دفتر يوميات
(1)
الأَرْضُ والإنْسَانُ الشَّجَرَةُ
هَلْ لِشَجَرَةٍ أنْ تَمْضِيَ بَعِيْدَاً عَنِ الأَرْضِ الَّتِي أنبتتها إذْ احْتَضَنَتْهَا وسَقَتْهَا مَاءَهَا، فَمَنَحَتْهَا نَسَغ الحَيَاةِ، فنمَّتْ جُذُوْرُهَا فِيْهَا، وَرَسخَتْ امتداداتُ هَذِهِ الجُذُورِ فِي أَعْمَقِ أغوارها، وتشعَّبَتْ، فأوجَدَتْهَا عَلَى سَطْحِهَا، وفِي شَتَّى أَحْيَازِهَا، ووجَّهَتْهَا صَوبَ فَضَاءَاتِ سَمَاواتِهَا؟
أَوَ لَيْسَ هَذَا هُوَ الجَوهرُ الواسِمُ، مُنْذُ بدْء الْبدْءِ وَإلَى أبْعَدِ أَبَدْ، عَلاقةَ الفِلَسْطينيِّ، هَذَا العَاشِقُ المُتَوَلِّه بِمَحْبُوبَتِهِ الْخَالِدَةِ: “فِلَسْطين”؛ أَرْضَاً، وشَعْبَاً، وحَضَارةً، وَتَاريْخَاً، ومَجَالاتِ حَيَاةٍ حَيَوِيَّةً، وآفَاقَ مُسْتَقْبَلٍ، وَمَدَاراتِ وُجُودٍ؟
(2)
فِلَسْطينُ بَينَ سَرْدِيَّتَينْ
يَكْمُنُ صُلْبُ المَسْأَلَةِ الْفِلَسْطِينِيَّةِ، ضِمْنَ ما يَكْمُنُ فيه من دوافعَ وأُسسٍ ومسبِّباتٍ وغاياتٍ تَصُوغُ لُبَّ المُشْكلَةِ، وتُجَلِّي جَوهَرَ الصِّراع الدّامي المحتدم فوق أرض فِلَسْطيِنَ منذ ما يربو على قرنٍ من الزَّمان وحتَّى الآن، في تزوير روايتها الحضاريَّة الإنسانيَّةْ الحقيقيَّة الرَّاسخة في الْوُجُودِ، واصْطِناعِ سرديَّةٍ عُنْصِريَّةٍ بديلةٍ تتأسَّسُ على المُتَخَيَّل الأسطوريِّ المُمْعِنِ في الحُلْكَةِ والسَّواد، والتَّوَهُّمِ، وغَيْبَةِ الْعَقْلِ.
بَيْدَ أنَّ لِلُّحْمَة الْوَثِيقَة، الأزَليَّة الأبديَّة، بين فِلَسْطِينَ وَشَعْبِهَا: أرضاً، وحضارة، وتاريخاً، ومصيراً، ومُمْكِنَاتِ مُسْتَقْبَلٍ، وآفاقِ وُجُودٍ، روايةً وجوديةً حقيقيةً، وسرديةً حضاريةً تاريخيةً مؤصلةً من كل منظور وجانب، كما أنها تتجلَّى في مُكَوِّنات رؤيةً مستقبليةً، وطنيةً وإنسانيَّةً، مفتوحةً على ممكنات التحقق على مدى المستقبل الوجودي المفتوح.
وإِلَى ذَلِكْ، ليسَ لقُوَّةٍ غَاشِمَةٍ، مَهْمَا بَلَغَتْ، أنْ تتمكَّن من شَطْبِ الرِّواية التَّاريخيَّة الحقيقيَّة، أو من اسْتِئْصَالِ أَيٍّ مِنْ مُكَوِّنَاتِ السَّرديَّة الحَضَارِيَّة الفلسطينيَّة، أو مِنَ احتجازِ إمْكَانِيَّة تَحْقِيقِ الرُّؤيَةِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ الفِلَسْطِينِيَّةِ، الوطَنِيَّةِ الإنْسَانِيَّةِ المُتَواشِجَةِ، إلى مَدَىً هُوَ الأَبد؛ فَثَمَةَ، في الأفقِ المنظور، نهايةٌ لهذا الكَابُوسِ الْعُنْصِريِّ التَّوحُّشِيِّ.
نَعَمْ، سَتَعُودُ فِلَسْطِين إلى نَفْسِهَا، وسَتُتَابعُ تَجْلِيَةَ جَوْهَر هُوِيَّتِهَا الحقيقيَّة المُتَأَصِّلَة، والإفْصَاحِ عَنْ شَتَّى مُكَوِّنَاتِ هَذِهِ الهُوِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ، أبداً، على الصَّيرورة والتَّحَوُّل الخَلَّاقينِ، وذلكَ عَبْرَ نِضَالِ شَعْبِهَا الصَّامد الصَّابر المُثَابر، الذي لم يَكُفَّ، أبداً، عن إِبْدَاعِ الحَضَارةِ والثَّقَافَةِ وابْتِكَارِ الْحَيَاةِ، وَبِدَعمٍ حَثِيثٍ، وإسْهَامٍ خَلَّاقٍ مؤثرٍ ومُتَواصِلٍ، من قِبَلِ أحْرارِ العَالَم الْمُنْتَمِين، وَحْدَهُمْ، إلى الإنسانيَّة الحَقَّة.
(3)
كائنات روبوتيَّة مُحَوْسلة
للسُّلوك الإسرائيلي الفاشي الإجرامي التَّوحُّشي إزاء قطاع غزة وأهله، وإزاء كل فلسطين وشعبها بأسره، أن يُجسَّد تجلياتِ حقيقةٍ سُلوكيةٍ مؤداها أنَّ لاوعيها هو الذي يُمْلِي سلوكها، مطابقاً في ذلك وعيها المُفْترضِ، الذي يُفْتَرضُ، بمنطق العقل، أنْ يكون هو وحده الذي يُمْلِي السلوك الإنساني الذي يمكن افتراض نجومه عن الوعي الواعي والاختيار الحُرِّ، وهاته، فيما أحسب، هي سمة الكائن اليهودي المُجَمَّد العقل، أو المُحَال دونه وإعمال عقله والالتزام بمقتضياته، والمفرغ الوعي، أو المستبدل لاوعيه الأسطوري الخرافي العنصري بوعيه العقلي، والمجرد تجربداً تاماً من بذرة الإنسانية، والمُحَوَّل، بعزيمة الأيديولوجيا الصهيونية وإرادة صُنَّاعها ومروِّجيها، إلى كائنٍ إرهابيٍّ مُحَوسَل؛ أي إلى محضِ وسيلةٍ أو آلةٍ، او أداةٍ تسخرها، على نحو روبوتيٍّ آليٍّ، الحركةُ الصهيونيةُ ومنشئوها وداعموها ومُسَخِّروها الرأسماليون المتوحشون، لتحقيق غاياتهم الاستعمارية التوسعية وذلك بإقدام إسرائيل وكائناتها الألحوية المحوسلة (كائناتها البشرية الحيوانية الحية المُحَوَّلة إلى محض وسائل وآلات وأدوات)، على اقتراف كل ما يستوجبه تحقيق هذه الغايات من توحشٍ يتجلى في الارتكابِ المتواصل لمجازر الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضدَّ الإنسانية، وذلك بدم باردٍ؛ إذ لا وجود أصلاً للدم بمعناه المجازي الأخلاقي! وبلا أدنى شعور إنسانيٍّ؛ إذ ينعدم وجود هذا الشعور لدى إسرائيل، ولدى كائناتها الألحوية، لأنهما، أصلاً، لا يُبصرانِ للإنسانية وجوداً في الوجود، أو لعلهما يعتقدان أنَّ الإنسانية الجوهرية هي التوحشُ العنصريُّ الإرهابيُّ الفاشيُّ الذي يتوافران، بكثرةٍ وكثافةٍ، عليه!
ليس للسلوك الإسرائيلي الوحشي الذي يستهدف قطاع غزة وكل فلسطين، أنْ يُفَسَّرَ إلا في ضوء ما بينه، وبالاستناد إلى ما قد انطوى عليه، الاستخلاص العقلي المنطقي الذي أوصلنا تأملنا التَّبَصُّريُّ الاستقصائي المتشعب إليه، والذى أحسبُ أنَّ الفقرة الافتتاحية المثبتة أعلاه قد كثَّفت صوغه، فأوجزته.
(4)
ذلكَ الوعْدُ؛ تلك الجريمةُ
ليس لبيان وزير الخارجية البريطاني “بلفور” أو وعده، أن يكون إلَّا إعلاناً وغداً، وإلَّا جريمةً قصوى بحق فلسطين: أرضاً، وشعباً، وتاريخاً، وحضارة، وآفاق مستقبل، وممكناتِ وجودٍ، وبحقِّ الحياة الحرَّة، والإنسانية الحقَّة بأسرها!
وهل يمكن لإنسان عاقل يطلع على هذا البيان ألا يواجه نفسه بالسؤال الملح التالي: هل ثمة من شعب من شعوب الأرض، على مدى التاريخ الحضاري البشري بأسره، قد احتاج إلى وعدٍ إلهيٍّ، زائف ومصطنع، أو وعد استعماريٍّ، عنصري مقيت، ليثبت لنفسه حقاً في أرض يَزْعُمُ، أو يُزْعَمُ له، أنها وطنه الأوَّل، أو أنَّ له في رحابها مزرعة وبيتاً، أو حتى ذرة رمل، ولو صغيرةً، في أي بقعه منها؟
الحقُّ أنَّهُ لا يصطنع مثل هذا الوعدِ الوغدِ، أو يطلبه، أو يمنحه، أو يستدرج القوى العالمية الاستعمارية المتنفذة كي تمنحه إياه، إلا رأسماليٌ جشعٌ، مُسْتَعْمرٌ، سارقٌ ونهَّابٌ، وعُنْصريٌ مُوغِلٌ في الجشع الغريزي، وفي التَّوحُّش البشريِّ المُفَارقِ أدنى مراتب الإنسانية: مبادئ، وقيماً، ورؤىً، وتجلياتِ وجود، وأنماط سلوك؛ ذلك أنَّ الكائن البشريَّ، ولا نقول الإنسان، الموصوف بما قدمناه للتو من نعوت، لا يتبنى من التَّوجهات والأفعال سوى تلك التي تسلب الإنسانيين الأحرار من الناس الحرية، والكرامة الإنسانية؛ فتسلّيهم الحياة ومعنى الحياة؛ إذ بهذه التوجهات والأفعال يسرق أرضهم، ويُزَوِّرُ تاريخها، ويسلب منجزاتهم الحضارية ويدعيها لنفسه، فيخنق حياتهم، فيما لا تَأخُذَهُ هذه التوجهات والأفعال، بوصفه كائناً بشرياً مفرداً، أو مجموعة بشرية، أو كياناً مصطنعاً، إلا صوب التوحُّش البشري الأقصى الذي يُحيل الوجودَ الحيويَ، في كُلِّيته الممكنة، إلى عَدَمٍ مُراوُغٍ سَيُلقي بعقابيله الفاتكة، في خاتمة المطافِ، على هذا الوحش البشري المفرد، أو الجماعة البشرية المتوحشة، أو الكيان الاستعماري الوظيفي، فَيُعْدِمُهُم الوجودْ!
ذاك هو منطق الحياة، ومغزى الصيرورة الدائمة، وهو منطق التاريخ الحَقِّ، النَّاهِضِ، بإرادة الإنسان الحُرِّ المُنَاضلِ من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، وفي اللَّحظة التاريخية المواتية، صوب تصويب أخطائه وخطاياه؛ وذلك بإعادة الحق إلى أصحاب الحق، وإقامة العدل الممكن على أساس من الحقِّ الراسخ، والحقيقة الأصيلة، والعدالة الصافية المجردة من أدنى لبس أو شبهة ضلال.
إنَّه الْوَعْدُ الْوَغدُ، وهو صُنْدُوقُ كل الشُّرُور: إنهُ وعدُ وزير الخارجية البريطاني المأفون: آرثر جيمس بلفور المُضمن في رسالة موجهة منه إلى المصرفي الإنجليزي الصُّهيوني اللورد ليونيل والتر دي روتشيلد، والقاضي بدعم الحكومة البريطانية لمشروع إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين!
(5)
وطن الفلسطينيين
فلسطين وطنُ الفلسطينيين؛ إنها وطنهم الخالدُ، إنها الوطن الفلسطينيُ الهوية؛ والعصي على السرقة، والاستلاب، وتغيير الهوية، والإلغاء والمحو. إنها وطنٌ إنسانيٌّ تاريخي حضاريٌّ عميق الجذور، راسخُ الامتداد في جميع طبقات التاريخ والحضارة الإنسانيين، وفي شتى مدارات الوجود الإنساني المُنِيْر؛ إنها “وطنٌ الفلسطينيين الأزلي الأبدي الخالد”.
إنها وطنٌ لنْ يُؤسرل، ولن يُهَوَّد، ولن يُصَهْيَنُ، ولن يفقد هويته الفلسطينية العميقة الراسخة أبداً. إنها هي الوطن الذي لا يُمْحَى، ولا يُلغى، ولا يموت، مهما بلغ عُتُوُّ قوى الاستعمار الاحتلالي الإحلالي الصهيوأميركي، ومهما تعاظم ما تُوَظِّفه هذه القُوى من قدرات وإمكانيات وموارد بشرية ومالية وعسكرية هائلة، وما تُسَخِّرهُ من عصابات إرهابية وحشية مُسَلَّحةٍ جُعِلَت جُيُوشاً، وأطلق عليها، زوراً وبهتاناً، اسم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، الذي هو، في حقيقة ماهيته، وطبيعة وظيفته، جيشُ عدوان إرهابي متوحشٍ، وعصابات غزو همجي واستعمار رأسمالي بربري، وهجوم توحشيٍّ وهتك وفتك، ولا وظيفة له، إلا سرقة فلسطين عبر القبض عليها، واحتلالها، وأسرها، ومن ثم أسرلنها، عبر تهويدها وصهينتها، بُغية محوها من الخارطة الحياتية الوجودية الكليَّة: الجغرافية، والتاريخية، والحضارية، والسياسية، والوطنية، والإنسانية، وذلك عبر الفتك الفعلي والمعنوي بها، وإماتتها: صورةً، وهُويةً، واسماً، وعبر تأكيد استبدال اسمها المُتَأصِّل الأصيل “فلسطين”، بالاسم الخُرافي الوهمي الوحشي الوضيع: “إسرائيل”!
ولكن هيهات هيهات أن تقبل فلسطين هذا الاستبدال، أو أن تكفَّ، هي في ذاتها، وبرفقة شعبها المكابد الصابر الوفيُّ العنيد، عن مُقاومة كل تجليات هذا الاستبدال البغيض والعصيِّ في آنٍ، مُقاومةً موسومةً بالإصرار العنيد والبسالة، حتى تحرير كل فلسطين من النهر إلى البحر، وتفكيك الكيان العنصري الاستعماري الوظيفي المُصْطَنَع المُسَمَّى “دولة إسرائيل”، وإعدامه، وجيشه الإرهابي، الوجودَ، إعداماً نهائياً، حاسماً وقاطعاً، ولمرَّةٍ واحدةٍ وإلى أبدٍ هو الأبد!
(6)
لمن حقُّ الدفاع عن النفس؟
هل لفلسطين حق مقاومة الغزو الصهيوني الإمبريالي المتوحش، وصَدِّ الاحتلال الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني، دفاعاً عن أرضها وشعبها ونفسها؟ هل لفلسطين هذا الحق؟ أم هو حقٌّ حصريٌّ لا يتمتع به إلا المُعتدون الغاصبون المتوحشون ممارسو جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية؟
سؤال وجهته الإنسانية إلى لجميع قاطني العالم بأسره، فكان جوابه، على لسانِ 95 في المئة منهم، وفي تطابق مع ميثاق الأمم المتحدة ووثائق القانون الدولي ذات الصلة، هو: نعم، لفلسطين وحدها هذا الحق، وليس لإسرائيل أن تدّعيه لنفسها، وليس للقوى والدول الرأسمالية الاستعمارية أن تدعيه لها.
وفي مقابل هذا الإجماع الإنساني القانوني والأخلاقي، تنفردُ أميركا وبريطانيا، وأتباعهما من دول غرب أوروبا الإمبريالي، وما لا يتجاوز ما نسبته الـ5 في المئة المتبقية من البشر، الذين هم بعض قاطني بلاد الغرب العنصري الرأسمالي الاستعماري المتوحش ومناطق هيمنته، بادِّعاءِ هذا الحقِّ لإسرائيلَ وحدها، وعلى نحوٍ حصريٍّ يأخذهم لإنكار أن يكون حقّاً لفلسطين، مع أنَّ إسرائيل هي القوَّة القائمة باحتلال فلسطين، بحسب القانون الدولي، وكأنني بالغرب الاستعماري إذ ينكرُ حقَّ فلسطين في الدفاع عن نفسها، إنما يُنكرُ، ابتداءً، حقَّها في الحياة، أو لعله يُنكر، أو يتجاهل، وجودها: أرضاً، وشعباً، وحضارة، وتاريخاً، وممكنات مستقبل، وآفاق وجودا!