نهاية مخيم شجاع
أقفر “شارع اليرموك” من السيارات والمارة، وراح يتردد في فضائه رصاص القنص، وبات قطعُهُ من طرفٍ إلى آخر محفوفاً بمخاطر كبرى. ومع أزيز الرصاص وهسيس القذائف المتساقطة أخذت تنتشر بين الناس أقاويل تروي رؤيتها لمجاميع بشرية هائجة تقتلُ بالجملة مجاميع بشرية أخرى. وتضاربت الأنباء وتنوّعت على نحوٍ أثار الفزع والرعب في القلوب. وفي الحال، انتشر شبّان الحارات المطلّة على ذلك الشارع يحملون العصي، والشنتيانات، والسيوف، ويسدّون مداخل حاراتهم بقطع الخشب، والبراميل، وتَنَكات الزريعة.
وكعادة الأخبار التي تخصّ الشأن السوري، فقد انتشرت أنباء ما جرى في تظاهرة ذلك اليوم، السبت 29 حزيران 2012 في “مخيم اليرموك” من سقوط عددٍ كبير من القتلى والجرحى، ومن إحراقٍ لرمزين كبيرين من رموز الدولة “قسم شرطة التضامن”، و”قسم شرطة اليرموك”، في محطّات التلفزة على أنواعها، فألهبت حماس بعض عناصر جيش التحرير الفلسطيني، المرابطين في رحبة جرمانا، فانشق نفرٌ منهم واستولوا على سيارة زيل عسكرية، وفرّوا بها قادمين لنُصرة مخيمهم، ظنّاً منهم أنه قد صار هو وجواره في قبضة الجيش الحرّ!
غير أنه، وفي نقطة عند أوّل المخيم، عند الدوّار المعروف بدوّار البطّيخة تعرضّت سيارة الزيل المنشقة إلى كمين مسلّح، من جانب قوات الأمن السوريّ التي كانت ترابط بكثافة عند مدخل المخيّم من جهة القاعة، مما أدّى إلى استشهاد معظم الموجودين فيها. ومع حلول المساء تمكّنت تلك السيارة الملأى بجثث العسكريين المنشقين من الوصول إلى مستشفى “فايز حلاوة” وسط شارع اليرموك. وكانت طوال الطريق الذي سلكته في شارع الثلاثين تقطر دماً. وكان ذلك المستشفى التابع لجيش التحرير الفلسطيني قد سقط بدوره في أيدي المتظاهرين منذ ساعات ما بعد الظهر، ذلك أن كثيرين منهم كانوا يتوعّدونه، ويتوعّدون العاملين فيه، لكثرة ما كان يحدث فيه من اعتقالات لبعض الجرحى الذين يتمّ إسعافهم إليه.
وفي الأيام التي تلت يوم التظاهرة ذاك واصلت معظم محلاّت ودكاكين المخيم، إلا ما كان منها غائراً في عُمق الحارات، إغلاق أبوابها. وبالطبع، فإما:
الإغلاق أو الإحراق!
ولسوف تستمر الأمور على ذلك المنوال نحواً من عشرة أيام، العشرة الأخيرة من شهر شعبان، وفيها التزم أغلب الناس بالبقاء، ما أمكن، داخل بيوتهم. واقتصرت الأطعمة على مخبوءات المونة. ومن عادة “شارع اليرموك”، وهو من الشوارع التي لم تكن تعرف النوم والهدوء، لا في نهاره ولا في ليله، أن يعمر بالأطايب المذهلة التي تحيّرُ الشارين، وتُفرغ جيوبهم، بتنوّعها وكثرتها، وهي كذلك في الأيام العادية، فكيف بأيام شهر رمضان، أو في الأيام التي تسبقه؟
والواقع أنّ “مخيم اليرموك” كان حتى ذلك الوقت محطّ تقديرٍ كبيرٍ من السوريّين، واختاره الكثيرون منهم مكاناً للإقامة، لأجوائه الدافئة، وقربه من العاصمة “دمشق”، ورخصه النسبيّ، وسمعته الطيّبة كعاصمة للشتات الفلسطينيّ، بحيث فاقت أعدادهم فيه في سنواته الأخيرة أعداد الفلسطينيّين من أهله. كما وكان قد عاش في الفترة الممتدة من حزيران 2011 حتى حزيران 2012، فترة الزخم الكبير لثورة السوريّين، هدوءاً نسبياً، قياساً بمناطق سورية أخرى. وفي غضونه أخذ ينتفخ، كأنّك تنفخ في كُرَة، بفعل الذين انتقلوا للسكنى فيه من أبناء القرى والبلدات والمحافظات السورية الملتهبة بالمعارك، وبالأخصّ من أبناء محافظة حمص، المنكوبة. وكان ذلك الهدوء النسبيّ قد أشاع بين الناس وهماً مخادعاً مفاده أن ثمة إجماعاً بين الأطراف الرئيسية المتقاتلة فوق الأرض السورية على إبقائه ملاذاً آمناً لمن يُرغمهم عنف الأحداث في المدن السورية الأخرى على ترك مناطقهم.
ولسوف ينعكس التدفّق الكبير للنازحين إلى المخيم في عام الهدوء المخادع ذاك انتعاشاً كبيراً في اقتصادياته، وهو ما كان، كبؤرة تجارية تتوفرّ فيها كامل احتياجات البشر من الإبرة إلى السيارة، مستعداً له تمام الاستعداد، من خلال أسواقه الكبرى: “شارع اليرموك” و”شارع لوبية” و”شارع صفد” و”سوق السيارات” على شارع الثلاثين، ليلاً. و”شارع فلسطين”، شارع الخضرة والفواكه واللحوم والدهانات والأدوات الصحيّة، نهاراً. وكلّها كانت قد صارت في العقود الأخيرة من عمر المخيم مقصداً لا لسكانه فحسب، بل ولعموم سكان “دمشق” وريفها. وظلّت تلك الأسواق إلى بداية تموز من عام 2012 تفيض بما تعرضه من بضائع، تتنوّع بتنوّع الوافدين إلى المخيم، وتنوّع احتياجاتهم المعيشية. ولكن ها هو “مخيم اليرموك” يتحول بدوره إلى مقلاة هائلة تقلي أهله، وتقلي النازحين ممن اختاروا حضنه الدافئ مكاناً للاستقرار الدائم.
ومع حلول أوّل يومٍ من أيام رمضان لذلك العام، وأتى يوم الثلاثاء 9 تموز، راحت بعض الدكاكين ومحلاّت الأطعمة على “شارع اليرموك”، تفتح أغْلاقَها، مع الضحى، على استحياءٍ وخوفٍ شديدين. نصفُ غَلَقٍ في البداية، ثم ما أتى وقت صلاة العصر إلا وعاد ذلك الشارع، أو أجزاءُ واسعةٌ منه، مع قفزةٍ مرعبةٍ في أسعار المواد الاستهلاكية إلى سابق سيرته من ازدحام المارة والسيارات، وامتلاء أرصفته بالباعة والبسطات، على أنواعها!
غير أن السير في ذلك اليوم، وفي ما تلاه من أيام، في شوارع “مخيم اليرموك” الجديد، وفي قلب حاراته الداخلية، ولاسيما في الساعات الأولى من الصباح، كان يبعث الكآبة في النفوس، ويُقطّع نياط القلوب. فالحركة شبه معدومة، مما عنى أن أهله كانوا إلى لحظتها ما يزالون عائشين في قلب الرعب الذي عاشوه في أيامهم الماضية. مرعوبين من فكرة الخروج من منازلهم، لرؤية ما آلت إليه أحوال مخيمهم العتيد، أو لتفقّد ما كان لبعضهم من دكاكين وورشات، في الشوارع التي شهدت أعنف قتال، وبالأخصّ “شارع فلسطين”، الذي جرى، في ظلّ اختباء معظم الناس في بيوتهم، تحطيم أغلب دكاكينه ومتاجره، ونهب محتوياتها!
ومضى ذلك الرمضان على الناس، وكان آخر الرمضانات لهم في مخيّمهم، بكثيرٍ من الدم الذي راح يصطاد الصائمين قبل الإفطار بدقائق معدودة، وهم يتجمهرون على أرصفة الشوارع لشراء عرق السوس، والتمر هندي، والفول، والمسبّحة، والمعروك، والنواعم:
“عَ النواعم. عَ النواعم. يالّلي رماك الهوا يا ناعم “!
كما حدث في “شارع الجاعونة”، في 2 آب، 2012 ، الموافق لـ13 رمضان، حيث استشهد من جراء سقوط عددٍ من القذائف (وكلّ طرفٍ يلقي مسؤولية إطلاقها على الطرف الآخر) على ذلك الشارع، قبيل الإفطار بدقائق، عشرون شهيداً، فيما ما كانوا يشترون ما ذكرتُ.
وكانت الشوارعُ التي تفصل “مخيم اليرموك” عن جواره السوريّ، وكانت فيما مضى للكزدورات، والمشي السريع الذي يوصي به الأطباء لمرضى القلب والسكّري، قد صارت في الأثناء فخاخ موت، وأماكن مُثلى لاختطاف بني البشر؛ اختطافُ فلانٍ لمبادلته بفلان. وفي الأثناء، استعر التنكيل والقتل الوحشي بين الناس، ومن الناس، وضدّ الناس. وصرت ترى من حينٍ إلى آخر جثةً ملقاةً هنا وأطرافاً بشرية ملقاةً هناك !
وتسأل عن فلانٍ الصديق:
– لماذا اعتُقِل فلان؟
فتأتيك الإجابة الجاهزة:
– ولَوْ! ليش ما بتعرف إنه طول عُمره معادي للنظام؟
ثم تسأل:
– ولماذا اختُطِفت تلك المخلوقة؟
فيأتيك جوابٌ آخر:
– وَلَو ! ليش ما بتعرف إنها شبّيحة للنظام؟
وبات الفراغ ابتداءً من تلك الأيام يفغر فاه في كل حارة وشارع من حارات وشوارع المخيم على هيئة أكوام هائلة من القمامة، وإقفالٍ مرعبٍ لأبواب الرزق في منطقةٍ اشتهرت، وبالأخص في العقدين الماضيين باكتظاظ أسواقها بالزبائن من كلّ حدبٍ وصوب، وبخاصة شارعي “لوبية” و”صفد “، فضلاً عن “شارع اليرموك”. وكان المشيَ في أزقّته وحاراته، وظلّ إلى اليوم الذي تركناه فيه نهائياً، بعد خمسة شهورٍ من ذلك التاريخ، يملأ النفس حزناً وأسىً، من وضعٍ كنتَ ترى بدايته، ولكنك لا تعرف إلى أين ستمضي بالناس نهايته!
ذلك أن اشتعال المناطق المجاورة للمخيم، أو سقوطها بشكل شبه كاملٍ في أيدي الجيش الحر، جعل من القمامة في مكانٍ يقطنه أزود من مليون مواطن مشكلة مخيفة. أين يمكن التخلّص من قمامة يخلّفها أزود من مليون إنسان والطرقات من “مخيم اليرموك” وإليه مقطوعة؟ وفضلاً عن تقطّع الطرقات، فقد بات عمال النظافة في بلديته يخشون على أرواحهم من الابتعاد جهة المناطق، التي تقع فيها مكبّات الزبالة، مثل “السبينة” أو “الحسينية”، بعد أن أكسبتهم أحداث الثورة السورية في العام ونصف العام الماضيين سمعة رديئة، من أنهم يجري استخدامهم للبطش بالتظاهرات، وتفريقها بقوة العصي والمعاول والرفوش. وجرت تسميتهم بـ”الشبّيحة ” (وهم بعض الشبّيحة لا كلّهم). وكان يُطلبُ منهم أن يفوتوا في قلب التظاهرات، وأن يكونوا في الصدارة منها. وعلى هذا فقد كانوا المتلقّين الأوّلين لعنف رجال الأمن الذين لا يكون لديهم ساعتها كثيرُ وقتٍ للتمييز بين متظاهر حقيقيّ، وشبّيحٍ يتظاهر بأنه متظاهر.
وهكذا، فقد صرنا في الشهور الأخيرة من عُمر المخيم، وإلى أن غادرناه نهائياً، نرى أكوام القمامة تُحرق في هذه البقعة الفارغة أو تلك، على قلّة البقع الفارغة فيه أصلاً، فيمتلئ فضاء الناس بدخانٍ نَتِنِ الرائحة. وكانت رائحة الزبالة وانقطاع الكهرباء وتساقط القذائف، والرصاص الطائش، كلها مؤشّرات كئيبة على المستقبل المظلم الذي بات ينتظر المخيم وأهله.
وابتداءً من تلك الأيام سوف تختفي، وإلى الأبد، آثار الكثيرين من أبنائه، ممن انخرطوا في القتال إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، أو من الناس العاديّين، قتلاً، وخطفاً، وسجناً. وسيبدأ الكثيرون من سكانه ممن يملكون جوازات سفر عربية، بالرحيل عنه، وخاصةً بعد أن تكاثرت عصابات السلب والنهب والخطف، وغدت أقفال الأبواب عوائق لا معنى لها.
وفي تلك الشهور العصيبة لم تنجح فكرةٌ قدّمها النظام السوريّ بأن تتولى فصائل م. ت. ف الإشراف على أمن المخيّم، على غرار ما هو قائمٌ في المخيمات الفلسطينية في لبنان. وبالمثل، لم تحظ بالقبول من جانب معظم أهل المخيم فكرة أن تنخرط بعض التنظيمات الفلسطينية كـ”القيادة العامة” والقوى الفلسطينية الأخرى الدائرة في فلكها، في القتال إلى جانب النظام السوري، ضد ما اعتبروه مؤامرة كونية تستهدف النظام السوري، وموقعه القوميّ والوطنيّ، وخطَّه الممانع!
غير أن رأي هذه التنظيمات انتصر أخيراً، وتشكّل في “مخيم اليرموك” ما أطلق عليه اسم “اللجان الشعبية”. وتسلّح أفرادها بالكلاشينكوفات والأربيجيهات، وأقاموا لهم حواجز ثابتة على الشوارع الرئيسيّة التي تفصل المخيم عن الأحياء المجاورة له. وظلّت تلك اللجان مرابطةً في شوارع المخيم إلى آخر يومٍ من حياته. وكانت قد وُجدت، وظلّت موجودة حتى ذلك التاريخ لسببٍ بسيط، وهو أنّ فصائل “الجيش الحرّ” المحدقة بالمخيم من كلّ جانب، وكانت أكثر عددياً وأفضل تسليحاً، لم تكن بعدُ قد حسمت أمرها بخصوص اقتحام المخيم وضمّه بشكلٍ نهائي إلى رصيدها المتعاظم من حول العاصمة دمشق. وعندما قرّرت ذلك في 16 كانون الأول 2012 انهارت تلك “اللجان” ولم تفِ بمبرر وجودها المزعوم؛ حماية المخيم، لا بل إنّ كثيرين من أفرادها أعلنوا، على الفور، انضمامهم لفصائل الجيش الحرّ، وانقلبوا بين عشيةٍ وضحاها من مدافعين أشداء عن النظام إلى معادين ألدّاءَ له !
وهكذا، وكجسدٍ محتضرٍ، راحت أعضاء المخيم التي كانت في السابق تجعل منه جسداً اجتماعياً نابضاً بالحياة تفقد وظائفها وظيفةً بعد أخرى. وتوقّف فيه أوّل ما توقّف:
“إقامة الجنائز الحافلة للموتى من أبنائه”!
ذلك أن التربة الجديدة، الواقعة بين حيّ “الحجر الأسود” وبلدة “يلدا” كانت قد صارت بدورها مسرحاً لأعمال قتالية شبه يوميّة، ولم يعد بمستطاع أيٍّ كان الوصول إليها، إلاّ إذا خاطر بروحه. وبدلاً من ذلك صرت ترى عدداً محدوداً من الناس يُعدّون على أصابع اليدين يحملون نعش المتوفّى، يمشون به على عجل، كما لو كانوا يريدون التخلّص منه. وما عدت ترى أثناء مشيك في أزقّة المخيم وحاراته خيمات العزاء التي كنا نراها في العقدين الأخيرين، أينما تجوّلنا. وكانت قد صارت عادة إجبارية، وما عاد بمقدور الناس أن يفعلوا كما كانوا يفعلون أيام طفولتنا؛ أن يقيموا الأفراح أو العزاءات في قلب البيوت، أو في الحارات، على كراسٍ يجمّعونها من عند بعضهم البعض:
“من هون كرسي، ومن هناك كرسي”!
ثم أتى عيد الفطر لذلك العام ولا ألق له، ودون إمكانية، للمرة الأولى منذ أن بنى أهل المخيم مخيمهم، من أن تُمارَسَ طقوسُ صباح أول يومٍ منه، كالمعتاد، بزيارة أحبّتنا الراقدين في تربتيْ المخيم: القديمة والجديدة، وهو ما كنا نفعله في كلّ عيد: فقد كنا نزور الأموات من ذوينا ومعارفنا قبل أن نزور الأحياء.
وفيما مضى، كان الناظرُ يرى صباح أول يوم من أيام العيد إذا أتيح لزاوية نظًرِهِ مسقطٌ رأسي، عشرات ألوف البشر يسيرون في الشوارع الرئيسيّة للمخيم، يحملون باقات الآس، وفي السنين الأخيرة صار البعض منهم يحملون سُعف النخيل: “الشعانين” ذاهبين إلى إحدى التربتين، القديمة أو الجديدة، لزيارة موتاهم. وبأغصان نبتة الآس النديّة، وبالماء الذي كان يجلبه لنا أطفال غجر شارع الثلاثين من بِركة التربة، كنا نؤكّد لموتانا بأنهم ما يزالون أحياء في قلوبنا، وفي ذاكراتنا:
“ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون”.
فعند قبور موتانا كنا نلتقي الأهل والأصدقاء والمعارف، ففي التربة موتى للجميع. وحول قبورهم كنّا نتحلّق، ونتبادل أولى التهاني والتبريكات. وفي التربة كانت تُفتح أصفاط الحلو، الذي لن نأكله، لأنّ معظمه كانت تتخاطفُه أيادي أولاد النَوَر. وأما نحن فلنا القهوة المرة التي يكون البعض قد اشتغلوا عليها في الأيام الأخيرة التي سبقت العيد، إلى أن تخمّرت وأينعت وحان قطافها. فتلك البداية الأخّاذة التي كانت تلازم صباح أول يومٍ من كلّ عيد لن تلازم عيد الفطر لذلك اللعام، ولا عيد الأضحى الذي تلاه. ولسوف يهرب أهل المخيم من مخيمهم على نحوٍ مباغت، بتاريخ 17/12/2012 دون أن تتاح لهم فرصة توديع أحبتهم الراقدين في القبور. ورحيلهم سوف يترك أولئك الأحبّة لمصيرٍ قاتمٍ، قادم!
وفي بداية عُمر “مخيم اليرموك” الجديد، أثمر غياب الدولة، ممثّلةً بالبلدية ورجال الشرطة، أو وجودها الصوريّ فيما بعد، عن نشاطٍ مرعب في البناء المخالف. وصار البعض يضيفون طوابق جديدة إلى طوابقهم القديمة. وساعد على تفاقم العمران العشوائيّ إدراكٌ خفيّ، وربما كان مقصوداً، بأن السلطات السورية تغضّ الطرف عن أعمال البناء المخالف كخطة ذكيّة من جانبها لإلهاء الناس، وشدّهم إلى بيوتهم، بدلاً من أن ينشدّوا إلى الشوارع الهائجة. كما وقف وراءه اطمئنانٌ مبهم بأن الأحداث الجارية في سوريا آيلةٌ، مهما طوّلت، إلى انتهاءٍ أكيد، وبالتالي فقد:
“فاز باللذّة الجسور”!
وكان أن وُلِدَت في تلك الفترة القصيرة – العصيبة من حياة الناس أشكالٌ بنيانيّة عجائبية، كأن يصنع أحدهم من غرفة مساحتها أربعة أمتار بأربعة أمتار، مبنىً مكوّناً من سبعة طوابق. ولم يدرك أهل المخيم، إلا عندما نظروا خلفهم وهم يهربون من بيوتهم ومن كلّ ما كان لهم في مخيمهم، أنهم بنوا للخراب، وأنّ الأجدى بهم لو أنهم احتفظوا بهالقرشين إلّي حيلتهم، المدّخرات التي راكمها التقتير والحرحصة، لأيامٍ سيغدون فيها مشردين، دون مترٍ واحدٍ يخصّهم ويخصّ أحلامهم ومستقبل ذرّيتهم، وأنهم سوف يحتاجون إلى تلك الأموال وإلى أضعافها، إيجاراً للبيوت، أو لمافيات تهريب البشر، التي ستغادر بالكثيرين منهم إلى الأوطان – المنافي – الجديدة، في مشارق الأرض ومغاربها!
والواقع أن ما كان من انهماكٍ وتحقيقٍ لما أمكن من مكاسب دنيويّة كان على سطح المشاعر فقط، وهي دوماً من فعل كلّ حاضرٍ محموم، وأما داخل النفوس، وفي عمقها الذي بات مشروخاً بين زمنين؛ الماضي الذي لن يعود البتّةَ، والآتي، الذي لا أحد يعرف تماماً كيف سيكون، فإنه:
لا استنزاف الحيز الجغرافي المعطى لهم حتى آخر قطرةٍ منه، ولا أيّ فرح عابر بصفقة تجارية أو عقارية أو عيدٍ أو تخرّج ابنٍ، أو زواج ولدٍ، أو خطوبة بنتٍ، أو نصرٍ عسكريٍّ لهذا الطرف على ذاك، كلّها ما عادت بقادرةٍ على تغطية مشاعر الحزن والأسى، تتفجّر دموعاً صامتة داخل النفوس، لرؤية وطنٍ عاش فيه الفلسطينيّون وأحبوه حبّهم لوطنهم الأمّ، يتمزّق، ويتهاوى أنقاضاً، مدينةً تِلوَ الأخرى.
فما أخذ يجري في سوريا من أحداث ابتداءً من تاريخ 18 آذار من عام 2011 ، يوم التظاهرات الدامية في مدينة “درعا” السورية، كان يجري في وطنٍ يحتلّ هو وأهله موقعاً استثنائياَ في عقول وضمائر الفلسطينيين العائشين فيه: فهنا، ووفقاً لما كانت الحكومات السورية المتعاقبة قد منحته لساكني سوريا، أو ما حرمتهم منه، تحدّدت طوال ستة عقود، مصائر مئات ألوف الفلسطينيّين.
هنا، ولدوا، ودرسوا، وعمّروا، وكوّنوا أُسَراً، وصداقاتٍ، وعرفوا التزامات سياسية وفكرية متنوعة، وكثيرون منهم ذاقوا، كأشقائهم السوريّين، ويلات السجون السورية، التي أقلّ ما توصف به أنّ:
“الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود”.
هنا، كامل ذكرياتهم؛ حُلوها ومُرّها. ومعظمهم لا يعرفون وطنهم الأم؛ فلسطين، إلا من حكايات الأهل، ومن الالتزام والوعي السياسيّين. وما مدنهم وبلداتهم الأصلية سوى لوحة خلفية، تبين أو تختفي تبعاً للظروف السياسية، الإقليمية والدولية. وبالتالي، فالموقف من أن سوريا، هي كمثل فلسطين، موطن رغبات، وآمال، وإنجازات، وخيبات العائش فوق أرضها، سورياً كان أم فلسطينياُ، جعل من المحال على أبناء “مخيم اليرموك” أن يتّخذوا موقف المتفرّج مما كان يجري من حولهم، واعتباره شأناً يخصّ السوريين وحدهم. فعندما يكون مستقبل سوريا كوطن على المحك، فالحيّز الجغرافي والإنساني والسياسيّ الذي عاش فيه فلسطينيّو سوريا، وكوّن هويّتهم التي ميّزتهم عن غيرهم من التجمّعات الفلسطينية في المنفى، يكون هو الآخر على المحكّ. وبالتالي، فلم يكن عجيباً، ولا خارجاً عن المألوف، ولا نكراناً للجميل، أن ينقسم الفلسطينيون ممن هم في حُكم السوريّين، كما انقسم السوريون أنفسهم، بين موالٍ أو معارض، أو بين بين، حتى في قلب الأسرة الواحدة!
وكان العنف الذي ساد “مخيم اليرموك” في الشهور الأخيرة من عام 2012 قد ترافق مع تهديدات عسكرية جدّية من جانب المعارضة السورية ضد العاصمة دمشق نفسها، مع معارك كبرى، وتفجيرات كان أعنفها تفجير “الخلية الأمنية” للقيادة السورية، بتاريخ 18 تموز. وللمراقب من بعيد، بدا يومها وكأن النظام السوري قد بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الكامل.
وأثناء ذلك كلّه، وفيما خصّ “مخيم اليرموك”، فقد أخذ القتال بين الجيشين “الحرّ” و”النظامي” يشتدّ يوماً بعد يوم على نحوٍ هائل ومرعب في الأحياء المحيطة به، وبالأخصّ في حيّيْ “التضامن” و”الحجر الأسود”، متّخذاً طابع الكرّ والفرّ، مع تدميرٍ كامل لكلّ ما يمكن أن يشكّل عائقاً أمام تقدم الجيش أو المسلّحين. وكانت تسبق كلّ جولةٍ من جولات القتال موجات نزوحٍ هائلة لسكان هذا الحيّ، أو لسكان ذاك، تملأ شوارع المخيم ومرافقه ومدارسه بديموغرافية جديدة، وتُحمّله تبعات نفسية ومادّية وأمنية هائلة. ويمكن وصف الآلية التي انتظمت فيها المعارك العسكرية لتلك الفترة من حول المخيم، وأحيانا على حاراته التخوميّة، وبالأخص في “شارع فلسطين” الذي يفصله عن “حيّ التضامن”، وفي “شارع الثلاثين” الذي يفصله عن “الحجر الأسود” على النحو التالي:
لمّا هاجم الجيش النظاميّ “الحجرَ الأسود” انسحب المسلّحون منه بعد قتالٍ شرس إلى “حيّ التضامن”. فلما ذهب لإخراجهم منه عادوا ثانيةً إلى “الحجر الأسود”. فلما ذهب ليخرجهم من “الحجر الأسود” انتقلوا ثانيةً إلى “حيّ التضامن”… فلما عادوا ثم انسحبوا، ثم عادوا، إلى كامل تلك الدوّامة المرعبة، التي حيّدت أيّ فعلٍ جماهيري للناس، وحوّلت عيشهم إلى جحيم، ومنازلهم إلى دمار.
وهكذا، وعملياً كان “مخيم اليرموك” قد سقط قبل سقوطه الرسميّ بشهور. سقط ولكن في قلب الفراغ، دون أن تلتقطه أيّ يدّ، سوى ما كان بين الناس من أواصر قربى وجيرة وحسٍّ عام.
والآن:
فثمة روايتان تتنازعان وصف المشهدَ الختاميّ لـ”مخيم اليرموك”. أما إحداهما فتلقي كامل اللوم بخصوص هرب معظم سكانه منه بتاريخ 17/ 12/2012 على قصف الطائرات السورية له على دفعتين ظهر اليوم السابق للهروب، وتغفل احتلال فصائل الجيش الحرّ له صباح ذلك اليوم. وأما الأخرى فتلقي كامل اللوم على احتلال فصائل الجيش الحرّ له، وتغفل تماماً أيّ ذكرٍ لعملية قصفه. ويمكن لروايةٍ ثالثةٍ، وهو ما أؤمن به شخصياً، أن تُركّب الحدثين معاً، وترى في كليهما، تتابعاً لنغمة واحدةٍ عزفت كلّ منهما، على طريقتها الخاصة، النشيد الجنائزي لعاصمة “الشتات الفلسطينيّ”، ولما مثّلته طوال ستة عقود من مسيرتها المشرقة.
والواقع أن “مخيم اليرموك” كان سيغدو متاهة مميتة لجيش النظام لو أنه دخله في ذلك الوقت. ولأنه لم يكن ضمن خطة النظام السوريّ لاعتبارات شتّى ضمّ ذلك المخيم إلى الخطّ الأحمر الذي رسمه من حول العاصمة دمشق، فقد جرى تركه ليكون متاهةً تضيع فيها فصائل الجيش الحر، وحصرهم، وإلهائهم باحتلاله، بحيث تصبح مداخله ومخارجه خطوط فصلٍ جديدة، خطوطاً لا يمكن للطير الطاير أن ينفذ منها. وهكذا، فقد استفادت فصائل الجيش الحرّ من زهد النظام بالمخيم فزادت باحتلاله محيط الطوق الذي كانت تفرضه أيامذاك حول العاصمة “دمشق”، هدفها الرئيسيّ، واستفاد النظام بتركه للمخيم بأن جنّب جيشه الضياع في قلب متاهةٍ شائكة ومميتة، وتركها كي تكون من نصيب أعدائه !
ورغم كلّ ما أوردناه من مصاعب واستحالات ودماء فقد عيشت الحياة السريالية في “مخيم اليرموك”، وإلى غاية 16/12/ 2012، وهو اليوم الذي سبق الهروب الكبير لمعظم سكانه، عيشت حتى آخر قطرةٍ من شرابها المرّ. فحتى ذلك اليوم الذي لا يُنسى أبداً كان أهل المخيم ينزلون يومياً إلى دمشق – الشام: الموظّف إلى وظيفته، والعامل إلى معمله، والطالب إلى كلّيته، والمتسكّع مثلي إلى بسطات بيع الكتب المستعملة تحت “جسر الرئيس”، أو في “سوق العتيق” ثم إلى أحد المقهيين الأثيرين إلى قلبي: “مقهى الحجاز” أو “مقهى الروضة” في “بوابة الصالحية”. وما أن كان قرص شمس أيّ نهار يتعالى فوق السماء الكئيبة التي كانت تخيّم في تلك الأيام فوق “مخيم اليرموك” حتى تسمع الباعة فيه، بعد أن غيّرت الأسواق أمكنتها غير مرّة، ينادون بأعلى أصواتهم:
“عَ الطرايا. عَ الطرايا”!
“تعا. نقّي بإيدك”!