من الديمقراطية المنتصرة إلى الديمقراطية المجرمة
حين تناضل الشعوب من أجل الديمقراطية وتعتبرها خاصية الحكم العادل والرشيد يعتبر الفيلسوف الفرنسي المعاصر جاك رنسيار أن الديمقراطية هي ضرب لمفهوم العيش الجماعي. يفتتح رنسيار كتابه “كراهية الديمقراطية” بواقعة تاريخية عاشها العالم مع بداية الألفية الجديدة والمتمثلة في الإطاحة بنظام صدام حسين “الديمقراطية تنبعث من الشرق الأوسط تحت هذا العنوان احتفلت صحفية أرفع مشعل الليبرالية الاقتصادية منذ بضعة أشهر بنجاح الانتخابات في العراق وبالمظاهرات لسوريا وبيروت… انتصرت الديمقراطية، لكن كان يجب معرفة كل ما يعنيه انتصارها، إن منح الديمقراطية لشعب آخر لا يعني فحسب منحها منافع الدولة الدستورية والانتخابات الحرة والصحافة الحرة اذ يعني أيضا منحه الفوضى“. يعتبر جاك رنسيار أن الديمقراطية الممنوحة بقوة السلاح لا ترسي تقدم المجتمع بل تدعم كل نوازع الهائجة للبشر حيث يتحول الانحلال حرية و الجشع والنهم الاستهلاكي للإنسان الديمقراطي لا يسد ولا يشبع. إن الديمقراطية التي كانت في بداياتها مع اليونانيين “شتيمة” اخترعها في بلاد الإغريق من رأوا في الحكم الشائن للدهماء خراب كل نظام مشروع والتي إلى حدود اللحظة الراهنة تعتبر مرادفة للبغض أو مدعاة للهجاء لأن الديمقراطية عند الإغريق يقول جاك رنسيار هي “بازار الدساتير”.
تعود الكراهية الديمقراطية عند أفلاطون إلى رفضه التام مشاركة العامة في شؤون المدينة وأن دخول العوام في شؤون السياسة يثير الفوضى وعدم استقرار القوانين وهذا الرفض الأفلاطوني لمشاركة العامة في شؤون المدينة نابع من فلسفته العقلية التي تعتبر أن القوانين يجب أن تكون مؤسسة على وفق قوانين الوحدة التي وحده العقل قادر على التصريح بالقوانين وسنّها وفرضها أما العامة فهم ينتمون إلى فضاء العالم الحسي وليس بوسعهم سن قوانين المدينة. لا يمكن أن يكون في العودة الى التحليل الرنسياري للتصور الأفلاطوني حول مفهوم الديمقراطية نفي للعامة أو دعم للتصور الأفلاطوني بل إنها عودة فلسفية تكشف عن تاريخ كراهية الديمقراطية في الخطاب الفلسفي .
يعلن وزير الدفاع الأميركي عقب سقوط نظام صدام حسين أن الشعب العراقي قد أصبح حرا من سلطان حاكم جائر لكن أخفى وزير الدفاع الأميركي ما يمكن أن تعنيه الحرية بالنسبة إلى الشعوب التي أصبحت حرة بشكل مفاجئ أو لنقل بشكل قصري من خلال قوة عسكرية خارجية، لم يكن الشعب حينها قادرا على استيعاب الحرية فأصبحت الحرية مساحة واسعة لعمليات النهب الداخلي و الخارجي والسطو على ممتلكات الافراد وممتلكات الذاكرة، يقول جاك رنسيار “الحرية الآن هي أيضا فعل الشر… تنبعث الديمقراطية ولكن الفوضى تنبعث معها” حيث الجشع اللامحدود ينفلت ويسطو ويعلن شكلا جديدا من النظام اللانظام في سياق مماثل يكتب الفيلسوف الألماني شيللر، والذي تعتبر نصوصه مصدر أساسي خفي ومعلن أيضا في فلسفة الفيلسوف الفرنسي جاك رنسيار، إن الحرية الحقيقة هي سمة الرشاد بالنسبة إلى الشعب ولا يمكن أن تكون فاعلة إلا بالنسبة إلى شعب استطاع أن يضبط شجع ميولاته وشراهته الحسية وفقا لما يحقق التصالح بينها وبين ضوابط العقل والقانون ومن جهة موازية يقول جاك رنسيار إن الحرية ليست انحلالا. تلك هي معضلة الديمقراطية في فهم وتوظيف مفهوم الحرية في شؤون الدولة وفي تسيير العلاقات بين الأفراد أو في ضبط المعاملات الاقتصادية والتجارية. يقول كاتبو تقرير أزمة الديمقراطية “الديمقراطية تعني الزيادة التي لا تقهر للمطالب التي تضغط على الحكومات وتسبب في تدهور السلطة وتجعل الأفراد والجماعات عصية على الانضباط وعلى التضحيات التي يتطلبها الصالح العالم”. تجد الديمقراطية نفسها في سياستها التوسعية الجديدة وشعاراتها في ضمان العيش المشترك العادل والمساواتي بين الأفراد أمام إحراجين: السيطرة على شراهة الإنسان الديمقراطي والشر الذي لا بد منه في الحياة الديمقراطية من جهة ومن جهة ثانية الخوف من الانزلاق نحو الحكم الشمولي الاستبدادي الشمولي أو ما نسميه النظام الدكتاتوري الذي ما هو إلا تعبير عن عجز في توفير كل مطالب الإنسان الديمقراطي التي لا تنتهي فيلجأ النظام السياسي إلى القوة من أجل السيطرة وهو ما يجعل السقوط في الحكم بلا حدود والحكم التعسفي الحل الوحيد الممكن.
تكمن أزمة الديمقراطية في كثافة الحياة الديمقراطية أي توسع المبدأ الفوضوي في كل جوانب النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي. تجد الديمقراطية نفسها أمام مشكلتين يسببان أزمتها: الحياة الديمقراطية هي المشاركة الشعبية الكبيرة في مناقشة الشؤون العامة وهذا أمر سيء. وأما التوجه نحو “الحلم الطوباوي” بإمكانية إشباع وهذا أمر سيء أيضا. يقول جاك رنسيار “من ثم يجب أن تكون الديمقراطية الجيدة شكل الحكم والحياة الاجتماعية القادرة على السيطرة على الإفراط”.
بينما كانت الجيوش الأميركية تعمل على نشر الديمقراطية في العراق، ظهر في فرنسا كتاب يضع مسألة الديمقراطية في الشرق الأوسط في ضوء مختلف تماما حمل الكتاب عنوان الميول الإجرامية لأوروبا الديمقراطية” لجون كلود ميلنر. يحلل هذا الكتاب الجريمة الحالية للديمقراطية الأوروبية والغربية المطالبة بالسلام في الشرق الأوسط أي بحل سلمي للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. تنبني هذه المطالبة على مفارقة وهي أن السلام الديمقراطي الأوروبي هو نتيجة إبادة اليهود في أوروبا . يقول جاك رنسيار “لقد أصبحت أوروبا الموحدة في سلام وديمقراطية ممكنة بعد عام 1945 لسبب وحيد: لأن الأرض الأوروبية بنجاح الإبادة النازية قد تخلصت من الشعب الذي يشكل وحده عقبة أمام تحقيق حلمها ألا وهو اليهود”. يعتبر ميلر أن الديمقراطية الأوروبية مبنية على حدث الإبادة وهو كان بالنسبة إليها شر لا بد منه من أجل صعود الأنظمة الديمقراطية الأوروبية وهو ما يجعل النسب اليهودي والنظام الديمقراطي في أوروبا في تعارض تام مما يجعل من السلام الفلسطيني – الإسرائيلي غير ممكن في ظل حفاظ أوروبا على ديمقراطيتها وهو ما يؤكد أن الديمقراطية ممكنة في مناطق معينة في العالم شرط قبول شطر آخر من العالم بالوضع السياسي الذي يعيش تحته.
لا يعتبر جاك رنسيار أن أزمة الديمقراطية الأوروبية الحالية رغم حفاظها على سياستها الأولى في نشأة ديمقراطيتها بل هي أزمة تاريخية تعود إلى الثورة الفرنسية التي تعبّر وفقا لتقليد عالمي في قراءة الثورات أنها ثورة فكر الأنوار فكرة لم يؤكدها فرنسوا فورييه في كتابه “التفكير في الثورة الفرنسية” المنشور سنة والذي قدم فيه فورييه جملة من نقاط مظلمة في تاريخ الثورة الفرنسية ويعتبر مفهوم الإرهاب الثوري إحدى أهم مفاهيمها العميقة. يعود الإرهاب الثوري لا في ذاك الطابع الجماعي والجماهيري الواسع للثورة بل في تكريسها للطابع الفردي أي فك الرباط بين البشر، يقول جاك رنسيارمستعيدا تحليل فكرة فورييه “لم تكن خطيئة الثورة هي نزعتها الجماعية بل على العكس نزعتها الفردية. طبقا لهذا المنظور كانت الثورة الفرنسية إرهابية ليس لأنها تجاهلت حقوق الأفراد بل على العكس لأنها كرستها”. أمر يذكرنا في موقف حنا أرندت من حقوق الإنسان التي تعتبر أن حقوق الإنسان هي حقوق وهمية لأناس شردوا من بيوتهم ومن حقوقهم الطبيعية بوصفهم بشرا في المجتمعات البورجوازية.
إن تفتيت الروابط وبتر التقاسم الحيوي بين الأفراد يصنع التفتت الاجتماعي وتوسع دائرة الأنانية الفردية التي هي ذاتها التي ستدعم كل المستقبل البشري المبني على تحلل العقد الروحي بين البشر وتعميق الهوة الفاصلة بين الذات والآخر تعتبر إستراتيجيا الفصل هي التي جعلت من حدث الثورة ممكنا.
يستخلص جاك رنسيار كراهية الديمقراطية من تاريخها الشائك بالأحداث والمغالطات ومن خلال واقعها الحالي داخل الدولة. يعتبر جاك رنسيار أن الديمقراطية اليوم مرادفة للسيطرة تسعى إلى صناعة المواطن المستهلك لمنتجاتها وموادها بكل أشكال ترسم الصورة الكمبيوترية للإنسان الديمقراطي يقول جاك رنسيار أنها صورة “مستهلك فتي أحمق للفشار وتلفزيون الواقع والجنس الآمن والضمان الاجتماعي والحق في الاختلاف والأوهام المناهضة للرأسمالية أو أوهام العالم البديل “تلك الصورة التي تسعى إلى توطيدها وتوسيع دائرتها في كل أنحاء العالم شراهة و شهية الأوليغارشيين التي لا تشبع التي تمد نفوذها في كل مجال وفي كل مفاصل الدولة حيث تدعم أحزابا بالغش من أجل التمثيل الشعبي للسكان والمواطنين في المناصب البلدية أو الإقليمية أو التشريعية أو الوزارية ويستثمرون أموالا طائلة من أجل محاولة الحصول على تفويض انتخابي تدعمها الإمبراطوريات الإعلامية المدعومة بنفوذ رأس المال والتي بوسعها أن تخلق تحالفا بين رؤوس الأموال والسياسيين أي تحالف بين أوليغارشية الدولة وأوليغارشية الاقتصاد فحين يبقى المواطن رهين سياسات الطرفين فيسقط الحلم بالمواطنة العادلة إلى الإنسان المستهلك مفرط الثقة في ممثليه تعود به إلى دور التلميذ الطيع غير الناضج، المستهلك الفتي مفاهيم ساهمت في توسيع دائرة الكارثة التي حولت الحياة الإنسانية إلى “سوبر ماركت”.
يلخص جاك رنسيار مشكل مفهوم الديمقراطية في تلك السمة الزبونية التي تسم هذا النظام التي تقسم العلاقات الإنسانية والاجتماعية إلى شطرين أساسها عرض وطلب كعلاقة المريض بالطبيب، المحامي وزبونه، بين المعلم والطالب بين السياسي والمواطن بين من “يملكون” و”من فقدوا قسطهم” في الحياة العامة نظرا لشراهة وأنانية الممثلين السياسيين أو جشع رؤوس الأموال هناك حيث الفصل والتراتبية تتسع وتمتد.
ينتقد جاك رنسيار بشدة النظم الديمقراطية في دولنا المعاصرة معتبرا أنها تجسيد لحرية واحدة هي حرية التجارية وتحول العلاقة بين البشر إلى علاقة تبادلية، تجارية، استهلاكية وهو ما ساهم في توسيع سلطان النظام الليبرالي المتوحش للأنظمة المعاصرة حيث تميل كل الممارسات المهنية إلى الابتذال، فقدت العلاقات الاجتماعية أفقها السياسي والميتافزيقي حيث النقابي الساعي إلى الحصول دوما على قدر أكبر من الدولة وممثل الأقلية العرقية يطالب بالاعتراف، أما المواطنون فهم كالتلاميذ الذين يقصدون المدرسة التي تعتبر سوبرماركت المعرفة يكون فيها التلميذ ملكا أو جمهورا وفيا لتلفزيون الواقع ومتاجر الهايبرماركت. يقول جاك رنسيار “نحن لا نحيا في ديمقراطيات كما أننا لا نحيا في معسكرات اعتقال… نحن نحيا في دول قانون أوليغارشية”. يطالب جاك رنسيار في آخر كتابه من كراهية الديمقراطية إلى تجاوز التمثيل السياسي والحد من مبدأ أستاذية الفكر والسعي نحو تكريس ثقافة التقاسم المشترك المبني على المساواة في الذكاء والتكافؤ بين الأفراد.
يمكننا أن نجمل القول في هذا الإطار أن وراء كل “تمثيل” سلطة وجشع ليبرالي لا حدود له ووراء كل رغبة في التقاسم المشترك والمساواة في الذكاء والتساوي في المواقع بين الأفراد أمر يعتبره جاك رنسيار مثيرا “للبهجة” بالنسبة إلى كل من له “الشجاعة” في ألاّ يموت “غبيا”.
كاتبة من تونس