مصنع الدلالات العائمة
إن الأعمال الفنية بصفة عامة ما هي إلا رسالة نابعة من المبدع وموجهة إلى الآخر بقصد الوصول إلى نقطة التقاء ذهنية ونفسية تخفّف من وطأة الاختلاف بينهما ومحاولة لمّ الشمل الانفعالي، والفنان دوره استثاري للأفكار والدوافع والمشاعر داخل أنفس المتلقين ليأخذهم معه إلى قصوره التي شيدها في عالمه الخاص حتى يتوحد معهم في عالم واحد. والأعمال الفنية بمختلف أشكالها هي أفعال واعية يقوم بها الفنانون من واقع تجاربهم الحياتية أو التخييلية التي يهدفون بها التماس مع تجارب وتخييلات الآخرين.
لا يمكن للفنان المبدع أن يضع نفسه مكان كاميرا فوتوغرافية مهمتها الوحيدة نقل الواقع على سطح مصقول، محاولا محاكاة كل ما هو مرئي بأمانة ودقة معتمدا على الإدراكات الحسية فقط، إن تقديم أفكار اعتيادية مؤطرة ومحددة يقتل الفن. بل يمكن أن نقول لا يصنع فنا على الإطلاق. لا بد هنا من تدخل وجداني يبعدنا عن الاعتماد على الحقائق البصرية بقدر ما يقربنا من الحقائق الفنية.
ويتضح في أيّ حالة أن العمل الفني كي يكون عملا فنيا ناجحا، لا بد أن يحمل شيئا من المشاعر التي استثارت الفنان في العالم المحيط، ودون هذه المشاعر التي تحملها الأشكال لا يحقق الفن فنا، حينئذ لا بد أن نسلم بأن الحقيقة الفنية “ذاتية موضوعية” فهي ذاتية لأن الذات هي التي تمثل مشاعر الفنان، ووجدانه، وإحساساته، وفكره، وفلسفته، ونبضه، وفى ظل هذا الفيض من المشاعر تتم ترجمة الموضوع، فهو موضوع يرى من خلال وجدان الفنان وكذلك يخرج محمّلا بوجهة نظره ومشاعره المميزة.
لا بد أن نتحدث عن انزياح اللغة وتشييد الدلالات لتوضيح دور اللغة التي هي مادة الأدب وخامته الرئيسة التي تتشكل منها أشكاله وفنونه، وتعتبر اللغة أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. ودون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي. وترتبط اللغة بالتفكير ارتباطًا وثيقًا؛ فأفكار الإنسان تصاغ دومًا في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطني. ومن خلال اللغة تحصل الفكرة فقط على وجودها الواقعي، ثم عرضنا لآراء القدماء أمثال جون كوين وأدونيس في تعريف اللغة الشعرية، والتفريق بينها وبين اللغة العادية، وقلنا إن اللغة الشعرية ترتبط بثقافة الشاعر وبمرجعياته الفكرية وبكل العوامل الذاتية والموضوعية التي تساهم في تجاربه الشعرية. فهي ترجمان لتصوراته وحساسياته، كما أنها صورة معبّرة عن انشغالاته وهمومه الفكرية والنفسية والاجتماعية. والشاعر دائم الاختيار والانتقاء بين الألفاظ سعيا وراء ما يمكن أن يخدم مقصديته، ويقدم صورة تقريبية لما يعتمل في ذهنه وأعماقه. وهكذا تأتي اللغة الشعرية منسجمة مع السياق النفسي ومع التجربة الداخلية للمبدع. كما أنها تأتي منسجمة مع السياق الثقافي العام، ومع الاختيارات الفنية والجمالية التي أقرها المجتمع الأدبي، واستساغها الذوق الفني السائد.
إن الوعي بأهمية اللغة الشعرية ودورها في إنتاج الشعرية كان له صداه عند النقاد القدامى، تمثل ذلك في إدراكهم بخصوصية اللغة الشعرية. وإن خصوصية لغة الشعر، وخصوصية أن للشعراء حقوقاً لغوية ليست لسواهم من المبدعين والأدباء، حيث أن هذه اللغة هي ركيزة العصر الحديث، خاصة وأنها كانت محمّلة بركام كبير من ميراثها القديم، وببعض الهوامش المقدسة نتيجة لعلاقتها بالنص المقدس. فبعد خلاصها من كل هذا، فإنها قد وجدت لنفسها قدرة إضافية في إنتاج دلالتها الإشارية والرمزية التي اختلفت من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، ومن مبدع إلى آخر، إنها أصبحت لغة مجازية تبحث عن الحقيقة من خلال رصيد لغوي كبير له ألفاظه الجديدة التي تختلف عن الرصيد القديم المتوارث.
اللغة الشعرية لا يمكنها أن تقوم بدورها كأداة اتصال فقط وإلا فقدت غايتها، إن اللغة في الشعر هي غاية في حد ذاتها ولا بد أن ترتكز على وظائف أخرى كالانحراف والإزاحة وغيرها.
حتما أن هناك فروقا متباينة بين اللغة العادية واللغة الشعرية بالنسبة إلى كلّ من المبدع ذاته والمتلقي باختلاف ثقافاته، ولكن لمثل هذه الفروق مسافات محددة بحيث أنها لا ينبغي أن تكون قريبة جدا، أو بعيدة جدا، بينما الحكمة أن يمتلك الأديب المنطقة الوسطى بينهما، تلك المنطقة التي تجعل المتلقي فاعلا داخل النص.
وعرضنا أيضا لرأي فرديناند دوسوسير، في كتابه “محاضرات في اللسانيات العامة”، والذي اعتبر فيه اللغة عبارة عن علامة، وتتكون هذه العلامة من الدال الصوتي والمدلول المعنوي، لكنه أبعد المرجع الحسي المادي، واحتفظ بما هو مجرد وصوري. ومن ثم، فقد كان يدرس اللغة لذاتها ومن أجل ذاتها. ويعني هذا أنه كان يركز على دراسة اللغة باعتبارها ملكة اجتماعية أساسية وثابتة، ويقصي الكلام باعتباره ظاهرة فردية متغيرة وهامشية. ويدل هذا كله على أن دوسوسير لم يهتم بالسياق المرجعي الوظيفي، واكتفي بالجانب الصوتي والمعنوي المرتبطين باللغة، ولم يهتم بالكلام والإنجاز القائمين على البعد المرجعي والإحالي والسياقي.
إن النص الأدبي بنية ودلالة وتركيب ووظيفة سياقية قبل كل شيء . لذا، لا بد من مراعاة السياق والوظيفة في تحليل النصوص والخطابات الأدبية، ولاسيما الشعرية منها. وعليه، “فالنص الشعري ليس لعب ألفاظ، وليس نقل تجربة ذاتية وحسب، وإنما يهدف، فوق ذلك كله، إلى الحث والتحريض”. وهذا يعني أن التحدث يقصد به تبادل الأخبار، وفي الوقت نفسه، يهدف إلى تغيير وضع المتلقي، وتغيير نظام معتقداته، أو تغيير موقفه السلوكي. إن المألوف من القول لا يثير في المتلقي أيّ إحساس لأنه يجري بحسب الإلف والعادة، أما الانزياح عن المعتاد فهو ما يتوسل به لهزّ يقظة المتلقي، فعلمية اختيار أو انتقاء الألفاظ للتعبير عن موقف تستوجب أن يكون هذا الاختيار مخالفاً لما اعتاد عليه الناس وانزياحاً عنه حتى يحدث الصدمة المطلوبة.
الانزياح، كمثال وكعامل أساسي من عوامل البلاغة اللغوية، ومحرك متعدد الاتجاهات في تكوين الدلالات داخل النص الأدبي، جاء هذا المفهوم في الدراسات الأسلوبية واللسانية الغربية التي تحاول تحديد الواقع اللغوي الذي يعد بمثابة الأصل، ثم عملية الخروج عنه، فهو في الأصل متعلق بجماليات النص الأدبي، واهتمت هذه الأبحاث بظاهرة الانزياح باعتبارها قضية أساسية في تشكيل جماليات الخطابات الأدبية وبوصفها أيضاً حدثاً لغوياً يظهر في تشكيل الكلام وصياغته، ويبتعد بنظام اللغة عن الاستعمال المألوف، وينزاح بأسلوب الخطاب عن السنن اللغوية الشائعة فيحدث في الخطاب انزياحا يمكنه من شعريته ويحقق للمتلقي متعة وفائدة.
حددنا للانزياح ثلاثة أنواع منها: انزياح سكوني باعتباره بعدا عن التعبير المشترك، وانزياح حركي باعتباره قفزة إلى المبادهة، وانزياح سياقي باعتباره شذوذا دلاليا.
تحدثنا عن صور البناء من منظور الانزياح والتي تنقسم إلى:
انزياح بلاغي وانزياح شعري، ذكر “حسن ناظم ” في كتابه مفاهيم شعرية أن ريفاتير صنف أنماط الدلالة إلى ثلاثة:
• نقل المعنى: ويتم حين تغير العلامة معناها إلى معنى آخر، بنيابة كلمة عن كلمة، كما في الاستعارة أو الكناية.
• تحريف المعنى: في حالة الالتباس أو التناقض أو اللامعنى.
• إبداع المعنى: ويتم عندما يتكون في الخطاب مبدأ تنظيمي يشكل علامات من وحدات لغوية، قد لا تحمل معنى في سياق آخر مثل (الطباق – الإيقاع – المزاوجة).
يتضمن النص أو الخطاب الأدبي عوالم غامضة من الدلالات العائمة والأفكار الضمنية التي تختفي وراء متاريس مجازية وإيحائية. ومن هنا، يتميز النص الأدبي عن الأقوال العادية بقوالب شعرية وتخييلية، ويتسم أيضا قوة الانزياح والخرق والترميز والأسطرة والكثافة البلاغية المعقدة والمتشابكة. وهذا يحتاج إلى قارئ ومحلل وناقد تأويلي يفكك الدلالات في ضوء مقاصدها وسياقاتها الوظيفية. وهذا كان مدخلنا للحديث عن الطرف الآخر الذي يخلق التوازن في تحقيق النص لغايته وهو “المتلقي” وكيف أنه بمقدرته المكتسبة أن يؤول النص ويزيل غموضه إلى درجة تتوافق مع انفعالاته وتجاربه وثقافته، ليس هذا فحسب، بل إننا نتطرق لكون المتلقي هو المبدع الآخر للنص الأدبي متمثلا في إعادة إنتاجه للنص مرة أخرى، وهذا هو عنصرنا الثاني تحت عنوان إعادة إنتاج النص، وقلنا إن الانزياح الذي نتحدث عنه هو العمود الفقاري لتشييد الدلالات، وطالما هناك دلالة يعنى أن هناك معطيات ما يقدمها النص لشخص ما لتوصيل رسالة ما، وهذا الشخص لا بد له من أن يستجيب لتلك الإشارات والعلامات التي تتحقق معها تلك الدلالة، وعندما لا تتوافر الاستجابة، فلا وجود للدلالة ولا وجود للمعنى أصلا، وبالتالي إعلان لوفاة النص.
ومن هنا ظهر في الأدب الحديث تحول كبير من سلطتي المؤلف والنص إلى سلطة القارئ (المتلقي) ومن هنا أيضا برزت نظريات التلقي المختلفة وتحدث العديد عن نوعية النصوص القابلة للقراءة وكذا عن نوعية القارئ الذي يستطيع تحليل النص وتحويله من جثة هامدة إلى روح تدب فيها الحياة، وما هي الصفات التي يجب توافرها في ذلك القارئ. وعن الفرق بين القراءة الاستهلاكية والقراءة النقدية، وهنا طرحنا سؤالا، من هو المتلقي الذي يتمكن من تأويل النص، وإضفاء تجربته الخاصة عليه، وإنتاجه من جديد بإبداع مختلف خاص به. هذا المتلقي له مواصفاته الخاصة مثل النص الذي يجب أن يمتلك مواصفات أيضا تمكّن المتلقي من توليده، لا بد للمتلقي أن تتوفر لديه قدرة على التركيز أثناء تلقيه النص لأن التركيز يفضي إلى تثبيت الخبرة الفنية للقارئ، فلا بد للمتلقي أن يتجاهل العالم المحيط، يتجاهل الواقع، والمبدع، ولا يكون تعامله وتفاعله سوى مع العمل الفني، لأنه حين يستحضر ذاته أمام العمل الفني تبدأ استجابته لما يتذوقه في العمل.
إذن هناك جوانب لا بد أن تتوافر ليكتمل بناء العمل الفني؛ اشتماله على لغة شاعرية، هذه اللغة لا بد أن تتميز بقدر مناسب من الغموض والانزياح، مما يفتح طريقا للمراوغات التي من شأنها أن تقحم المتلقي داخل النص ليكتشف وينفعل ويستخلص ويحقق متعته الخاصة، ويبدأ في تشييد دلالاته وبناء استنتاجاته معتمدا على معطيات المبدع من هذه اللغة الشاعرية التي تدفعه نحو تأويلات عديدة.