الجميلة النائمة في التابوت
مصطلح أيديولوجيا، كما هو معروف، يطرح وفقاً للتقليد الماركسي والعلوم الاجتماعية، ليصف شكلاً وهمياً أو محرّفاً. ويكمن الخطأ أساساً في مفارقة المصطلح للموضوعية. كما يطرح ليصف، على نحو سلبي، النظرة إلى العالم أو إلى الطبقة أو المجموعة الاجتماعية.
يشير ديفيد ميسي (Macey) في مقالة حول النظرية النقدية إلى ما يدعوه بالنموذج المرجعي “البارادايم”. هذا النموذج يمثل في رأيه محاكاة ساخرة لمعنى الأيديولوجيا، محاكاة تتمثل في عبارة الأنثروبولوجيGreetz القائلة “لدي فلسفة اجتماعية، ولديك آراء سياسية، ولديه أيديولوجيا.”
وهذه العبارة التي أطلقت في عام 1973 تبرز تحديداً في حوارات ساخرة تدور حول نهاية الأيديولوجيا. وتحيل هذه الحوارات، بدورها، إلى كتاب دانييل بيل (Bell) عالم الاجتماع الأميركي “نهاية الأيديولوجيا” الصادر في عام 1960، أي قبل صدور كتاب فرانسيس فوكوياما بطبيعة الحال.
لا أريد أن أدخل هنا في تحليل للتعريف. أكتفي بالإشارة إلى أن Greetz يصف الأيديولوجيا بما هي عليه، وبأنها نزوع نحو الشمولية المتعصبة عموماً، وإن كان يلقي بهذه التهمة على الآخر. ويحدث التجلي بحيث تصير الأيديولوجيا نقيضاً للنزعتين التجريبية، والليبرالية الجديدة الدائبة التعديل.
الكتابة حول هذا الانزياح الإلغائي زئبقية الوقع والملمح. والرد الماركسي إزاء هذا النقد هو أن الليبرالية نفسها تصير أيديولوجيا. وهذا يبين صعوبة (أو ربما تعذر) الوصول إلى تعريف مُقْنِع لمصطلح مراوغ.
قد يقال هنا إن المصطلح ليس مطروقاً بحقيقته في النقد العربي بما فيه الكفاية. إذا صرفنا النظر عن قرقعة “الأدب والأيديولوجيا” في فضاء معاصر لزماننا، فضاء سوري يسوسه العسس والأشباح، والالتفات تحديداً إلى مثال المغربي عبدالله العروي المبكر في “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” 1967 وجدنا في نقد العروي لاستشراق الإنكليزي جب، والمجري غولدزهر ما يحيل إلى تعامل جدي مع المصطلح.
مثال على توطين المصطلح يكمن في صنيع مغربي آخر هو محمد عابد الجابري. الانزياح التاريخي يكمن في إشارته إلى حرص الدول في مختلف العصور على توظيف مؤرخين رسميين لكتابة تاريخها.
وفي التجلي يكون الغموض قد زال. سئل المؤرخ الرسمي للدولة البويهية ابراهيم الصابئ عما يفعل فقال “أباطيل أُنمّقها، وأكاذيب ألفّقها”.
هكذا يكون قوام الأيديولوجيا في التراث، أو ربما في معظمه. وهذا القوام، يستدرك الجابري، ليقول إن جميع المؤرخين لم يكونوا بطبيعة الحال يكذبون على الناس بهذا الشكل “بل لعل أكثرهم كان يعتقد أنه يكتب الحقيقة”. وهو في ذلك مؤطر بأيديولوجية معينة، أيديولوجية الطبقة الحاكمة التي يعتقد المؤرخ – ربما صادقاً مع نفسه – أنها تمثل وجهة النظر “الحقيقية”.
خطاب اعتذاري يختزله الجابري بالقول إن التاريخ مكتوب أيديولوجياً، وهو لا يمكن إلا أن يكون كذلك.
ما تفسير ذلك؟
الاعتذاري في تفسير الجابري ينطلق من أن التذكير بأن كتابة التاريخ بدأت وتبدأ مع قيام الدولة، أي مع انقسام المجتمع إلى طبقة حاكمة وأخرى محكومة”. (التراث والحداثة).
الحكم على الأيديولوجيا ينطلق، من جهة أخرى، في خطاب العروي بمواجهة الاستشراق من منطلقات ربما كانت مغايرة لخطاب الجابري الاعتذاري المنزع. الأول ليس متحرراً من وظيفيته الموضوعية عموماً. الثاني خطاب ترتبط حركيته بزئبقية تتم بمعرفة العارف وبوعيه.
يرى المستشرق غرينباوم أن الثقافة الإسلامية، ويوافقه (ربما من حيث لا يدري) الفلسطيني عبداللطيف الطيباوي في إصراره على أن الإسلام، ديناً وثقافة، جوهر لازماني، أي جوهر لا يتغير أو يستعصي على التغيير.
العروي ينطلق في سرديته من نقضٍ تتداخل فيه اللحمة والسداة، نقض وليس نقداً، لرأي غرينباوم. فكأنه (في المآل) ينقض تقييد غرينباوم للحضارة الإسلامية بحدود القرن الحادي عشر، وذلك بإصراره على أن تحديث الإسلام لا يمكن تحقيقه إلا بـ”استنباط نفسه وفقاً للنظرة الغربية”، والقبول بالرؤية الغربية للإنسان، وبالتعريف الغربي للحقيقة”.
وبعبارة أخرى، يمكن القول إن العروي يدعو إلى اختراع العجلة مجدداً، وذلك بانتهاج رؤية أخرى مستقلة، تستنبط نفسها بعيداً عن إيديولوجيا المدونة الاستشراقية.
وفي مدونة مغايرة لمغربي آخر هو عبدالكبير الخطيبي، إن “ما يهدم تاريخانية العروي هو أمانتها للهوية الوحشية، أي ‘لمسألة’ ساذجة من مسائل الوجود. ومن هنا يخلط العروي بين ‘الآخر’ و’الغير’ و’الآخرين’، بين الأنثروبولوجية الثقافية، وفكر الاختلاف، بين التاريخي والتأريخي. زد على ذلك أن آراءه المختلفة حول الوجود العربي تسقط من تلقائها، فلسنا بحاجة على الإلحاح على هشاشتها. يكتب مثلاً: منذ ثلاثة أرباع القرن، يطرح العرب على أنفسهم سؤالاً واحداً: من الآخر، ومن أنا؟” (الأيديولوجيا العربية المعاصرة ص 15) كما لو أن هذا السؤال ليس السؤال الجوهري لفكر الوجود، باستمرار.
فبأيّ سذاجة ينسى العروي مسألة الوجود والموجود، المؤتلف والمختلف، كما طرحت في الفلسفة اليونانية والفلسفة العربية. إن أيديولوجية العروي منهارة، في أساسها”. (النقد المزدوج 1980).
في تقديري أن من المهم، بعد استعراض أمشاج من بعض نماذج توطين مفهوم الأيديولوجيا، ومعظمها مغربي لأسباب لا مجال للتعرض لها، من المهم ملاحظة لقاءات وربما تقاطعات، بين مفهومين جوهريين: الأيديولوجيا والأصولية في الدولة الثيوقراطية والقومية شبه الثيوقراطية. الأيديولوجيا علمانية المنزع قرين خفي للأصولية الدينية، قرين خفي ولكنه مطلق التسديد، قاعدة برزخية أو نواة أولى: الهوية العربية لم تعد تقوم على الأصولية الدينية واللغوية والأبوية. فهذه الهوية – يجب أن نعترف – تمزقت وتصدع كيانها، وصار واحدها متعدداً، ومتعددها واحداً.
“بترول العرب للعرب” مقولة أيديولوجية صارت فاضحة الآن. ويمكن القول باطمئنان إن مفهوم الأيديولوجيا الذي ارتبط بالماركسية تاريخياً لم ينهر بانهيارها، بل انفتح على أصوليات مطلقة العنان كالفاشية والشيوعية المختلطة بالثيوقراطية وبعض أنماط القومية. ويذكر ذلك بمحاولة إلغاء الأيديولوجيا التي تعود إلى سبعينات القرن الماضي. كان وصف مفهوم بأنه أيديولوجي معادل لوصفه بأنه وهمي أو مضلل عن الحقيقة، أو جزء منها.
في هذا كله ما يؤكد أن الأيديولوجيا تنتمي إلى تراث فكري لا يمكن وصفه في أي حال بأنه عقلاني أو مطابق للحقيقة.
في الأيديولوجيا تزول التعيينات وتمّحي العلامات الفارقة بين الحقيقة والخيال. الأيديولوجيا تتعلق باستجواب موقع الأفراد في مجتمعاتهم، والجماعات في العالم، وتسلّحهم بفهْم مناسب لأنفسهم في العالم، فهْم يبدو طبيعياً، يحدد مواقعهم الاجتماعية وذلك بتمثيلهم تمثيلا مزيفاً يلفّق العلاقات في ما بينهم وكأنهم جزء من خطة مهمة ومتماسكة داخلياً.
ويرى البعض أن بعض نماذج الأيديولوجيا تمثل جزءاً ضرورياً من حسّ المرء بالانتماء لأي مجتمع. ويكون هذا الانتماء مزيفاً بقدر أو بآخر، مدركاً لعناصره التخييلية. ويمكن القول إن سردية الأيديولوجيا تطبع الأفراد بطابع مجتمعهم وذلك عن طريق طقوس وممارسات تؤكد (على نحو مضلل) فهْم الإنسان لنفسه ومكانته في المجتمع. ولا شك أن الاحتفاء بشعور مجتمعي شامل كالفاشية أو الشيوعية أو الثيوقراطية المعانقة لأصولية مطلقة الحدود، احتفاء قمين بتكوين الضمير الجمعي الذي يساعد الحاكم أو النخبة الممارسة للحاكمية على السيطرة وتحويلها إلى سلطان.
ويحسن لفهم المصطلح آنياً، أي في الوقت الحاضر، التذكير بحدوث انزياح مستمر يتمثل على السطح، ولأول وهلة، بانتصار الرأسمالية الليبرالية الجديدة التي يمكن وصفها بأنها نزوع اقتصادي عابر للحدود ويعدل نفسه باستمرار.
ولكن المجابهة في حقيقة الأمر لم تعد تتمثل في نزوع اقتصادي عابر للحدود فحسب، بقدر ما تتمثل في المجابهة بين دكتاتورية ثيوقراطية المنزع لا تستمد أصوليتها من أساطير العلمانية المتغيرة وحدها، بل من الدين ونصوصه الثابتة، وبين ديمقراطية تداولية تعترف بعيوبها ونقائصها.
أختتم بما أعتبره شهيقاً وزفيراً على هامش سيرة ذاتية محاصرة بما نعيشه من أجواء نكوص أيديولوجي إلى القرن التاسع عشر، قرن التوسع وممارسة الاستعمار بمعناه القديم.
في عام 2015 وصف أسقف الكنيسة الروسية الأرثوذوكسية البطريرك كيرل التدخل الروسي في سوريا بقوله:
“قتال الإرهاب معركة مقدسة اليوم، وبلدنا اليوم ربما كان أكبر قوة ناشطة في العالم تقوم بقتاله..”.
وعلق البابا الكاثوليكي في حوار ديكي، علق مخاطباً البطريرك كيرل بقوله:
“كان يا مكان.. كان هناك حديث في كنيستنا عن الحرب المقدسة، أو الحرب العادلة.. ولكننا اليوم لا نستطيع الحديث بهذه الطريقة”.
ويقول الرئيس بوتين كما ينقل عنه الفيلسوف سلافوي جيجك أنه أشار بإعجاب وتثمين (في شباط/ فبراير 2020) إلى مقطع من أغنية روك سوفياتية لفرقة “العفن الأحمر”، يقول:
“الجميلة النائمة في التابوت، تسلّلت إليها وضاجعتها.. سواء أعجبك ذلك أم لم يعجبك، نامي يا جميلتي”!.
ربما نجد في هذا الهذاء الزخرفي ما يدعو المرء لرفض صيرورته موضوعاً أثيراً لرغبة الاغتصاب.