قتل الرقيب الذاتي جريمة الكاتب المباحة
ومما لا شك فيه أن الربيع العربي، قد زاد في اتساع فضاء الحرية الذي كان ضئيلاً قبل تلك الأحداث، وبغض النظر، هل هو فضاء حرية كاف، أو يمتلك شروط الحرية الحقيقية، إلا أنه يمكننا اعتباره إرهاصاً أول لتطور ملحوظ على صعيد الحريات، وخاصة حرية التعبير التي تعتبر أهم شروط الكتابة. لكن التبدّلات المتسارعة في المكون العام لذلك الربيع ولما أرادته الشعوب من فضاء حرية جديد، واختراق هذا الفعل الذي بدأ شعبيا، ونشوء منظمات إرهابية عديدة، حد من مستوى التعاطي مع هذا الفضاء الحر، بل تراجع إلى مستوى خطير.
لكن ذلك ليس السبب الوحيد في ترهل وتعرقل مُبتغيات الحرية، وأهما حرية التعبير الإبداعي، بل علينا التنبه إلى أن الوعي العربي في الأصل قد بني على ذلك النمط الأبوي الفردي الذي حدّ من امتلاك الفرد العربي حريته وحيويته في عيشه، ابتداء من مؤسسة البيت وأبويته الفردية، وانتهاء بالدولة كمؤسسة تدير شؤونه برؤية تضرب حول هذا الفرد شكوكاً بعدم استعداده ليكون وطنيا بمفهوم هجين عن الوطنية الحقة. ولهذا ولد إلى جانب الرقيب السياسي، والرقيب الديني، والرقيب الاجتماعي، شكل آخر أكثر خطورة من أشكال الرقابة الأخرى، يهدّد رغبة الكاتب وقدرته على التعبير الحر المنعتق، ألا وهو الرقيب الذاتي، الذي لا يمكن أن يكون إيجابيا إلا إذ جاء كنتيجة طبيعية لبيئة إيجابية، أسست على عناصر حرية حقيقية.
وقد تشكل هذا الرقيب من جملة من العناصر القمعية على مدار التاريخ العربي، الذي شهد كثيراً من مظاهر قمع الحريات بمختلف أشكالها، إلى أن أدّت تلك السلسة من الإجراءات إلى أن أخذ الإنسان العربي يتعامل مع هذا الرقيب الداخلي بسهولة خادعة، بل يشعر -موهوماً- أنه في حالة تصالح فريد معه، وأنه لا يشكل له أيّ عائق، وأن ما يقوم بمنعه رضوخاً لصوت ذلك الداخلي، ما هي حقاً إلا أشياء تستوجب المنع وعدم الخوض بها. إذ أراني هنا أشبه هذه الحالة بكل مستوياتها وتعقيداتها النفسية، بالعربي الذي كان الجندي في زمن “هولاكو” يخط حوله دائرة في التراب، ويخبره أنه عائد ليقتله، وهذا ما كان يحدث آنذاك، ويحدث الآن ولكن بشكل آخر.
وتتجلى خطورة الرقيب الذاتي في أن بعض الكتاب العرب لا يقعون في صراع مع رقيبهم هذا، وذلك يأتي من باب عدم ذهابهم في الأصل إلى الفكرة المغايرة والجريئة في قول المسكوت عنه، ولهذا يعهدون بكتاباتهم إلى مواضيع لا تثير إزعاجاً لأيّ شكل من أشكال السلطات المتعددة في حياتنا. أما الجزء الآخر منهم فيقعون عادة في صراع مع هذا الرقيب، ابتداء من تأمّل فكرة ما سيكتبون عنه، ومروراً بتجسيد الفكرة، وانتهاء بإطلاق كتبهم. هنالك منهم من حسم الصراع وتجاوز طروحات وأوامر هذا الرقيب، وتحمّلوا نتائج ذهابهم إلى حريتهم، فحظوا إمّا بالنفي، أو الاغتيال بشتّى أشكاله. والآخر منهم من اتخذ الحل الوسط والذي يرضي من جانب ما، ما يريده هذا الرقيب، ويرضى نزعتهم نحو الحرية من جانب آخر، غافلين بذلك عن أن نتائجهم الإبداعي هذا أصبح ككائن أعرج لن تستقيم خطاه، فلا هو بالذي صمت ولا هو بالذي امتلك جرأته وقال ما عليه أن يقال.
لهذه الأسباب سالفة الذكر، وأمام تنامي سلطة بعض المنظمات الإرهابية وصعود تيار تهديداتها، وقبالة بعض السلطات السياسية التي لا تقبل النقد المباشر، وتجذير السلطات الاجتماعية والدينية، فضّل كثير من الكتاب المكوث على مبعدة من الخطوط الحمر، واختيار إما المساحات المحايدة فيما يكتبون، أو المساحات الصامتة. وهذا بالطبع عائد للممارسات السلطوية الدموية من قبل بعض من امتلكوا تلك السلطة، وبات خوف أولئك الكتّاب على حياتهم أهمّ بكثير من فعل الكتابة الحر، والذي يفترض أن يكون ناقدا لاذعاً لا يرتهن لأيّ شكل من أشكال السلطة.
لذا لا مناص من القول من أن الكتابة -بما أنها أداة لتحرير وعي الجماهير، حتى لو انطلقت من الذاتي معتمدة إسقاطاتها على الموضوعي- فعل إنساني عليه أن لا يخضع لأيّ شكل من أشكال الرقابة. فكيف للكتابة أن تطرح أسئلتها الإنسانية قبالة الركون لأوامر الرقيب، ولا بد قبل الشروع في أيّ فعل كتابي من قتل الرقيب الداخلي، بوعي راديكالي يؤدي إلى إنهاء فكرة المواربة، والرمزية الوهمية، والتلميح عن بعد، بما يستوجب التطرق إليه، وهنا لا أدعو إلى كتابة مباشرة تفتقر للعناصر الفنية لأيّ أدب جيد، إنما أشير إلى حرية مباشرة، وليست مواربة. إن أنهى الكاتب قيد الرقيب الداخلي، سينهي حتما قيود أشكال الرقابة الأخرى. بخلاف ذلك ستبقى أفعالنا الكتابية محض خطوات عرجاء، في زمن على الخطوات فيه أن تستقيم، لتستقيم إنسانيتنا التي تختنق بفعل أدخنة الحروب، وصدى عويل القتلى، وكل مقاصل الطائفية، ونحر الإنسان للإنسان.