احتمال النفاق في التشكيل
شارك اثنان من فرنسا، ذلك لأنهم عدّوني كذلك بسبب جواز سفري الذي وفّر عليّ خلال ربع قرن كل المنغّصات التي يتعرّض لها حامل الجواز السوري (بما في ذلك الدخول في والخروج من.. سوريا!). ولكن سرعان ما أدرك الجميع أنني سوري متخفّ بلبوس فرنساوي.
من النافل ذكر تجاهلي للإسرائيلي والحقيقة أنه تجنّبني طوال العشرين يومًا. كان يبدي ما يشبه الذعر من مجرّد مروري بقربه، فينزاح. لم نتبادل كلمة واحدة طوال اللقاء، علمًا أنه ما كان يتكلّم سوى الروسية لأنه كان قد هاجر حديثًا من أوكرانيا إلى مجمّع النازيين الجدد.
قبلت الدعوة عالمًا أن الحجر الذي سنتعامل به هو الغرانيت، ولم يسبق لي معالجته، لكنني اعتدت الميل للتحدّيات وقلت لنفسي: تراقب قليلاً، تتعلّم وتحاول. وذلك ما كان. موضوع الملتقى كان طريفًا: صنع مقاعد للأماكن العامة.
أنجزت اثنين، أولهما أسميته "بلاد الرافدين" لأذكّر بجرائم المغول الجدد في العراق. أمّا الثاني، على عادتي عندما أجد موادًا ويتسنى لي الوقت فقد صنعته من فضلات الملتقى، ولم أضع له عنوانًا.
ولعلّ أحقر ما تعرّضت له في ذلك الملتقى حصل بعد أشهر، وجاء من طرف زوج النحّات السلوفاكي شديدة التديّن. حاولت هذه مرارًا (كانا يعرفان الروسية) أن تجمعني بالإسرائيلي الجديد. كنت أسعد بتجاهلها وإفهامها أنني أحتقر ما تسعى إليه وأنني أعتبره جهلاً منها بمجمل القضية، وأن على الجهلة أن يصمتوا.
انتقمت منّي (لشدّة تديّنها) بصورة تنبيء بمدى النذالة التي تقف عليها، إذ قامت باستخدام الفوتوشوب لتلصق صورتي بجانب الإسرائيلي على المقعد الذي نحته زوجها (في الصورة الأصلية كنت مع زوجها) وأرسلتها لي في أعياد الميلاد!
من لا يعرف الحقيقة قد يصدّق الزيف.
لكن كل هذا استرسال لتقديم ما يهمّني من هذا التذكّر.
كان الألماني الشاب (مقارب للأربعين) ممّن يمارسون ما يسمّى "مينيماليزم"، وكان يزهو باستخدامه التقنيات والأدوات الحديثة، وأنا لا أرى أي ضير في هذا.
أنجز، مثلي، عملين. الأول عبارة عن شقّ أفقي يدور حول صخرة طبيعية وذلك باستخدام القرص الماسيّ المعتاد. استخدم جهاز الليزر لرسم أفقية الخط، وهو جهاز متوفّر بكثرة في الأسواق. طبعه المتعالي كان يقول: تعلّموا أيها المتخلّفون!
(شكل تقريبي)
أما موضوع الحمق والنفاق فكان في عمله الثاني.
طلب قطعة غرانيت مستطيلة أبعادها حوالي 3 × 1,5 × 0,60 م. تقريبًا وطلب أن يقصّوا له (شقّ العمل الأول أنجزه عامل مختصّ وليس هو بنفسه! وفي العمل الثاني تكرّرت القصّة) مربّعًا أبعاده 80 × 80 × 30 سم. في زاوية منه بهدف إزاحة الكتلة المقتطعة لمسافة 1 سم. عن الكتلة الأمّ، بالشكل التقريبي المرفق:
⊇قصّ كهذا يتطلّب آلات القصّ بالليزر أو ما يعرف بضخّ الماء، والقصّ يتأتّى من حبيبات رملية دقيقة تدفعها المياه بشدة. وبكلا التقنيتين يمكن التحكّم بعمق القصّ.
جليّ أنه كان أكثر المشاركين إزعاجًا ومطالبة للمنظّمين، لكنهم رضخوا لنزواته بفلسفة الشرق الأقصى تلك.
نقلوا الكتلة إلى معمل مختصّ وسهى العمّال عن حشو فراغ القص قبل أن ينتهوا منه فكسر وزن الكتلة المقطوعة الزاوية الداخلية العميقة، تلك التي من المحال رؤيتها. فطار عقل "الفنان" الألماني وطالب بحجر آخر وتكرار العملية!
من الطبيعي أن أجواء الملتقى توتّرت، وحاول بعض المشاركين التلطيف مع احتقار ضمني ل "نحّات" يطالب أن يُعمل له ولا يعمل.
قلت له: لا عليك، حتى الهواء غير قادر على النفاذ إلى الزاوية المكسورة (الكسر لا يتجاوز السنتمتر الواحد!). رمقني شزرًا وأجاب: أنا لا أنافق في الفن!
لا أخفيكم أن جوابه أزعجني. تماسكت وقلت له: ما أردته من "فكرة" تصل إلى الناس بوضعه الحالي.. هذا إن كان في العمل "فكرة"! وإن كان نحتًا!
أن نتجاهل بعضنا في الأيام التالية كان منطقيًا.
الغريب أن التعبير الذي استخدمه "النفاق في الفن" استوقفني منذ أيام، أي بعد سنوات. وجدته تعبيرًا مرتجًّا صادرًا عن نفس غير قويمة، أو، في أحسن الحالات، نفس لم تتلمّس ماهية العمل الفنّي.
ذلك لأن حالة إبداع حقيقية لا يمكن أن تقارب حقارة كالنفاق. ثم أن من الحماقة البحث عن الكمال، فالمدرك بحق موقن بأن لا كمال في عمل إبداعي، أيًّا كان، وأن في ذلك ضمان ديمومته.
ما من لوحة أو منحوتة تحيط وتتملّك الكمال، بل هي دومًا تفاصيل لجهد ليس الكمال من غاياته.
ثم يتساءل المرء: ألا يتطلّب الكمال شيئًا من النقص ليصبح كاملاً؟!
أتذكّر هنا قولاً لفيلسوف قرطبة الرومانية سينيكا: "الرياح لا تساعد من لا يعرف وجهته". وهذا سبب كثرة الحمقى في التشكيل.. وفي كل المجالات.
أما النفاق ( لوفهمناه على أنه إدّعاء) فهو متوفّر بكثرة كذلك.
لذا أُمَرْمر حياتي يوميًا باحثًا عن الوجهة، ثم أعمل ما استطعت عسى الرياح تساعدني.
مدركًا بالطبع أن الرياح هي العمل.. وإن لم يقلها سينيكا.