكمت عبر القرون ويمكن رؤية آثارها في العادات اليومية وفي تعدّد الطرز المعمارية، إذ تجمع أنماطاً معماريةً سلجوقية وبيزنطيةً إضافةً إلى الطرز المملوكية والعثمانية والفرنسية، ممن تعاقبوا عليها على مر السنين، بالإضافة إلى الفنون، إذ لا يمكن ذكر الفن في كافة أرجاء البلاد العربية، دون ذكر حلب. ورغم ابتعادي عنها لفترة طويلة، إلا أن ارتباطي بها لم يتأثر أبداً، فهي المدينة التي تعرفت فيها على السينما والمسرح وركبت فيها لأول مرة الترام، ولمً لا، تعرفت في إحدى لياليها على الحب أيضاً، الذي جلب لي الأرق لأيام وأيام.
لكل مسافر إيثاكا
الجديد: نعلم أنك عشت في إيطاليا لسنوات عديدة. هل يمكنك إخبارنا قليلاً عن رحلتك إلى إيطاليا؟
يوسف وقاص: عندما اعود بذاكرتي إلى الوراء، لا تلبث أن تنفرج شفتاي عن ابتسامة تجمع بين الرأفة والإعجاب، إلى حد ما، أمام ذلك الفتى الذي يمشي مشدوهاً بين أزقة ميلانو، وهو يقارن بفضول وإصرار مزعج وجوه المارين بوجوه الأشخاص الذين لطالما تأملهم في اللوحات التي تعود إلى عصر النهضة الإيطالية، أو في أفلام الواقعية الجديدة لفيلليني وأنطونيوني وبازوليني، وغيرهم من المخرجين الإيطاليين الكبار. ورحلتي كان مبعثها ذلك الشغف للبحث عن الذات، أو بالأحرى تكوين الذات عبر عوالم جديدة. فكما نعرف، كلنا يحمل في داخله “إيثاكا” يخفيها عن الآخرين، الجزيرة المفقودة التي يكرّس حياته للبحث عنها، ولا يتردد أحياناً في مواجهة المخاطر للعثور عليها بأية طريقة كان.
سافرت من بلدتي الصغيرة القريبة من الحدود التركية، ووجدت نفسي فجأة وجهاً لوجه مع عالم كنت أعتقد أنني أعرفه جيداً من خلال قراءاتي الكثيرة، إلا أنني اضطررت أن أبدأ كل شيء من نقطة الصفر. لم تكن البداية سهلة، وما تزال، لكنني أيقنت حالاً أنه كان عليّ أن أعارك بلا هوادة وأن أجرّب كل المنافذ المتاحة، لأقف على قدميّ ولا أضيع في زحمة هذه الغابة الإسمنتية وبذخها الذي يبدو جلياً في كل ما تراه العين. طبعاً، مثل هذه البيئة، والاندفاع والتهور لإثبات الذات بشتى الطرق، لا بد أن يخلقوا مشاكل كثيرة، وهو ما جعلني أجد نفسي فجأة في عالم كان أبعد ما يكون عن تصوري. عالم شرس، يسوده قانون الغاب، ولا مكان فيه للضعيف. غامرت، لكن دون أن أتخلى عن قناعاتي، ففي هذه الرحلة الشائكة، كان حماس جدّي ووداعة أمي يصاحبانني دائماً، حتى أنني، في اللحظات الحرجة، أي عندما كنت أقوم بعمل لا يتوافق مع تعاليمهم، كنت أعاني كثيراً من عذاب الضمير، وألجأ إلى وسائل غير محبذة للتخفيف من الآلام التي تعصر صدري. مسيرة طويلة، مليئة بإشكالات كثيرة، اضطررت بعدها للعودة إلى سوريا في عام 2005. لكن بعد اندلاع الثورة السلمية في عام 2011، وتحولها فيما بعد إلى حرب طاحنة، عدت ثانية إلى إيطاليا في عام 2016، بعد أن قضيت سنة ونصف في تركيا أعمل منادياً لسيارات الأجرة أمام فنادق أنطاليا، ثم سمسار عقارات في إسطنبول.
المهمشون في الأرض
الجديد: كانت غاياتري شاكرافورتي سبيفاك تبحث عن إجابة للسؤال التالي في مقالتها الشهيرة “أثمة صوت للإنسان المهمّش؟” إذا اعتبرنا اللاجئين مهمّشي اليوم، أليس الأدب هو العامل الأقوى في جعل أصوات المهمّشين مسموعة، تمامًا كما في قصصك؟
يوسف وقاص: كثيرة هي العوامل التي تدفع من لديه إحساس مرهف أن يميل نحو الآخر، وأن يتناول هذا الموضوع بجدية، بل أن يجعل منه محور كتاباته. كان لا بد لي في البداية أن ألتقي بهؤلاء وأن أعيش همومهم وقصصهم عن قرب. كل واحد منا كان يبحث عن الأمل في عيون الآخرين، وعندما كانت تأتي الشرطة لطردنا من محطة القطار حيث كنا نأوي بحثاً عن مرقد أو مكان نحتمي فيه من برد الشتاء، كنا نتحول إلى بهائم مذعورة، تهرب في كل اتجاه، ولا تملك حتى الجرأة لمد يد العون إلى رفيق الدرب الذي كان يقاسمه الخبز لبضع دقائق خلت.
بعد هذه الحوادث، غالباً ما كنت أفكر في الطريقة التي يمكن بواسطتها نقل هذه الصورة إلى الجانب الآخر، الذي حتماً كان يعرف القليل أو لا شيء عن حياة المهمّشين، من المهاجرين أو حتى من السكان الأصليين. من هنا بدأت محاولاتي في الكتابة عن نفسي وعنهم، بعد أن أدركت أنه ما من سبيل إلى ذلك سوى الأدب، لما له من تأثير قوي ومستدام على الأفراد والمجتمع بشكل عام. ولعل أفضل قصة كتبتها في هذا الشأن، هي قصة “أبوبكر يذهب إلى الجنة”، التي أتمنى أن تُترجم وتجد طريقها إلى القارئ التركي أيضاً.
عالم المهاجرين
الجديد: أعتقد أنه بالرغم من أنك لم تحصل على الجنسية الإيطالية بعد، فأنت تُعتبر كاتبًا إيطاليًا من أصل سوري في بلد إقامتك لأنك تكتب قصصك باللغة الإيطالية. ومعظم هذه القصص تدور حول حياة المهاجرين في إيطاليا. لقد أتيحت لنا الفرصة للسفر إلى إيطاليا من قبل وبقينا في منطقة بها كثافة عالية من المهاجرين الأفارقة. هل يمكننا التحدث قليلاً عن موقف المجتمع الإيطالي تجاه هؤلاء المهاجرين؟
يوسف وقاص: نعم، هذا صحيح، لم أحصل بعد على الجنسية الإيطالية، وربما لن أحصل عليها أبداً لأسباب شتى، تعود في الأصل إلى اندفاعي المحموم في البدايات والأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها أثناء مسيرتي العسيرة على هذه الدروب، سواء هنا، أو في اليونان أو في يوغسلافيا. ويا للمفارقة، ما زلت اُعتبر كاتباً إيطالياً من أصول سورية. واختياري الكتابة باللغة الإيطالية ينبع في الأصل من تحد لنفسي بالدرجة الأولى، والوصول مباشرة إلى القارئ الإيطالي بالدرجة الثانية. لقد راعتني منذ البداية معاناة المهاجرين القادمين من مختلف دول العالم الثالث، وتلك الهوة الشاسعة التي تفصلهم عن السكان المحليين. كانت الكلمة، وما تزال، الوسيلة الأجدى والأقوى ليس لترجمة هذه المعاناة فقط، إنما للتعمق في جذورها وايقاظ ذلك الإحساس الذي فقده الأوربيون بعد أن استعمروا العالم برمته تقريباً، وتمكنوا عبر استغلال موارد هذه الدول وخيراتها، من الحصول على كل مكونات الرفاهية. رفاهية ما زالوا يرفضون تقاسمها مع أحد، إلا من فتات لا يُسمن ولا يُغني، يمنحونه تحت شعارات مختلفة، إلا أنها سرعان ما تتبخر أمام أول شعور بالخطر، خطر الإنسان القادم من بعيد، من ثقافة مختلفة، من عادات وتقاليد كانوا يتمتعون برؤيتها لدى زيارتهم لتلك البلدان كسياح أو منقبين عن الآثار، إلا أنهم لا يريدون رؤيتها هنا، بينهم.
الطريق إلى برلين
الجديد: روايتك “في الطريق إلى برلين” تسرد قصة مجموعة من السوريين الفارين من الحرب أثناء محاولاتهم للوصول إلى برلين. أعتقد أنها من الأعمال الأدبية النادرة عن اللاجئين السوريين والمنشورة في إيطاليا، أليس كذلك؟
يوسف وقاص: تتألف رواية “في الطريق إلى برلين” من كوابيس حقيقية عن الحرب، يقود خلالها، “ميلاد بن كنعان”، بطل الرواية، وهو شخصية مصابة بازدواجية حادّة، مجموعة من لاجئي الحرب نحو ألمانيا. إنها مسيرة غرائبية حيث، بالإضافة إلى الواقع الهلامي الذي يصعب ادراكه، تقودهم بطريقة لا مفر منها للتعامل مع ماض غامض إلى حدّ ما، في سعي حثيث لإدراك جذور كل تلك الوحشية التي دفعته هو ومئات الآلاف من الأشخاص لترك أرضهم والبحث عن مأوى في بلدان أخرى.
السيناريو المريع الذي يتأرجح بين الحاضر والماضي، يتغيّر من فصل إلى آخر، في بنية دائرية ومجزّأة، مُحرّفاً باستمرار دلالات وأداء الشخصيات، ومُسنداً في كل فصل أدواراً جديدة لهم تعكس حقبة تاريخية أو حدثاً راهناً. ميلاد دي كورينثوس في معركة “ليبانتو” التاريخية بين أسطول الرابطة الأوروبية والأسطول العثماني، أو ميلاد بوغدانوفيتش في الفصل الذي يروي حادثة صفقة سلاح لم تُسدّد قيمتها للمهرّبين للروس، هما مثالان فقط لهذه التحوّلات التي تهدف إلى تسليط الضوء على مجريات حرب ضعضعت بشدة البنية النفسية الهشّة لجميع الشخصيات.
“نادية” (سوريا)، بهذا الصدد، مثال آخر لهذه التحوّلات المتكرّرة بين كونها ضحية، ومحاولاتها المستمرة، وسط تقلبات عاصفة، للتخلّص من المعاناة التي تعرّضت لها على أيدي الجلادين، كل ذلك ضمن بيئة لا تهمل جوهر السلوك الإنساني. أثناء هذه الرحلة، التي تخفي في الظاهر مهمّة سرية، وهي نسف سفارة جزر فيجي، تجد الشخصيات نفسها مضطرة أيضاً للتعامل مع كيانات إلهية، كما في الرحلة التي قام بها “ميلاد” و”نادية” إلى السماء السابعة، في الفصل الذي يروي اختطاف الأب باولو داللوليو (Paolo Dall’Olio) في مدينة الرقة، أو الحلف أحادي الجانب مع عزرائيل، ملك الموت الذي يدفع “ميلاد”، من غير قصد، لقتل “نادية”.
وباللجوء إلى الحكايات الشعبية المتداولة في الشمال السوري، مثل ثوب ريبيكّا السحري (وهي حكاية مستوحاة في الأصل من ملحمة غنائية تروي قصة الشاعر والمطرب التركي الجوّال عاشق كريم مع محبوبته أَسْلي، ابنة قسّ أرمني (Kerem ile Asli)، تعرّج الرواية أيضاً على القضية الفلسطينية التي تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من نضال الشعوب العربية في نيل الحرية وبناء مجتمع مدني يسوده العدل والقانون.
الرواية، ربما هي الأولى باللغة الإيطالية التي تتحدث عن مأساة المهاجرين السوريين، إلا أنّ هناك تجارب كثيرة أيضاً، سواء باللغة العربية أو باللغات الأوربية الأخرى.
مهمة قتل
الجديد: أنت نفسك مهاجر وأحد أهم ممثلي الأدب الذي يصف حياة المهاجرين. لذلك لديك تجربة ومكان خاصان. مثلما رسم ناجي العلي حنظلة، شخصية مستوحاة تمامًا من كيانه، هل سبق لك أن استلهمت من نفسك أثناء كتابة الشخصيات في قصصك ورواياتك؟
يوسف وقاص: حقيقة أجد صعوبة بالغة في تحديد أيّ من الشخصيات التي تماهت أو قاربت شخصيتي في خضم كتاباتي اﻷدبية، ولكن لا بد أنني وضعت في كل شخصية شيئاً مني، أي من وجداني ومن إحساسي العميق بمعاناتهم ومحاولاتهم البائسة للنهوض بأنفسهم نحو حياة أفضل. هنالك أكثر من قصة تجسد أيضاً الجانب الإنساني حتى لدى أولئك الذين نعتبرهم أفراداً لا يمكن إصلاحهم بأيّ حال، أو أن نظرتهم لحياة الكائن الحي تخلو من أي إحساس أو شفقة، كما في قصة “Palta Kerim”، التي تتحدث عن قاتل مأجور تركي يرسله زعيمه إلى ميلانو لقتل أحد المهربين الإيطاليين لأنه لم يسدد ثمن البضاعة التي حصل عليها منهم. “كريم”، بعد أن يتعرف عن قرب على حياة ضحيته، فيرأف بحاله ويتراجع عن قتله، بل يصبحان في النهاية صديقين حميمين.
العنف والرقة
الجديد: أعلم أنك مترجم مهم أيضًا. “حي بن يقظان” لابن طفيل هو من بين الأعمال التي قمت بترجمتها من العربية إلى الإيطالية. حقا عمل كبير. هل لديك روتين معين عند الكتابة أو الترجمة؟
يوسف وقاص: في الحقيقة، ليست لديّ طقوس معينة في الكتابة، أكتب في أيّ وقت، حتى في الأماكن المليئة بالضجيج، مثل المقاهي، أو عربات المترو. ألجأ أحياناً إلى المكتبات العامة، لكنني أجد هذه الأجواء مملة، فأعود إلى أماكني المفضلة في البيت، أو في الحدائق العامة بين زعيق الأطفال والمناقشات الصاخبة بين المهاجرين القادمين من أميركا اللاتينية أو من أوروبا الشرقية، مع ما يتبع ذلك من تبادل قذف الحجارة وزجاجات البيرة الفارغة. كل هذا يؤكد لي مرة أخرى، أن الحياة هي مزيج من تفاعلات متعددة الجوانب، عنيفة أحياناً، ورقيقة أحياناً كثيرة، خاصة عندما ألمح من بعيد فتاة في عمر الزهور، تبتعد عن حبيبها وهي تكفكف دموعها، ثم بعد قليل، أراهما يتعانقان من جديد. فصول تتتابع، ونحن لا نملك إلا أن نعيشها بكل بهجتها وتعاستها، ولا يمكن إدراك ذلك إذا لم ننظر إلى الحياة النظرة التي تستحقها بالفعل.
ضفتان تتناظران
الجديد: هناك عناصر تاريخية قوية للغاية في كل من قصصك ورواياتك. قلت في مقابلة سابقة: يعود اهتمامي بالتاريخ إلى أيام طفولتي في المدينة التي أعيش فيها على الحدود السورية – التركية. ما هو أكبر درس يجب أن نتعلمه من تاريخنا المشترك؟
يوسف وقاص: مع أننا نملك تاريخاً مشتركاً يمتد لمئات السنين، إلاّ أن تحولات العالم المعاصر، بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية، وضعت حاجزاً بيننا، بدا من الصعب اجتيازه لسنوات طويلة. ثم اندلعت الحرب في سوريا، واكتشف الطرفان أن هناك عوامل كثيرة تجمعهما، من اللغة والمطبخ وحتى العادات الصغيرة التي لا يمكن التقاطها عن قرب. بدأ هذا الاكتشاف منذ عبور المجموعة الأولى من اللاجئين الحدود التركية وما لاقوه من ترحيب وقبول من الطرف الآخر. لم يمر هذا الأمر بسلام مع كثرة الوافدين، الذين وصل عددهم خلال فترة سنة أو سنتين، إلى ثلاثة ملايين ونصف لاجئ، وكان الصدام، تحت ذرائع مختلفة، لا بد منه، وهو ما حدث في أكثر من مناسبة، ولا تزال هناك أطراف تمارس دعاية شرسة ضد وجود اللاجئين في تركيا. مع ذلك، نجد أن الأغلبية، من كلا الطرفين، نظراً للأواصر القوية التي تربطهما، اختارت طريق التعايش السلمي والتعاون في أكثر من مجال، وخاصة في مجال التجارة والأعمال، دون أن ننسى مجال التعليم أيضاً، الذي سيساعد، برأيي، في خلق أجيال جديدة يمكنها أن تطوي إلى الأبد صفحة العلاقات الشائكة ليس بين سوريا وتركيا فحسب، بل مع كل البلدان العربية. صحيح أن هناك بعض الأمور السياسية التي تزيد من حدة التوتر، ولكنها مرتبطة بالوضع الآني، وحتماً سوف تتغير بدورها مع انحلال الأزمة وبدء فصل جديد من العلاقات بين البلدين. شكّلت الحرب في سوريا درساً كبيراً لكل الأطراف، وفرضت بالتالي إعادة النظر في كل ما سبق، وبدء علاقة مبنية على الاحترام المتبادل بين الجميع.
السوريون يكتشفون أنفسهم
الجديد: اليوم الشعب السوري ضحية واحدة من أكبر المآسي في التاريخ. أعلم أن معظم الكتاب السوريين يعيشون في المنفى، وأعلم أن هذا الأمر لربما سيستغرق وقتًا طويلاً. ومع ذلك، هل تعتقد أن هؤلاء الأدباء لديهم القوة الكافية لنقل الأحداث في سوريا إلى العالم؟ وكيف تجد الأعمال التي تم إنتاجها خاصة في السنوات العشر الماضية؟
يوسف وقاص: الأعمال الأدبية التي أنتجها الكتاب السوريون في المنفى خلال السنوات العشر الأخيرة، تدعو للدهشة حقاً. إذ لم يقتصر الأمر على الكتابة السردية من شعر ورواية فحسب، بل شمل جميع الفنون الأخرى، بما في ذلك تجارب سينمائية مهمة. هذا الانفجار، الذي كان مكبوتاً نتيجة للوضع السياسي في سوريا، وجد متنفساً له في بلدان المهجر. ربما من السابق لأوانه الحكم على التأثير الذي سوف تشكّله هذه الفورة الكبيرة في كل المجالات، إلا أنني أستطيع القول إن ثمارها، كما البراعم في مقتبل الربيع، بدأت تتشكل في كل بلدان الغربة تقريباً، مردّ ذلك إصرار الكتاب والفنانين على متابعة هذا الطريق بثبات وشغف، رغم صعوبته والعوائق الكثيرة التي تعترضه.
المهاجرون يعولمون إيطاليا
الجديد: نستضيف العديد من العائلات السورية في بلدنا. أن نكون معًا يشكّل ثروة كبيرة بالنسبة إلينا. وهي أيضًا فرصة عظيمة لنا. معظم الوقت لا يسعني إلا التفكير في هذا. من يدري مدى عظمة المواهب الأدبية في بلدنا الآن، لكن ربما لا نعرف عنها شيئاً. ما هو واجبنا تجاه هذه المواهب، وما الطريق لاكتشافها؟ هل لديك رسالة تريد إرسالها إلى تركيا؟
يوسف وقاص: أصبح من البديهي أن امتزاج الثقافات يخلق ثقافة جديدة، متنوعة وغنية، فما بالك بثقافتين عريقتين كالثقافة التركية والثقافة العربية بينهما أواصر مشتركة قديمة. لا شك أن هناك الكثير من المواهب تنتظر من يكتشفها، أو يمد لها يد العون في حده الأدنى، كما حدث في إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية الأخرى. في إيطاليا مثلاً، يعود الفضل إلى اكتشاف هذا العدد الكبير من الكتاب الذين ينتمون إلى دول وثقافات مختلفة، إلى مبادرة جمعية ثقافية ودار نشر صغيرة في مقاطعة إميليا رومانيا، اللتين طرحتا مسابقة أدبية للأجانب المقيمين في إيطاليا، وكانت النتيجة أكبر من كل التوقعات. سبق ذلك بعدة سنوات، في بداية التسعينات، اهتمام دور النشر الكبرى، بعد موجات الهجرة الكبيرة، في إنشاء نوع من التعاون بين صحفيين إيطاليين وكتاب مهاجرين، وهكذا صدرت عدة روايات كان لها صدى كبير في الأوساط الأدبية، مثل “اسمي علي” للمغربي محمد بوشان، بالتعاون مع الصحفيين كارلا دي جيرولامو ودانييل ميتشّوني، “مهاجر” للتونسي صلاح مثناني وماريو فورتوناتو، و”بائع الفيلة ” للسنغالي بَبْ خوما وأوريستِهْ بيفيتّا، ورواية “وعد حمادي” للسنغالي سعيدو موسى پا وأليسّاندرو ميكيليتّي. هذه النصوص، رغم أنها كانت في غالبيتها بيوغرافية أو تتعلق بالسيرة الذاتية، إلا أنها كانت تعكس أيضاً الحاجة الماسة للتواصل مباشرة مع الجمهور الإيطالي وإسماع الصوت في بيئة تضجّ بالعنف والعنصرية، وفوق كل شيء بالنفور المتزايد بين الطرفين. وبالإضافة إلى عولمة الأدب الإيطالي، فأعمال الكتّاب الجدد تملك أيضاً تأثيراً مهمّاً ومتجدداً من ناحية الشكل والمضمون، وأقصد هنا تهجين الأنواع الأدبية واثرائها بخصائص أدبية أخرى، بما في ذلك الاغتراف من ثقافاتهم الخاصة وتقديمها باللغة الإيطالية. يقول البروفيسور أرماندو نييشي، الذي كان مدرساً للأدب المقارن في جامعة “لا سابيينسا” في روما، قبل رحيله عنّا منذ عامين تقريباً “أعمال الكتّاب القادمين من ثقافات مختلفة ستساهم بقوة في نشر الأدب الإيطالي عالمياً، وإخراجه من حيزه الضيق. نحن نملك الحظ والثراء في امتلاك كتّاب من 92 بلداً مختلفا، وسنمتلك بفضلهم أدباً جديداً ذا تطلعات تتجاوز الإقليمية، وهي ظاهرة ليست أوربية فقط، ولكنها عالمية أيضاً. هذا الأدب سوف “يُعَوْلِم” العقلية الإيطالية أيضاً، لأنه سيجعلنا نتعرف على قصص من العالم المعاصر الذي غالباً ما نجهله”.
________________________________
• أجرت الحوار: بيرين بيرسايغيلي مُوتْ (Peren Birsaygılı Mut) ونشرته مجلة “دُنيا بيزيم”( Dünya Bizim) الإلكترونية. في إسطنبول، والنص العربي ينشر بالاتفاق مع الكاتبة.