لا أذهب إلى النهر
نبض مضطرب
قال لها وهو يسرج قنديل ليلها بالحكايات “أنا هنا كي أخلخل مداك المستتر خلف صمت ثقيل، أنا هنا كي أسد فجوات الغياب بأصابعي؛ أمد كفي إلى كفك المستسلمة لثقل الغياب؛ تتسلل أصابعي في فراغات أصابعك المشرعة للعناق. أعانق كفك، تلتحم الأصابع بالأصابع.. تغمرنا لهفة التوحد ويكون لنا ما تلهفنا وما انتظرنا.”
قال لها “أعرف أن امرأة قادرة على عزف الكلمات على أوتار القلب بمصاحبة التشيلو.. قادرة على فهم لغة الأصابع؛ والأصابع لغة.
وأعرف أن امرأة تشبهك هي في كل حالاتها أنت، ستقول لي وهي ترسم الأفق بعينيها:
ليس شعرا ما يكتب في الحب؛
إنه انسكاب الروح على الورق؛
واندلاق المعاني من دواة القلب؛
وربما هو إعادة صياغة للقلب؛
كأن نعجنه بماء الحب، وعطر القصيدة، وعبق الياسمين.”
ستقول وهي تعلق نظراتها على سيجارة تحلق غيماتها أجنحة من دخان:
“الشعراء لا يقرؤون ولا يكتبون؛
ينزفون قلوبهم وأنتم لا تعلمون؛
يقدون أرواحهم خرقة بيضاء؛
يضمدون جراح القلب بالكلمات،
وتهتفون أنتم المتلهفون لنشوة الانتصار،
النصر للقصيدة،
المجد للشعراء.
المجد كل المجد للقتلى يا صديقي،
فكل العشاق في الحب قتلى،
كلهم شهداء.”
كل ما أقوله لك الآن بلا جدوى؛ فلم تكن أبدا شاعري، ولم أكن ملهمتك.
أراك كل ليلة تدخل في ليلك بعد أن تتعرى مني ومن ذاكرتك.. تعود إلى سريرك ورقة بيضاء، تلتحف اللاشيء ولا تنام؛ تحدق بالسقف، وترفع صوتك دون قصد ودون وعي ربما.
تقول “الليلة سأخترع ذاكرتي، وأكتبها دون حاجة إلى عينيك؛ لا حاجة لي إلى عيون واسعة مغرورقة بالعاطفة؛ لا حاجة لي إلى عاطفة امرأة تربك نظراتها مداي؛ لا حاجة لي..”
وقبل أن يكتمل مشهد انهيارك أو موتك الأصغر؛ وقبل أن يغمرك الحنين ويغرقك الندم، تجمع الشراشف في قبضة يدك وتحاول أن تمزق صورة خيالي؛ تعض شفتك السفلى بغيظ وتلعن غيابي.. وربما تبكي كطفل مدلل أفسده الحب.
أعرف أنك تحاول مثلي أن تتدثر بالذكريات؛ أعرف أنك تمرر أصابعك على حرير شفتي ولو وهما؛ تحاول أن تستنطق الغياب، تحاول أن تلملم الكلمة البكر عنهما؛ تحاول أن تستعيد لهفة الاقتراب الأول.
أراك الآن بكل هشاشتك تقترب مني؛ تحاول أن تستعيد عناقنا؛ تنظر إليّ وأنت تحاول أن تقرأ ما استقر في عمق عيني من بوح.. تهمس في أذني كلماتك التي أستشعر فيها نغمة الاشفاق على قلبي.. تقترب كأنك تبتعد.. تخشى عليّ من نبضك المضطرب؛ تشد على يدي، يتكوم السؤال على شفتيك؛ يتجمد حين أضغط على شفتيك بأصابعي.. أقتل السؤال على شفتيك، وأقول لك برجاء من سيقتله الاقتراب.. “لا تقترب؛ لا أحتمل اقترابك ولا نبضك المرتبك؛ لا تأخذني بين ذراعيك، لا تقترب.. بالكاد أحتمل نبض قلبي؛ فكيف أحتمل نبضك المضطرب؟”.
3 أيلول 2021
هزيمة
ها أنت تدحرج أمامي أسئلة لا أجد لها إجابة. تقول لي “لم غبت؟”.
وأقول لك “أنا عادة لا أغيب ولكن يتم تغييبي.”
وتسألني” كيف؟”.
وأتهرب كعادتي من الإجابة.
تمد يدك إلى جيبك وتضع أمامي أسئلة قلقة. وألتزم الصمت، وأقول لك وأنا أتحاشى النظر في عينيك “الحزن صامت”.
كيف تريد من امرأة أعادوها مرارا إلى القبو أن تكتب، وماذا تكتب. وكيف تنجو بالكلمات من كل هذه الحماقة؟
تسألني وأنا أحوج ما أكون إلى إج ابة؛ تسألني” لم لا تكتبين..؟”.
وأقول لك “القبو مظلم ولا ضوء.”
تقول “على شعاع فجر.”
وأقول “لا أراه.”
تقول “تسدين الدروب كلها.”
وأقول” كلما فتحت كوة ردمها اليأس.”
أتململ من استجوابك لي.. كيف أقنعك أني مسكونة الآن باللاجدوى؟!
كيف أقول لك إن هذا الكون في عيني لا شيء، وأني لست آسفة على شيء؛ فما من شيء في هذا العدم المطلق يستحق الأسف.. وما من شيء يستحق الرثاء حتى الموت.
لا تحاكمني على ما فرطت فيه من آمال واهية، ولا تأخذني من يدي لتوقد شعلة روحي.. فإني أعلنت هزيمتي.. مرارا قلتها إني هزمت.
رفعت الراية البيضاء أم لم أرفعها.. إني هزمت.
وقعت على ورقة موتي أم لم أوقع.. إني هزمت.
أقفلت على نفسي واعتزلت الكون وركنت إلى وحدتي أم لم أفعل.. إني هزمت.
خربشت بأظافري على الحوائط وأنا أجرح صمتها أم تركتها على حالها.. إني هزمت.
لن أتجمل وأقول لي جولة أخرى مع الحياة والغلبة لمن صبر وصمد.
هراء يا هذا وزيف وتزييف.
إني أمام حقيقة واحدة أقولها وإني لا أخشاها أبدا… إني وحق السماء هزمت.
12 أيلول 2021
كيف أكتب عن الحياة وأنا لا أعرف منها حدائقها ولا شوارعها، لا أعرف كيف ينزل الليل حافيا على بنايات المدينة، ولا كيف تكشف عريه الأضواء المشتعلة في الشوارع.
لا أعرف المدينة ليلا لأكتب عن ليل المدينة؛ ولم يحدث أن سرت برفقة نفسي وأنا أشد على يدي بيدي وأقول بحماسة عاشقة ها هي ذي الحياة.
الحياة شارع في مدينة صاخبة؛ ضوء ساهر في مقهى على رصيف؛ الحياة… ولا أكمل الوصف فأنا لا أعرف المدينة.. يفصلني عنها ليل، وباب أسفله شريط ضوء، وممر ضيق وعتبة معلقة في الهواء، وباب إضافي صَدِئ في قلبه المفتاح.
كيف أكتب عن الحياة ولم أجرب يوما أن أخلع القفل عن الباب وأسلم قدمي للريح وأركض دون توقف نحو الحياة؟
17 أيلول 2021
إيقاع آخر
في الليل أبتكر إيقاعا آخر.. أحد من حركتي قدر المستطاع، كي لا تثير خشخشة السلاسل في يدي ريبة السكون، وكي لا ينتبه الوشاة أني أمارس جنوني المعتاد، وكما كل ليلة أقوم بتقشير وجه الحائط المتجعد.
في الليل يكون إيقاع القيود أعلى، وانتباهة السجان أشد.. في الليل أتدرب على إيقاع مختلف للشهيق والزفير.
حتى التنهيدة المنفلتة بعفوية قد تثير ارتباك الليل.
في الليل تتسع أحداقي وتصير أكثر استدارة مثل قط يتربص.
في الليل يحتك الحديد بالحديد.. وأسمع في الممر وقع خطاي تجرجر حلقات العمر ولا أشغل نفسي في عدها.
في الليل أتذكر قلبي الذي نسيته في مكان ما؛ أجس نبضه مثل طبيب أخرق لا يميز نبضه من نبض المريض، ويختلط عليه الأمر.
في الليل أسترجع صورتك للمرة الأخيرة قبل أن أسلم روحي للموت، وأصدق نبوءة الميت الذي زار منامي وقال حين استدار ستموتين من فرحة مباغتة لا يحتملها القلب.
في الليل أمشي على خطاي في خيالي، أمشي في الشارع الضيق، تبتسم لي فتاة من الصف الثالث أو الثاني، أعيد ترتيب الوجوه بعبثية مطلقة، وأكتشف مصادفة أني أعيد تمثيل حياتي مرات ومرات مثل أيّ ممثل فاشل، وأدرك أنه لو تم استبدالي مثلا لن يتغير إيقاع المسرحية، سيصفق الجمهور المسكون بالغباوة لأيّ عابر، ولا يلتفت لوجهي القديم، وحين يعرضون جثتي على أمي لتتعرف علي، ستقول كانت لي ابنة تشبهها حد التطابق، لكن ابنتي ماتت في حادث قدر مؤسف، وستقرأ عليهم وصيتي الأخيرة “إن مت مرة أخرى ضعوني في قبري القديم أريد أن أستعيدني وأنا أدخل العدم، أخاف من شبحي الذي سبقني إلى عدمي مرات ومرات.. إن مت مرة أخرى لا تعيدوني إلى اسمي القديم..واتركوا فتحة القبر على حالها.. فإني سأموت ميتات متعددة.”
في الليل أرتكب حماقة الرجوع مرة أخرى إلى ذاتي..
22 أيلول 2021
الحياة اللوحة
لم تكن الحياة أكثر من لوحة، وأنا اكتفيت بالوقوف أمامها.. أتأملها، أغوص في تفاصيلها وألوانها بعيني، أكتفي بمحاولة فهم ضربات الريشة هنا وهناك، تلك كانت علاقتي بالحياة، مثل أيّ متفرج على لوحة، يدخلها من باب الخيال، ولا يجرؤ على لمسها، يلتقط مشاهدها دون أن يحياها، يقترح في خياله تعديلات هنا وإضافات هناك، ولا يضيف لها أي تفصيل، تربكه المحاولة، ويخيفه الفشل.
مثل أي أحمق لا يفقه الفن ولا مدارسه وقفت، لم أمتلك أصابعي لأعيد ترتيب المشهد.. مشهد حياتي، ولم أمتلك الموهبة، كنت أجرب الحياة في رأسي على نحو ما.. لم أفهم الحياة لكنني كنت أتخيل كيف يمكن لها أن تكون لو..
لو امتلكت ريشة، لو امتلكت القدرة على الحياة كنت سأضع لنفسي على لوحة الحياة لوني الخاص، وخطوطي الخاصة، كنت سأخلق واقعي بيدي، لو..
صباحا أتأمل الحياة اللوحة، مساء أسدل عليها ستار المساء، وعندما ألقي بجسدي المتعب على حافة الموت.. وأغمض عيني على لون ما أو تفصيل ما يبدأ فكري النشط بمحاكاة الحياة في خيالي.. وأصنع من ألوان الخيال حياة، تلك الألوان الأرجوانية العجيبة التي أبدأ بمزجها واختبار النتيجة، شمس خيالي أرجوانية صفراء، بحرها أرجواني مخضر، غيمها أرجواني أزرق، ليلها أرجواني قاتم، لو امتلكت لوني الخاص لاخترت الأرجواني لوني في الحياة.
يزحف النوم إلى أطرافي، تصاب أصابعي بخدر لذيذ، تسقط الريشة من يدي وبحركة عفوية ترتطم يدي بألوان خيالي، تسحّ الألوان في رأسي تتداخل في عيني أغمضهما وتكتمل اللوحة في خيالي..
26 أيلول 2021
ضاع النص
وكما قلت لك.. قلت سأكتبك الليلة، وسأحبك لليلة واحدة في ثنايا النص، وقد أتمرد عليه وأخرج عن إيقاعه ونكون حبيبين على أرض واقعنا لا على أرض الخيال فقط.
قلت لك سأحبك لليلة واحدة؛ ليلة واحدة تكفي لملء جرار الذكريات بزيت الحكاية، ليلة واحدة تكفي لملء خوابي الروح بالحنطة؛ فإن جاءت العجاف أفرغ ما في خوابي الذكريات وأقتات عليها، وإن جاءت السمان عجنت الحنطة بالزيت وأولمت للسعادة الولائم.
قلت لك سأحبك لليلة واحدة؛ وحين يباغتنا خيط الفجر الأول أعيد ترتيب ارتعاشات الجسد وتنهداته الأخيرة، ألملم ما تساقط منك ومنّي وأحفظه في برميل الذكريات ليكون عرق الحب المعتق أرتشفه وأنا أستعيد المشهد الأخير.
سأحبك لليلة واحدة؛ ليلة واحدة تكفي لنظم عقد أقحوان أو نظم قصيدة.
ليلة واحدة كافية كي أنثرك وأعيد ترتيب ذرات جسدك وبعثرتك مرات ومرات، فلا أنتهي ولا ينتهي النص.
لكن النص ضاع،
ضاع ما كان لك،
ضاع ما كان منك ومني،
ضاع بوح القلب،
صارت الكلمات سرابا،
والليلة الوحيدة دارت في دوائر المستحيل.
28 أيلول 2021
حنين
عندما يباغتك الحنين ذات ليل وتبدأ تحصي النجوم التي تتخيلها ولا تراها، عندما تومض الذكريات في رأسك وتلتمع مثل برق خاطف.. ستستسلم لقدر الهطول.. ستفرش أرض نفسك بالترقب.. تنتظر أن يكون نصيبك من ليل الذكريات وفيرا، وإن كنت أكثر حظا ستتساقط الذكريات الجميلة في كفيك تباعا.. وستزهر على أطراف أصابعك كلمات.
وتقول كلمات.. وما هي بكلمات؛ ولا تعرف ماهية هذا الشيء الشفيف الذي يتشكل على أطراف أصابعك.. ولا تعرف ما لون الفكرة، ولا تتبين شكلها إلا حين تنساب بسلاسة ماء أو حبر.
وحدك مع ليل طويل.. وغرفة مسورة بكل ما نزفت وما تراكم منك من أحلام مؤجلة.. وحدك مع جبل انتظار حاولت مرارا أن تزحزح حجارته وفشلت، حاولت أن تثقب قلبك ليدخله بصيص النور وفشلت.. وحدك تقول متى..
تقول لي “أنا هنا.. أدخل ليلك مثل كائن لا مرئي.”
وأسألك “متى صرت من الأشباح التي تزور ليلي.. وأي جدوى أن تكون ككل الكائنات الأثيرية؛ كملاك، أو كطيف.. وكيف أقول الآن أنت هنا ولا أراك.. أفتح عيني وألاحق ما يرسمه خيالي من أطيافك المتعددة.. وحين تأخذني الإغفاءة وأنام على غير هيأة النائم.. أنتفض فجأة وأنا أرى شبحك الأسود الطويل يحدق بي.. فكيف تكون في ليلي الطويل مجرد كائن لا يحس وجوده ولا يرى..؟
قلت لي “سنطوي المسافات البعيدة بالكتابة، سيكون بيننا النص الرسالة، أو الرسالة النص؛ أكتب لك من أقاصي البعد على حافة غربة اختيارية إجبارية، وتردين رسائلي إلي معطرة ببوح قلبك، أكتب وتكتبين، أحكي وتنصتين.. وأسمع حين يجن ليلي لعزفك المنفرد.. نغمض عيوننا على حلم قديم ونسافر، نملأ جيوبنا بكمشة أفراح ومسرات صغيرة، نعتقها في القلب قليلا، ثم نحتفي بها على الورق.. مساحتنا من ورق، وحريتنا من ورق، وأيامنا القادمة.. أحلامنا.. أمنياتنا.. ساعتنا.. خلوتنا.. كلها، كلها يا صغيرتي من ورق.”
واتفقنا، وصرت أترقب ليلنا المرتقب.. أغمض عيني وأنا أقول لنا من ليل الحنين ما انتظرنا من حكاية.. لنا من ليل الانتظار كل الحكايا.”
5 تشرين الأول 2021
“بأي الأقلام يكتب من نام على قهر، أو فتح أجفانه على قهر..؟”.
لن يكتب بأي قلم؛ ومن قال لك إنه يمتلك رفاهية امتلاك قلم أو الكتابة به؟
من أظلم عليه ليله وفي قلبه قهر لا ينام؛ يحدق في العتمة المطلقة، ترف جفونه مرارا في محاولات عابثة لطرد العتمة المطبقة.. مرارا وتكرارا دون جدوى.
من نام على قهر وفي قلبه غصة وفي روحه انكسارات، لا يكتب بالحبر أبدا؛ قد ينزف، وقد يبكي، وقد يصرخ، وقد يمزق صدره بيديه، وقد يفعل كل ذلك ولن يكتب.
أن تنام على قهر يعني أن تحشرك الحياة في أضيق زواياها، وأن تنهال عليك ضرباتها وأنت لا تملك حتى ذراعيك لتحمي بهما وجهك المهشم.
وعندما ينجلي الليل عن مرآة الصباح لن تنظر فيها لأنك سئمت تعددك في مرآة مكسورة.
عندما تنام على قهر ستجمع قبضتك المرتجفة وتضرب بها صدرك بعفوية مشحونة بكل ما في القلب من وجع وما في الحلق من مرارة.
وتكتشف أن البكاء سدى.
وأن الصراخ عجز.
وأن قهرك قد نبتت له ألف ذراع وذراع، وأنك مهما حاولت فلن تفلت.
طوعا ستخرج الكلمات من جوفك وجوف ليلك.. تعبت أنا يا رب من الوقوف على قدم واحدة فلا تكسر ظهري.
عاجز أنا أمام أمواج الحياة التي تضرب صدري.
ومنهك حد الارتطام بأرضك المزروعة بالشوك والحجارة.
وبي رغبة أن أنزف آخر دمائي الحمراء، وبي رغبة أن أذرف آخر آمالي البيضاء على أرضك الجدباء يا رب.. ولن أنتظر مواسم الحصاد والمطر.
من نام على قهر لا يكتب بأي قلم من الأقلام؛ إنما يكتبه الحزن بكل اللغات.
22 تشرين الأول 2021
لعنة سيزيف
كيف لم أنتبه.. لم تكن الصخرة ملازمة لـ”سيزيف” على الدوام؛ فحين كانت تتدحرج ثانية من قمة الجبل إلى قعر الوادي، كان ثمة فسحة ولو ضئيلة لإسقاط هذا العبء الثقيل وهذا القدر الأسود عن كاهله.
حرا كان يهبط إلى الوادي، يرفع رأسه نحو السماء، يقلب ثناياها، ويتماهى في زرقتها، وقد يلتفت يمينا وشمالا، وربما حطت بعض الطيور على ساعديه، وربما نسي تعبه ووجهه الممتقع بالحزن، وضحك، وربما قفز عاليا وبعيدا، متناسيا أنه سيعود بعد هنيهة إلى قدره المحتوم ليدحرج الصخرة.
هل ابتسم سيزيف للكون ولو مرة واحدة، هل ضحك ولو ساخرا من قدره الملعون، هل نسي ثقل واقعه ولوّح بيديه لسرب من الحمامات، هل لاحق فراشة رفّت بجناحيها على وجهه مليا ثم طارت، هل فتح كوة من جحيم واقعه وأطل بوجهه المغبرّ على بساتين الحياة وأشجارها الوارفة، وطيورها المغردة، هل تتبّع خرير الماء وغناء الضفادع في البحيرة، هل أرهف السمع لموسيقى الكون، هل سبق الشعر بأعوام، وصرخ في لحظة تحلل من الظلام وانتشاء بالضوء.. الحياة على ثقلها، وعلى كل ما فيها من بؤس ما زالت ممكنة..؟
هل فعل كل ذلك، أم أن عقله ومشاعره كلها كانت تتمحور حول قدره المحتوم، هل رافقه السؤال ذاته وهو يتدحرج مرة أخرى إلى الوادي.. هل سأل بإلحاح “متى ينتهي كل هذا..؟”.
هل قذف حجارة الجبل بقدم عارية، هل أدمى الشوك ركبتيه حين سقط ونهض مرارا وشعور المرارة واللاجدوى يرافق خطواته..؟
هل فكر مرة واحدة أن يكون قدر نفسه، هل جرّب أن يكون الصخرة؛ كأن يصعد بخطى متعثرة نحو القمة؛ كأن يقع مرارا ويقف طويلا.. كأن يصل نقطة البدء لتدحرجه الحياة مرة أخرى إلى القاع..؟
أتخيله يفعلها؛ يصل القمة، يقف على قدميه، يرسل بصره نحو البعيد، يتأمل كل شيء دفعة واحدة، ثم يهوي إلى الوادي من جديد، يهبط مثل صخرة، يحتك جلده بأديم الأرض، تنغرس في جسده كل الحجارة والغصون اليابسة.. وفي لحظة الارتطام الوشيكة يغمض عينيه ويفقد وعيه لحظات.
وعندما يفتح عينيه ويدرك حقيقة مآله، يجمع ركبتيه إلى صدره ويسرح ببصره نحو البعيد، وقد يلعن حظه العاثر وقدره وقد لا يفعل، لكنه حتما سيقف، ويلملم ذاته، ويستجمع قواه.. يقف على قدميه، يرفع رأسه وينظر مرة أخرى إلى قمة الجبل، ويتسلق كما المرة الأولى، يتشبث بالنتوءات الصخرية ليعيد دحرجة نفسه مرة أخرى، أو لتدحرجه الحياة كما المرة الأولى.. تلك لعنة سيزيف.
23 تشرين الأول 2021
أحاول أن أرتب حاضري على نهج الجدات
يكنسن صباحا مصطبة الدار،
يسقين الورد والنعناع وحوض الزعتر وشتلة المريمية،
يغرفن غرفات من ماء الدلو الأسود،
يرششن الساحة الترابية ليخمد الغبار،
يجلسن قبيل الظهيرة في الشمس،
ينفضن ضفائرهن على خرقة بيضاء،
يغمسن أصابعهن في الزيت أو الكاز،
ويجمعن الضفيرة مرة أخرى،
يرددن المثل القديم على مسمع الصغيرات العطشات للحكمة “غسّل وجهك ما تدري مين يبوسه، ونظف بيتك ما تدري مين يدوسه.”
وأنا أخذت حكمة الجدات؛
أرتب حاضري على نهجهن ولا أقول سيأتي بل أقول محال.
26 تشرين الثاني 2021
وصية
لا تجمعوا دمي ولا دمعي في الجرار؛ تلك عادة بالية؛ فمن يهتم لأمر امرأة ذرفت عمرها أو نزفت دمها هباء..؟
من يكترث بموت الفراشة حين يحرقها اللهب أو حين تفتت أجنحتها الأصابع..؟
من مات بهذا مثل من مات بذاك؛ والموت واحد.
لا تكتبوا وصيتي عني فليس عندي ما أوصي به؛ سأترك حزني وكلماتي “مشاع.”
سأقول وأنا أرفع شاهدي في لحظة انفصال الروح عن الجسد “اشهد يا رب أني لم أذق طعم الحياة يوما؛ فكيف تسلب مني حياة؟”.
واشهدوا أني أريد قبري بلا شاهد يكتب عليه كلمات فارغة.. فما معنى أن يكتب أحدهم على رخامه بالأسود ولدت في يوم كذا من العام كذا وأنا لم أنتبه أبدا أني ولدت وأني عشت وأني أموت الآن.
وإن كان ترك جثتي في العراء لن يغضب الله ولا حراس دينه الأوفياء، فاتركوا جسدي الهزيل في العراء؛ لتنهشه الضباع أو الجوارح أو تعيث الغربان فيه فسادا، لا فرق.
لا توجعوا قلب أمي.. لا تسردوا على مسمعها تفاصيل موتي، ولا تحاولوا أن تنثروا الورد بين الكلمات.
لتكن الحقيقة رمادية، أو بلا لون، لتكن الحقيقة حقيقية وحسب.. لا تخلطوا السم بعسل الكلام، ولا تعرضوا جسدي الميت على أمي ولا تجبروها أن تتعرف على جثتي، ولا تعاتبوها إن لم تتبين ملامحي فسنوات البعد غيرت الكثير.
لا تتنازعوا أمري ولا أمركم بينكم؛ ولا تجعلوا قبري قبلة للضالين.
اتركوا الحرية لكل أشواك الأرض وأزهارها البرية أن تنمو فوق صدري، أو بين أصابعي كي أنهض من موتي قليلا وأعدو فوق المنحدر مع الصغار.
وحين يؤذن المؤذن معلنا موتي؛ اتركوا له كامل الحرية أن ينعاني بأي اسم يشاء.
وليقل إن شاء “سقطت ورقة في النهر، وها هي تجري لمستقر لها؛ فلعلها تبلغ المنتهى، أو تذهب مع الزبد جفاء.”
28 تشرين الأول 2021
حكاية
أريد أن أبدأ حكاية لا تكون أنت فيها الكلمة الأولى ولا السطر الأخير، أن أعزف الكلمات دون إيقاع أصابعك.
أريد أن أنتهي منك كما تنتهي الحكايات عادة؛ بكلمات وداع مقتضبة، وبعض دمع وعناق طويل. أريد أن أمسح وجهك بكلمة بيضاء منتهية الفعل مثل كان.. أو كان حبيبي أنت، أو كان مثل وعد لم ينجزه صبح ولا مساء.
أريد أن تمر على ذاكرتي خفيفا ولا توقظ الذكريات.
خفيفا مثل غيمة حبر انسكبت على ورقة بيضاء سهوا؛ لأنني أطلت الوقوف على الحرف الأول من اسمك؛ ففاض حنيني وانسكب الحبر سهوا.
أريد الأشياء في خفتها الأولى؛ مثل رقص فتاة مع صورتها المنعكسة على زجاج النافذة المبتلة بأمطار تشرين.
مثل احتضان قطرة عطر لقطرة عرق.
أريد أن أحلق في فستاني الليلكي مثل فراشة.. أن أحتار وأنا أختار بين الخواتم والأساور والعقود المتناثرة؛ أن أتخيل رقص الحليّ حين ترفعني بين ذراعيك وتدور بي دورات متتالية.
أن أسمع ضحكتي الممزوجة بصخب الرخام وقهقهة المرايا، أن أكون دون قصد راقصة إسبانية تراقص طيفك الذي يتخلف أبدًا عن موعده.
أريد أن أحلم بكل الأشياء التي لا تثير انتباهة الواقع؛ كي لا يقمع أحلامي. خذني إلى أي حلم مستحيل، إلى أي موعد لا يأتي، إلى أيّ لقاء لا يكون إلا في خيالي أو خيالك.
خذني إلى آخر الشارع الترابي الذي تغفو على كتفه ياسمينة الجارة الفضولية التي كانت تسترق السمع والنظر وأنا أسرق زهرة بيضاء وأزرعها في جيب قميصك الأزرق.. واركض بي بعيدا حين يكتشف أمرنا.
خذني إلى المقهى المطل على ضجيج المدينة، واشرب أصابعي مع قهوتك، واغمر كفيك بضوء الصباحات واحضن وجهي النحيل واقترب.
حررني من وعود الشتاء، وذكريات الشتاء، ولقاءات الشتاء حين يهطل في قلبي المطر.
حررني منك ومن ثقل الحزن الذي يتساقط في قلبي وعلى أطراف أصابعي حين أعود إلى أماكننا القديمة ولا أراك.
أريد أن أنتهي منك كي أبدا حكاية جديدة لا تكون أنت فيها الإيقاع ولا السطر الأخير.
13 تشرين الثاني 2021
عش معي خيالي
لا تطلب مني أن أصف لك المشهد الآن؛ سأكذب كما يكذب الكتّاب عادة، سأخترع مشهدي بنفسي فأنا لا يعجزني الوصف ما دمت قادرة على التخيل والتحليق بعيدا عن أجنحة الخيال؛ سأقول لك “غرفة صغيرة دافئة مطلية جدرانها باللون البنفسجي، وأغمض عيني وأحاول أن أتناسى الشقوق والطلاء المتقشر وهذا الحائط الباهت”.
ثم أصف لك السقف المطلي بلون أبيض ناصع، تتوسطه ثريا من الكريستال.. وأبتلع ريقي وأن أحدق بالضوء المشنوق الذي يتأرجح من سقف الغرفة البائس.
مكتب صغير تعبق منه رائحة الشجرة الأم، ولست متأكدة إن كان من البلوط أو الزان، على المكتب “table lamp”، وأوراقي المبعثرة والكثير من الأقلام، ورشفة أخيرة باردة من فنجان قهوة الصباح.
ألتفت إلى الركن المعتم لا أرى إلا الفراغ.
وأستفيض في الوصف؛ أرضية الغرفة تغطيها سجادة ذات شكل مستطيل، كثيفة الوبر، ألوانها تتوافق مع ديكور الغرفة فيها البنفسجي والأبيض.. وحين تدوس قدمي أرضية الغرفة يقرصني البرد ويتسرب إلى عظامي.
“هل صدّقت خيالي أم واقعي يا ترى..؟”.
لا تطلب من امرأة تعيش الحياة في خيالها أن تصف لك المشهد الذي أمامها، ستحوّل جحيمها إلى جنة، وسقفها الباهت إلى سماء مرصعة بالأنجم، ستخلق لك ألف فناء تحت النافذة وألف حديقة، ستقول لك سعادتي اليوم لا توصف فقد أزهرت أخيرًا الياسمينة، أو ربما تقول لك شتلة النعناع بخير؛ فهل أدعوك إلى كوب من الشاي الساخن..؟
امرأة الخيال ليست امرأة يا صديقي.. فكيف تصدق لقاءات الخيال، وكلام الخيال، وعناق الخيال..؟
كيف تسلم روحك لامرأة مفتونة برسم ما يمليه عليها خيالها بالكلمات..؟
كيف تصدق امرأة الكلمات هذه..؟
لا تطلب مني أن أصف لك المشهد الآن أغمض عينيك وعش معي خيالي.
17 تشرين الثاني 2021
لم أتتبع روحي وهي تغادر جسدي كل ليلة وتهيم في ملكوت الله؛ لم أتبع أثرها وهي تغادر هذا الجسد الميت المسجّى في فراش بارد لتحلّق في السماء حرة طليقة مني ومن واقعي ومن كل أعباء الجسد.
أن تنام كل ليلة يعني أن تموت في نومك، أن يلتصق جسدك الثقيل المثقل بالخيبات في الفراش وتحلّق روحك بعيدا.
فأين تمضي روحي كل ليلة، هل تذهب خفيفة إليك، إلى روحك التي تحلق مثلها في السماء، هل تلتقيان هناك، وأي عناق وأي حديث يدور بينهما، هل تفتتحان اللقاء بالعناق أو العتاب؟
متى يبدأ اللقاء، وكيف تمضي به الساعات، ومتى ينتهي..؟
وإن حدث وفتحت عيني وأنا أتقلب في جسدي الميت فهل أحرم روحي من عناق روحك، هل أنتزعها من جنتها، هل أعيدها عنوة إلى عالمنا الأرضي؟
لم تلحّ عليّ كل هذه الأسئلة، ولم لا أعثر لها على إجابة، ولم يتلعثم النداء على شفتي وأنا أهتف باسمك، يا.. “روحي تغادرني الآن وتمضي مسرعة إليك، تنتزع نفسها من جسدي، تتركني لموتي غير آسفة على جسد بارد مثل سجن عتيق”.
خذها وضمها إلى روحك فالروح تضيق بجسد جفت فيه كل ينابيع الحياة.
21 تشرين الثاني 2021
كذبة بيضاء
كذبة بيضاء أو ملونة بألوان قوس قزح تجعلني أستمر وأتناسى هذا الواقع المفرط في واقعيته البائسة؛ كذبة جميلة لن تهدم الكون؛ وأنت سيد الكذب الجميل.
كم مرة كذبت علي وعشت كذبك الجميل..؟
كذبت حين قلت “نحن الكتاب الذي لا تنتهي صفحاته”. كذبت حين قلت “عيونك مرايا الكون”. كذبت وغبت، وكلما كانت كذبتك أعمق طالت مدة الغياب، ولم تفكر ما الذي يمكن أن يحدث لمراياك حين تغيب.
ولم تسأل ماذا حل بمرايا الكون من بعدك، وأي صور تتشكل فيهما الآن..؟
كنت كمن يعد وجبة خيال لعصفور، ثم يغلق النافذة.. يغيب وجهك خلف الستارة.. ينقر العصفور وجبة خياله، ويفلي ريشه بمنقاره، يحدق في انعكاس صورته على الزجاج، يستمع لصوته مرات ومرات وهو يعيد الغناء.
يحاور الطائر الذي أمامه بمنقاره، ودون قصد يقرع نافذتك، وبقصد كنت تتجاهل النداء.
غبت وتركت للمرايا حزنها وضباب أنفاس العابرين، ولهاث الراكضين في واقعي المكتظ بالحمقى.
غبت وتركت المرايا فارغة من ملامحك، ليس فيها سوى النظرات الفارغة.
ماذا حل بمرايا الكون من بعدك، وكيف تمكنت من رؤية العالم بدون مراياك يا سيد الكذب الجميل..؟
كيف صدقتك حين قلت “ضرير أنا، أتحسس طريقي بأصابعي فامنحيني ضوء عينيك وردي إلى عيني النور.”
كذبت.. وأعرف أنك تكذب، وأحب ما يمنحه لي كذبك الجميل من حياة.
24 تشرين الثاني 2021
أقول لنفسي
نفضت يدي من الحكاية؛ ليس عندي ما أضيفه، سأترك البقية لكم إن كان ثمة بقية، وابقى كما أنا الآن رهينة وحدتي وعزلتي.
أقلب صفحات الليل ولا أقف على صفحة ولا سطر أخير.. أقلبها كي أقتل الملل ولا أدقق النظر في التفاصيل، أعرف القادم من لونه، ولا أعلق اي آمال كبرى على الآتي.
كنت مثلكم أجمع أحلامي كلها في كفي، أراقبها مثل بذرة، كنت مثلكم أنتظر بلهفة المشتاق ليل الحكاية.
والآن أفتح كفّي على ما فيهما من آمال فلا أجد إلا السراب، أحاول أن أخيط مزق الحكاية، فأعجز حتى عن ترقيعها، أنظر في مرايا الفجر ولا أعثر على وجهي القديم.
كنت مثلكم ربما كنت متطرفة أكثر منكم في فرحي وترقبي وانتظاراتي.
والآن لا أسمع سوى صفير الريح في جثة أحلامي.
7 كانون الأول 2021
عندي من الليل ما يكفي لنسج مئات الحكايا..
من الوحدة ما يكفي لاختراع ألف قصة حب،
من الوهم ما يكفي للذهاب إليك مشيا على بساط الحلم،
من الضجر ما يكفي للوقوع في حب ظل شمعة تحتضر،
من الخيال ما يكفي لرسم وجهك بأصابع بيضاء على جسد الليل،
من الوقت المتحجر على الجدران ما يكفي للعودة إلى زمن الطفولة،
من التفاصيل ما يكفي لإعادة سرد حكاية العمر مرارا وبتفاصيل جديدة،
من الحزن ما يكفي لملء جرار الذاكرة بالدمع،
من اليأس ما يكفي لكتابة حكاية تبدأ ب “عندي” وتكرر ذاتها كقصة “إبريق الزيت”.
17 كانون الأول 2021
ليلا، حين تسند ذقنك بكفك، وتفرقع بأصابعك لنادل الذكريات، حتما سيأتيك بأسوأ أنواع النبيذ.
وحدك مع نبيذك السيء، مع عصارة عمر مضى،
وحدك تتحسس وجهك المتعب من كل صورك وتحولاتك وانفعالاتك.
لا شيء أمامك إلا كأس النبيذ نبيذك، وحيرة العطشى.
هل تشرب الذكريات على مهل، يسألك النادل، هل آتيك بكوب ماء أو ثلج معد خصيصا للنسيان؟!
صمتك يجيب عنك، تلوح بيدك مثل ثمل، تصرف النادل بإيماءة من يدك.
تحدق بالقدح، تمد لسانك لتتذوق ملح الذكريات.. تكتفي باللذعة الأولى، تبعد القدح بظاهر كفك.
تفرقع للنادل مرة أخرى تتمتم وأنت تترنح مثل ثمل، ربما في موعد ضجر آخر.
اترك الكأس على حاله؛ دعه يتعتق قليلا.
عمت مساء يا سيدي النادل.
إلى موعد ضجر قريب.
3 كانون الثاني 2022
سلّم الجارة
أعترف دون تعذيب، نعم أنا من سرق سلّم الجارة؛ كنت أراه كل صباح يستند على شجرة “الأسكدنيا”، لم يكن له أي فعل ضروري ولا حاجة جمالية.
قلت أستعيره من جارتنا الميتة؛ لن تلاحظ ولن يضيرها لو فعلت، لا حاجة لميت بسلم، تستطيع أن تسافر على متن غيمة إلى الله.
أما أنا أحتاجه لضرورة خيالية؛ أتسلقه كل ليلة كي أفر من النافذة الضيقة؛ أترك جسدي وأنجو بخيالي.. أذهب أبعد من خيالي.
أدخل كل المقاهي المضاءة كرجل؛ لو كنت رجلا ما احتجت سلم الجارة ولا خيالي كي أدخل المقهى الليلي المضاء؛ يكفي أن أركل الباب بقدمي وأطلب فنجان قهوة أو كأس شراب كي أبرهن على رجولتي.
وربما تماديت وغازلت المرأة الوحيدة التي تحدق في انعكاسات الضوء على الطاولة، أتحرش بوحدتها، أتطفل على صمتها الطويل.. وقد ألكم جاري على أنفه لأنه طلب القداحة.. سيقولون “لا بأس رجل نزق.”
لو كنت رجلا سأتصرف مثل كاتب أنيق في محطة القطار؛ امرأة مثلي لا تعرف المحطة ولا القطار ولا تعرف أناقة الكاتب الذي يجلس على مقعد انتظار ينتظر الفكرة أو عابرة جميلة تلقي على أصابعه فكرة وتكمل الطريق دون التفاتة؛ الكاتب الأنيق سيخلق مشاهد حب مثيرة من لحظة عابرة.
امرأة مثلي تحتاج إلى سلّم الجارة كي تفر كل ليلة إلى محطة القطار لتتقمص دور الكاتب الأنيق وتجري حوارا افتراضيا مع أول عابر طريق.
لو كنت رجلا سيولد ألف نص على أصابعي مع كل خطوة في الشارع، مع كل صباح الخير، مع كل فنجان قهوة، مع كل لفافة تبغ، مع كل مشاوير المساء.
سأعترف دون تعذيب.. أنا من سرق سلّم الجارة كي أهرب إلى خيالي.. لو كنت رجلا ما فعلت.
4 كانون الثاني 2022
جدتي وعلى غير عادة الجدات لم تعلمني حياكة الصوف؛ أفسدتني الوحدة وليالي الضجر؛ تعلمت عادات سيئة، صرت أتسلل إلى داخلي خلسة دون أن أثير ريبة الساهرين، ولا انتباهة المحدقين بوجهي الذي استطال من الحزن، أدخل في غفلة عنهم إلى قبو نفسي، ألعب لعبتي السرية، ألتقط ما تساقط من ثمار اللغة، وحطب الذكريات، أنوس عيني قليلا، أتظاهر بالنوم.. وأبدأ حين يظنون أني غفوت.. أبدأ لعبتي السرية في كتابة الرسائل في ذهني، أبتسم في سري وأسخر من ظنونهم حين يظنون أني أبتسم لوجه طاف في منامي، أقهقه من سذاجتهم وأفرح لأن الكتابة أكثر من فعل حبر وورق، فثمة رسائل كثيرة تكتب بحبر سري لا يفك طلاسمها ولا يعرف سرها إلاّ أنا.
5 كانون الثاني 2022
ثم تأتي ولو بعد حين ليلة أقل برودة ووحشة، تصمت فيها ذئاب الوحدة، وعويل النساء اللواتي يندبن حظوظهن على عمر ضاع في انتظار كل من غابوا في المنافي أو تحت التراب، يصمتن لأن الانتظار اكل من قلوبهن والنداء المتواصل جفف ماء النداء.
تأتي تلك الليلة المنتظرة مثل يسوع آخر الزمان، تنهض فيها المرأة الكسيحة عن سرير الانتظار، تقف على قدميها بعد جهد، تتكئ على حديد السرير المتشنج، تعلق نظراتها على الحائط المتهالك، تتفرس الصورة التي بهت لونها، عبثا تحاول ايجاد القواسم المشتركة بين ملامح الغائب المعلق في الإطار والقادم المعلق بين زوايا الباب.. لا تقول كأنه هو أو هو، ولى زمان الاحتمالات.
تأتي الليلة البعيدة كأيّ حدث مفاجئ، المرأة الكسيحة التي قصم الانتظار ظهرها لم تعد قادرة على الانتظار، لا تخطو خطوة واحدة للأمام، فالأمام مشاع الأمل، لا تتراجع خطوتين إلى الوراء فالوراء هوة اليأس؛ هي أيضا معلقة بين زمان ومكان، بين ذكرى وواقع، بين وجه محنط في الذاكرة وملامح يكتسحها غبار الغياب، هي لا تقوى على تركيب جملة واحدة؛ نسيت كل مفردات اللقاء.. هي لا تستطيع السكوت فثمة لحظة ثرثارة ووجه يقرأ على عدة أوجه.
هل تمد يدها المرتعشة لتتهجى هذه الملامح الجديدة، هل تعيد الزمان ساعة، هل تقف مترنحة في مهب الذكريات، هل تسقط وتتكوم على ذاتها مثل زمن هلامي بلا ملامح.. هل تقول ما كانت تكرره طويلا:
من أنت بعد خيبة وهزيمة،
وبعد انتظار وشك،
وبعد موت متعدد،
وساعات خرساء،
من أنت في غبار الوقت،
من أنت بعد صدأ النسيان،
هل عدت حين أصبح النسيان ضرورة، والموت حق..؟
كم مرة ذابت ملامحك في قعر بئر مهجور،
كم مرة انتشلتك من قاع محيط اليأس،
كم مرة نفخت في روحك روحي،
كم مرة قتلتك وكم مرة قاومت الموت..؟
هل تصرخ في الريح القابعة خلف أبواب الذكريات خذيه إلى محطة الرحيل الأخيرة، أو بعثرته في الريح مثل حبوب الطلح، ربما في أرض أخرى أو زمن آخر يعود القلب فتيا.
12 شباط 2022
إلى صورته المعلقة
غيرت رأي؛ أريد أن أرى ما تراه، أسند خدي بكفّي وأمنح نظراتي لحظة ثبات؛ أثبتهما في نقطة واحدة، أصير إحدى آلهة الحكمة، أو منحوتة رخامية “لنصف إله”، أريد أن تبرق الفكرة في عيني كما رأيتها تبرق في عينيك، أريد أن أصل إلى إحدى الاختراعات الغريبة وأنا أتأملك، أريد أن أعرف سر الجاذبية في خصلة شعرك المتدلية على جبينك، وأمزج كثيرا من الألوان كي أصل للون الضوء في جبينك، أو لون الضوء في عينيك، أو لون الضوء في خدك الأيمن.
وأريد ككل عاشقة مهووسة أن أعرف ما الذي يختبئ في صدرك، وكيف يتولد الدفء ويتكاثر الزغب تحت كنزة الصوف الزرقاء، أو تحت القميص الخفيف، أريد أن أحلل صوتك وأقرأ اهتزازات أنفاسك ككاشف الهزات والزلازل.
أحاول أن أقرأ الكلمات الصامتة على شفتيك، والعبارات التي لم تولد بعد، أحاول أن أتخيل وجهك بأزمنته المتعددة وفصوله الكثيرة، أحاول أن أفهم عبقرية الضوء في أحداقك المفتوحة على شيء لا أراه.
أسئلة كثيرة تتكاثف في كفي، لا أفهم مثلا كيف استطاعت الملائكة أن تنثر القمح على ملامحك وما مقدار السحر فيها، وما سر هذا الكلام الذي تنطق به صورتك المعلقة على الجدار..؟
13 شباط 2022
حائط الغياب
وأنا أنزلق في جوف هذا الليل لا أحتاج إلا أن أتشبث بملامحك قليلا، أهرّب صورتك في خيالي، أنزلك عن الصليب، وأنا ألعن من دق مسماره الأخير وعلقك صورة على حائط الغياب.
وألعنك لأنك الوحيد الذي لا يرى ملامح وجهه على مرايا كلماتي، وألعن زيف النظرات، وجهالة القلب، والقلب يجهل.
أمامي لا شيء سوى ملامح باهتة لصورة قديمة، أحاول أن ألعب لعبة التماهي أو التخاطر معك، أغمض عيني لثوان قليلة، أفتحهما، وفي لحظ عمى بصري أراك أقرب.. مرات ومرات متتالية، وكلما حاولت تسريع اللعبة قليلا اقتربت أكثر، ودبت في ملامحك الحياة، وتحولت من صورة جامدة إلى صورة متحركة.
تظنني أفقد عقلي، ولا أكترث لظنونك، فالعقل الذي لا يساند القلب ويحقق رغباته ولو في خيال – أو إن شئت قل في خداع بصري – لا يعوّل عليه.
15 شباط 2022
والريح لغة؛ بل لغات متعددة:
لغة تعري الصحراء حبات رمل متناثرة،
لغة تقرأ البحر قطرات ماء متكاثفة،
لغة تتهجى الأشجار أوراق خريف متطايرة،
لغة هادئة تحمل المراكب، وأخرى غاضبة تمزق الأشرعة،
لغة ناعمة تجمع شمل الغيمات، وأخرى ثائرة تثير حنق العواصف،
لغة تطبع النمش على وجه صخرة، وأخرى تعمي البصائر،
لغة تثير شجن الناي، وأخرى تثير الزوابع،
لغة تراقص زهرة أقحوان، وأخرى تلوي عنق السنابل،
لغة تهدهد النسمات، وأخرى توقظ الأعاصير على الشواطئ،
لغة برقة نسمة وعذوبة عاشق، وأخرى بجنون إله حانق،
لغة تكشف الحرير عن ساق مرمري، وأخرى تقتلع خيمة لاجئ،
لغة تمنح الفراشات لذة التحليق، وأخرى تشعل في الغابات الحرائق،
لغة تحمل مناجاة عاشقة لعاشق، وأخرى تبعثر النداء في فضاء مصطخب وخانق،
لغة أمية لا تقرأ الشفاه، وأخرى بحنكة عالم،
لغة ترفع، وأخرى تطيح..
تهمس، تعوي، تثير العويل، تنادي، تهادي، تعادي، تقشر وجه الأبدية الدميم.
لغة بل مجموعة لغات هي الريح.
17 شباط 2022
أحفر نفقي
على نحو ما مازلت أحفر نفقي بقلمي، أتعثر، وأصاب بنوبات من اليأس، يلازمني شعور باللاجدوى، تفتر عزيمتي، يجتاحني جنون لحظي ومتكرر وأكسر القلم، أحيانًا كثيرة أقضم أظافري وألوك أوراقي، وأنهار فوق الكلمات ولا أتوقف عن النشيج إلى فجر اليوم التالي، أضيع الطريق والطريقة والكلمات واللغة، يصدأ فانوس الأمل، وتذوي الفتيلة، أكف عن المحاولة وأنا ألعن حظ الضعفاء، أكتب أشياء بلا روح ولا معنى، أشتبك مع ذاتي في أحايين كثيرة، أصرخ، وأحيانا أترفق بصورتي المرتجفة، أشفق على العمر الذي سيذهب سدى، وأسخر من شرف المحاولة.
أمد لي يدي، أتشبث فيّ إذ لا أجد في النفق سواي، أقيم الجدران المتداعية مرات ومرات، أنفض غبار اليأس عن قلبي وأعيد الحفر من جديد.
لا أعول كثيرا على النهايات ذات البريق الخاطف؛ من قال إن النجاة من سجن الحياة أو كسر الأصفاد ليس من المستحيلات؛ بل هي في أعلى هرم المستحيلات.
تسألني مرارا، وأنت تراني منكبة على كومة أوراق، غارقة في بحر أبجدية أحاول دون جدوى فك طلاسمها؛ تسألني “ماذا تفعلين؟!” أُجيبك باقتضاب الجواب المعهود “أحفر نفقي”. تقول “بالقلم؟!”. أقول “بالقلم، وهل أملك سواه؟”.
تسألني مرة أخرى إن كنت مسكونة بقصة السجناء الستة الذين حفروا نفقهم بالملعقة، وأقول لك “نعم، لقد ألهمتني قصتهم الكثير.”
تسألني “وهل يستحق الأمر كل هذا العناء..؟!”. وأقول لك “لا أدري هي محاولات لمعانقة الشمس ولو لهنيهة قصيرة.”
تسألني “من يكترث لقلم امرأة مثلي..؟!”. وأقول لك “لا يهمني؛ ربما كنت أنت أو أي قارئ عابر؛ قلتها لك مرارا هي محاولات لكسر حاجز الصمت، أو ربما لتعرية هذا الواقع، أو لنزع المسمار الأخير لتصير الروح حرة، لا أريد لروحي أن تبقى عالقة في مكان لا يشبهها، أحاول أن أحفر لها نفق النجاة.. الجسد يفنى على الصليب والروح تحلق حرة إلى السماء الثامنة.
5 آذار 2022
جِبلان
في المنام كنت في “جِبلان” وجبلان هذه كما جاء في المنام؛ من أرض فلسطين؛ شمالها تحديدا، بالقرب من حيفا، وما يميزها تنوعها التضاريسي؛ إذ رأيت فيما يرى النائم سهولها الممتدة متدرجة الألوان، وكانت خضراء كما يفترض بها أن تكون في مثل هذا الوقت من السنة، جبالها عالية جدا مكسوة بغلالة من الضباب وعلى رؤوس جبالها يرتاح الغيم، في نقطة ما على مد البصر، يلتقي الأزرقان؛ البحر والسماء.
في المنام كنت واقعة تحت سحر المكان، أُقلب طرفي، أتسلق بنظري الجبال الشاهقة، أركض بهما في المرج، وأسبح بهما في البحر، وأغوص في الزرقة اللامتناهية.
في جِبلان تملكتني رغبة التحليق، أردت أن أتحول إلى ذرة من مكونات هذا المدى، أن أتحد بقطرة ماء، أو نقطة ضوء، أو نسمة هواء، وعزمت أمري وقررت أن أحلّق بطائرة شراعية هي أقرب ما تكون إلى الورقية، حملتها على ظهري، وتسلقت البرج الخشبي، وقفت متأرجحة على الحافة الخشبية، تراجعت خطوات قليلة الى الوراء، سلمت ذراعي للريح وحلّقت، لكن الريح لم تتمكن من حملي طويلا، تهاديت الى الارض مثل ورقة شجر طرحها الغصن، كررت محاولة الطيران من أماكن مختلفة؛ من البرج الخشبي، من قمة الجبل، وفي كل مرة كنت أنزل إلى الأرض بثقل ثمرة ناضجة أو بخفة ريشة، وفي كل مرة كان يطول المشهد أو يقصر حسب سرعة الهبوط.
كما كانت جِبلان حقيقة لو لم أفتح عيني على صوت المنبه.
6 آذار 2022
سينتهي العالم
سينتهي العالم يا حبيبي، تقول في سرك “يا لك من امرأة سوداوية”. وأُمازحك “ماذا لو لم أكن كذلك؛ أقصد لو كانت أفكاري ذات صبغة بيضاء؛ هل ستنعتني بامرأة بيضاوية أو ذات فكر أبيض..؟”.
سينتهي العالم يا حبيبي وننتهي معه غريبين على حافة عالم يحترق؛ سننتهي لأن النهاية حتمية، وخاتمة البدايات النهاية، سننتهي كما تنتهي القصص عادة بأن تُطوى الصفحة الأخيرة مع كثير من الندم والأسف.
في زمن الفراق والخراب والبعد لن يكون ثمة وداع؛ لن تمد كفك من نهايات العالم ولن أمد كفي من شطآن متوسطة.. لن تلامس أصابعي أطراف أصابعك؛ لا ولن نحظى بنظرات تتلاقى أو تتعانق، أو تتعاتب؛ ليس إلا الموت الصامت، والرحيل الصامت، والانسحاب من المشهد بظلال منحنية على ذاتها؛ ليس للكلام من ضرورة في لحظة انفصال الروح عن الجسد.. ليس إلا حشرجة الموت.. هكذا ينتهي الغرباء يا حبيبي بموت صامت.
سينتهي العالم.. يفنى الأخيار والأشرار على حد سواء؛ لا وقت للعتاب أو تصفية الحسابات؛ حتى لو كان ثمة وقت مقتطع من الوقت الفاني؛ فلن أعاتب ولن أعتب عليك، ولن أُعلّق جرس الخيبات – خيباتي في عنق أحد؛ لا وقت لأجادل الظالم، أو أمنح الطيب قبلة على الكف أو الجبين.
سينتهي هذا العالم الذي أمعنا في خرابه؛ أديم الأرض ما عاد يحتمل ثقل خطواتنا وخطايانا.. حتى السماء اكفهر وجهها واسودَّ لشدة ما نزفنا من أحقاد وسفكنا من دماء.
سينتهي منا نحن ورثة الخراب وشياطين الحروب ووقودها.. سيُهلكنا كما أهلكناه من قبل؛ وفي لحظة الفناء والتلاشي سنتذكر حقيقة واحدة؛ نحن من هدم الكون.. نحن من أهلك الحرث والزرع وعاث في الأرض فسادا، نحن من طمسنا الحب والرحمة.. وكما كانت الحياة استحقاقا فإن الهلاك كذلك.
8 آذار 2022
صفحة بيضاء
المرأة سيئة الحظ التي كتبت آلاف الرسائل لم تعثر في الكتب المعتقة على الرفوف على رسالة حب واحدة منسية بين صفحات كتاب؛ فتشت صندوق الذكريات مرارا ليس ثمة قارورة عطر فارغة تحفظ رائحة الحب قبل اللقاء أو بعد اللقاء، لا منديل قماش واحد مطرز بحرف اسمك الأول ولا الأخير، لا وردة محنطة، لا صورة معلقة، لا قبلة على وسادة الأحلام.
المرأة سيئة الحظ لم تعثر هذا المساء على فتيل شمعة بوسعه أن يشعل نار الذكريات.. أو يبدد الظلمة.
المرأة سيئة الحظ تذكرت أنها بلا حظ، أرخت أصابعها القابضة على القلم وسلمت روحها للضجر، تأرجحت على حبل نعاس، سقط رأسها على كتفها من شدة التعب، صفع البرد عنقها.. تلاعبت بها رياح الذكريات.. نهرت أشباح الليل، لكنها ظلت تتحلق حولها وتزعق حتى حرمتها لذة النوم.
المرأة السيئة الحظ خمشت وجه الليل بأظافرها فتبدى لها ضوء الصباح.. ركلت الغطاء والنعاس ومضت كعادتها إلى يومها منهكة.
10 آذار 2022
وأنا أستغرب
كما يستغرب كل أولئك الذين خذلتهم الحياة وخانتهم الطرقات – أستغرب من قدرتك العجيبة على الاستمرار، وعلى الكلام، وعلى الوقوف على النقطة ذاتها ووقوعك في الهاوية ذاتها والنهوض من رمادك وانبعاثك مثل نقطة ضوء.
أستغرب من قدرتك على تلوين الوجود وكأن حبر روحك لا ينضب، وكأن أطراف أصابعك لم تتآكل من تكرار الفعل الاف المرات.
أستغرب كيف تغطي وجه الموت في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الجثة الهامدة، والميت الذي تشربه الأرض مثل عدم لا ينبت زهرة.
كيف استطعت أن تكون بكامل الحياة وكل ما حولنا تنبعث منه عفونة الموت.. الأزهار، والصبح، والبحر، ونتونة الأنفاس المتكدسة.
كيف استطعت أن تهزم أصابع الوقت المتكلسة التي تشير إلى النهايات، وكيف كسرت الجليد عن البوصلة، وكيف جعلت الفرح قبلتك الخامسة.
سألتك مرارا عن وصفة للحياة، واجتهدت طويلا لأكون من أتباع طريقتك وفشلت؛ كنت كلما حاولت الدخول من باب الحياة للحياة أرتطم بسقفها الواطئ.. مرارا فعلت ومرارا فشلت في التجربة.
كانت تنقصني حكمة الشجر وصبر الجدات، وعفوية الطفولة، ولم يكن لي جلد الأنبياء ولا صبر النمل كي أعبر الطريق محملة بحبة أمل.
هنيئا لك يا صديقي، لا يمكن لي أن أكونك؛ لست أنا ذاك الصباح المتجدد.
14 آذار 2022
خيط دخان
يا امرأة تتأخر عن مواعيد الحياة كثيرا.. كثيرا جدا لدرجة أن الحياة تجاوزتها حد النسيان؛ لو جئت إلى موعدنا قبل الموعد بخمس دقائق، ربما صادفتك الحياة وفرش الحظ بساطه تحت قدميك؛ لكنك متأخرة كما أبدًا.
لو جئت أبكر قليلا؛ ربما انتبهت.
يا امرأة لا تترك في المكان إلا بخور حضورها؛ تحرق اللحظات على مقعد الانتظار وتنسى كيف تقرأ التعويذة.
يا امرأة كلما قابلت ظلها على المقعد المنسي على طرف الذاكرة تذكرت كم كنت أنت لولا فارق التوقيت بين عمر الانتظار وعقارب الخيبة.
يا امرأة تدخل المنامات بحلم معد كوجبة حب فاخرة؛ يا امرأة تدخل في المنام مثل مواعيد الحب السرية؛ تفتح عينيها حين تغوص في الموجة.. تغلقهما حين تغرقها الموجة.. تجذب أطراف أصابعي نحوها، تبقيني في حالة دوار.
شاسعة أنت مثل محيط، عميقة مثل هاوية، لا منتهية مثل سماء، متعددة الروائح مثل دكان توابل وعطور.
يا امرأة ترتب لي مناماتي مثل حقيبة سفر؛ تدس بين ثنايا الذاكرة رائحتها؛ بل مزيج روائحها المتعددة، تسرق عطري عن جسدي، تخطف صوتي عن شفتي، تتقمصني.. تصيرني في لحظة انتشاء.
يا امرأة جربت ألف وصفة شعبية، وكل فنون السحر المغربي كي أصنع من رائحتها امرأة؛ إلا انها تأبى إلا أن تكون خيط دخان، وبخور ومزيج روائح متناقضة.
يا امرأة تكتب عني لهفتي، وتترجم صمتي دون أن أملك حق الاعتراض.
يا امرأة تقول على لساني كذبات الحب الجميل؛ لن تكوني إلا خيط دخان.
22 آذار 2022
أُدرب نفسي على الموت
أطيل عمر النوم – الموت ساعة إضافية كل ليلة، أفتح عيني في منتصف موتي، أتحسس صدري أدرك أني ما زلت حية؛ أعيد ترتيب الموت مجددا أغمض عيني، الآن أنا ميتة تماما إلا من منام يلهث بي نحو اليقظة.
أجمل الموت؛ الموت نوما لا شيء يوجع؛ إغفاءة يطول أمدها إلى مالا نهاية؛ لا أحد يشعر؛ سبات القلب إلى الأبد؛ لا أحد يبكي كأنك النائم في موتك، أو الميت في نومك، لا أحد يهز جذعك مثل شجرة، لا أحد يريح غصونك على صدرك، لا أحد يغمض عينيك فقد نقرهما طائر الموت توا. لا أحد يقفل فمك لأنك قررت أصلا أن تموت بفم مقفل، كي لا توقظ النداء الأخير في قلبك.
ما أجمل أن تموت بفم مقفل وعيون منقورة؛ لا أحد سيفهم سرّ موتك.
25 آذار 2022
لا أذهب إلى النهر
تلك عادة الشعراء يذهبون إلى النهر لاصطياد المعنى والدخول في مرآة الماء.
يذهبون إلى النهر يلقون أقلامهم، ينتظرون على الحواف، يمسحون ما علق من صور على أوراقهم.
يضعون الأفكار في دلاء، يحملون المساء على أكتافهم، يتركون النهر ورائهم، يعودون عودة المنتصر.
لا أذهب إلى النهر؛ لكنني كل صباح أراه ينحسر عن أوراقي، يجر ذيله الأخير ويمضي إلى مجراه.
أنفض الزرقة العالقة على أصابعي على ما تيسر من فضاء وأمضي أنا أيضا خفيفة من المعنى ومن الكلمات ومن الفكرة.. وأنسى؛ تلك عادة الأسماك أن تنسى.
26 آذار 2022
أنا “كوزيت“
وتسألني “لم كوزيت تحديدا؟”. وأقول لك على المأساة أن تكون ذات اسم ودلالة؛ قد أكون كوزيت أو شجن أو جبينة، أو أي اسم آخر معرف بالحزن أو منكر به.. من يبالي لو كنت واحدة مفردة أو كل مجتمع.. ما الفرق..؟
الحياة مذبح كبير وعلى امرأة تختارها الأقدار أو يقودها حظها العاثر أو تمشي هي إلى حتفها بخطى ثابت.. على امرأة ما أن تكون القربان؛ من قال إن زمان القرابين انتهى. وتسألني لم علي أن أكون كوزيت؟ وأقول لك كي أعري مجتمعك المتعفن وأتعرى لترى أثر أنياب الزمان على جسدي؛ ليس جسدي المفرد بل جسد الكل ممن وقعن فريسة لوحوش لا ترحم.
وتستنكر علي قولي وأقول لك أنت من يصر على إغماض عينيه كي لا يرى. عدالتكم عمياء وحقيقتكم لا تبصر.
من الذي خلق كوزيت، وأي رحم أنجب شجن وأي لعنة لاحقت جبينة.. أترك الإجابة لك، ولن أدخل معك في أي “جدل بيزنطي”.
لكل مأساة خالق، ووراء كل وجه ممتقع بالحزن جلاد، وخلف كل نظرة تائهة معذب.. تلك حقائق لا يمكن إنكارها.. إنكار الشيء لا يعني عدم وجوده، العكس صحيح تماما؛ الإمعان في التنكر لشيء ما يعني التستر عليه ومحاولة اخفاءه بقوة. نحن مرضى بالإيهام والتوهم وتلك حقيقة أخرى لو شئت.
كوزيت، شجن، جبينة…هل هو فصام أو تعدد شخصيات أو تعدد حكايات أو تعدد مآس.. لا أعرف.
تستطيع امرأة؛ أي امرأة عاشت تفاصيل الوجع أن تكتب رواية كاملة مكتملة الفصول عن ظلمكم وعتمتكم الشاسعة، ولكن لم قد تفعل.. أقصد لم قد تلجأ إلى الورق كملجأ أخير.. إن من أكمل دورة الحزن وأنهى كل فصول المأساة لن يكترث لسرد تفاصيل وجعه.. كيف يمكن أن نحمل الكلمات كل ما لا تحتمله.. ثم ما الجدوى من كل ذلك. لو كنت أنا تلك المرأة التي تجسد المأساة سأختار الاسم الأول أو أنهي حياتي صامتة على الصليب.
4 نيسان 2022