والآتي أشمل
حينما نتطلع إلى ما يأتي يقينا منا أنه أشمل وأجمل [1]، يتم ذلك بناء على التناظر وقياس مقدمات الفكر بالخلاصات التي يتوق إليها، ليس من باب المبالغة والادعاء، وإنما بمعيار رؤية الفكر النقدي الذي يستقرئ وضعية الحالة وقوة حضورها المفاهيمي، متطلعا إلى إيحائها لتشييد نسق مؤثث لمعالم المشروع، والتي كانت الخطوات فيه منذ البداية حثيثة وعلى وعي بالتمثلات اللاحقة.
يأتي هذا الوعي في سياق تلاحق فكري له مبرراته الموضوعية، التي تتأمل الاتجاهات الفكرية المعاصرة، لتفتح لها كوة تراعي خصوصيات الحضارة العربية، خدمة للُغتها وثقافتها، وحاجتها إلى الانفتاح ومد جسور الترجمة والمثاقفة إيمانا بأدوارهما من أجل التماهي مع الآخر الذي ينتمي إلى الزمنية الإنسانية [2]، بغض النظر عن انتماءاته الأيديولوجية أو العقدية، أو اعتبارا لأيّ عقدة بالدونية أو التبعية.
هكذا يعد سعيد بنكراد رائدا للدرس السيميائي ليس في المغرب فقط، بل في الوطن العربي، فهو علامة مرجعية في مجاله، كما أن النصوص السردية بجميع ألوانها، سواء الروائية منها، أم النصوص القصصية الدينية انعتقت معه من الرؤية الأحادية المنطبعة بالقراءة المتحيزة، لتصبح بناء رمزيا يفضي إلى تأمل واقع الحال الإنساني، وهذا في حد ذاته احتفاء بهذا المتن، ينسجم مع حقيقته التي لا تقبل الاختزال أو التنميط، لتتجاوز دوائر الزمن والمكان عبر مسار كوني معياره الأوحد إنسانية الإنسان.
فأفضى به هاجس الكونية إلى معادل موضوعي مقابل، توازي أهميته دراسة النصوص واستنطاق مضمراتها، ليستهدف عوالم الصورة باعتبارها عنوانا للحياة المعاصرة، ما فتئت تستقطع رويدا مكانة الواقع، لتحل محله أيقونة فاعلة توجه الوعي ولها اليد الطولى في ترتيب الأولويات.
هذا الوعي لم يكن بمعزل عن توجهات الفكر الإنساني، بل كان سباقا إلى استشراف مساراته وفهم تحولاته الأنطولوجية والإبستمولوجية التي توجه الحياة المعاصرة، كما اعتبرها جون بودريار لحظة انقلابية تنقلنا من عصر الواقع، إلى عصر موت الواقع [3]، بسبب انتفاء المبدأ المؤسس له، وهو غياب الصراع، والجدلية، ومفهوم المواجهة والنفي…، وهذه نتيجة طبيعية لمضاعفة الحضور الإعلامي الذي حوّل الحياة الاجتماعية بكل وقائعها إلى صور يقدمها عبر أذرعه المتنوعة، فما يقدمه الإعلام “ليس الواقع كما هو، ولا هو صورة عنه، بل هو صورة ولدها عن صورة أخرى هي بدورها مولدة عنه” [4]، فأضحت فعالية الصورة كما رسختها الميديا، أو وسائل الإعلام، اهتماما مشتركا لرواد الفكر ما بعد الحداثي، كما هو شأن جيل دولوز الذي استند في مقاربته لعوالمها إلى الأسس التي وضعها العالم الأمريكي السيميائي شارل سندرس بيرس (1839- 1914) محاولا تقديم صنافة لأهم تعريفاتها، مع وعيه بأهمية الأبعاد التي يتوجب الاهتمام بها في قراءة مجالها، وهو ما يعد تصحيحا لجملة من المفاهيم [5] المرتبطة بها، لاسيما بعد الطفرة التكنولوجية وما استحدثته من تأثير، إذ ضاعفت معطياتها كإطار داخلي من الدرجة الأولى، يحيل على آخر خارجي يحبل بالمكتسبات نفسها، لأن الصورةَ فضاءٌ ممتد يلغي ضوابط الزمن وينفي بديهياته، من حيث هي تأبيد للحظة [6]، فيستحيل الماضي المغيّب لحظة إشراق تنعش الذاكرة وتعود بها إلى لحظات لها قيمة خاصة بتجاوزها السلطة القهرية للزمن، وممارستها انتصارا مباشرا تدركه العين، من خلال إطار الصورة الذي يفصلها عن الخارج، الذي تود الذاكرة أن تنفصل عنه لتتوارى في فضاء رمزي يحتفي بالذكرى ويستثمر كوامن الذات للتعبير عن انفعالها، إنها لحظة تواقة إلى تجاوز الحدود الزمنية التي تفصل الماضي عن الحاضر، بالسير في اتجاه معاكس لعقارب الساعة، وإيجاد البديل الموضوعي الذي تفتقده في اللحظة الراهنة، ما يجعل التفكير يذوب في الزمن ويرأب أي فجوة فيه، ويستحيل من ثَمّ إلى طاقة تملك القوة لمصاولة الضعف الإنساني، وكأن الصورةَ أداةٌ للسحر وموضوع للسحر أيضا [7]. إنها عالم العلامات المفعم بالدلالة والطاقات الرمزية، التي تتحول إلى انفعالات تستثير في النفس الكثير من الاستيهامات المؤثرة، توجه أو على الأقل تطبع انتقاءاتها، فعالم الصورة كينونة متكاملة تناظر الواقع المعيش، وتسير في أفق احتوائه وترتيب أولوياته، ما حدا بسعيد بنكراد أن يميط اللثام عن جملة من المؤثرات الفاعلة في الهوية الخالصة للمشاهد، لاسيما فيما تعرضه شاشات التلفزة ضمن فقراتها الإشهارية أو الإخبارية، لعمق إرسالياتها وتأثيرها الواعي أو غير الواعي على المتلقي، فالأمر لا يتعلق بمشهد بصري فقط، إنما هو إدراك مباشر يوَجَّه إلى الذهن عبر رموز معينة، تتحول بشكل أو آخر إلى ممارسة فعلية يقبل عليها المشاهد لوقع رسائلها الموجهة إليه، والذي لا يجد بُدا أمامها إلا بتكييفها وفق متطلبات معيشه اليومي نتيجة جدواها التواصلية المعتمدة على التكثيف والترميز والتوجيه.
فما تستوعبه النظرة يتشكل وفق أبعاد معينة تتحول إلى معرفة لها كينونتها الظاهرة، ولها تأثيراتها التي تتسرب إلى ذات الإنسان مستنبتة قيمها فيه، والتي تتسرب في غفلة منا حتى تصبح واقعا حقيقيا يشكل اقتناعاتنا، ويوجه اختياراتنا، لتغدو الفقرات المعروضة أمام المشاهد آليات استنفار لذهنه وحواسه باعتبار أبعادها النفعية التي لا تتوانى عن مداعبة أحاسيسه حتى تسقطه في دائرة سحرها.
تفاعلا مع ذلك، يتصادى سعيد بنكراد مع نطاق فكري حضاري، يستوعب بالدرجة الأولى أهم المفاعلات التي تحركنا وتتحكم في اختياراتنا، وذلك باستقراء ظواهر المجتمع، ورصد أنماط عيشه، حسب الذهنيات والأهواء والانتماءات، وهي بطبيعة الحال تختلف من طرف إلى آخر، لكن في عمومها تخضع للوجدان العام المشترك، ما يستوجب فهم أسبابها ومظاهرها وتمثلاتها، ليستأثر التطور التكنولوجي بطوابعه التي بصمت المجتمعات الحديثة، إذ هناك موجة عارمة اكتسحت المجتمعات بدت تمظهراتها واضحة، من أبسط مقتنياتنا اليومية إلى أبرز اقتناعاتنا، مثلما ينعكس في مدننا ومظاهر عمرانها، ببناياتها وامتداداتها، وقد أضحت مكتظة بعلب إسمنتية. وللأسف الشديد هناك في الجانب المقابل “حالات نكوص قصوى تطوق إنسانا مبرمجا بشكل مسبق داخل خطاطات ثقافية ثابتة تحدد كل شيء في حياته” [8]، هذه الظواهر لا يمكن أن تعالج بتعميمات مطلقة، لأنها في الأصل تمثل تحديا حضاريا من زاوية تحديد الخلفيات الفكرية التي تكمن وراءها، لذا فإن القاعدة الأساسية هي التعامل مع الاتجاهات الفكرية بمختلف مشاربها بإيجابية تجعلنا نفهم منطلقاتها، كي تتحول إلى جسر تواصلي نستثمر آلياته لإعادة النظر في خصوصية الذات وفق متطلباتنا الحضارية، هذا الوعي هو المحرك الأساسي الذي تناول به سعيد بنكراد المفاهيم، وفهم من خلاله أنماط عيش المجتمعات، فالتركيبة الاجتماعية بجميع اختياراتها لا يمكن أن تكون وفق هذا النمط أو ذاك بشكل اعتباطي دون الاستناد إلى نمط عيش يمتح من توجه فكري ومعرفي معين، وأولى الخطوات الحاسمة لفهم هذه الظواهر، هي معاينة الفرد بتقديم الملاحظات الكافية التي تؤطر الشخصية الإنسانية، وتنظر إلى أهوائها وانفعالاتها واحتياجاتها، لأن الفرد كما يتحكم في كينونته الخاصة، فهو القادر حتما على مد جملة من العلاقات انطلاقا من الأسرة إلى باقي مكونات المجتمع، فهو كما ينسج الأحلام والآمال، فإنه يشيد المطامح، ويتطلع إلى الآفاق، هذه المقاربة لا تتم إلا بفهم شروط العصر وأهم المؤثرات فيه، ولعل أبرزها الثورة الرقمية وما طرأ معها من تغيير في نمط العيش، وفي السلوك، وفي توجيه الاختيارات، وهذا يعني فهم “كل ما يتعلق بالآثار الكارثية التي خلفتها الثورة الرقمية على الشرط الإنساني، ما يعود إلى علاقة الفرد بالزمان وبالمكان، وعلاقته مع نفسه ومع الآخرين، بل امتد تأثيرها ليشمل مجمل الأنوات التي بها يحيا الفرد، وهي ما يشكل “هوياته” الموزعة على فضاءات لا يلعب فيها الواقعي سوى دور بسيط” [9].
هكذا إذن، إن جاز لنا الحديث عن الأفق الفكري لسعيد بنكراد، فلن نقول عنه أكثر مما قاله عن مشروعه المعجمي [10]، بأنه عمل شاق، يتطلب الصبر والتأني، لأنه لا يرغب في تقديم معجم يتناول مدرسة سيميائية معينة، بل يتطلع إلى معجم يستوعب التيارات السيميائية جميعها، أي يحيط بمفاهيم السيميائيات، إيمانا منه بحاجة الثقافة العربية إليها، وحاجة الباحثين المتخصصين إلى تجربة من هذا العيار تقدم عملا حصيفا له معياريته المؤسسة لتصور سيميائي شامل ومتكامل.
تلك هي النظرة، وذلك هو الطموح والآتي أشمل.
***********************
المصادر والمراجع:
• المصادر:
ـ الموقع الرسمي لسعيد بنكراد.
• المراجع:
– الإنسان العاري، الدكتاتورية الخفية الرقمية، مارك دوغان، وكريستوف لابي، ت: سعيد بنكراد، المركز الثقافي، 2019.
– الفكر الجذري، أطروحة موت الواقع، جان بودريار، ت: منير الحجوجي وأحمد القصوار، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1/ 2006.
– المصطنع والاصطناع، جان بودريار، ت: جوزيف عبدالله، مركز الوحدة العربية، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1/ 2008.
_ Image_ Mouvement. Cinéma 1; Gilles Deleuze; Edi de Minuit; 1983.
[1] _ مدار المقال ما نشره سعيد بنكراد في موقعه الرسمي.
[2] ـ المعوقات الذاتية للحوار مع الآخر، سعيد بنكراد، موقع سعيد بنكراد الرسمي.
[3] ـ الفكر الجذري، أطروحة موت الواقع، جان بودريار، ت: منير الحجوجي وأحمد القصوار، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1/ 2006، ص: 5.
[4] ـ المصطنع والاصطناع، جان بودريار، ت: جوزيف عبدالله، مركز الوحدة العربية، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1/ 2008، ص: 17.
[5] – Image_ Mouvement. Cinéma 1; Gilles Deleuze; Edi de Minuit 1983 ; P: 23.
[6] ـ الصورة: بين وهم الاستنساخ واستيهامات النظرة، سعيد بنكراد، الموقع الرسمي.
[7] ـ الصورة: بين وهم الاستنساخ واستيهامات النظرة، سعيد بنكراد، الموقع الرسمي.
[8] ـ الحداثة الكسيحة، سعيد بنكراد، موقعه الرسمي.
[9] ـ من مقدمة سعيد بنكراد، لكتاب: الإنسان العاري، الدكتاتورية الخفية الرقمية، مارك دوغان، وكريستوف لابي، ت: سعيد بنكراد، المركز الثقافي، 2019.
[10] ـ من الحوار الذي أجرته معه الأستاذة الباحثة حورية الخمليشي، تحت عنوان: المفكر والسيميائي د. سعيد بنكراد، السرد أداة الكشف عن سر الكون ومحاولة فهم بعض أسراره.