فيصل لعيبي وريث خمس حضارات
حدثنا عن نفسك، وعن رؤيتك لتكوينك إنسانا وفنانا؟
لعيبي: من أنا؟.. سؤال صعب، لكني أفترض باعتباري عراقيا من بلاد ما بين النهرين، فإني وريث خمس حضارات مشرقة في التاريخ البشري، ونتاج تداخل ثقافات متنوعة وغنية، وسليل ألوف المبدعين الذين أنتجوا وعاشوا بين حنايا هذا الوادي الخصيب، منذ فجر التاريخ الذي بدأ في سومر وما قبلها حتى هذه اللحظة في عراق اليوم. وكذلك أفترض أن الثقافة الإنسانية جمعاء ومنذ تطورها الجاد من قبل الجميع هي ذخيرة هامة لنا جميعاً ويمكن الاستفادة منها، إذا أحسنا التعامل معها، ليس كتوابع للغير بل مساهمين فيها.
ولكن هل توافق على من يقول إن رؤيتكم أنتم ما عرف بجيل السبعينات لمهمة التشكيل العراقي ذات الجذور الاجتماعية مازالت هي هي ولم تتغير؟ وهي الفكرة التي تعتبر الفن التشكيلي ليس فقط أداة للتعبير وإنما أداة مازالت صالحة للتغيير؟
لعيبي: سؤال مهم وصحيح -وهنا أتحدث عن نفسي فقط- كوني من دعاة ربط التجربة الفنية العراقية المعاصرة بما أنتجه رواد الفن العراقي الحديث، أمثال فائق حسن، وجواد سليم، ومحمود صبري وغيرهم. حيث قدمت تجربة هؤلاء خلاصة ما وصل إليه الفكر الجمالي العراقي عملياً من خلال الفن التشكيلي. ومع الأسف تم قطع هذه الاستمرارية، أولا بموت جواد، ثم غياب البوصلة لدى أتباعه باستثناء النحّات محمد غني حكمت وإلى حدٍ ما نزيهة سليم، وطارق مظلوم، مع وجود ظلال واضحة لديّ، وإسماعيل الشيخلي، وخالد الرحال، وكاظم حيدر، وضياء العزاوي، ومن ثمّ فؤاد جهاد، وحسن عبد علوان، وغيرهم ممن انتبه إلى قيمة الإرث الفني في العراق وإلى تلك المنطلقات، وإلى جانب الفنان شاكر حسن آل سعيد الذي توقف بعد عودته من السعودية عام 1965 عن الحديث عن فن محلي واتجه إلى الفكر الديني التقليدي الذي ألغى التشخيص، وانغمر في التجريد والبحث عن الله من خلال الرسم اللاتشخيصي.
كانت تجربة الرواد قد واجهت تحدي مجموعة من الفنانين الشباب، أطلقوا على أنفسهم (جماعة المجددين)، حيث قطعت الاستمرارية من خلال تبني أفكار الحركات الفنية الغربية، التي لم تكن هنالك أسباب حقيقية لظهورها في بغداد الستينات. إذ تبنى هؤلاء الشباب مفترضين حداثة وهمية، أفكارا وحركات كانت قد انتهت في مواطنها الأصلية منذ عقود. فالتجريد تعود بداياته إلى العقد الثاني من القرن العشرين وكذلك الدادائية والسريالية التي تبلورت في العقد الثالث منه. وهم بذلك كمن يحاول تصدير نتاج فاقد الصلاحية في موطنه الأصلي إلى مواقع مختلفة ومتناقضة تماماً في جميع تعاملاتها المعرفية عنه.
كانت حسنة المجددين الوحيدة، هي تحدي سلطة الرواد ووصايتهم على الفنانين الشباب، حيث كان الفنان الشاب وقتها غير قادر على إقامة معرض خاص به دون موافقة أساتذته في معهد الفنون الجميلة والأكاديمية، ومع أن هذه الوصاية أو الإجازة، إذا جاز التعبير، كانت نافعة في السابق وخاصة في المرحلة الاحترافية، لكن المبالغة فيها عندنا قد وصلت حدها آنذاك.
وأصبح الموقف أقرب إلى العداء منه إلى التعاون والتنسيق، فالقطع أو التنكر لجهود الرواد فيما يتعلق بصياغة الفن المحلي ووضع أسسه الوطنية، قد أضرّ بمسيرة الفن عندنا وجعلنا نرتمي كلياً في أحضان التجارب الغربية بالذات دون مساهمة جادة أو إضافة حقيقية داخل هذه التجارب، ونظرة سريعة للإنتاج الفني تكشف لنا عن الهوّة والغربة أو الاغتراب الذي وجد فيه الفن في العالم الثالث والمنطقة العربية والعراقيّ نفسه.
لهذا فالعودة إلى الأصول ضرورية ومهمة وربط ما انقطع منها مجدداً نافع على المدى المستقبلي لحركة الفن في العراق. وما تزال تجارب الرواد غير مدروسة جيداً ولم تأخذ حقها من النقد الرصين وربما تم تجاهلها والتعالي عليها من قبل الأجيال التي جاءت بعدهم.
الفنان بريشته
فلا تزال عجينة اللون التي تركها لنا فائق غير مستوعبة من الأكثرية الذين يكتبون عن الفن عندنا ولا تزال بغداديات جواد وتشكيلاته الفذة ينظر لها كفولكلور وليس كاستمرار للواسطي والفن العراقي الأقدم. كما أهملت محاولات شاكر حسن الرصينة وأعمال محمود صبري الملتصقة بحياة المجتمع العراقي وشخوصه المأساوية دون دراسة نقدية تنطلق من النتاج ولا تتعكز على مفاهيم غربية ليست لها صلة به، فعيب النقد عندنا، إن وجد، هو اعتماد معايير ومفاهيم غير محلية للنظر إلى العمل الفني العراقي وكذلك محاسبة العمل المحلي وفق أسس ومفاهيم ليست لها علاقة بالنتاج الفني عندنا. باستثناء الكتابات التي عالجت أعمال جماعة بغداد والتي فرضتها مفاهيم الجماعة نفسه على كتابنا وجعلتهم يعالجون القضية من منطلق فهم الجماعة للعمل الفني.
وعوداً على السؤال، يأتي سؤال عن معنى التغيير نفسه، فهل المقصود هو موقفنا من الفن كرسالة وموقف وقضية تتواشج مع مشاكل المجتمع وكروح لهذا المجتمع وضمير، أم المقصود الأساليب والأشكال وتقنياتها ومن هو ذاك الذي تغيّر حقاً وكيف؟ هل التعكز على حركة الفن الغربي والذي يقدم في كل سنة أفكاراً تناقض ما قدمه في السنة التي قبلها والذي تتحكم به دور المزادات وأصحاب الغاليريهات وبورصة الفن في نيويورك ولندن وباريس هو المطلوب فيما يتعلق بمعنى التغيير؟
إن ما يسمى بالحداثة في أوروبا، قد أصبح خاضعاً لتقليعات ليست لها علاقة بالفن الجاد والبحث الحقيقي في معنى الفن، وهناك دراسات جادة حول هذه الإشكالية عندهم، والعديد من المفكرين الجماليين قد دقوا جرس الإنذار للتدهور الحاصل في هذا الجانب.
كما أن هناك حركات هي في الأساس ضد الفن (أنتي آرت) وأصبح بإمكان أيّ شخص أن يجلب قطعة حجر يجدها على قارعة الطريق ويرميها في صالة العرض دون أن يمسها، ويحسبها علينا عملاً فنياً وطليعياً أيضاً.
ولهذا سيأتي يوم يكشف لنا حجم الاستنساخ، والتقليد الأعمى، والتبعية الغريبة عندنا لفن أوروبا وأميركا، ويبدو فيه أمثال هؤلاء الفنانين كمروجين لبضاعة غريبة ليس لها صلة لا من قريب ولا من بعيد بما حصل عندنا من تطورات وأحداث، فقد مرت المنطقة بمثل هذه المرحلة في الفترة الهلينستية، أثناء غزوات الإسكندر المقدوني لها، إذ اتسم الفن بسمة الفن اليوناني وقتها ولم تنتج المنطقة ما هو مختلف، وظل نتاج تلك المرحلة كشكل مشوه للاستفادة من الغير واستنساخ لمفاهيم الجمال والتشكيل الفني الهلينستي المهيمن. ونظرة سريعة لما هو موجود في متاحفنا القديمة في بغداد ودمشق والقاهرة تعطينا فكرة كاملة عن فقدان الهوية وضياع الذات المبدعة في مجتمعاتنا آنذاك.
الفن لغة، وموقف مسؤول، وطريقة تعبير عمّا يجري داخل المجتمع -أي مجتمع- وقضية تتعلق بروح هذا الشعب أو ذاك، وانعكاس لكلّ ما تمّ من تراكم معرفي وخبرة بشرية وموقف جمالي وروحي له منذ ظهوره على مسرح الحياة وحتى اللحظة الراهنة. وعلى الفنان أن يعي هذا ويدافع عنه، وليس قضية شكلية لقتل أوقات الفراغ وساعات الضجر التي تنتاب الإنسان، أو لجلب انتباه الغير لبعض التقليعات سريعة الاختفاء، كما هو حاصل الآن في حركات الفن الغربي عموماً، مع أن هناك محاولات معتبرة من قبل فنانين وتجمعات فنية لإيقاف هذا التدهور.
إن مفهوم موت المبدع –المؤلف- كما هو الحال عند جماعة (تل كل) الفرنسية والبنيويين عموماً لم تعد ذات نفع. وتم تجاوزها بمفاهيم أخرى وهي تتعلق بمنجزات مرحلة معينة ضمن صيرورة الحراك المعرفي للغرب بالذات. ولم تعد قضية التأويل متعدد الأوجه للعمل الفني تعفي الفنان من مسؤوليته وما يريد قوله أو التعبير عنه في نتاجه الفني.
أما فكرة أن الفن أداة صالحة للتغيير، فيجيبك عليها نصب الحرية للخالد جواد سليم، حيث يتجمع تحته كل يوم جمعة الآلاف من المتظاهرين كرمز لغضبهم ورفضهم لما يجري في عراقنا هذه الأيام. وكذلك القصائد الحماسية بعيدة الغور في النفس البشرية والمسرح الجاد والأدب الإنساني الراقي، فانت لا تستطيع أن تكون نفس الشخص الذي دخل ليشاهد مسرحية (الأم الشجاعة) لبريشت في خروجك بعد انتهاء العرض وكذا الحال في زياراتك للمتاحف والعروض الفنية المختلفة، هل تنكر تأثير(السيمفونية الخامسة) لبيتهوفن على أحاسيسنا بعد سماعها كاملة، وهل ننسى نشيد (بلادي) لسيد درويش في عشرينات القرن الماضي ونشيد (الله أكبر) في معارك السويس عام 1956؟ طبعاً الفن أداة هامة وحاسمة للتغيير وهذا ما أؤمن به بقناعة تامة.
لوحة: فيصل لعيبي
وهل توافق من يقول إن قراءة تجربة غنية كتجربة فيصل لعيبي قد تعرضت لتشويه منشؤه الحب لها وقراءتها قراءة أحادية باعتبارها تسجيلا فوتوغرافيا لشخوص منقرضة في المجتمع العراقي كالمصور الشمسي، الحلاق المتجول، بائع العرقسوس، والأدوات القديمة كالكرامافون والسماور والتخوت الخشبية في المقاهي…؟ وما تعليقك على قراءتك قراءة شكلية جديدة تعنى بالإضافات الشكلية التشريحية والمنظورية التي قدمتها باعتبارها الإضافة الأهم التي ساهمت بها في الرسم العراقي؟
لعيبي: في الكتابات التي نقرأها عن العروض الفنية الكثير من المجاملات والإخوانيات، وكذلك الكثير من التجني والعدائية، وكما يقول المثل العراقي “حب واحكي، واكره واحكي”، وهذا لا يدخل في مجال النقد الفني الرصين، وإنما هو ضمن ما يسمى بالمتابعات العامة للنشاط الثقافي في البلد والتغطيات الشكلية للنشاط. والنقد عندنا عموماً لم يجد له بعد مدرسته الخاصة والتي تستوحي مفاهيمها من اللوحة العراقية بالذات، بل هو تطبيق لمفاهيم من مكان آخر على أعمال فنانينا. ولهذا نرى مثلاً أن من يتكلم عن خيول فائق حسن، يضع نصب عينيه أعمال الفنان الفرنسي الروماتيتكي دولاكروا ومن يكتب عن مناظر حافظ الدروبي يستحضر رسومات الانطباعيين الفرنسيين وكذا الحال مع جواد وربط بعض أعماله ببيكاسو اأو باول كلي وماتيس، رغم ما في هذه الأعمال من تأثيرات وتماه. وهذا شكل من الإسقاطات غير الواعية على أعمال مبدعينا ونوع من الاستسهال في فحص المنتوج الذي أمامنا وربما التعالي عليه.
لهذا أرى أن النقد الفني عندنا لا يزال في حاجة للتعميق والجدية والتأني في إطلاق الأحكام غير الموفقة على العموم والبعيدة عن الأثر الفني تماماً -الكلام هنا عن الأعمال الفنية الحقيقية- ولا تزال اللوحة العراقية تنتظر ناقدها المحلي والمختص بها والذي يملك أدواته ويحترم النقد كفعل إبداعي كذلك.
بالنسبة إلى المساهمات النقدية في تأويل أعمالي والتي ركزت على ما اسميته بــ(الوضع الأمثل) وكسر المنظور المركزي وتعدد زوايا النظر، أنا أُقِرّكَ عليها ولكن الفرق بينك وبين ما أحاول التعبير عنه هو أنك تريد تشييء اللوحة بمعزل عن مسببات وجودها ومقاصد الفنان أو عزلها عن وسطها الطبيعي -الحياة والمجتمع- وهذا المفهوم قد يفسر بعض الاتجاهات في الفن الغربي وله أسبابه التاريخية والفلسفية الخاصة بحركة الفن هناك وليس بالضرورة صالحة لنا أو علينا التعامل مع العمل الفني عندنا على أساسه، وفي النهاية لم تعد هذه المفاهيم متّبعة حتى هناك، لأن نهر الحياة يجري أسرع من المفاهيم وهو ما يعطيها حيويتها. أما اعتبارها مساهمتي المهمة -هل هي كذلك؟- فأنا أتركها للنقد والنقاد وعلماء الجمال ومؤرخي الفن عموماً.
اتهمت الدكتورة هناء مال الله وباستغراب الفنانين الذين مازالوا يرسمون كما كانوا يرسمون قبل احتلال العراق وكأن المتغيرات العاصفة التي حدثت لم تمس منهم أيّ متغير، هل توافق على ذلك؟ وهل يمكن للرسم أن ينشغل بالفولكلوريات القديمة والواقع العراقي على ما هو عليه الآن من الدمار الشامل؟
لعيبي: بالنسبة إلى ما ذكرته عن الدكتورة هناء مال الله، فهذا رأيها وهي حرة فيما تقول، ولا أريد أن أدخل في مناقشة حول مفهوم التغيير لأن هذا يدفعنا إلى طرح سؤال معنى التغيير كما ذكرت لك سابقاً.
وهل توافق من يقول إن قراءة تجربة غنية كتجربة فيصل لعيبي قد تعرضت لتشويه منشؤه الحب لها وقراءتها قراءة أحادية باعتبارها تسجيلا فوتوغرافيا لشخوص منقرضة في المجتمع العراقي كالمصور الشمسي، الحلاّق المتجول، بائع العرقسوس، والأدوات القديمة كالكرامافون والسماور والتخوت الخشبية في المقاهي…؟ وما تعليقك على قراءتك قراءة شكلية جديدة تعنى بالإضافات الشكلية التشريحية والمنظورية التي قدمتها باعتبارها الإضافة الأهم التي ساهمت بها في الرسم العراقي؟
لعيبي: يستطيع الفنان أن يعمل على أيّ مادة يريد الاستفادة منها، ليس هناك حدود تمنعه من ذلك، وهي مواد لا يزال الفنانون في كل العالم يستخدمونها في أعمالهم، وإلا كيف تنظر لما قام به باول كلي خلال وجوده في تونس وما أنتجه ماتيس في اهتماماته بفولكلور الفن المغاربي؟ وهناك جيش جرار من الفنانين الفطريين الذين لا يقلّون أهمية عن دافيد هوكني في تعاطيهم للوحدات الفنية الشعبية. وماذا تسمي تجريدات كاندنسكي التي تعتمد على الوحدات الشعبية الروسية وحركة (البوب آرت) الأميركية وموسيقى الجاز والروك والبلوز.
لوحة: فيصل لعيبي
فموضوع التشابيه في أيام عاشوراء وهو من الفولكلور العراقي المتميز، يمكن أن يعطينا مسرحاً ماساوياً لا يقل عن تراجيديات اليونان الشهيرة، فيما لو فهم كما ينبغي وهو مادة غنية للأعمال التشكيلية المختلفة أيضاً وقدم فيها الفنانون كاظم حيدر وضياء العزاوي وماهود أحمد أعمالاً هامة. فالمشكلة ليست في الفولكلور بل في طريقة تناوله من قبل من يحاول الاستفادة منه من الفنانين.
الجديد: لقد طرحت في تخطيطاتك إمكانية أن يكون التخطيط عملا مكتفيا وليس مشروع عمل قادم (سكيتش). هل تعتبر نفسك امتدادا في ذلك هنا لشاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي؟ أم أنك قد أسست لمديات هنا تخطيت فيها الآخرين؟
لعيبي: بالنسبة إلى تخطيطاتي، فهي حتماً امتداد لمن سبقني إليها وعلى رأس هؤلاء الفنان الخالد جواد سليم، والشيء المفرح في الأمر أن الفن التشكيلي العراقي يملك ذخيرة جيدة من الأعمال التخطيطية الهامة والتي تعتبر من عيون الفن العراقي، ولا يزال العديد من فنانينا الشباب مهتما بهذا الإرث المجيد. أما ما يتعلق بما قدمته شخصياً في هذا الجانب، فهو متروك أيضاً لمن يهتم بهذا الأمر من متابعي الحركة الفنية العراقية.
هل تعترف بأسباب للتوأمة الفنية بين تجربتك الفنية وتجربة عفيفة لعيبي؟ وهل تقر أنها تنطوي تحت ما يسمى الواقعية السوفيتـمكسيكية أو ما كان يصنفها البعض كواقعية اشتراكية؟
لعيبي: فيما يتعلق بالعلاقة بين ما أنتجه من أعمال وما تقدمه شقيقتي الفنانة عفيفة، فأكيد هناك أكثر من وشيجة وصلة، كوننا عشنا معاً وعالجنا مواضيع متشابهة وقريبة إلى روحيتنا العامة وتوجهاتنا الفكرية. وحول ما أسميته بالمرحلة السوفيتمكسيكية فهو تخريج خاص بك وأنت حر فيما ترى، لكني لا أميل إلى هذا المصطلح ولا أقرّه، رغم الاستفادة التي جنيتها من فناني هذين البلدين العظيمين.
ما هي فرص فن الرسم بالأدوات التقليدية للصمود أمام فن الدجتل؟ وهل للرسم بشكله التقليدي كلوحة تعلق على جدار فرصة غير متحفية للبقاء في عالم تطرح فيه المخترعات بشكل تصعب ملاحقته؟
لعيبي: حول اللوحة المسندية وتطورات الحركات الفنية في زمن التقنيات العالية، لا أدري ماذا أقول! لكني متأكد من أن السينما لم تلغ المسرح ولا التلفزيون قد ألغى السينما ولم تختف الصحف أو الكتب، لأن هناك واسطة أخرى يمكن أن تعوض عنهما. إن النظر إلى هذه الأمور بهذه الطريقة يعني عدم احترام الخبرة السابقة وتأثيراتها على السلوك البشري، فاللوحة المعلقة لن تنافس ما هو جديد ولا الجديد سيلغي ما هو نافع من مخلفات الماضي والنظرة بهذه الطريقة هي نظرة عدمية إلى التراث البشري كما حاولت (جماعة ألبرولتكولتشر) الروسية في بداية ثورة أكتوبر القيام به، أي إعدام آثار الماضي لأن الثورة تحتاج الى وسائل جديدة مختلفة عن التراث البرجوازي القائم آنذاك.
إن التقدم الهائل في صناعة النسيج والمكننة عالية التنظيم فيه لم يلغِيا صناعة النسيج اليدوي، الذي أخذ أبعادا أخرى وأصبح أكثر احتراماً وتقديراً لدى الأوساط الاجتماعية الأكثر تطوراً، لأن اليد البشرية تملك من السحر والحس العالي ما هو متفوق على أعقد آلة يمكن صنعها لإنجاز نفس السلعة، واللمسة الإنسانية لا يمكن أن نحسها في منتوجات الآلة مهما كانت دقيقة وعالية الجودة. والمفارقة أن اللوحات المعلقة في الغاليريهات والمراكز الثقافية في ازديار بينما ما تنتجه التقنيات الحديثة يتم استهلاكه بسرعة ويلقى في المزابل والمهملات بعد فترة من استخدامه.
إن اللوحة المعلقة هي نتاج معاناة طويلة وعميقة وتعتمد على خبرة سنين وتجربة نفسية وروحية لن تتكرر في لوحة أخرى، عكس العمل الفني الآلي المنتج من قبل جهاز حيادي ومبرمج بطريقة لا تحترم التجربة الآنية للذات البشرية أثناء العمل ويمكن تكراره ببساطة وبسرعة قياسية.
لكن قد تكون الآلة الحديثة عاملا مساعدا في اختصار الوقت والجهد، لكنها غير قادرة على أن تحلّ محلّ الإنسان قطعاً، ولا ننسى أن الآلة في النهاية هي من مخلوقات الإنسان نفسه وتأتمر بأمره.
أجري الحوار في البصرة