حادِثة نَوم
سار ضجِرا غاضبا لا يكترث لأحدا ولا يفصح عن وجهته، رغم صرخات “الكُورْتِيا” وتساؤلاتهم الملِحّة التي لاحَقتْه منذ أن وضع قدماه في مدخل المحطة، كل واحد منهم أراد أن يظفر به، إنه زبون تبدو علامات الثراء على لباسه الأنيق وحقيبته الفاخرة.
فجأة استوقفه أحدهم مُلِحا عليه بصوت غليظ: كْلْمِيمْ أَخُويا؟ رفع عينيه فرأى أمامه جسدا مُكْتنـزا طويل القامة، أشعث الشعر، اسْمَرّ وجهُه من شدة أشعة الشمس، لا تبدو عليه سوى علامات القسوة والتعاسة وبعض الندوب. وقبل أن يفصح له عن شيء أردف قائلا: تعالى معي، الطاكسي سينطلق حالا. سار خلفه مستسلما، وهو يفكر في استغراب كيف لهؤلاء أن يدركوا وجهته وهو الذي لم تطأ قدماه هذه المحطة إلا اليوم.
الساعة الثامنة ليلا كما ظهر على شاشة هاتفه الثمين، بدأت برودة الليل تتسلل إلى جسده، يقبع في المقعد الوسط للطاكسي، وبجانبه شابة في مقتبل العمر، لا تنفك تلاعب هاتفها بين أناملها، تبدو منشغلة بدردشتها، فتَرُدّ على أحدهم من حين إلى آخر بعبارات وقحة، لكنها بين الفينة والأخرى تسترق النظر إلى حقيبته وتتأمل مظهره. وفي المقعد الأمامي بَدَويّ منـزوِ في جلبابه التقليدي وعلى رأسه كومة من ثوب متآكل على هيئة عمامة، ظنه نائما.
ظل يتأمل الوجوه حوله، كل شيء يبعث على الشؤم والتعاسة. سئم هذا الانتظار الطويل، لعن قدَره، ولعن ابنه كثيرا، وفي نفسه أَقْسم أن تكون تلك آخر مرة يسمح فيها لابنه أن يقود سيارته، فحماقاته لا تنتهي، إنها المرة الثالثة التي تسبب في حجزها من طرف الشرطة، وكان عليه هو استعادتها دائما، لكن هذه المرة في مدينة بعيدة. أحس بالطاكْسي يتحرك متسللا بين طوابير السيارات المركونة في الجنبات، أعياه التفكير والانتظار فأسند رأسه قليلا واستسلم للنعاس.
أحس بجسد الفتاة يقترب من جسده حتى كاد يلامسه، تنحنح واعتدل قليلا من جلسته لعلها تُدرك أنه يقظ وتَبتعد عنه قليلا، لكنها ظلّت على وضْعها. تحسس هاتفه بيده اليمنى، ووَضَعَ اليسرى على حقيبته، ثم عاد لغفوته مرة أخرى. امتدّ أزيز السيارة وهي تلتهم الطريق، ومعه امتدّ صوتُ أنفاسه الرتيب وهو نائم، وبعد لحظة أحس بحقيبته تنسحب تحت أصابع يده رويدا كأن يدا تجرها، فاستيقظ فزعًا ممسكًا بها وضمها بشدة إلى صدره، وعلامات الهلع بادية على مُحيّاه، رَمقَ الفتاة بنظرات مُتَوجّسة غاضبة، فإذا بها منشغلة بهاتفها كالعادة دون أن تنتبه إليه، وتأمل الآخرين فإذا هم في وضعهم الطبيعي. أدرك أن الأمر مجرد حلم، فعدل من جلسته متكئا على كتفه اليسرى جهة النافذة، ثم أغمض جفنيه من جديد مطلقا لأنفاسه العنان.
سمع صوت السائق يناديه: سيدي.. سيدي.. على سلامتك، استفاق في هلع، نظر حوله فلم يرى أحدا في السيارة غيره، تفقد حقيبته وهاتفه فلم يجد لهما أثرا، تمتم في حيرة: أغراضي سُرِقَتْ، خرج من مكانه وأغلق الباب، اتجه نحو السائق ليستفسره عما جرى، وقبل أن يصل إليه انطلق الطاكسي كالسهم وتوارى بين صفوف السيارات المترامية في كل الأرجاء. تسمّر مكانه في حيرة، فلا هو فَهِم ما وقع، ولا هو يعلم ماذا سيفعل وإلى أين يتجه. وبينما هو تائه في تفكيره فاجأه “الكُورْتي” صارخا بصوته الفظ: إنْزْكَانْ أخويا؟