التقدمية وأزمة اليسار
من الواضح اليوم أن التقدّم التقني وتطوير الآلات وزيادة الإنتاج التي اعتبرتها بعض تيارات اليسار وعودا بمستقبلِ وفرةٍ ستعمّ العالم حالما تتخلص الإنسانية من الرأسمالية، ارتدّت كلّها على المجتمعات البشرية، وخلّفت أضرارًا ليس أقلها تلويث التربة وتجفيف الموارد والإخلال بالمناخ، التي تشكل في مجملها الوجه الآخر للتصنيع في العالم. وقد ارتفعت أصوات كثيرة تندد بما أسمته التفاؤل الساذج لدعاة الإنتاجوية، أي الإمعان في الإنتاج بشكل لا يعرف نهاية، واستهتارهم بالبيئة، وتدعو إلى التقليص من التنمية، كبديل وحيد ممكن للكارثة الكونية. ذلك أن الشك في قدرات البشرية على تحسين وضعها بات يسكن كل الأذهان، فالعولمة الرأسمالية كانت لها في العشريات الأخيرة عواقب لم يتوقعها أحد، حيث تسببت، إضافة إلى الأزمة المناخية والنزاعات المحلية والإقليمية، في عمليات هجرة متتالية لم تستطع البلدان المضيفة استيعابها كلّها، لاسيما أن تلك البلدان تعاني بدورها من ظرف اقتصادي صعب من جهة تناقص فرص الشغل، وظرف سياسي متوتر مع ظهور الشعبوية وبروز الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تدعو إلى تعزيز الحدود والانغلاق ورفض الآخر، خصوصا إذا كان قادما من فضاءات ثقافية مغايرة، فلم يعد يُنظر إلى الآخر كعامل إثراء بل كخطر داهم يهدد الوحدة الوطنية وأنماط العيش.
إذا كان الشك في قدرة البشرية على تحسين وضعها قد انتشر على نطاق واسع، فإن الانقلاب الأكثر إثارة في العلاقة بالتقدم هو الذي حصل على مستوى اليسار، كما تؤكد الباحثة الفرنسية ستيفاني روزا. ففي رأيها أنّ أزمة فكرة التقدم هي أزمة اليسار قبل كل شيء، بمعنى أزمة المشروع الاشتراكي بصيغه المختلفة. فقد أدى انهيار المعسكر الشيوعي في الثمانينات وزوال سراب “الاشتراكية الحق” اللذان رافقهما تأقلم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الغربية مع منطق نيوليبرالي يهدف إلى تخفيض إعادة توزيع الثروات وتحرير تدفق رؤوس الأموال عبر العالم، إلى زعزعة الإيمان بتحسن ممكن للمصير الجمعي. ففي فرنسا مثلا، ولّدت هزائم اليسار المتتالية أمام تفكيك النظام الاجتماعي وتحرير سوق الشغل إحساسا بالعجز وفقدان المكتسبات، كما شكّلت الخيبات القديمة خلفية لقلق جديد أمام أزمة المناخ والطاقة التي يمر بها العالم، لاسيما أن الرأسمالية والليبرالية ليس لهما حلول لإدارة تلك المشاكل الجوهرية. أي أن اليسار اليوم لا يملك مشروع مجتمع بديلا. فهل هي نتيجة طبيعية لتصور واهم للتقدم ولفرضية خاطئة عن مشروع مجتمعي أرقى من الرأسمالية؟ بعبارة أخرى: إلى أيّ حدّ يتحمّل اليسار غياب آفاق سياسية واجتماعية في المجتمعات الغربية؟
لفهم علاقة اليسار بالتقدم ينبغي العودة إلى الإرهاصات الأولى لهذا المفهوم في عصر الأنوار، حيث أثبت المؤرخون أن تصور الاشتراكيين نبع من الفلسفة الأوروبية للقرن الثامن عشر، والتقلبات الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية التي حملتها الثورة الفرنسية، مع الملاحظة أن مفهوم التقدم وقتها كان متعدد الأوجه، حيث شملت فكرة التقدم، حسب أغلب المفكرين، التقنيات والآداب العامة والعلوم والفنون وشتى المجالات التي حصلت فيها تطورات دون أن يرتبط بعضها ببعض بالضرورة. ففولتير مثلا كان يرى أن التطور التجاري قادر على تقريب الشعوب بعضها من بعض ووقايتها من النزاعات، فيما ربط روسو بين تطور العلوم والفنون بتدهور الأخلاق العامة. أما المشروع الضخم الذي وضعه ديدرو ودالمبير، ونعني به الموسوعة، فقد عبّر عن الفكر الأكثر رواجا لدى الفلاسفة، ففي تجميع المعارف المتوفرة في ذلك الوقت ووضعها على ذمة الجمهور، تعبير عن ثقة هذين المفكّرَيْن في إمكانات التقدم الأخلاقي والسياسي الذي ينجم عن نشر المعرفة، وهي ثقة إن لم تكن تقدمية تماما فهي متفائلة، ولكن دون التأكيد على أن التقدم المنشود سيكون آليّا أو موحَّدًا.
تلك الفكرة، أي نظرية تقدم آليّ صالح للجنس البشري كله دون تمييز، نجدها عند آدم سميث ونظريته عن الأطوار الأربعة التي ينبغي أن تمر بها المجتمعات البشرية كلها عاجلا أم آجلا. وترتكز على ما لاحظه عبر التاريخ من مراكمة متزايدة للممتلكات المادية (أو ما عبّر عنه بثروة الأمم) ناجمة عمّا يسمى اليوم بإنتاجية العمل المتنامية. أي أن النمو الاقتصادي يقدم هنا قاعدة لتصور للتاريخ البشري كإطار لاكتساب الإنسان رفاهًا ماديّا. ويعتبر سميث، مع آخرين، أحد مؤسسي هذه “التقدمية” التي ستزدهر في القرن التاسع عشر لتكون من مؤشرات التيار الليبرالي. والاشتراكيون سيرثون تلك المقاربة، إضافة إلى صيغ أخرى صاغها بعض مفكري الأنور الفرنسيين أمثال ديدرو، وروسو، وغيوم توما رينال، وغبريال دو مابلي الذين تساءلوا عن العواقب الوخيمة لبعض أنواع التقدم، وجهدوا في عرض ذلك للنقاش، فبعد روسو وخطابه في العلوم والفنون، برز ديدرو ومابلي إبان “ثورة الطحين” (التي اندلعت عام 1775 عقب الترفيع في أسعار الحبوب) وانتقدا تحرير أسعار الحبوب الذي لا يؤدي كما ادّعى بعض علماء الاقتصاد إلى الرفاه الجماعي، بل إلى ثورة مجاعة، وكان محور الجدل آنذاك، والذي لا يزال قائما حتى اليوم، يدور حول مفهوم هذا الطرف أو ذاك لمعنى التقدم. ثم جاءت الثورة الفرنسية لتعيد بناء المجتمع على قاعدة حقوق الإنسان، وهي عملية راديكالية أرعبت المحافظين، ولكنها بشرت بولادة عهد جديد تتوزع فيه الأوراق بطريقة لا محيد عنها. وقد رأت التيارات الراديكالية لتلك الحركة الثورية، التي انبثقت منها الحركات الاشتراكية والأناركية والشيوعية الحديثة، نقطة انطلاق مسار ينبغي أن يقود الإنسانية نحو المزيد من السعادة والمساواة.
بعد ذلك التاريخ، تاق اليسار إلى مستقبل تحريري مشرق، ليقينه بأن كل المنظومة الاجتماعية والتقليدية مصيرها الزوال. فهل يعني ذلك أن مختلف ممثلي الحركات الاشتراكية تؤمن دون تحفظ بأن المجتمع سوف ينحو بالضرورة إلى مستقبل مشرق بشكل لا رجعة فيه؟
يبدو الواقع أكثر تعقيدا، ذلك أن الحماس الشامل كبَحته تقلبات الحياة السياسية، لاسيما بعد سقوط روبسبيير والعودة القوية للبورجوازيين والملكيين الذين حاولوا قلب الجمهورية الفتية. وهو ما جعل أحد مناصري الثورة وهو غراكوس بابوف (1760 – 1797) الملقب بخطيب الشعب، يصرح بأنه لا يثق في التقدم العلمي والتقني، وأن التقدم الوحيد الحق هو تساوي الظروف، وأن المساواة لا تحتاج إلى وفرة مادية، وهو ما جلب له فيما بعد انتقاد ماركس الذي ورد في بيان الحزب الشيوعي عام 1848. بل إن بعض أنصار بابوف رفضوا الفنون ومظاهر الرفاه بدعوى أنها تخالف طبيعة الإنسان وحاجاته الأساسية، وأكدوا مع ماديّي القرن الثامن عشر أن الإنسان في جوهره وليد تربيته، وأن مجتمعا يتخلّص من الملكية الخاصة سيكون قادرا على تكوين أفراد أفضل على المستوى الأخلاقي. هذا التصور لقابلية الإنسان للتطور، أي لتقدم ممكن ومختار عن دراية دون أن يكون مضمونا بالضرورة، له صلة بإرادة سياسية قوية، وحتى بلزوم تدبير انقلاب عسكري لأجل إقامة جمهورية مساواة، في سياق العمل الثوري للقرن السابق. وهذا يخالف ما ذهب إليه مفكر آخر هو شارل فوريي (1772 – 1837) الذي راهن على تمكين الجميع من الوصول إلى الثروات التي تنتجها التقنيات الصناعية الحديثة، وقد عرف عنه انتقاده الشديد للثورة الفرنسية وعداؤه لشتى أعمال العنف. ولذلك كان يرى في الشركات الصغرى وحسن تنظيمها وتوفيرها وفرة مادية وسيلةً لإقناع الناس بتغيير أنماط عيشهم دون المرور بالسياسة. بيد أن فكرة نزوع المجتمعات البشرية تلقائيا إلى التطور تعارض الأمنيات النضالية لدى مختلف التيارات الاشتراكية التي تخير اعتمادها على جهودها الذاتية لتغيير العالم ولو باستعمال القوة، ثم إن اشتراكيّي مطلع القرن التاسع عشر كانوا منقسمين حول القيمة الأخلاقية للممتلكات المادية عند تجاوزها الحاجات الأساسية.
ثم كانت هيمنة الماركسية في منتصف القرن التاسع عشر، إذ جاءت بمفهوم للتقدم أكثر تأثرا بالتقليد الليبرالي، جعل ثقته في المستقبل قائمة على نمو قوى الإنتاج، أي البعد المادي والكمي للتقدم البشري، وقائمة أيضا على الماضي السياسي الذي مثلته الثورات البورجوازية في عصر الأنوار، تلك التي جرّت البشرية كلها إلى توسّعٍ سريع للمبادلات التجارية، وزعزعةٍ لكل التراتبيات الاجتماعية والثقافية السابقة. ولكن مثلما أدى نموّ قوى الإنتاج البورجوازية إلى تفجير المجتمع الإقطاعي القديم عند اندلاع الثورة الفرنسية، وجد المجتمع البورجوازي نفسه ضحية هذا النموّ الذي لا يعرف التوقف، حيث ولّدت الطبقة العمّالية، بوصفها نتاجًا لتطور الصناعة الحديثة، المجتمع الشيوعي. وقد جاء الجزء الأول من بيان 1848 متأثرا بذلك التصور لتطور تاريخي ضروري يبدو فيه البشر دمى لا أسيادا، حيث ردّ ماركس وإنغلز تقدمية آدم سميث والاقتصاد السياسي إلى الرأسمالية حين صرّحا بأن سقوط البورجوازية وانتصار البروليتاريا لا محيد عنهما هما أيضا.
غير أن هذا التصور للتقدم لم يكن نهائيا لدى مؤلِّفَي البيان، فقد بيّن عدد من الباحثين مثل عالم الاجتماع الأميركي كيفن بي أندرسن، وعالم الاجتماع الإيطالي مارتشيلّو موستو أن ماركس ما فتئ يتفهّم تنوع سبل التطور التاريخي للمجتمعات البشرية، وأنه بدأ يوجه اهتمامه لنمط الإنتاج الآسيوي، ولأشكال الديمقراطية في المجتمعات البدائية، وبعض خصوصيات روسيا والمجموعات القروية الروسية والآسيوية. أي أن ماركس، في أواخر أعوامه أبدى اهتماما خاصا بأشكال تطور غير أوروبية، وتخلّى عن فكرة التقدم الآليّ التي وردت في البيان. ومن الطبيعي أن يكون لكل ذلك أثره لدى الاشتراكيين إبان القرن التاسع عشر. ثم جاء القرن العشرون ليؤكد أن ماركس الأخير، ذلك الذي اهتم بتنوع سبل التطور وتحرر الشعوب عبر العالم، هو الذي استبق بقية الأحداث بشكل أفضل. وهو ما استفاد منه عدة قادة عبر العالم من لينين وهوشي منه وماو تسي تونغ إلى نهرو وسنغور في تكييف منهج المادية التاريخية والأفق الاشتراكي مع واقع بلدانهم، فمن خلال استيراد أهم ملامح الحداثة، كالتصنيع والعَلمانية والحقوق المدنية، أمكن لعدد من قادة ثورات وطنية التحرّرُ من الوصاية الغربية، وحتى السّموّ ببلدانهم إلى مصاف القوى العظمى في بعض الحالات، كالهند والصين.
المفارقة أن الغرب شهد في الوقت نفسه نقدا راديكاليا للتقدم في بعده التقني يجد جذوره في الفكر الاشتراكي للقرن التاسع عشر، خاصة بعد الكوارث التي عاشها القرن العشرون، ولاسيما استعمال القنابل الذرية في هيروشيما وناغازاكي الذي ولّد شكوكا عميقة في الفوائد المزعومة التي ستعود على البشرية من التكنولوجيا. فمنذ ستينات القرن الماضي، تنامت حركات احتجاج عالميّ على العلاقات الوثيقة بين الأوساط العلمية والعسكرية والصناعية، سواء من نشطاء شبان عبر العالم، أو من بعض المفكرين، مثل النمساوي إيفان إليتش والفرنسي أندري غورتز اللذين لم يوجها نقدهما لعلاقات الإنتاج كما هو الشأن في الأدبيات الماركسية، بل لقوى الإنتاج نفسها، واقترحا بديلا للأنموذج الإنتاجويّ “البساطة الإرادية” و”الإنتاج الذاتي خارج السوق” كمرحلتين ضروريتين للخروج من الرأسمالية. وقد وجد المدافعون عن البيئة في ذلك النقد منطلقا لتحذير البشرية من عواقب وخيمة، فيما وجد فيه الاشتراكيون وسيلة لتأويل جديد للماركسية، والتفكير في إيجاد موقع للعادات وحتى النزعة المحافظة في المشروع الاشتراكي. وهو ما تجلى في “البيان البيئي الاشتراكي العالمي” الذي دعا فيه الموقعون عليه، مثل البرازيلي ميكائيل لووي والأميركي جويل كوفل، إلى إعادة الاعتبار لشكل من “الرومانسية الثورية”، لها ملامح ماضوية نوعا ما، داخل التقليد الاشتراكي.
كل ما حدث طيلة القرنين الماضيين داخل الحركات الاشتراكية يسمح بتسليط الضوء على رهانات الجدل الراهن، حيث يعاد النظر في مفهوم التقدم الذي كان يعتبر تطورا ضروريا للمجتمعات البشرية، يكتسب شرعيته من مراكمة الممتلكات. صحيح أن التقدم الذي أحرزته العلوم والتقنيات والصناعة حسّنت ظروف العيش في شتى الأصقاع بشكل غير مسبوق، رغم التفاوت من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى، ولكن نقد التقدمية يستمد مشروعيته من تذكير كل مجموعة بشرية بدورها في التعامل مع التقدم التقني واستعمالاته المعاصرة، فالجميع مدعوّون إلى التحكم في مسار التنمية، ومناقشة رهانات التقدم التقني وآثاره على أنماط العيش والتفكير والتفاعل خاصة بعد التحولات الأنثروبولوجية التي جاءت بها الإنترنت، والتساؤل عما قدمته التكنولوجيات الحديثة للبشرية، وإعادة التفكير في طبيعة حاجاتنا ورغباتنا، لاسيما تلك التي لا تستفيد منها سوى الرأسمالية، بعبارة أندري غورتز.
تقول ستيفاني روزا: “بين الثقة الساذجة في قدرة العلم والتكنولوجيا وحدهما على حل كل المشاكل، والاستياء اليائس من تدمير البيئة، ثمّة مكان لتفاؤل موروث من الأنوار، وهو التأمل والفعل لأجل تقدم مادي وأخلاقي في الوقت نفسه يكون ثمرة قرارات مشتركة تهم البشرية قاطبة”.