مارتن لانغفورد: خيالٌ أرضيٌ وسماواتٌ مفتوحةٌ
كيف أصبح مارتن لانغفورد شاعراً؟
لانغفورد على المستوى الأعمق، لا أفهم لمَ يُفتنُ بعضُ النَّاس بالكلمات، بينما بعضهم الآخر يتجاوب مع السَّيارات، أو الأحصنة أو أجهزة الكمبيوتر. وعلى الرَّغم من اعتقادي أنني كنتُ دائماً على معرفة جيدة باللغة، فلعلَّ هذه المعرفة لم تتحوَّل إلى ميلٍ لتفضيل الشِّعر إلا حين بلغتُ العشرين من عمري على الأرجح. وعلى غرار أغلب الشَّباب المحاطين ببعض المُحفِّزات (كان والداي مُدَرِّسين للفن)، فقد كان كلُّ شيء مُشَوِّقاً، ممتعاً، ومثيراً للاهتمام. ومع ذلك، فإنَّ الاهتمام بالكلمات كان هو الاهتمام الأقوى، والأوضح تجلِّياً، وقد كان لي أن أنشأ في قلب هذه المُحفِّزات من دون أن يكون ثمة من قرار واعٍ من أيّ نوعٍ كان، قد جرى اتخاذه. ووقتما غادرت الجامعة، أردتُ أنْ أُصبحَ شاعراً.
لم يكن بمقدوري أنْ أُدركَ هذا الأمر لأعبِّر عنه في ذلك الوقت، غير أنه يبدو لي الآن واضحاً أنَّ المرء؛ هذا الذي كُنْتُهُ، قد اختار الفنون، ولنقل، بدلاً من اختياره العلوم والفلسفة، وذلك لأنَّ هذا المرء قد توافر على إحساس بأنَّ التَّفاهم ليس كافياً في حدِّ ذاته: فالمرءُ يريدُ أيضاً أنْ يُجرِّبَ ما يشعر به ليدرك ما يعنيه الشُّعور: ففيما وراء الرِّضى المتعلِّق بتبيُّن تفاصيل علاقة ما، فإنَّ المَرْءَ ليريدُ أيضاً أنْ يقيس وزنَ هذه العلاقة. وثمة طريقة أخرى لقول ما سبق، وهي أنَّهُ يُريدُ أنْ يُجرِّب الأشياءَ، ليس بالعقل فحسب، بل بالجسد أيضاً.
وإلى ذلك، فإن على الكاتب الشَّاب أنْ يختار ما بين الشَّعر والنَّثر. ومع أنَّ للنثر، المُفَكَّر فيه بإمعان رائع ومدروس، قيمةً عاليةً، فقد أدركتُ أنَّ ثمة تبايناً عميقاً بين متطلبات السَّرد وشواغل القصيدة (القصائد السَّردية التي يجري تهجينها يتوجَّبُ عليها إدراك متطلبات كُلٍّ من السَّرد والشِّعر وتداولها فيها، والتَّعبير عنها). ومعلومٌ أنَّ السَّرديات بنهاياتها، غير أنَّ اهتمام الشَّعرية يبدأ من هنا، أي من حيث تنتهي السَّرديات.
تنظرُ القصيدة إلى الخارج وتتطلَّع إلى العالم ولحظته؛ فيما لا يستطيعُ السَّردُ تخَيُّلَ وجود عالمٍ وراء نهايته. وربما يُمكن للمرء أنْ يقول إنني غير مُهتمٍ كثيراً بمعرفة كيفية تحقُّق وصولي إلى هذا المكان المُحدَّد، بقدر ما أنا مهتمٌ بمعرفة ماهية المكان الذي وصلتُ إليه، ماذا يُشبه هذا المكان؟ الآن، أنا هُنا. وبطبيعة الحال، فإنَّ كلاّ من السَّرد والشَّعر لا ينفصلان غير أنَّهما يتضمنان مجالات اهتمام، أو مناحي تركيز، متباينة إلى حدٍّ بعيد.
وفيما يخصًّ الشَّاعر، فإنَّ ثمة مسألة تتعلَّق بالطول والضَّرورة، أي بامتداد النَّص ومتطلباته. فنحنُ جميعاً نغرقُ في محيطٍ لغة، وهناك الكثير والجزيلُ في هذا المحيط مما يمكن أخذه منه. والشَّعر، على الأقل، يمضي في هذا المستنقع الذي بالكاد يبدو بيِّناً، ليركِّزَ، بأقصى ما يستطيع، على أفضل ما ينبغي له قوله، وأعلاه قيمةً.
وعلى الرَّغم من حقيقة أنَّ تحديد دور الشاعر، في مجتمعات يتملَّكها هاجسِ الإمعان في الأخذ بالحقائق والوقائع والحجج والمجادلات والصفقات، قد أصبح أمراً بالغ الصُّعوبة (لأسباب ليس أقلُّها صعوبة التعامل، عاطفياً، مع معطيات ومواد قائمة على الأدلة والبراهين)، فإنَّ الشِّعرَ لا يزالُ يُدهشني بوصفه الرَّد الأسطع والأبهى والأجلى على غرابة العالم وغربته. فالأدلة والبراهين، في حدِّ ذاتها، لا تفضي إلا إلى استنتاجاتٍ وقائعية واقعية قد تُمكِّننا من اتخاذ قرارات تتعلَّق بالعمل، في مكان العمل، غير أنَّ وراء ذلك عالما للأسئلة الإنسانية، ونحنُ لا نزالُ في حاجة لاستكشاف الحياة وأشكال العيش، وإلى تعرُّف هذا التوتُّر، دائم التَّحوُّل، القائم بين مدركاتنا والطريقة التي عبرها نُدْركها.
مَنْ، على وجه الخصوص، منَ الشُّعراء أو من الحركات الأدبية في أستراليا، يُمكنك القول إنهم قد أثَّروا على نشأتك الأدبية؟
لانغفورد المؤثرات الأبكر عليَّ، كشاعرٍ، جاءت من مكان آخر (نحنُ نتحدَّث عن سنوات المراهقة: (فروست لقدرته على إتقان الخط الرَّابط) العمود الفقري للقصيدة، أو مُؤَشِّر ترابط مكوناتها-المترجم)، وباوند لشمولية اهتماماته ولإصراره على المكان الذي ينبغي للشِّعر أنْ يتبوَّأه على الطاولة وكانت تلك أسهم قياسية للمؤثِّرات في ذلك الوقت. ومع ذلك، فمنذ العشرينات من عمري وما بعدها، لم يكن هناك انفجار للطاقات والقدرات في المشهد الأسترالي، فحسب، وإنما أصبحت جميع منافذ الاطلاع على الأعمال المُدهشة والمُمَيَّزة، الآتية من بلدان أخرى، مُتاحةً.
تنظر القصيدة إلى الخارج، وتتطلع إلى العالم ولحظته، فيما لا يستطيع السرد تخيل وجود عالم وراء نهايته
ولكوني كبرتُ قليلاً مع حلول ذلك الوقت، فربما يكون من الأكثر دقَّة أنْ يتمَّ التكلُّم عن الحماسة بدلاً من التكلُّم عن المؤثَّرات، وعن الولاء للقصائد بدلاً من الولاء للشُّعراء. إنَّ المرءَ ليميلُ إلى أَخْذِ أشياءَ مُحدَّدةٍ، أو أمورٍ بعينها، من بعض الشُّعراء، وذلك من دون أنْ يكون قد تأثَّر بكل شيء في شعرهم. وإنني لأحبُّ الخشونة في صوت جوديث رايت، على سبيل المثال، وذلك من دون الاشتراك في الرُّومانسية التي أصَّلتها وأظهرتها في بعض الأحيان، وإنني لأميلُ، كذلك، إلى الطريقة التي يعمل موراي من خلالها ليجدَ لكل شخص في مجتمعه مكاناً في شعره، وذلك من دون الأخذ بالشروط التي ألزم نفسه بها. وعموماً، فإنني لا أرى نفسي كشخصٍ خضع لسيطرة مؤثراتٍ مميَّزة، وذلك بالرَّغم من أنَّ الآخرين يُمكن أنْ يُفكّروا في الأمر على نحو مختلف. لقد قرأت دائماً على نحو واسع النِّطاق، ولذا فإنني أمتلك دائما بعض الحسِّ بالخيارات البديلة.
تَعْرضُ أعمالي بعضَ الخيارات واسعة النَّطاق، وذات الأفضلية. وبطبيعة الحال، فقد اعتقدتُ دائماً أنَّ الوصول إلى إنجاز الوضوح أصعب بكثير من إنجاز التشويش، ولديَّ تفضيلٌ للشُّعراء الذين هم على استعداد للاعتراف بالآثار والعواقب المرتبة على مُدركاتهم، أو تلك النَّاجمة عمَّا يمتلكونه من فهم: وذلك ليسكنوا داخل مشاعرهم وليقفوا خارجها، في أنٍ معاً.
خيالٌ أرضيٌ وسماواتٌ مفتوحةٌ
ما الخصائص والسِّمات المُميِّزة للشعر الأسترالي وذلك في ضوء علاقته بالشِّعر الإنكليزي؛ البريطاني أو الأميركي، واستناداَ إلى مقارنته بهما؟
لانغفورد قبل الاستيطان الأوروبي، كانت أستراليا مأهولةً من قبل ما يربو على ثلاثمئة قوم من الأقوام الأصلية التي كان لكلٍّ منها لغته الخاصَّة، وكان كلٌّ منها مسؤولاً عن الأغاني والرقصات التي من خلالها تمت المحافظة على قصص إقليم معيَّن، فاستمرَّ تزايد مبتكري الأغاني في ذلك الإقليم. وقد مُنحَ حقُّ غناء تلك الأغاني لكبار السِّن عبر سلسلة مراسم احتفالية متدرّجة. كانت الأغاني سرَّاً مُقدَّساً ولم تزل كذلك، مع أنَّ نسخاً أكثر شعبية وأوسع انتشاراً كانت متوفِّرةً في بعض الأحيان. وإلى ذلك، فإنَّ هذه الأغاني، وبطرق عديدة، هي الأدب الشَّفوي التقليدي (الكلاسي) الأسترالي. وفي الوقت الرَّاهن، فُقِدَ الكثير من هذه الأغاني، وتبقَّى عدد قليل منها، ولكنه متزايد، تحت وصاية عدد من المجموعات القبلية التي هي الآن أقلّ من أيّ وقت مضى.
ومع ذلك، فإنَّ بعض هذه الأغاني قد جرت كتابته، لحفظه، في منتصف القرن الماضي، وذلك بما يزوِّد جميع أشكال الشِّعر المكتوب في أستراليا بخلفية ذات وجود يعودُ إلى ما يزيد على أربعين ألف عام من الزَّمن، وبإحساس بوجود تفاعل دوريٍّ ومستمرٍّ، خياليٍّ وخلَّاق، مع الأرض.
وفي تصوُّري، فإنَّ هذا الإحساس باستمرارية التفاعل مع الأرض سوف يتواصل ليكون ذا تأثير مستمر، وليصبح، وعلى نحو متزايد، سمة مميزة للشعر الأسترالي.
وفيما يتعلَّق بأدب ما بعد الاستيطان، من المهم، كذلك، ملاحظة كيف أنَّ المكانَ مميَّزٌ، وأنَّ لجميع الأماكن طريقة خفيَّة وقوية لتسريب نفسها والإيحاء بوجودها في الشِّعر الذي يُكتبُ، هنا، في أستراليا. إنَّ تمايز مَوَاطن السُّكنى، أو الأماكن الأسترالية المأهولة بالسُّكان، يُنشئ، رويداً رويداً، سمةً مميَّزة في الشَّعر الأسترالي، وذلك لمجرد حضور هذه المواطن المتمايزة في القصائد. يقعُ الأعمّ الأغلب من المشاهد الطبيعية، الأكثر شهرة من الوجهة الشِّعرية، في النِّصف الجنوبي من البلاد، ولكننا نتابعُ، تدريجياً، توسيع عدد الأماكن التي تحوَّلت إلى شعر.
إنَّ أستراليا مكانٌ كبيرٌ؛ إنها تقتربُ من أنْ تكون بمساحة ثمانية وأربعين دولة، ولذا، فإنه يشملُ مجموعة كبيرة ومتنوِّعة من المواطن المأهولة، والتي لا يزالُ العديد منها “أرضاً عذراء” بالنسبة إلى شعراء ما بعد الاستيطان. ولقد تمَّت كتابة بعضُ المشاهد الطبيعية، وعلى نحو لافت، في الشِّعر (من قِبل ليز مَارِي Les Mourray في “مناطق الساحل الشرقي النَّائية”، على سبيل المثال، أو جون كنسيلا Jhon Kinsella في “أراضي القمح الأسترالية الغربية”). وربما لا ينبغي لي أنْ أطيل التَّكلُّم، هنا، حول هذا الأمر؛ فأنا أتخيَّلُ وجود أماكن كثيرة في مناطق المشاهد الطبيعية المكتظَّة بالسكان، مثل أوروبا والشَّرق الأوسط، لم تعثر، بعدُ، على شعرائها، غير أنني أظنُّ أنَّ أستراليا، على وجه الخصوص، تقعُ تحتَ التَّخيُّل، من قبل قاطنيها المهاجرين على الأقل.
ثمّة جانب من جوانب الكثافة السكانية المتدنية في أستراليا يتردد في الشِّعر الأسترالي، ويملأُ رجعُ صداه أُذُنيَّ، وهو يتمثَّلُ في التأثير الذي تمارسه السَّماوات الكبيرة والمساحات المفتوحة على المكان المحيط بالقول الشِّعري. إنْ كان المرء يعيش على مقربة من النَّاس، فإنَّه سيتكلم، دائماً، في نطاق الحيِّز الاجتماعي وضمن سياقه الفعلي المُكرَّس فحسب: مع وعي المرء بالآثار المترتّبة عليه، ومع توقُّعه الحصول على جواب. أما في الأماكن الفارغة، فإنَّ الكلام كُلُّه مجلَّلٌ بالصَّمت، وكأنّما السَّماءُ تتحدَّى مشروعية اللغة نفسها وجدواها. واليوم، يعيشُ معظم الأستراليين في المدن المحيطة بالساحل، غير أنَّ العديد منهم لا يزال يمتلك إحساساً بالفضاءات الواسعة والمساحات الكبيرة فيما وراء هذه المدن. ومع أنَّ هذا شيء يمكن للمرء أنْ يُضيِّعه، فيفتقده، في المدينة، فإنه يبقى، فيما أحسبُ، سمةً لشعرنا. لدى العديد من الشعراء الأستراليين فراغ، أو فضاء، حول صيغ عباراتهم، أو بُنى قصائدهم. في بعض الأحيان يكون هذا هو “الفضاء الأدبي” العائد إلى ميلارميه، غير أنَّ هناك العديد من الشُّعراء الذين لم يتأثروا بميلارميه تحديداً، وإنما هم يستجيبون، من دون وعي متقصِّدٍ وبنسبة أكثر أو أقلَّ، إلى نطاق الفراغ المحيط بكل الأحداث: شعراء من مثل روبرت چراي Robert Gray؛ كارولين كادي Caroline Caddy؛ چاري كاتالانوGary Catalano ؛ وجون أندرسون Jhon Anderson.
لا يسمع المرءُ هذا بكثرة في الشِّعر البريطاني، ولكنه يسمعُ، أحياناً، تأثيراً مُشابهاً في الشِّعر الأميركي من الساحل الغربي، في أعمال جاري سنايدر Gary Snyder، على سبيل المثال. ولا أعرف كيف يشتغلُ هذا الأمر في نطاق المشهد الطبيعي الواسع في العالم العربي: في الشَّعر، مثلاً، في المغرب أو في الرُّبع الخالي. وسأكون راغباً في معرفة ما إذا كان له تأثير مماثل.
وتأثير آخر للفضاءات الواسعة والمساحات الرَّحبة هو منح الامتياز للعين: يرى المرء الأشياء البعيدة قبل أنْ يسمعها. وتتوافر أستراليا على عدد كبير من الشُّعراء البصريين المتميِّزين: وفضلاً عن روبرت چراى وچارى كاتالانو، ينبغي للمرء أنْ يذكر جون واتسون؛ لويس أرماند Louis Armand وناثان شيبردسون Nathan Shepherdson، وفيما يتعلَّق بالفروقات أو الاختلافات التي تطوَّرت تاريخياً: يمكن للمرء أنْ يتكلَّم حول هذه الأمور باتساع، وبأوسع ضربات الفرشاة، وأودُّ أنْ أعتذر، سلفاً، لجميع الشُّعراء البريطانيين والأميركيين الذين شملتهم بالملاحظات الطَّفيفة التي سأوردها تالياً:
من الأكثر دقة أن نتكلم عن الحماسة بدلا من التكلم عن المؤثرات، وعن الولاء للقصائد بدلا من الولاء للشعراء
للسنوات الخمسين ونيف الأولى لوجودها في أستراليا، استخدمت بريطانيا السُّجناء المُدانين لاستيطان الأرض التي كانت تبعدُ أشواطاً بعيدة عنها، والتي لم يكن لها أنْ تتمكَّن من استعمارها بطريقة أخرى. وخلال القرن التاسع عشر، هاجر إلى أستراليا أناسٌ ليس لهم أيّ إسهام في الاقتصادات البريطانية، وذلك في محاولة منهم لتحسين حالتهم النَّاس الذين طُردوا من أراضيهم جرَّاء قوانين الضَّميمة (The Enclosure Acts)، على سبيل المثال؛ أو خارج أيرلندا، جرَّاء الديون ومجاعة البطاطا (المجاعة الكُبرى التي عصفت بأيرلندا خلال الأعوام الخمسة من 1845 إلى 1850 منهيةً حياة ما يربو على مليون ونصف مليون إنسان، ودافعةً مليونا آخرين على الأقل إلى الهجرة من أيرلندا- المترجم).
ولم يكن لمثل هؤلاء النَّاس أيّ ركيزة في الهيكل الطبقي البريطاني. أضف إلى ذلك وجود قلق مُعيَّن، في وقتٍ مُبكَّرٍ، حولَ ما إذا كانوا، كمستعمرينَ وروّاد، “جيدينَ بما يكفي” لمساوقة أستراليا مع الأوروبيين في المسائل الثقافية. وفي هذا، يُمكن للمرء أنْ يرى كيف أنَّ لهجة الحديث (نبرة التَّكلُّم) الأسترالية قد تُنْتِجُ مُقاومةً لالتزام الشكليات.
وإذْ أُنتجت هذه المُقاومة بالفعل، فإنها لم تكن، ببساطة، مُجرَّد مسألة تتعلَّقُ بتسجيل سمة، وإنما هي أثَّرت على الطريقة التي بها النَّاسُ فكِّروا وتصرَّفوا. في الثقافات العامية الدَّارجة، قد يكون من الصَّعب تأكيد الذَّات عبر يقينية أو وثوقية مُفرطة: يبدو الأمر كما لو كنتَ مُحاطاً، باستمرار، بأصحاب مزَّاحين لا يأخذونك، أبداً، على محمل الجدِّ. هكذا يأخذ كلُّ شيء سمةَ المؤَّقت، مفتوح النهاية، كما لو أنَّ المُتكلِّم يعلمُ أنَّ جميع الادِّعاءات أو المزاعم كانت مفتوحةً، تلقائياً، على المُساءلة. وقد تسرَّب شيء من هذه النَّبرة إلى الشَّعر. ولئن طُلبَ منيِّ أنْ أُحدِّد ملمحاً فارقاً، واحداً، بين الشُّعراء البريطانيين والشُّعراء الأستراليين، فإنه سيكون هو هذا الملحُ الفارق لا سواه.
إنَّ الأمر ليبدو وكأنما أي شيء يقولهُ أستراليٌّ إنما يُلْمحُ إلى سؤالٍ في نهايته، أو إلى تناقضٍ يتركُ المرءَ في وضع يجعله غير متأكِّدٍ مما إذا كان عليه أنْ يأخذ الأمر على سبيل المزاح. بعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك موقفٌ دفاعيٌّ في أعمال بعض شُعراء المملكة المتحدة (مثل: إنرايت Enright، لاركن Larkin، أميس Amis). لقد اعتاد البريطانيون على فكرة أنهم لم يعودوا يملكون امبراطورية، وتُرجمت هذه الفكرة إلى نبرة كآبةٍ تجلَّت في أعمالهم. أضف إلى هذا ما سبقت الإشارة إليه بشأن اليقينية أو الوثوقية، وأنَّه قد كانت هناك لحظة، حينما كنتُ أشبُّ عن الطَّوق، ابتعدت فيها السِّمة الأسترالية بعيداً جداً عن تلك السِّمة الإنكليزية. والآن، وقد تعوَّد الإنكليز، إلى حدٍّ بعيد، على الوضع الجديد، يبدو أنَّ الأمور قد فُتحت من جديد، وأنَّ الفرق لم يعد بارزا، بيد أنَّ ثمة تمييزاً واحداً، يعود إلى الآونة الأخيرة، أودُّ أنْ أشير إليه. فإنه لمن المفارقة، الآن وعلى أيّ حال، أنَّ لدى الشَّعر الأوروبي بأكمله، تقريباً، نبرة معيَّنةً من المؤقَّتية أو المشروطية (Provisionality)، في أعقاب ما بعد الحداثة.
الشعراء المدينيون (الحضريون)
أما الفروقات ما بين الشعر الأسترالي والشعر الأميركي، فإنه لمن الأكثر صعوبة تحديد ماهيتها. ففي سبعينات القرن الماضي، أخذَت مجموعة من الشعراء المدينيين الحضريين (جون ترانتر JohnTranter ، جون فوربسJohn Forbes) بقوَّة، بأعمال شعراء الولايات المتحدة المعاصرين، مُدافعين في ذلك عن قوَّة كتابة “ما بعد الحرب” الأميركية، وعن إثمار هذه الكتابة من حيثُ قدرتها على التأثير.
وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّ شعرَ الشُّعراء الأستراليين لم ينته، أبداً، إلى مشابهة شعر أقرانهم الأميركيين مُشابهةً تامة. وثمة فرق لعله ينبع من حقيقة أنَّ أستراليا الحديثة قد أُنشئت في لحظة مختلفة من لحظات الحوار العظيم الذي أجراه الأوربيون مع الدِّين، في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ومع أنَّ الولايات المتحدة قد أبرمت عقدها مع الوجود مُوقعة وثيقة وجودها فيه في العام 1783، وأنَّ أستراليا قد استُوطنت عقب ذلك بخمس سنوات فحسب، أي في العام 1788، فإنَّ المستوطنات الأميركية كانت راسخة الوجود، بالفعل، وقتَ اندلاع حرب الاستقلال، بينما كانت الأنماط العقلية التي أُنشئت بها هذه المستوطنات لا تزال تبدو ذات تأثير على الطريقة التي بها يتحدَّث الأميركيون، وعلى طريقة تفكيرهم في الأمور.
كان بعضُ المستعمرات الأميركية قد أُنشئ كردِّ فعلٍ ضدَّ أوروبا التي حاربت طويلاً، حروباً ضارية ومريرة، بشأن أيٍّ من أشكال المسيحية هذا الذي ينبغي أن يسود، وكان العديد من المستوطنين أناساً اقْتَلَعُوا أنفسهم وأسرهم، وأبحروا، باسم التسامح الدِّيني، صوب أرض مجهولة. ولا يزال المرء ذو الأذن الأسترالية، قادراً، أحياناً، على التقاط صوت هذه المثالية، وسماع رنين هذا الاعتقاد بالمبدأ في الشعر الأمريكيٍّ.
الإحساس باستمرارية التفاعل مع الأرض سوف يتواصل ليكون ذا تأثير مستمر، وليصبح، وعلى نحو متزايد، سمة مميزة للشعر الأسترالي
ومع ذلك، فإنَّ استراليا قد جاءت في وقتٍ لاحق. وبحلول وقت إتمام استيطانها، كان الحقُّ في الحرية الدِّينية راسخاً. ومن بعض النَّواحي، فإنَّ أستراليا نتاج للتنوير (عصر التنوير) أكمل، وأكثر نضجاً، من أميركا (وذلك على الرَّغم من أنَّ الدُّستور الأميركي هو، على الأرجح، البيان السياسيّ التنويريّ الأعظم). وخلافاً للأميركيين، فإنَّ أوائل المستوطنين الأستراليين لم يبدأوا بوضع المبادئ التي سيؤسِّسون مستوطناتهم استناداً إليهم. لقد تسكَّعوا في ما حولهم على غرار ما يفعل مراقبون علميون غير منهجيين، مُحاولين عن طريق الملاحظة والتجربة معرفة ما الذي بإمكانهم فعله. لم يكونوا متدينين على نحو بارز، وقد أبدت السلطات الكنيسة تبرماً ملحوظاً من مدى تباطُئِهم في بناء الكنيسة الأولى. وإنه لمن الصَّعب، فيما أحسب، أنْ تجعل الأستراليين يتحركون باسم قضية؛ وذلك، جزئياً، لأنهم لا يعتنقون الكلمات بسهولة بالغة (سوف يتحرَّكون غير أنهم سيستغرقون بعض الوقت للاقتناع بما سيتحركون من أجله). ولا أريدُ أنْ أقترحَ، هنا، أيّ تفوُّق، سواء أكانَ متعلِّقاً بالاستجابات الأميركية أم الأسترالية. وفيما يخصُّ بعض النَّواحي، فإننا نعودُ، مرةً أخرى، إلى النقطة التي أثارتها الفقرة السابقة: في بلدٍ ذي تقاليد عاميَّة، يمكن للإيماءات الكُبرى أنْ تجد نفسها في موضع خضوعٍ لمساءلة صامتة تكون غريبة قليلاً عن طرق التفكير المعتادة؛ فإذا كانت اليقينية أو الوثوقية (Decidedness) القديمة لدى بعض البريطانيين قد أثارت التَّحفظ أو استحثَّت الصَّمت، فإنَّ الشيء نفسه يُمكن أنْ يُقال عن المبادئ والثِّقة المتعلِّقين ببعض النَّبرات (الأساليب) الأميركية. ولهذا أنْ يقول: إنَّ الشِّعر الجيِّد هو جيدُ الشِّعر، وحتَّى لو وُجدت تنويعات طفيفة (ومرحَّبٌ بها) في النَّبرات ونقاط التركيز، فإنَّ للتعامل مع مثل هذه الفروقات أنْ يُواجه بعض المشكلات التي تستدعي الاهتمام.
المشهد الشِّعري الأسترالي
هل لك أنْ تُزوِّدنا بإطلالة موجزة على مشهد الشِّعر الأسترالي الرَّاهن؟
لانغفورد في منتصف القرن الأخير، كانت مسألة الهُوِيَّة، على الأرجح، هي القضية الأكبر عند الشُّعراء الأستراليين: فمن كُنَّا نحنُ إنْ لم نكن بريطانيين؟ إنَّ القصيدة الأشهر في تلك الفترة، وهي “قصيدة “خمسة أجراس Five Bells” للشاعر كينيث سليسور Kenneth Slessor، تأمُّلٌ حول معنى حياة صديق ماتَ غرقاً: حول من هو الشَّخص الذي كان ممكناً له أنْ يكونه. والأمر الذي لم نكن لنتنبَّأ به، أو نتوقَّعه، في ذلك الوقت، هو أنَّ الهُوِيَّة كانت في طريقها لتُصبح مسألة تخصُّ كل شخصٍ، وعندما بزغ هذا الأمرُ علينا، أخيراً، كان قد توقَّف عن الاشتغال كموضوع أستراليٍّ متميِّز.
وفي الستينات، وإذْ توفَّرت مُختارات جيِّدة، أدرك النَّاسُ أنَّ مشهداً شعرياً ثرياً كان مُتَحَقِّقاً في الولايات المتحدة، بديلاً للتقاليد البريطانية. وقد كان لهذه الآثار الأدبية الأميركية تأثيران رئيسيان: لقد جرَّبَ الشُّعراء الأميركيون كتابة الشِّعرَ الحرِّ على نحو أكثر عمقاً وشمولاً مما نحنُ قد جرَّبنا، وهكذا عَلِمْنَا أنَّ هناك حرياتٍ وفرصاً لم نكن قد علمنا بوجودها من قبلُ؛ وهم، كذلك، طَوَّروا أنماطاً لأساليب كتابتهم المدينية (الحضرية) أكثر مما نحنُ قد فعلنا.
لقد أصبح شعراء نيويورك، من أمثال أشبيري Ashbery، أوهارا O’Hara، وبريچان Berrigan، نماذج يَحْتذي بها الشعراء المدينيين الأستراليين من أمثال جون ترانتر JohnTranter وجون فوربس John Forbes. كان الشِّعر الأميركي مؤثِّراً جداً في هذه الفترة، وذلك بغض النَّطر عمَّا إذا كان هذا الشاعر أو ذاك يُعرِّف نفسه كواحدٍ من الشُّعراء المدينيين الجُدُد أو كان يعتبر نفسه شاعراً أوسع انتشاراً في نطاق التيار الشِّعري الرئيس. منذ ذلك الحين، وعلى غرار الأشعار الأنچلُوِيَّة Anglo Poetries الأخرى، كان هناك انقسام في المشهد، وذلك مع تصنيف الشُّعراء إما بوصفهم من فئة الشُّعراء المدينيين والتجريبيين، أو بوصفهم، وعلى نحو فضفاض وأكثر رحابة، من شعراء التيار الرئيس. يحازي بعض الشُّعراء أنفسهم، بجمود، مع هذا المعسكر أو ذاك، في حين أنَّ البعض الآخر أكثر تحرُّراً بشأن خياراتهم المتعلِّقة بالأساليب والتقنيات والأدوات واللوازم. وأياً ما كانت الخصومة النَّاشئة بين المعسكرين، فإنَّ هناك قدراً كبيراً من التلاقح بينهما.
أما بضعة الأصوات الشِّعرية الأكثر جلاءً ضمن عدد أكبر من الأصوات البارزة، فإنها تشمل:
ليه موراي Les Murray: كان ليه موراي شاعراً من مناطق ساحل نيو ساوث ويلز الريفية النائية، وقد عبَّر شعره، بتفصيل ووضوح، عن حياة صغار المُلَّاك وعمال الخشب الذين عاش بينهم. وكان لموراي، في ثمانينات القرن الماضي، مُجادلة شهيرة مع بيتر بورترPeter Porter، المقيم في المملكة المتحدة، حول تفوُّق أسلوب الحياة البووتياني Boeotian (أي أسلوب الحياة الرِّيفي) أو عدم تفوُّقه، على أسلوب الحياة الأتيكي Attic (أي المديني). حاجج بوتر أنَّ المدن قد كانت هي الأماكن الوحيدة التي أتيح فيها لكلٍّ من المواهب والأفكار أنْ تزدهر. وعلى الرَّغم من استمرار وجود بعض الشعراء الجيدين المستقرين في الرِّيف، فإنه لا يوجد، الآن، عدد كبير منهم مثلما جرى عليه الحال من قبلُ، وهذا يعكسُ، بكل تأكيد، الديموغرافيا المتغيِّرة للمستوطنة الأسترالية.
روبرت چراي Robert Gray: انبثق من الإشراق الصَّافي للبلدة الصغيرة، نيو ساوث ويلز السَّاحلية، كتصويريٍّ رائع يتميَّز بالدِّقة والرَّهافة وشدَّة الانتباه. وعلى غرار العديد من الشُّعراء الأستراليين (وشعراء الساحل الغربي الأميركي)، كان چراي قد تأثَّرَ، أصلاً، بالتقاليد اليابانية. إلا أنَّ مرور الوقت فَتَّر بعض مكونات البوذية في شعره، لنُتركَ مع صور مفعمة بشعور قاسٍّ وعنيد بالوحدة الزِّنِّيَّة Zen (البوذية)، ومن دون تلطيف لهذا الشُّعور عبر أيِّ إحساس بوجودٍ كون كُليٍّ رئيف.
وهناك شعراء آخرون من مثل (جون ترانتر John Tranter، جون فوربس John Forbes، لوري دوغان Laurie Duggan، بام براون Pam Brown، وكين بولتون Ken Bolton) استكشفوا الطبيعة المُشيَّدة لثقافاتنا، ولأنماط السُّلوك المتعلقة بها أساساً الحياة الدَّاخلية للمدينة بمهازلها واختلالاتها، ولكن أيضاً، عوالم الفنِّ، في أوروبا، وعلى نطاق المشهد السياسي الأوسع. وعلى نحو أو آخر، فإنَّ هؤلاء الشُّعراء هم ورثة التقاليد العاميَّة المُشار إليها أعلاه: باستطاعتهم أن يكونوا ساخرين، غير أنَّ لديهم، أيضاً، عيوناً ثاقبةً حيال الدَّعاوى الكبيرة أو الوهمية غير المستندة إلى شيء.
شُعراء آخرون: أما الشُّعراء المنتمون إلى الأجيال الحالية، فقد كانوا أكثر تحرُّراً بشأن التعامل مع المنظورات الرؤيوية التي عرَّف أسلافهم من خلالها أنفسهم. وإنْ كان يبدو الآن أنَّ لدينا ضِعْفَ ما اعتدنا على وجوده من الشُّعراء الجيدين، فإنَّ وراء ذلك سبب بسيط مؤداه أنَّ مُشاركة النِّساء في عالم الشَّعر قد أصبحت أسهلَ وأيسر. وقد كان هناك، باستمرار، عدد قليل من الشَّاعرات الأستراليات الجيدات جدَّاً (ماري چلمور Mary Gilmore، جوديث رايت Judith Wright)، غير أنَّه قد توجَّبَ عليهنَّ أنْ يكُنَّ نساءً في بعض الخصائص والسِّمات كي يتمكَّن من تأكيد حضورهنَّ، والحصول على مكان في المشهد الشِّعري.
وأخيراً، فُتِح الفضاءُ، الآن، على نحو أكثر رصانة واتزاناً، حيثُ، على الأقل، يُوجد من الشَّاعرات الجيدات بقدر ما يُوجد من الشُّعراء الجيدين (أو العكس بالعكس). وكذلك، ظهر شُعراءُ السُّكان الأصليين، وغالباً (ولكن ليس دائماً) ما يكتبون شعراً موجَّها صوب تناول القضايا السياسية العديدة التي تحيق بنسيجنا المدني فتشوِّش عليه.
وأخيراً، إنَّ أستراليا أمَّةُ مُهاجرين. وفي العقود الأخيرة، أتى العدد الأكبرُ من المهاجرين من الهند والصِّين، غير أنَّ هناك مُهاجرين من كُلِّ بلدان الأرض. وعلى الرَّغم من أنَّه يكاد يكون من المستحيل تخيُّل أنْهم سوف لن ينتهوا إلى إضافة مُساهمة مهمَّة على الطَّريقة التي بها ترى أستراليا نفسها، فإنَّ الموضوعات المهيمنة على الأعمّ الأغلب من شعر المهاجرين الأكثر راهنية، إنما هي المتصلة بعلاقتهم ببلدانهم الأصلية، فما الذي يعنيه أنْ تكون بعيداً عن الوطن (مسقط الرَّأس)، أي أن تكون في أستراليا.
إنَّ ازدواجية الرُّؤية لَميزةٌ عظيمة بالنِّسبة إلى الكاتب، ولأنَّ نظرتهم تتحوَّل، على نحو أكمل وأشمل، نحو البلد الذي يعيشون فيه الآن، فإنَّ إسهامهم سيكون عظيماً حتماً. وهذا ما قد شرع في الحدوث: كُلُّ ما في الأمر أنه لم يحدث، بعدُ، على النِّطاق الذي من شبه المؤكِّد أنَّه سيحدث عليه، وحين يحدثُ ذلك، سيكون تحويلياً.
وأخيراً، هناكَ قدر كبير من الاهتمام بالشِّعر الإيكولوجي (Eco-Poetry) أي بالشِّعر البيئوي. ولزيادة المعرفة أن تجلب مزيداً في المسؤولية، غير أنَّه ليس من الواضح تماماً، بعدُ، ما يعنيه ذلك في ما يتعلَّقُ بوصايتنا على الأرض وتعهُّدنا حمايتها. نحنُ نشعرُ، غريزياً، أنَّ هذه مُشكلة مُهمَّة، غير أنَّ شعوري يقولُ إنها أكثر صعوبة مما تبدو عليه للوهلة الأولى: إنما هو وحشٌ شرعنا، للتَّو، في اكتشافه. وإنَّه لمن المُبكِّر قليلاً أنْ نُسمِّي ما تمَّ إنجازه على صعيد الشِّعر البيئوي، ولعله من المُرجَّح أن يكون هذا هو الموضوع الأكثر سخونةً في الشِّعر الأسترالي في هذه اللَّحظة.
الأرضُ خيالٌ آخر
كتابك الشِّعري المعنون بـ”أرض”، هو تأمُّلٌ في التَّوتُّر القائم ما بين غريزتنا البيولوجية للتَّراتب الهرمي، والمقدرة على الرُّجوع خطوة واحدةً إلى الخلف لإفساح المجال أمام “الآخر” كي يُحقق وجوده؛ فكيف أَوْصَلت أستراليا، وتاريخها المُتَعَيَّن، وثقافتها، هذه التَّجربة، أو هذا الامتحان، في شِعْرك؟
لانغفورد تتجلَّى الحقيقة المهيمنة على التاريخ الأسترالي في واقعة أنَّ البلد قد نشأ نتيجةً للتَّوسُّع الاستعماري: شعبٌ واحدٌ يكتبُ أبناؤه حاجاتهم فوق شعب آخر، وذلك لأنهم قد امتلكوا القوَّة اللازمة لفعل ذلك. وتتجلَّى إحدى بُؤر السياسة الأسترالية المعاصرة في السَّعي إلى معرفة ما الذي يُمكن عمله لتحسين نتائج هذا الأمر. وحالما يتمُّ التَّعامل مع القضايا الدَّائرة حول العدالة (مثل حقوق ملكية الأرض) -وهناك بعض الطرق لفعل ذلك- سيبقى هناك الكثير مما يتعيَّنُ القيام به في ما يتعلَّقُ بالوصول إلى موضع الاحترام المُتبادل. وهناك، أيضاً، قدرٌ كبيرٌ ممّا يُمكن للسكان المستوطنين (الأوروبي، الأميركي، الشَّرق أوسطي) أنْ يتعلَّموه من شعب السُّكان الأصليين من حيث حُسْن التَّعامل مع البلد: لقد كانوا خيِّرين وصالحين وكُرماء، ولا سيما في سماحهم للبيئة أن تكونَ هي الخيال الآخر، وذلك بدلاً من التفكر فيها كشيء يمكن، فقط، استخدامه ونبذه.
بسلاسةٍ تامَّة، ينتقلُ المشروع الاستعماري لإعادة ابتكار مشهد طبيعي في صورة ذاتية واحدة، إلى الاندفاع الاستعماري في الإفراط في إعادة كتابة المشهد الطَّبيعي حيثما أمكن للمرء أنْ يرى فرصة لاستغلاله في إطار خطة عمل استثماري جيد، وذاك، في الواقع، هو الانتقال الذي اضطلعنا به.
لجميع الأماكن طريقة خفية وقوية لتسريب نفسها والإيجاء بوجودها في الشعر الذي يكتب، هنا، في أستراليا
ولئن كان قد حدث، ذات مرَّة، أنْ كُتِبَ السُّكانُ الأصليون في تواريخنا -بسبب أنهم كانوا غير مُريحين؛ أو أنَّ البيئة كانت قد أُخذت كتحصيل حاصل- لأنَّ فعل ذلك يُناسبنا -فقد كان هناك بعضُ التَّصويبات والتَّحسينات، على صعيد محلِّيٍّ، على كلتا الجبهتين. وليس لهذا أنْ يعني أن ليس ثمة من مشاكل كُبرى لا تزال موجودةً، ولا سيما مع البيئة- فنسبة متزايدة من “الحاجز المُرجاني Barrier Reef“، على سبيل المثال، جاري تبييضها بواسطة الاحترار العالمي (الاحتباس الحراري)، لكنَّ بعض الوعي، على الأقل، قد شرعَ في الحضور، وثمة، الآن، المزيد من الاستعداد للتَّصدِّي لمثل هذه الأمور، أكثر مما كانت عليه الحال من قبل، ولنقل، منذُ خمسين عاماً مضت.
وإنْ كانَ ثمَّة من منطقة واحدة لم تشهد مزيداً من التَّحسُّن، فتلك هي الطَّريقة التي من خلالها -ما دام النَّاس يسعون إلى إدارة حيواتهم عبر سرديات رأسمالية “مُهاجرة”- تتطلَّبُ السَّردياتُ وتستدعي المزيدَ والمزيد من التَّركيز وتسليط الضَّوء، وذلك لأنَّ “آخرين” قد أُلْقُوا على هوامش حكاياتنا. إنَّ الإصرار على أهمية علاقاتنا مع الآخرين لوظيفة مهمَّة من وظائف الشِّعر في العالم الحديث كي نُذكِّر النَّاسَ أننا لسنا مجرد مجانين يعملون بجدٍّ في فراغٍ نشطٍ، أو في خواءٍ مشغول.
العالم الطبيعي والشعر
تضعنا القصائد الأولى، بقوَّةٍ، في العالم الطبيعي، فكيفَ أعرب العالم الطبيعي، ولا سيما المشهد الطبيعي في أستراليا، عن نفسه، في هذه التَّجربة؟
لانغفورد تستدعي بضعُ القصائد الأولى في الكتاب الشِّعري “أرض” الزَّمن الجيولوجي، أو هي تضعُ أحداثاً ووقائع إنسانية في مقابل أطرٍ زمنية للعالم الطَّبيعي، وذلك بهدف الإلماح إلى الشواغل الإنسانية ذات الطبيعة العابرة والمُركَّبة: في هذه الأطر الزَّمنية، ليست صراعاتنا الدرامية إلا ما هو أكثر قليلاً من فُقَّاعات.
وهناك، مع ذلك، سبب إضافي للبدء بالعالم الطَّبيعي الذي لم يتم استكشافه بالكامل في “أرض”، ومن المرجَّح أن يكون هذا هو موضوع كتاب لاحق، إنْ تمكَّنت، في أيّ وقت، من معرفة كيفية كتابته. لقد توصَّلتُ إلى الاعتقاد أنَّ العلاقات بين البشر سوف لن تكون راسخةً، وحسنة الإنشاء، إلا حين تكون لنا، كبشر، علاقات جيدة مع العالم الطبيعي.
ما أُفكِّر فيه هو أنَّ الطريقة التي بها نكتب حاجاتنا وهمومنا وشواغلنا فوق الآخرين، إنما هي نفسها، وبالضبط تقريباً، الطريقة التي نخطُّ بها كتابتنا فوق كتابة المشاهد الطبيعية، ومواطن السُّكنى الطبيعية، والأجناس البشرية، حينما يروق لنا أنْ نفعل ذلك. وسوف لن نحصل على أيٍّ من الحقين إنْ نحنُ لم نحصل على الحقِّ الآخر أيضاً. وللشاعر الأسترالي، روبرت چراي، حكمة ساخرة رائعة التَّعبير، يقول فيها إنَّه لاحظ أنَّ الطريقة التي يُعامل بها شخصٌ ما الأشياءَ إنما هي تماثلُ تماماً الطريقة التي بها يُعاملُ الأشخاص الآخرين، وأعتقد أنَّ هذا صحيحٌ.
للعالم الطبيعي حضورٌ شاسعٌ وقويٌّ في أستراليا، ولا سيما خارج المُدن. ونحنُ محظوظون بذلك، وخارج المناطق الزِّراعية، ثمَّة مناطق واسعة من مواطن السُّكنى الطَّبيعة (الموائل) لاتزال سليمة إلى حدِّ كبير. ولقد تغيَّرت هذه المواطن إلى حدٍّ ما مع مرور السِّنين (عن طريق ممارسة إشعال النيران من قبل السُّكان الأصلين، وعن طريق الأقوام الغازية)، ولكنها لا تزال تتوافر على حضور قويٍّ. وهذه أيضاً، وكما هو واضح، مسألة غير إنسانية، مسألة تتحدَّى كلَّ ما نعرفهُ عن أنفسنا، وذلك لمجرد أن نكون هناك. وعلى هذا النَّحو، فإنها تعليقٌ على أهميتنا الذَّاتية. تستطيع المجتمعات الحديثة أنْ تُنشئ فضاءات جيدة للأفراد، ولكن، غالباً ما نملأُ هذه الفضاءات بهمومنا وشواغلنا الخاصَّة. والعالم الطبيعي هو أحد السُّبل لإعادة هذا الأمر إلى منظور رؤيوي.
ميديلين وشعرُ العالم
ما الذي حملته معك من تجربتك في حضور مهرجان مِيدِيلِين؟
لانغفورد بغض النَّظر عن التجارب الرَّائعة (الصداقات الحميمية ودفء مُضِيفينا الكولومبيين)، فإنني اعتقدُ أنَّه من الجيد دائماً لشاعرٍ -ولأي شخص- أنْ يفتكَّ قليلاً من منظوره الرؤيوي المعتاد، وذلك عن طريق الوقوف وجهاً لوجه، وببساطةٍ، أمام وجهات نظرٍ مدروسةٍ. فعندئذ، وإلى ما هو أبعد من مجرد مسألة الاختلافات في المنظورات الرؤيوية ووجهات النَّظر: ليس من الضَّار أبداً أن يجري تذكيرك بكيفية التشابه بيننا جميعاً، وبمداه، وذلك بصرف النظر عن المكان الذي منه حلَّق النَّاسُ مُتدفقين.
تمثَّلت في هذا المهرجان ثقافات وقوميات عديدة، من هم الشُّعراء الأجانب الذين تستمع بقراءة أعمالهم أكثر من غيرهم؟ وما هو رأيك، مع انفضاض المهرجان، في حالة شعر العالم في عالم اليوم؟
لانغفورد ليس لمهرجان واحد أنْ يكون، على الأرجح، إلا عيِّنةً ضئيلةً جداً لا تصلحُ لأنْ يُسْتَنْتَجَ منها أيّ خُلاصات عامة حول حالة شعر العالم، إلا أنَّ هذا لا يعني أنه لم يكن هناك بعضُ الشِّعر الرَّائع في ميديلين.
من المبكر قليلا تسمية ما تم إنجازه على صعيد الشعر البيئوي الذي يرجح أن يكون هو الموضوع الأكثر سخونة في الشعر الأسترالي الآن
فيما وراء السِّمة المُميِّزة، قليلة التباين، للأنماط الأخرى من شعر اللغة الإنكليزية، فإنني أعرفُ، على الأغلب، شعراء من ثقافاتِ وتقاليد أوروبية أخرى (وضمنها أميركا الجنوبية)، وشعراء من شرق آسيا ووسطها -وعلى الأغلب الشعراء البارزون: تشار وأبولينير؛ ميلوش وروزيفتش؛ ماتشادو ولوركا، فاييخو وبورخيس؛ الرُّومي وعُمر الخيَّام، تو فو وباشو وعيسى. وفي هذا الصَّدد، أنا، بجلاء تام، نتاجُ الرياح الثقافية التي تهبُّ على الجزء الذي أنا فيه من العالم. وينبغي لي أنْ أعرف، على نحو أفضل، الشعراء العرب والهنود والأفارقة- وفي هذا الشأن كذلك، شعراء من المحيط الهادئ. لقد قضيتُ قليلاً من الوقت معهم، ولكنَّ ذلك لا يكفي، حتَّى اللحظة، لأدخلَ تحت جلدهم وصولاً إلى أعماقهم.
وبقدر ما يذهب رأيي في شعر العالم إلى المدى المحدود الذي أنا مؤهَّلٌ لإبدائه، أقول: أعتقدُ أنَّه مزدهر على نحو رائع، ولا أستطيعُ أنْ أرى أيَّ سبب يحولُ دونه استمراره في الازدهار. وثمة سبب واحدٌ لذلك وهو، كما يبدو لي، أنَّ ثمة علاقة بين جودة الفنِّ وعروق الإمكانيات والاحتمالات التي تنفتحُ في أيِّ شكلٍ من أشكال الفنِّ. وللبشر نزعةٌ غريزيةٌ لاستثمار الفجوات والبدايات.
إنَّ العالم المعاصر ليتغيَّرُ بسرعةٍ هائلة. وبالنِّسبة للفنَّان، فإنَّ لهذا أنْ يعني أنَّ هناك تياراً لانهائياً من الأمور والأشياء التي ينبغي التفكير فيها، وإنطاقها بجلاء بيِّن، وتحويلها إلى لغةٍ تقولُ الحياةَ العاطفية للقارئ. ويبدو أنَّ النَّاس جميعاً قادرون على فعل ذلك، على إيجاد سُبُلٍ للتعبير عن مُدركاتٍ ومفاهيم جديدة، وطالما استمرَّ حدوث الأمر، سيزدهر الشِّعرُ. وبالطبع، سوف لن يكون مُباشراً، أبداً. وباستمرار، سيكون هناك الكثير من العمل الجادِّ الذي ينبغي على الشاعر أنْ ينهض به في ما يتعلَّقُ بإنطاق الأشياء وإتقان الحرفة، واكتساب المزيد من البراعة، ولكن إذا كان للقرن الأخير أنْ يُؤخذَ دليلاً من أي نوعٍ كان على شيء ما، فإننا سنواصل إنتاجَ شعرٍ إقناعيٍّ (Compelling Poetry)، وبمعدَّل يبدو وكأنَّهُ غير مسبوق أبداً.
السياسي والشِّعري وسُؤال السَّرد
أنت تكتب: “غالبا ما يسأل السَّردُ: متى سأنتصر؟ عوضاً عن أن يسأل: كيف يمكن لهذا الصراع أن ينتهي بعدل؟ والشِّعرُ – بعد العدل، ماذا بعدُ؟ أنت كصحفيٍّ (يُروِّج السَّرد المُوسَّع الصَّافي، ويجوسُ رحابه) وكشاعرٍ سبق له أنْ قال (أنا غالباً ما أُسائلُ قدرتي على فصل أناي عن عملي)، أسألك عن رأيك في العلاقة ما بين السياسي والشِّعري، وعن مدى تفاعلهما؟
لانغفورد غالباً ما تكون الافتراضات غير المُعلنة التي نضبط تقييماتنا السّياسية استناداً إليها قائمةَ على أساس العدالة: كيف ينبغي توزيع الثَّروة في مجتمع ما؟ ما هي الحقوق التي ينبغي على مجتمع ما أنْ يضمنها؟ ما الذي يدين به الفردُ لمجتمعه؟ وما هو واجبُ الرِّعاية الذي تدين به حكومة ما للفرد؟ في مجتمع عالم الشُّؤون والقضايا، ينبغي للسياسي أنْ يحظى بالأسبقية على الشِّعري: إنْ أخذَ رجلٌ يضربُ رجلاً آخر، فإنَّك لن تكُفُّ عن الإعجاب بالوردة. ولكنَّ العدالة ليست غايةً في حدِّ ذاتها -مع أنَّها قد تبدو كذلك إنْ كانَ المرءُ ضحيَّةً. قل إننا حقَّقنا مجتمعاً عادلاً: إلا أنه، طالما نحن لم نستدع عالماً ينثني فيه، ويتواشجُ معه، أيضاً- الجمال، مثلاً، أو الجمالُ والحب، والمروءة والسَّخاء والسَّماحة، سيبقى فارغاً يفتقر المعنى، ربما يكون كاملاً، ولكنَّهُ غير ذي جدوى. ليست العدالةُ، في خاتمة المطاف، إلا فَرْضُ مثالٍ أو إقرار نمطٍ مُجرَّد.
أما المسألة الحقيقية للعدالة فإنما تتجلَّى في منح كل فرد من أفراد المجتمع فرصةً تتيح لحياته أنْ تبدأ، خلق وضعٍ يتمكَّن فيه كُلُّ فردٍ من الالتفات بوجهه صوبَ الأمور التي يرى أنها ذات شأن، ومن الشروع في استكشافها. ومن الواضح أنَّ هناك عملا ينبغي إنجازه. ولحسن الطالع، فإنه لا يزال هناك قدر كبير من الشِّعر، حتَّى في عالم ظالم، فغالباً ما يُوجدُ الشِّعرُ في الأشياء والأمور التي تمدُّنا بالقوَّة وبكلِّ ما يُعزِّزُ قدرتنا على التَّحمُّل، وحين تنقصنا الأشياء والأمور الأخرى، أو لا تكون على ما يُرام يُحافظ الشِّعر على إمكانية الفرح، ويبقيها على قيد الحياة، حتَّى حين يسعى إحساسنا بالظُّلم إلى الطغيان على تلك الإمكانية.
هل أنتَ على دراية بالشِّعر العربي؟ إنْ كانَ الأمرُ كذلك، فمن هم الشُّعراء العرب الذين تعتبرهم مرموقين؟
لانغفورد لسوء الحظ، وبمعزل عن بعض المعرفة بأعمال محمود درويش، فإنني أعرفُ أعمال واحدٍ أو اثنين من شُعراء العربية المستقرين في أستراليا، مثل الشَّاعر يحيى السَّماوي.
الفنَّان والعُنف
في الوقت الرَّاهن، العالم العربيُّ في حالة عدم يقين واضطراب عظيم، فهل للشِّعر من دور يُؤديه في الحرب والثَّورة؟ وإنْ كان له، فما هو هذا الدَّور في تصوُّرك؟
لانغفورد للحرب أنْ تكون نوعاً من الجنون، وللشِّعر أنْ يكون مُقاومة لهذا النَّوع من الجنون، إيماءة معرفية تهبط على الأرض لتُذكِّر النَّاس بحقيقة ما هي عليه الأمور، وكيف هي، حقَّاً، تسير. في بعض الأحيان، لا يُحبُّ النَّاسُ سماع هذه الإيماءة، وذلك بالطَّبع، لأنَّ واقع الحرب يُمكن أنْ يصبحَ واقعاً لا يُحتمل. غير أنَّ هناك، دائماً، وقتاً سيأتي، وسيتوجَّبُ فيه إيجاد الكلمات الصحيحة لوصف ما جرى، وعندها سيحتاجُ النَّاس إلى الإصغاء إلى أفضل ما يُمكن للشِّعر أنْ يُقدِّمه: أي شيء أقلّ من ذلك إنما هو ارتخاصٌ، وتحقيرٌ للمعاناة البشرية التي حلَّت، وازدراءٌ بها.
مدركات الشعراء
أنت تكتبُ في قصيدتك “المجازر The Massacre“؛ “أنَّ هذه ليست قصَّة فنِّيَّة/حيثُ تُحَوَّلُ المظالمُ/ بمهارة القلم إلى نعمة”. بالنِّسبة إلى العديد من العرب، فإنَّهُ يُمكن لصور الأبرياء الذين يموتون في سوريا وغزَّة، أو جرَّاء الأهوال المتعدِّدة التي يجري ارتكابها باسم الإسلام، أنْ تثير ردود فعل انفعالية بالغة القوَّة. ما هي مسؤولية الفنَّان إزاء العنف حين يختبرهُ وينظرُ فيه؟
لانغفورد يتوجَّبُ على الفنَّانين أنْ يكونوا حريصينَ تماماً ولا سيما في أوقات الحرب، وذلك لأنَّ الجميعَ مُعبَّأٌ للإقدام على الفعل. ينبغي عليهم أنْ يتأكَّدوا من أنَّ لكلماتهم الأثر المقصود بالضَّبط. حيثُ يمكن للكلماتِ التي قد تُطلقُ، ببساطةٍ، في زمن السَّلم فتُنشئُ مزاجاً غاضباً، أنْ تُرسل الرِّجال إلى ميدان المعركة في أوقات الحرب. ولهذا أنْ يقول إنَّ هناك دائماً بعضُ الأشخاص التوّاقين لاكتساب الشَّعبية، والذين يبحثون عن الأشياء التي يرغبُ الآخرون من النَّاس في سماعها، وذلك بغض النَّظر عمَّا إذا كانت مُحقَّةً صائبةً أم لم تكن.
وفي بعض الأحيان، تُلقي الحربُ بالفرص أمام أمثال هؤلاء الأشخاص الذين ما كان لهم أنْ يجدوها بطريقة أخرى: أناسٌ سيقولون أيّ شيء لإرضاء أنفسهم عبر إشباع رغبتهم في اكتساب جمهور. ولذا، فإنَّ واحدةً من المسؤوليات إنما تتمثَّلُ، بوضوح تام، في عدم إساءة استعمال السُّلطة الإضافية التي منحك إياها الوقتُ المُشْتَعِلُ بتصاعد العاطفة.
وثمّة صعوبة ذات صلة بما سبق، وهي أنَّه عندما تكونُ خطوط المعركة قد رُسمت، فإنَّ ما يريدهُ الأعمّ الأغلب من النَّاس، من الشِّعر، إنما هو تأكيدٌ مُباشرٌ، جليٌّ وقاطع، لولاءاتهم. هم يريدون أنْ يسمعوا أنهم، هم أنفسهم، دائماً على حقٍّ، وأنَّ جانبهم، أي الطرف الذي هم إياه، ذاهبٌ، حتماً، إلى تحقيق النَّصر. غير أنَّ هذا الأمرُ بالغ السُّهولة. لقد كان هناك وقتٌ لم يكن مُتوقَّعاً فيه من الشَّاعر إلا أن يعكس مشاعر القبيلة. ولكنَّ دور الشَّاعر تغيَّرَ، وما نريدهُ من الشَّاعر، في زمننا الحاضر، هو أنْ يكتبَ وفقَ أفضل تصوُّراته ومُدركاته، وبحسب ما توصَّل إليه من خلاصات. وفي أفضل الأوقات، فإنَّ هذا صعبٌ للغاية -وهذا هو السبب الرئيس في أنَّ وظيفة الشَّاعر وواجبه قد أصبحا بالغي الصُّعوبة والتعقيد- وربما هما أقربُ إلى الاستحالة في زمن الحرب. ويبقى أنَّ الشُّعراء الذين يحترمون مُدركاتهم هم وحدهم القادرون على كتابة شعرٍ جيد، مع أنَّ أغاني الحرب قد تُحْرِزُ شعبيةً لافتةً، ولكن إلى حين.
المجازر وقصائد للديكتاتورات
إنْ كانَ لك أنْ تقترحَ قصيدتين، إحداهما مكتوبة من قبلك، لتوجههما إلى بشار الأسد، فأيّ قصيدتين تختار؟
لانغفورد هذه هي القصيدة التي قد أقترحها من إنتاجي الخاص:
لا شِعْرَ في هِتْلَر
لا شِعْرَ في هِتْلَر
لا توترَ
بين
ما قد يكون
وما قد كان.
كُلُّ شئ كانَ رغبة.
كلُّ شئ اتكأ على الموت.
لا حوارَ مع الصَّمت،
لا دور للأخر ولا وجود لـمسرحيته:
قطرُ دقَّات السَّاعة الدَّقيق
على مدار السَّاعة
تحت الأرض
هو وَحْدَهُ
ما يقيسُ
مدى الحلم الشَّخصي.
الشعراء الذين يحتمرون مدركاتهم هم وحدهم القادرون على كتابة شعر جيد، مع أن أغاني الحرب قد تحرز لشعرائها شعبية لافتة، ولكن إلى حين
(من الكتاب الشِّعري: “المشروع الإنساني The Human Project“، سيدني 2009).
قد سَمَّيتُ هتلر بوصفه الدكتاتور في القصيدة، غير أنَّه يُمكن للقصيدة أنْ تنطبق على أيِّ شخصٍ يُؤكِّد حاجته الشَّخصية إلى السُّلطة على حساب مواطنيه. ولسببٍ ما، فإنَّ هؤلاء المهووسين بالسُّلطة غالباً ما يتصوَّرون أنفسهم كفنانين أيضاً. فقد اعتبر هتلر نفسه كفنان بصري (فنان تشكيلي)، وكان ماوتسي تونغ شاعراً، مثلاً. ومثل هؤلاء الأشخاص يكونون، عادةَ، فنانين سَيِّئين للغاية، وإلى ذلك، فإنهم لا ينتمون إلى ذلك الصِّنف من النَّاس الذين يولون الانتباه للرأيّ النَّقديّ. وتتمثَّلُ السِّمة الرئيسة لهؤلاء النَّاس، مع احترامنا لكلٍّ من الشِّعر والسياسة بمعناها العام، في أنَّهم يجسِّدون الأمثلة النموذجية للأشخاص غير القادرين على الانخراط في علاقة مُشاركة، أو تفاعل، مع “آخريهم”: إنهم لا يستطيعون أنْ يروا ما يتجاوز حاجاتهم ومتطلباتهم وشواغلهم الخاصَّة. ومع ذلك، فإنَّ قراءتي للشِّعر تقولُ إنَّه يبدأ من تفاعل مع آخرينا، أيَّاً كان هذا الآخر: حبيب، أشخاصٌ آخرون، بيئة طبيعية، أو إله. تعريفي للشِّعرية هو أنها انتباهُ، أو إدراك، مُتزامنٌ بين مركزي جاذبية، عادةً، المُتَكلِّم وشيء آخر. ولكنَّ الدكتاتوريين لا ينتبهون، دائماً وأبداً، إلا إلى مركزٍ واحدٍ للجاذبية، فلا يُدركون سواه: إنَّهم، دائماً وأبداً، يكتبون من المنظور نقشٌ على شَاهِدِ ضَريحِ طَاغِيَة
الكمالُ، من نوعٍ ما، هو ما إليه كان يسعى،
والشِّعرُ الذي أبدعه كانَ يَسِيرَ الفهم؛
عرف حماقةَ الإنسان كما عرف ظَهرِ كفِّه،
وكانَ عظيم الشَّغف بالجيوش والأساطيل؛
حينَ ضَحِكَ، انفجر السيناتوراتُ الموقَّرون بالضَّحك،
وحينَ بَكَى، ماتَ الأطفالُ الصِّغارُ في الشَّوارع.
من الكتاب الشِّعري: “مُختارات قصائد أقصر Collectted Shorter Poems“، لندن، 1966).
وبخصوص الوضع في سوريا بأسرها، فإنني قد وجدتُ نفسي أُفكِّرُ، أيضاً، بقصيدة للشاعر البولندي العظيم زبيغنيو هيربرت Zbigniew Herbert، كان قد كتبها حينما شاهد الغزو الرُّوسي لهنغاريا في العام 1956، وهذه هي:
إلى الهنغاريين
ها نحنُ نقفُ على الحُدُود
ونَمدُّ أذرعنا المتشابكة
صوبَ إخوتنا ولأجلهم؛
صوبكم ولأجلكم،
ها نحنُ نَشُدُّ حبلاً طويلاً من هواء.
من صرخةٍ كسيرةٍ كظيمة
من القبضات المشدودة
جرسٌ يُلْقي لساناً
صامتاً على المشهد
الأحجار المجروحة تتوسَّلُ
والماءُ المقتولُ يتوسَّلُ
وها نحنُ نقفُ على الحُدُود
ها نحنُ نقفُ على الحُدُود
ها نحنُ نقفُ على الحُدُود
وهذا يُدْعى تعقُّلا أو منطقَ رُشدْ
وها نحنُ نُحدِّقُ في النَّار
ونتعجَّبُ من الموت.
(ترجمتها إلى الإنجليزية: أليسا فالس Alissa Vallss، نيويورك، 2006، وقد نُشرت أصلاً بالبولندية في العام 1957).
يشعرُ أغلبُ النَّاس، في كُلِّ مكانٍ، بالعجز المهيض وهُم يُشاهدون سُوريا تُمَزَّقُ إرباً بالطريقة التي يجري تمزيقها فيها. ولديهم إحساسٌ بالمستوى الرهيب الذي بلغته فظاعة المعاناة، إنهم يفكِّرون في سوريا بوصفها مكاناً من الأماكن التي هي منبعٌ لكلِّ تواريخنا. ولكنْ، مع تدخُّل أمم عديدة في المسألة السُّورية إلى الحدِّ الذي يقولُ إنَّ نصف العالم سيكون في حالة حرب، لم يعودوا يعرفون ما يتوجَّبُ عليهم فعله حيال ذلك.
مُعَسْكراتُ الكتابة ومنظورات الرُّؤية
للشِّعر ثقلٌ خاصٌ في التاريخ العربي والثَّقافة العربية؛ وهو تقليد ممتدٌ في الزَّمن وذو أهمية. وقد قرأتُ، في وقت ما من الشهر الأخير، مقالاً في مجلة “نيو يوركر” حول أهمية الشِّعر لدى الحركات الجهادية ورد فيه ذكر إحدى شهيرات الأدب البارزات، وهي المعروفة الآن بلقب “شاعرة الدَّولة الإسلامية”. ويُقال إنَّ لها قصائد تعكسُ بواعث القلق والهموم والشَّواغل التي تدفعُ السَّاخطين إلى الالتحاق بمثل تلك الحركات، وهو ما يجده العديدون في الغرب أمراً لا يُمكن تفهمه، لكونه صعبَ الإدراك إلى حدٍّ بعيد. وإذْ يُثَمِّنُ شعرك طبيعة السَّرد المُتباينة، فإنني أسألُ إنْ كنتَ تعتقد أنَّ هناك قيمة لقراءة شعر “الإرهابيين” ولتعرُّف فنِّهم؟ وهل ينبغي علينا أنْ نتوحَّى الحذر، على نحو خاصٍ، من أولئك الذين يستخدمون السَّرديات لتمكين سلطتهم وتعزيز تحكُّمهم؟
لانغفورد لعلَّ لقراءة أعمال الإرهابيين أنْ تُمَكِّنُنَا من أنْ نرى، وفق التَّصورات والمُدركات التي يتبنونها ويعملون بها، أنَّ هناك منطقاً لسلوكهم، مع متابعة الاعتقاد، في الوقت نفسه، بأن كلَّ ما يفعلونه بغيض، وأنَّه نتيجة مباشرة لما يزعمونه لأنفسهم من صوابية ذَاتية، ولما هم عليه من لامبالاة وافتقارٍ إلى الفضول المعرفي.
تنتمي كُلُّ كتابة إلى واحدٍ من مُعسكرين، فثمة كتابةٌ تُشبعُ رغبتنا في تبوُّء مكانة ذات هيبة وسُلطة، وتُلبي حاجتنا إلى الشُّعور بأننا على حقٍّ. والكثير من إنتاج هوليوود يفعلُ ذلك، وسرديات الصُّحف الشَّعبية (صحافة التابلويد)، المُسبقة التشكيل والتَّجهيز، تفعله كذلك، مثلما تفعله أغلب الرِّوايات الرَّخيصة التي تتوافر لدينا، وهذا هو ما يفعلهُ العنف الأعمى غير الخاضع لأيّ تمحيص. ينبغي للأشخاص الذين نتماهى بهم في النَّص أنْ يسودوا، والنَّصُ يقودنا على امتداد الطَّريق -متحكِّماً فينا- عبر خلق التشويق القلق بشأن ما إذا كانوا سيسودون. وفي مثل هذا العمل، ليس ثمة من وجودٍ لرؤى أو أفكار جديدة، فما يُوجدُ فيه لا يتعدَّى الإشباع غير المتفَحَّص للرَّغبات، والتعامل المتساهل مع المخاوف، وذلك على نحو مُسبق التجهيز لكليهما: في الأساس، تكون جميع المفاهيم والمُدركات، في مثل هذه النُّصوص، محض مكونات ثانوية، وذلك مقارنةً بالانفعالات والعواطف التي أنشئت هذه النُّصوص منها، واستندت كتابتها عليها. ولو حدث أنْ نشأت أيّ منظورات رؤيوية غير مُناسبة، وغير مُريحة، لكونها تُربك الطَّريقة، أو الكيفية، التي قرَّر النَّاس أنْ يشعروا بهما، ومن خلالهما، سيتمُّ رفض هذه المنظورات. نحنُ نعرفُ ما نُريد أنْ نشعر به في مثل هذه النُّصوص، حتَّى من قبل شروعنا في القراءة. ونحنُ نعرفُ ما نودُّ الشُّعور به في خاتمة المطاف. ولذلك كُلِّه، فإنَّ هذه الكتابة هي أقرب ما تكون إلى الطقوس وأبعدُ ما تكون عن الوعي.
وعلى نقيض ذلك، وتلك هي الكتابة التي أُثمِّنها، ثمة اطّرادٌ منتظم، وثمة، بطريقة أو بأخرى، حوار مستمرٌ وغير قابل للحلِّ أو الانغلاق بين مدركاتنا ومشاعرنا. وفي هذه الحالة، وحالما تظهر مدركات جديدة، لا يكون أمامنا إلا أنْ نُعدِّل مشاعرنا ونعيد ضبطها بما يستجيب للوضع الجديد (وهنا تأخذُ المُدْركاتُ أفضليَّةً على المشاعر). فحين أدرك العلماءُ، في عشرينات القرن العشرين، أنَّ الكون أكبر كثيراً مما كان أيُّ شخص في السَّابق قد اعتقد أو تصوَّر، أصبح العالمُ، فجأةً، مكاناً بعيداً، منعزلاً ومُروِّعاً. ولم يكن لنا، كبشرٍ، أنْ نُرحِّبَ بهذا الأمر، غير أننا ما إن قبلنا البرهان وأخذنا بالدَّليل، حتَّى بتنا عاجزين على فعل أي شيء سوى إعادة تصويب فحوى خيالاتنا.
كانت المنظورات الرؤيوية ووجهات النَّظر المُحفَّزة بالحاجة العاطفية مُدَمِّرة على نحو هائل. فخلال القرن العشرين، تلاعب كلٌّ من هتلر، وماو تسي تونع، وستالين، بشعوبهم عبر إسماعهم ما يودُّون سماعه منهم من أقوال -وذلك إلى حدِّ اصطناع هذه الأقوال، في بعض الأحيان. وعلى الأغلب، كان مصير كل شخص تجرَّأ فأبدى رأياً بديلاً، أو مغايراً، هو القتل تقريباً- أو الإسكات الدَّائم، أو التأكُّد من أنه سيلوذ بصمتٍ أبديِّ. لقد أبقي الدكتاتوريون النَّاس على الهامش عبر التَّحدُّث إليهم، مباشرةً، ومخاطبة عواطفهم المتعلِّقة بتوقهم إلى المكانة العالية والنَّصر، وبشعورهم بأنَّهم على حقٍّ واستقامة وصواب، وبالتَّأكُّد من أنَّ حوادث جديدة ستقع دائماً لتُغذي شعورهم بالظلم وافتقاد العدالة. وفي نهاية المطاف، مات الملايين والملايين من النَّاس، وذلك لأنَّ الشُّعوب قد سمحت لعواطفها أنْ تنفردَ، جوهرياً، في تشكيل منظوراتها الرؤيوية ووجهات نظرها، عوضاً عن التفكير في الأمور والأشياء على نحو عميق، شاملٍ وواف. ولذا، أقولُ نعم، يُمكنُ للروايات والقصص، المُؤسَّسة على العاطفة والانفعال، أنْ تكون من أنماط السُّلوك والتَّصرُّفات الأشدّ خطورةً (وإيغالاً في الظُّلم) من بين تلك التي ينخرطُ فيها البشرُ ويقترفونها. والمشكلة الحقيقية في ذلك إنما تكمن في أنَّ ترويج أنماط السُّلوك والتَّصرفات هذه يكونُ سهلاً جداً، ويسيراً، حين تتوفَّرُ مروحةٌ يُنشئها ظلمٌ حقيقي لينفخَ فيها هواءً يُروِّجها ويُوسِّع انتشارها.
قصيدة لاطِّلاع البلطجيّ “الخليفة”
ما القصائد التي قد تقترحها على المُنصِّب نفسه ذاتياً الخليفة البغدادي؛ زعيم جماعة الدَّولة الإسلامية؟
لانغفورد هذه قصيدة كتبتها حين كُنتُ أُفكِّرُ في أهم شيء يُمكن تقديمه للأطفال الذين يعيشون حياة صعبة في منطقة شرسة محكومةٍ بالتَّسلط، وبتصرفات سلوكية تقترفها عصاباتٌ مهووسة بالتراتب الهرمي: يتوجَّب علينا أنْ نعمل على منحهم فضاءاتٍ تُتيحُ لهم أنْ يُعاملوا باحترام، وأنْ يُنظر إليهم بوصفهم أفراداً يتوافر كُلٌّ منهم على عقل خاصٍّ به. وما البغدادي، في حقيقة الأمر، إلا بلطجي سموم مُنشِّطة، مع أنَّه يعتقدُ، من غير شكٍّ، أنَّه يتصرَّف باسم الإسلام. والمسألة، هنا، هي أنَّه لا يُولى أدنى احترام للاختلافات البشرية، وأنَّهُ مستعدٌ لقتل النَّاس ليضمنَ أنَّ كُلَّ شخص في العالم يرى العالم مثلما يراه هو، تماماً.
قراءتي للشعر تقول إنه يبدأ من تفاعل مع آخرينا، أيا كان هذا الآخر: حبيب، أشخاص آخرون، بيئة طبيعية، أو إله
وعد
هذا لكلِّ أولئك الذين، في طريقهم إلى البيت،
بعضُ ظلالٍ رَخِيَّة،
يومٌ يَحْلُمُ بِيَومٍ،
وقد أُخِذُوا جانباً،
وبكلِّ تَعَمّدِيّة الاختيار الطبيعي،
المْحَمْوُمِ،
كَلِيلِ العَينَينِ،
دُفِعُوا، مراراً وتكراراً، إلى الحَائطِ،
بينما البَلاطِجَةُ، الذين كانت أسئلتهم أكاذيب،
سَألوا لِمَ هُم فشلوا،
أو لِمَ هُم عملوا بجدٍّ واجتهاد،
أو لِمَ هم كانوا خُرقاء مأفونينَ،
أو ضَئيلين بلهاءَ.
دائماً وأبداً، بعضُ إقرارٍ ضئيلٍ، ولكنَّهُ مشتركٌ، بالاختلاف.
لأجلِّ القوَّة.
لأنَّ الضَّعْفَ مِهْمَازُ القُوَّةِ ومِنْخَاسُهَا.
لأولئك الذين لم يذهبوا بعيداً إلى ما وراء تقاليدهم.
الذين لم يكن ثمة من حاجة إليهم أبداً؛ فَبِيعُوا في أسواق العبيد.
للعشرين في المئة، في فوضى الحيوات التقليدية واضطرابها،
الذين ماتوا تسعة عشر في المئة منهم.
لأولئك الذين أُلْقِيَ بِهم في الأَنْهَار.
الذين غنُّوا جُرُوحاً تحوَّلت، فجأةً، إلى واقعٍ؛
الذين فشلوا في جميع امتحانات المُزَاحِ الأرعن.
الذين كانوا مسكونين بالجمال،
أو ذاهبين، بدأبٍ مُتروٍّ، إلى البدائل.
الذين لم يأذنوا لأنفسهم، أخيراً، بمثل هذا الضَّعف، أبداً، من جديد.
سنُقِيتُ خيالَ العدالة ونُغَذِّيه
سَنُرَمِّمُ ونُعِيدُ التَّكوينَ ونَصْقُلُ ونُهَذِّبُ
تقلُّبَ الأحياز والقوانينِ القابل أبداً للانهيار
سنعيدُهُ للدَّوران، وبصلابة عنيدة، سننفخُ فيه ونَصْفُرُهُ لنحيله إلى أزمنة مُستقبل.
سنكتبُ نصوصاً،
وسَنُوَرْشِفُ السَّوابقَ؛
وسنَبْقَى نُراقبُ كًلَّ إشارةٍ صغيرةٍ مهما ضئُلت
فلعلنا نعرف عبرها متى نحنُ ذاهبون إلى البعيد البعيد.
وبطريقةٍ ما، سوفَ نَنْشُدُ حيِّزاً، ونُغَنِّيه.
الرواياتُ المُشيَّدةُ وحُلْمُ السَّلام
أنتَ تكتب: “لكونها غير مستقرَّة وبلا حدود، فإنَّ تجربتنا في العالم مُقْلِقَةٌ ومُرْبكَةٌ بطبيعتها، وتستندُ إحدى طُرق التعامل مع هذا الأمر، وإدارته، إلى وضعه ضمن شكلٍ ذي حدود وبدائل، ونقاط انطلاق ووصول”. وانطلاقاً من الأسئلة السَّابقة ومتابعةً لها، يبدو أنَّ الوضع في فلسطين/إسرائيل في اللحظة الرَّاهنة، إنما هو دقيق على نحو مُرعبٍ في انعكاسه على الكيفية التي يُمكن للرِّوايات المُشيَّدة (أو المُركَّبة المصطنعة) أنْ تُهدِّئ مخاوف وبواعث قلق مِثلَ هذه التي حدَّدتها إذْ قلت “أعتقدُ، شخصياً، أنَّ جميع الهُوِيَّات القومية والعرقية (الإثنيَّة) مصطنعةٌ ومفبركة”. سؤالي هو: هل يُمكن للشعر أنْ يجلب السلام إلى الأرض المُقدَّسة؟
لانغفورد لا أتصوَّر أنَّ بإمكان الشِّعر، في حدِّ ذاته، أنْ يجلبَ السَّلام. إنَّه يستطيع أنْ يُؤدي دوره الفاعل كأرضٍ للحكمة والتسامح، كصوتٍ نقيضٍ لأولئك الذين يريدون، من كلا الجانبين، أنْ يُقلِّصوا كُلَّ شي إلى علامة مفردةٍ، وبُعدٍ مُبتسرٍ ووحيد: نحنُ وهم، أنا وأنت.
وظيفة الشاعر
ما النَّصيحة التي تودُّ تقديمها لشباب الشُّعراء الذين يشبُّون في فلسطين/إسرائيل، أو في تلك الأماكن من الشَّرق الأوسط التي يبدو أنَّ التَّصالحَ مع فكرة “الآخر” أمرٌ مُستحيلٌ، تقريباً، فيها؟
لانغفورد هذا سؤالٌ صعبٌ جداً، لأنني بعيدٌ بشوطٍ طويل عن تلك الأماكن وأوضاعها، وكلَّما كان المرءُ بعيداً، كانت تعليقاته خرقاء، أكثر سطحيةً عموميةً، وأقلَّ صقلاً.
وإنِّي لأعلم أنَّ العديدين منكم، ولا سيما في أماكن مثل سوريا والعراق، يمورُ بغضبٍ عظيم، ومخاوفَ ساحقة؛ ومن ذلك أنَّكم، أحياناً، لا تمتلكون من خيار إلا القتال من أجل أولئك الذين تحرصون عليهم، وتتعهدون رعايتهم؛ وأنَّه يُمكنُ دفعكم إلى زوايا ومآزق لا يبدو أنَّه يُوجدُ فيها أيٌّ من الخيارات. وربما لا يكون لدى الشعر من شيء ليقوله في مثل هذه الأحوال. غير أنني لا أعتقدُ، كذلك، أنَّه ليس ثمة من وجود لقضية أو سؤال أو مسألة على وجه الأرض لا يكون بمقدور البشر أنْ يجدوا حلاً سلمياً لها. وعلى نحو ما، فإنَّه لمن واجب الشَّاعر، ووظيفته، أنْ يأخذ في اعتباره، وأنْ يتذكَّر باستمرار، الإمكانيات الموجودة في ما وراء التبسيطات التي تدفعنا إليها الحرب، وأنْ يبثَّ هذه الإمكانيات في النَّاس، ليذكرّهم بها. وإنَّه لوقتٌ تصعبُ عليك الكتابةُ فيه إنْ أردتَ التشبُّث ببقائك صوتاً جاداً، مسؤولاً، وموثوقاً فيه. وقد مرَّ بنا، للتَّوِّ، قرنٌ من الكتّاب الذين قُتلوا لإقدامهم على قول أمور ليِّنةٍ أو قاسية، لائقةٍ أو مُحرجة، حينَ كان الأشخاصُ القابضون على السُّلطة -والنَّاسُ أنفسهم في بعض الأحيان- يريدون سماع الإجابات اليسيرة السَّهلة والمجادلات السطحية التي يبدو أنها تتيح إدارة كلَّ شيء والتَّحكم في كل أمر. وهم، بطبيعة الحال، لم يُقْدِمُوا على قول ذلك، أبداً، ولذا لا تُوجدُ لديَّ أيُّ أوهام بشأن مدى الصُّعوبة التي ستواجهونها لأداء مهمتكم. وكلُّ ما أستطيعُ فعله هو أنْ أتمنَّى لكم القوَّة والقدرة والثَّبات على الهدف.
معايير نجاح الشَّاعر
ما هي معاييرك للنَّجاح كشاعر؟
لانغفورد ثمة معايير عديدة: شعور المرء بشأن ما إذا كان قد كتب قصيدة مُحكمة البناء، أو بشأن ما إذا كان قد قال شيئاً يستحقُّ القول. وعقب ذلك، تأتي جميعُ المعايير الخارجية من مثل ما إذا كان المرءُ يستطيعُ تأسيس سياق إبداعيٍّ لنفسه كشاعر، وما إذا كان النَّاسُ قد صفّقوا له مُرحّبين، أو ما إذا كان قد فاز بإحدى جوائز الشِّعر. وثمة، أيضاً، إشادةُ النُّقاد، والتي هي تقريباً وبالتَّعريف، غير ثابتة (البحثُ عن معايير جديدة يجري بدأبٍ مُثابرٍ وبلا هوادة). ولعلَّ الشيء الوحيد ذي الشأن، هنا، إنما يتأتَّى مما إذا كان المستمع أو القُارئ يُكمل قوسَ لُغة القصيدة بالانخراط في رقصة تواصلية مُشتركة مع أشكال الجمال أو الهول التي تعرضها القصيدة وتبثُّها، وهذا أمرٌ لا يُمكن للشَّاعر أنْ يعرفه بتمامٍ ودقَّةٍ، أبداً.
ذي البُعدٍ الواحد؛ بُعْدِ الأنا، وهذا هو السَّبب في أنَّ كُلَّ ما تستطيع سماعه، في شعرهم، إنما يتعلَّق بعزلتهم الوحشية غير القابلة للشِّفاء.
كتب الشَّاعر ويستان هيو أودين WH Auden، في ثلاثينات القرن العشرين، واحدةً من أشهر القصائد الإنكليزية حول الطُّغاة، وهي القصيدة التَّالية: