العقلية التآمرية

والخطر لا يكمن في ما ينسجه خيال القائل بنظرية المؤامرة، بل في استعصائه غالبًا على الدحض، وهو ما تؤكده متلازمة إبريق الشاي الفضائيّ التي رواها الفيلسوف ومؤرخ الأفكار البريطاني برتراند راسل، ومفادها أنه لو يدّعي شخصٌ ما أنّ بين المرّيخ والأرض إبريقَ شايٍ فضائيّا يسبح في الفلك، لما أمكن لأحد أن يثبت العكس. وإن صادف أن كان ذلك الشخص من أنصار نظرية المؤامرة فسوف يجد في عجز الطرف المقابل عن إثبات العكس دليلا على أن ثمة فعلا إبريق شاي يسبح في الفضاء بين كوكبي الأرض والمريخ.

وكان عالم الاجتماع النمساوي كارل بوبر قد تناول هذه القضية، إذ كتب يقول في كتاب “المجتمع المفتوح وأعداؤه” (الجزء الثاني الذي خصصه للحديث عن هيغل وماركس)، “توجد نظرية، أسميها نظرية المؤامرة، يرى دعاتها أنه يكفي لتفسير ظاهرة اجتماعية أن نكتشف من لهم مصلحة في حدوثها. وتنطلق من فكرة خاطئة بأنّ كل ما يجري في مجتمع ما من حروب وبطالة وشحّ موارد وفقر… ناجم مباشرة عن نوايا أفراد ذوي نفوذ أو مجموعات قويّة. وهي فكرة واسعة الانتشار، وقديمة جدّا… وهي في شكلها الحديث علمنةٌ للمعتقدات الدينية. فالآلهة التي يفسّر هوميروس بمؤامراتها حرب طروادة، تمّ تعويضها بالاحتكارات، والرأسماليين والإمبرياليين”.

ويضيف بوبر “لا أنكر وجود مؤامرات، فهي تتعدد كلّما وصل بعضهم إلى السلطة، بيد أنها نادرا ما تبلغ الهدف المنشود، لأن الحياة الاجتماعية ليست مجرد عملية ليّ ذراع بين مجموعات متعارضة، بل هي نشاط يجري في إطار المؤسسات والعادات يُنتج عدة ردود أفعال غير متوقَّعة. ودور العلوم الاجتماعية الأساس في اعتقادي هو تحليل ردود الأفعال تلك وتوقُّعها قدر ما أمكن”.

إن لنظرية المؤامرة آثارًا سلبية، لعل من أهمها الارتياب من الشأن السياسي واعتبار كلّ الحكومات عاجزة عن مواجهة قوى خفية، فهي عامل راديكالية وتطرف اجتماعي وأيديولوجي وديني وسياسي، تيسّر اللجوء إلى أعمال العنف أو قبول أعمال غير ديمقراطية وعنيفة، وتدفع إلى نبذ المعرفة والخبرة العلمية حول قضايا البيئة واحترام القواعد الصحية خلال الأوبئة والجوائح. والموضوع ليس جديدا، فقد سبق أن تناوله عدة باحثين، حتّى صار أشبه بالموضة، غير أن الكتاب الذي بين يدينا “العقلية التآمرية” لسيباستيان ديغيز الباحث المتخصص في علم الأعصاب بجامعة فريبورغ الألمانية، وسيلفان دولوفي الأستاذ المحاضر في علم النفس الاجتماعي بجامعة رين الفرنسية، يتناوله من زاوية جديدة، ترفض أن يكون اعتناق نظريات المؤامرة ناجما عن جهل أو سذاجة. فالكتاب يستعرض النقاشاتِ الأساسيةَ التي تدور في المجال الأكاديمي حول “التآمرية” (conspirationnisme) وتصوّرَها فيما وراء بُعدِها الفينومينولوجي الذي يتثمل في استعراض مختلف نظريات المؤامرة، وكذلك توليفَ وضع المعارف المتولدة عن علوم الإدراك حول هذا الموضوع.

استنادا إلى أعمال تخييلية من روايات وأفلام ومسلسلات تلفزيونية عالجت ثيمة المؤامرة، يستعرض الكاتبان ما توصلت إليه علوم الإدراك في هذا المجال، عبر سرد تاريخي وعودة إلى أهمّ الأعمال المؤسسة من “نظرية المجتمع التآمرية” لكارل بوبر ضمن كتابه سّالف الذكر “المجتمع المفتوح وأعداؤه” إلى “عقلية المؤامرة” لسيرج موسكوفيسي، مرورًا بـ”الأسلوب الذهاني” لريتشارد هوفستاتر، أو “السّببيّة الشّيطانيّة” لليون بولياكوف، إضافة إلى مقاربات أخرى أقلّ شهرة مثل كتابات فرنسوا غيزو أو ماكس شيلر، وقد أجمعوا كلهم تقريبا على الصفة اللاعقلانية التي تسم التآمرية.

 يستعرض باقي الكتاب الأعمال المعاصرة الرئيسية في علم النفس الاجتماعي، وإسهاماتها في المعرفة العلمية لموضوع المؤامرة، بالإضافة إلى خياراتها المنهجية القائمة على التحليل الكمّي، حيث تُعرَض بالتفصيل مقاييس نفسية مختلفة، محددة، جينيّة، أحادية العنصر أو مخصوصة (بما في ذلك نظريات المؤامرة الوهمية) تُستخدم لتحديد التزام الأفراد بـالمؤامرة بحد ذاتها، بصرف النظر عن الموضوعات الخاصة. ومن أشهرها، وأكثرها استخدامًا من قبل الباحثين المعاصرين مقياسُ روبرت بروثرتون وألان بيكرينغ (المعروف باسم مقياس معتقدات التآمر العامة) ورولاند إيمهوف (المعروف باسم استبيان عقلية المؤامرة).

فمقياس بروثرتون يدعو المستجوبين إلى موقفهم من خمسة عشر معطى ومدى تقبلهم إياها، من بين تلك المعطيات: “سلطة رؤساء الدول ثانوية مقارنة بسلطة مجموعات صغيرة لأفراد مجهولين يتحكّمون فعلا في السياسة العالمية”؛ “منظمات سرية تتواصل مع سكان الكواكب البعيدة، ولكنها تخفي أمرها عن الجمهور العريض”؛ “مجموعات من العلماء تزوّر أو تصنع أو تلغي أدلة لتضليل الناس”؛ “تكنولوجيات تراقب الفكر تُستعمل على الناس دون علمهم”، بعض الأحداث الهامّة كانت نتيجة نشاط مجموعات صغيرة تتلاعب سرّا بالأحداث العالمية”، “تجارب تتضمن عقاقير جديدة أو تكنولوجيات تستخدم بانتظام على الجمهور العريض دون علمه أو دون موافقته”.

بمنهجية صارمة، يقدم المؤلفان أهمّ العوامل النفسية والاجتماعية التي تفسر “العقلية التآمرية” مع الإقرار بأن أسئلة كثيرة أخرى لا تزال معلقة، من بينها: كيف تُكتسب “بنية المنطق الأحادي”، وهل هي ثابتة أم سهلة التّغيّر؟ وكيف تتأثر بالعوامل التاريخية والثقافية والاجتماعية؟ ويعترف الكاتبان بأنه لا وجود حتى اليوم لنظرية سيكولوجية نهائية متفق عليها حول القائل بنظرية المؤامرة، ولا يمكن عندئذ إقامة صورة نمطية عنه، فبعض السّمات لا تنطبق تماما على صلته بالعالم مثل التفكير الحدسي، والبرانويا، والأعراض العصبية، والنرجسية، والمانوية، والتفكير السحري، والمعتقدات الخارجة عن نطاق الحالة الطبيعية، والعلاج البديل، ورفض الصدفة.

على المستوى السياسي يذكر المؤلفان بأن تجنيد خطاب التآمر إن سمح بالتحام مجموعة تشعر بكونها مهدّدة، فإن الانخراط في تلك الرؤية الشعبوية للعالم والعلاقات الاجتماعية مرتبط بالتطرف السياسي، ولاسيما اليمين المتطرف، ومرتبط أيضًا بدرجةٍ أقل بتبريرها لأعمال العنف. ويستخلصان أن التآمرية ليست وليدة سذاجة تسارع بتصديق المعتقدات الخاطئة والنظريات المتهافتة بسبب أخطاء تفكير وأوهام مدارك، وإنما هي في جانب كبير منها طريقة في التفكير اختير عمدا للراحة التي يوفّرها، ليسمح بتبرير مختلف الأيديولوجيات ودعمها وتعزيزها، مع إعلان الولاء لمجموعات تفكير مشابهة، ترفض أعداء مشتركين، معلَنين أو مخفيّين.

ويختتم الكتاب باقتراح بعض الحلول التي يمكن أن نواجه بها القائلين بنظرية المؤامرة، شرط ألاّ تكون معزولة بعضها عن بعض، بل لا بدّ أن تكون متلازمة حتى نضمن جدواها، من بينها تدقيق الحقائق (fact-checking)، دور الإعلام في التوعية، تنمية الفكر النقدي لخلق نوع من الحصانة الواقية، على غرار اللقاحات، من نظريات المؤامرة والأخبار الزائفة.

يقول المؤلفان “لا نرى طريقة أخرى لفهم نظرية المؤامرة إلا من خلال وضعها في مركز المنظورات المعرفية والثقافية والاجتماعية، ونحن واضحان تمامًا بشأن الحاجة إلى تضمين العديد من الأساليب والضوابط لتحقيقها. ولئن استندت معالجتنا لنظرية المؤامرة إلى مساهمات علم النفس المعرفي والاجتماعي فإنها استفادت أيضا من كتابات وفيرة، في شتى الحقول”.