الرجل والمرأة
عند طرح أيّ سؤال يتعلق بالعلاقات بين الجنسين، فغالبا ما يواجهنا على الساحة العربية اعتراضان، أولهما يطرح كسؤال استنكاري فيقول: “هل لطرح هذا السؤال أهمية؟”، والثاني يسأل بنفس الأسلوب: “هل هذا وقت طرح مثل هذه الأسئلة؟”. بالنسبة إلى الفريق الأول تعتبر العلاقة بين الجنسين عديمة الأهمية لدرجة أنها لا تستحق أيّ طرح أو نقاش في أمورها، أما الفريق الثاني فلا يجردها من الأهمية كليا، ولكنه يجعلها ثانوية الأهمية، وبالتالي فليس برأيه من المناسب الخوض في مسائلها في هذا الوقت العصيب المأزوم الذي تمر به منطقتنا العربية!
وردا على هذين الرأيين نقول للفريق الأول إن العلاقة بين الجنسين هي علاقة جد جوهرية، فهي ضرورة حيوية تتم عبر علاقة الإنسان بالإنسان، وهي ليست مجرد حاجة بيولوجية تنحصر في النشاط الجنسي كما هي عند الكائنات الأخرى، وليس الجانب العاطفي فيها مجرد رومانسية كمالية ثانوية الأهمية، فهذه العلاقة هي علاقة متكاملة بكافة ميادينها، وكما سلف القول، فهي العلاقة التي لا يتعامل فيها الإنسان مع الإنسان وحسب.. بل يتفاعل معه تفاعلا حيويا، ولا تكون هذه العلاقة استهلاكية أو خدمية كما في حال التعاملات الأخرى العملانية بين الناس، أو العلاقات مع الضرورات الحيوية الأخرى التي تتم مع أشياء ونباتات وحيوانات كما هو الحال في الغذاء والشراب والتنفس!
أما للفريق الثاني فنقول إن الوقت العصيب الذي تمر به المنطقة العربية هو ليس طارئا ولا عابرا! وهو يرتبط بالبنية الاجتماعية المزمنة ومستفحلة الأزمة لهذه المنطقة، والتي لن يتغير حالها قريبا، ولن يتغير دون نشر الثقافة والمعرفة العقلانيتين والحديثتين، والتي تحتل العلاقة بين الجنسين فيها مكانا هاما!
طبعا، وكما سلف الذكر، فالحب والجنس كلاهما وظيفتان حيويتان جوهريتان عند الإنسان، وهما وظيفتان متكاملتان، والحديث هنا لا يهدف إلى إعلاء شأن إحداهما وانتقاص شأن الأخرى، والتمييز بينهما ليست غايته المفاضلة بينهما، ولكنه يهدف إلى تسليط بعض الضوء على الآراء المختلفة في شأنهما، وذلك من أجل المساعدة على فهم أفضل لهما!
يرى الكاتب الفرنسي إميل زولا أحد رواد المدرسة الواقعية الطبيعية وصاحب أحد المذاهب المتميزة فيها، أن الإنسان حيوان تسيّره غرائزه وحاجاته العضوية، لذلك فإن سلوكه وفكره ومشاعره هي نتائج حتمية لبنيته العضوية، ولما تقوله قوانين الوراثة، وأما حياته الشعورية والعقلية فهي ظاهرة طفيلية تتسلق على حقيقته العضوية، وكل شيء في الإنسان يمكن تحليله ورده إلى حالته الجسمية وإفرازات غدده.
هذا الرأي لإيميل زولا يقودنا إلى خلاصة في الجنس تلتقي مع ما قاله أحد المفكرين العرب بأن كل الحيوانات تمارس الجنس بقصد اللذة وبدافع الغريزة، وبما أن الإنسان الوحيد بينها القادر على الكذب فقد سماه حبا..
هذا الرأي الذي ينكر أصالة الحب كان يقول به أيضا الفيلسوف الألماني المعروف شوبنهاور الذي كان يرى أن الحب هو مجرد قناع للغريزة الجنسية، وبذلك كان شوبنهاور ينكر استقلال الحب ورفعته، ويرى أن كل ما يبدو تميزا في المشاعر ما هو إلا وهم وخدعة من الطبيعة لحفظ النوع البشري.
وهذا الرأي أيضا يدعمه الشيخ والأديب علي الطنطاوي الذي لا يفرق بين الحب والجنس إلى درجة يختزل فيها الحب في الرغبة الجنسية، فيقول: “حينما تكون الرغبة الجنسية موجودة والجنس الآخر مفقودا يكون عند الإنسان من التفكير في الجنس الآخر مثل تفكير الجائع في الطعام، وهذا هو الذي نسميه الحب، وهو أشد من تفكير الجائع بالطعام؛ لأنه حين يطلبه لا يفكر في لونه ولا في جنسه، والجائع الجنسي قد تنحصر كل رغبته في امرأة بعينها تنحصر دنياه فيها. إنه يطلب أن ينظر إليها ويحدثها، فهل ترونه يكتفي إن رآها بالنظر؟ هل تظنون أنه إن حدثها قنع بالحديث؟ إنه كالجائع، فهل يكفي الجائع أن يرى الطعام ويشمه وينظم في وصفه الأشعار ويصوغ القوافي؟”.
الحكيم الهندي أوشو بدوره لا يعترف في كتابه “التانترا.. الطاقة والنشوة” بـ”الحب الرومانسي”، فبرأيه، هذا الحب ليس إلا كذبة، فهو الجانب الآخر للجنس الجسدي، وهو ليس إلا نتيجة للجنس المكبوت، ومجرد غطاء لحقيقة الجنس العارية، وتمهيد لطيف لممارسة الجنس.
لكن في المقابل هناك من يميز بين الحب والجنس، كما يفعل الكاتب البريطاني كولن ويلسون في كتابه “الجنس والشباب الذكي” الذي يعتبر فيه أن الجنس مثل الطعام لا علاقة له بالعواطف، وهو يرى أن “الجنس في شكله الخام هو رغبة محضة”، ويقول: “يجب أن ندرك أن رغبة الذكر الجنسية في الأساس هي رغبة موضوعية. إن الرجل يشبه النمر الذي يبحث عن وجبة جيدة. وليس معنى ذلك أن الحب ليس موجودا بين الرجل والمرأة، فالناس تحتاج بعضها البعض على المستوى الشخصي كما على المستوى الجنسي، ولكن الرومانسيين الكبار يصرون على إدماج الشخصي والجنسي معا، ويسمون ذلك بالحب، وهذا تفكير مشوش”.
أما في تراثنا العربي الإسلامي فنجد إماما كبيرا كابن حزم الأندلسي يعطي للحب جذرا روحانيا نفسانيا، فيقول في كتابه “طوق الحمامة في الألفة والآلاف” عن محبة العشق: “إنها تنفرد عن سائر أنواع المحبة الأخرى بأنه لا سبب لها إلا الاستحسان الروحاني، والامتزاج النفساني”، ويضيف: “لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة أو اتفاق الصفات الطبيعية، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة، وتأكدت المودة”.
كما نجد رأيا في الحب والجنس للإمام الكبير ابن القيم يمكن اعتباره من أجمل الآراء التي قدمت يوما في هذا الشأن، وهو يجعل الجنس تعبيرا عن الحب، فيقول في كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”: “إذا تشاكلت النفوس، وتمازجت الأرواح وتفاعلت، تفاعلت عنها الأبدان، وطلبت نظير الذي بين الأرواح، فإن البدن آلة للروح ومركبة، وبهذا ركب الله الشهوة بين الذكر والأنثى طلبا للامتزاج والاختلاط بين البدنين، كما هو بين الروحين”.
ورأي ابن القيم هذا يتفق مع رأي الدكتور عادل صادق الذي يقول في كتابه “الطب النفسي”: “بالرغم من أن الجنس هو وظيفة فسيولوجية غريزية إلا أنه اكتسب معاني مختلفة وعميقة عند الإنسان، مما جعل البشر يختلفون إلى حد ما في إدراكهم وإحساسهم بالجنس، ومن ثم سلوكهم الجنسي.. والتعريف البيولوجي المطلق للجنس هو أنه سلوك يؤدي إلى التكاثر.. وبذلك فهو وظيفة أساسية عند كل كائن حي من نبات أو حيوان أو إنسان.. وظيفة لا غنى عنها مثل التنفس.. فالجنس هو رئة الكون التي تتجدد من خلالها الكائنات الحية التي تعيش على الأرض.. إلا أنه اختلف عند الإنسان لأنه ينطوي على علاقة.. علاقة إنسان بإنسان.. وكل واحد منهما يأتي من جنس مختلف.. أي رجل وامرأة.. وأي علاقة إنسانية لكي تتم لا بد وأن تحركها وتبعثها عاطفة.. إذن لكي يتم الجنس بين رجل وامرأة لا بد وأن تنشأ بينهما عاطفة.. وهذه العاطفة لها أشكال ودرجات مختلفة تبدأ بالإعجاب والقبول وتنتهي بالعشق والهيام.. ولهذا حدث ارتباط بين الجنس والعاطفة عند الإنسان، حتى أصبحت العاطفة أحد المحركات الأساسية للأحاسيس الجنسية..”.
وبعد.. إلى ماذا يقودنا كل ما تقدم؟
نجد في بعض الآراء التي ينتمي أصحابها إلى هذا الفريق أو ذاك بعض التشابه أحيانا عن وجود ارتباط هام بين الحب والجنس، بعضها يجعل الحب انعكاسا للجنس، وبعضها يفعل العكس، لكن هناك من يفصل بينهما، وهذا تعدد طبيعي وإيجابي في الآراء التي تختلف باختلاف عقول أصحابها وطرائق تفكيرهم.
ولكن هناك من يهمّش الحب بالكامل، وهناك بالمقابل من ينظر إلى الجنس نظرة دونية ويعتبره نشاطا وضيعا، ويقرنه بالعيب، ويفضل عدم الحديث فيه أو مناقشة أيّ أمر من أموره أو مشكلة من مشاكله، وهذا بالطبع ليس موقفا سليما قطعا، فلا تهميش الحب بمفهومه العاطفي المحض، ولا تعييب الجنس هو بالموقف أو السلوك الصحيحين، والحضارة العربية أثناء ازدهارها لم تغفل هذين الموضوعين، بل أولتهما الاهتمام الكافي كسواهما من شؤون الحياة الإنسانية الهامة، وهذا ما علينا اليوم فعله بالضبط.
أما عن العلاقة بين العشق العاطفي والدافع الجنسي فيمكن القول إنهما مختلفان رغم ما بينهما من ارتباط، والارتباط الجوهري بينهما هو في أنهما معا ينتميان إلى نفس المجال العلائقي، وهو علاقة الرجل بالمرأة كذكر وأنثى، أما الخلاف بينهما فهو في أن كلا منهما ينتمي إلى مجال نشاطي مختلف، فالدافع الجنسي هو من حيث المبدأ حاجة غريزية بيولوجية مثل الطعام والشراب، وفي جانبه الفيزيولوجي المحض لا خلاف فيه بين الإنسان وسائر الأحياء الجنسية الأخرى، لكنه عند الإنسان لا يقتصر على الفيزيولوجيا فقط، فهناك عاملان جوهريان إنسانيان بامتياز في نشاط الإنسان الجنسي، وهما العامل السيكولوجي والعامل الثقافي، فالإنسان وحده من بين سائر الكائنات يمتلك سيكولوجيا وثقافة، ولذا فالنشاط الجنسي عند البشر ليس مجرد نشاط بدني كما هو عند الكائنات الحية الأخرى، ولا يمكن إغفال أهمية السيكولوجيا والثقافة فيه.
لكن مع ذلك فالحب العاطفي بين الجنسين هو أمر مختلف حتى عن الجانب السيكولوجي في النشاط الجنسي، فهذا الحب ينتمي إلى ميدان العواطف الذي يتفرد به الإنسان، وهو عاطفة جنسية موجهة من جنس إلى آخر، ولكنه مع ذلك عاطفة مثل العاطفة الأسرية أو عاطفة الصداقة أو عاطفة المحبة الإنسانية العامة وسواها من العواطف، وهي كعاطفة مستقلة عن الرغبة الجنسية كاستقلال العواطف الأخرى عنها.
وختاما تجدر إعادة التنويه إلى أن هذه المقارنة بين هذين النشاطين، أي النشاط الجنسي الغريزي والنشاط العشقي العاطفي، ليست الغاية منها المفاضلة بينهما وإعلاء شأن أحدهما والحط من قدر الآخر، كما يفعل البعض، أو يخيل للبعض، وإنما القصد منها فقط هو المساهمة في فهم طبيعة إنسانيتنا وكيفية عملها، والنشاطان المذكوران كلاهما نشاطان إنسانيان طبيعيان، وكلاهما يقومان بدورين جوهريين في حياة الإنسان، والمفاضلة بينهما أو التعامل بنظرة دونية مع أيّ منهما هو سلوك باطل ويتناقض مع إنسانية الإنسان، ولا يراعي ما فيها من ضرورات أساسية وما بين هذه الضرورات من تكامل.
مراجع:
1- أمين نعمان الصلاحي، أوهام الحب السبعة، E- kutub Ltd، لندن 2018.
2- أوشوراجنيش شاندرا موهان، التانترا.. الطاقة والنشوة، ترجمة مكسيم بيان صالحة، دار نوافذ للدراسات والنشر، دمشق 2012.
3- علي بن سعد بن حزم، طوق الحمامة في الألفة والآلاف، مؤسسة الكتب الثقافية ط1، بيروت 2000.
4- د. عادل صادق، الطب النفسي، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة 2006.
5- كولن ويلسون، الجنس والشباب الذكي، ترجمة أحمد عمر شاهين، مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر، مصر 1996.