طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
في باريس أثمرت جهود مشتركة لعدد من الباحثين السوريين ترجمة إلى الفرنسية لعمل فكري عربي لم يسبق أن نقل إلى أي لغة أوروبية رغم قيمته الأكيدة، ومكانته كحجر ركني في قلعة الفكر العربي الحر، ونعني به كتاب المفكر التنويري عبد الرحمن الكواكبي الذي اشتهر بالعنوان ذائع الصيت “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”. لقد ظل هذا الكتاب المشهور غريباً في المكتبة العربية نفسها، بفعل مناخات الخوف من الأفكار الصريحة المعادية لثقافة الاستبداد السائدة في العالم العربي، ومجهولا تماما من قبل قراء الثقافات الأخرى مادام لم ينقل إلى لغاتها.
يقدم الباحث السوري سلام الكواكبي كتاب جده المفكّر النهضوي عبد الرحمن الكواكبي (1902-1855)، “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” إضافة إلى مجموعة نصوص أخرى مختارة، والذي أشرف على اصداره باللغة الفرنسيّة الناشر السوري فاروق مردم بيك، بترجمة أنجزتها الصحفية والمترجمة السورية هالة قضماني، مطلع شهر يناير (كانون الأول) الماضي، عن دار آكت سود / سندباد في باريس، بالقول: “لقد عرف المتخصصون الفرنسيون في العلوم الاجتماعية أفكار الكواكبي من خلال اشتغالهم على النص العربي ممن كان منهم متخصصًا بالفكر الإسلامي، حيث أن أغلب الجادين منهم يُتقن اللغة العربية، أو عن طريق الدراسات العديدة التي كُتبت باللغات الفرنسيّة والانكليزية وعرضت لأهم أفكاره. في المقابل، افتقدت المكتبة الفرنسيّة لعمل كامل من كتاباته يُمكن أن يُعتبر مرجعيًا في دراسات لاحقة، أو أن يُساعد عموم القراء على التعرّف إلى حقبة فكرية غنيّة مرت سريعًا في مشرقنا المشوب اليوم بطغيان الظلامية أو الاستبداد أو كليهما معًا. ولقد وقع الاختيار على كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” كنص أساسي للترجمة، إضافة إلى نصوص قصيرة أخرى وجدناها مناسبة”.
مشيرًا إلى أن “هذا لا يعني في حال من الأحوال أن كتاب “أم القرى” أقل أهمية، ولكن بالنظر إلى واقع الاستبداد المتجدد في أيامنا هذه، رغم أن ما كتبه الكواكبي كان “صرخة في واد” منذ أكثر من قرن، فقد وجدنا من الضروري تقديمه بالفرنسيّة سعيًا لتُوضيح عمق وغنى الفكر الذي أنتجه، كما يُظهر تلاقحه مع الثقافات المتنوعة التي واجهت بكتاباتها الاستبداد والظلم”.
وعن أهمية صدور هذا الكتاب للقارئ الفرنسي في هذه الفترة الهامة والحساسة وخاصة بعد ما شهدته باريس من أحداث إرهابية. يوضح سلام الكواكبي أن “الفكرة التي تم تبنيها، من الناشر فاروق مردم بيك والمترجمة هالة قضماني، ظهرت إلى الوجود قبل هذه الأحداث. ولكن رب صدفة خير من ألف ميعاد. فصدور الكتاب يقع في مرحلة صعبة جدًا في تكوين الوعي الجمعي الفرنسي إثر الاعتداءات الإرهابية وإثر الاختلاطات المفاهيمية التي صاحبتها. كما أجد أن من الضروري أن يطلع القارئ الفرنسي، أو المتكلم بالفرنسيّة، على نصوص تأسيسية لم تأخذ حقها من الانتشار إلا في صفوف المتخصصين سابقًا كما أوردت. نصوصُ يمكن لها أن توضّح وجود فكر نهضوي وتنويري قبل نيفٍ ومائة عام، وأن تشدد على إمكانية إحيائه في أوساط عدة. وأخيرًا، أعتقد بأن وجود الكواكبي متاحًا بالفرنسيّة هو إضافة ثمينة وفي أفضل وقت لكي يقرأ كثيرٌ من المسلمين الناطقين بالفرنسيّة خطابًا تنويريًا نهضويًا في بحر ظلمات الكتابات الظلامية التحريضية المنتشرة بكثرة وبكل اللغات”.
ولدى سؤاله عن أهم ما أراد إيصاله إلى القارئ الفرنسي في المقدمة التي حررها لهذا الكتاب. يجيبنا: “لقد شرحت أهمية صدور هذه الترجمة، ولو متأخرة، في زمننا هذا المليء بالأحداث المرتبطة مباشرة بما احتوته كلماته. “السلطة الشمولية”، “الفصل بين الدين والدولة”، “إخضاع الشعوب”، “شروط تحرر المجتمعات المسلمة”، كما عناوين أخرى. وأشرت إلى أن القارئ سيُفاجئ بأن ما طرحه الكتاب من أفكار ومن أسئلة ومن توصيات، قد تم التفكير بها وكتابتها منذ فترة بعيدة وما زالت إلى يومنا هذا مطروحة في الساحة الإسلامية.
كما نوّهت إلى أن الكواكبي كان يتمنى بأن يتم نسيان نصوصه بعد فترة وجيزة متفائلًا بقدر الشعوب على استرجاع حريتها. ولكن صرخته القوية حينذاك ما زالت تقض مضاجع المستبدين بكل صنوفهم حتى يومنا هذا. ولم يخطر بباله بأن الاستبداد سيتجذّر مجترعًا طرائق وأساليب حديثة في سبيل ذلك. كما أشرت أيضًا في المقدمة إلى أنه العمل الفكري العربي الأول الذي حلّل ميكانيكيات الاستبداد وندّد بنتائجه المدمرة في كافة ميادين الحياة. وفي النهاية، لا تخلو المقدمة من الشخصي والعلاقة التي ما زالت تربطني بإرثه الأخلاقي والفكري”.
ليس من الغريب التنويه بهذه المناسبة إلى أن اسم الكواكبي عاد للتداول سياسيًا، بعد اقتصار ذكره على الجانب التاريخي والتراثي، عبر مجموعات شبابية سلمية للحوار في بداية ما سمي بربيع دمشق
وعن رأيه فيما إذا تأخرت قراءة الكواكبي باللغة الفرنسيّة كثيرًا؟ وماهي أسباب ذلك؟. قال: “كما سبق وذكرت، فإن الأوساط الفكرية الفرنسيّة تعرف عن الكواكبي ربما أكثر من بعض مسؤولي حقل الثقافة والفكر في بلداننا. وهنا تحضرني قصة واقعية جرت في مؤتمر دولي حيث قدّمني رئيس جامعة عربية صديق إلى وزير للثقافة في إحدى الدول العربية مُعرّفًا بصلتي بالكواكبي الجد، فما كان من الوزير إلا أن أكد بأنه قد سمع بالاسم في حقل الشعر أو الرواية.
في الأوساط العلمية والثقافية الغربية عمومًا والفرنسيّة خصوصًا، هناك اطلاع واسع على فكره من خلال عدة مصادر: فكما اسلفت، هناك مقاطع ترجمت، وهناك اطروحات علمية كتبت عن فكره، ومن أبرزها، رسالة “فرانسوا تابيرو” سنة 1952 تقريبًا والتي صدرت حينها في كتاب، حيث ورد فيها مقاطع عديدة وتحليلًا منهجيًا رفيعًا. ولا يكاد يخلو مرجع علمي تاريخي او سوسيولوجي أو سياسي يتطرّق للمنطقة العربية وتاريخ الأفكار من إشارة ولو مقتضبة إلى ما أضافه فكره.
ولكن يظل كل هذا متاحًا لنخبة من الباحثين والمتخصصين. أما نشر الكتاب كاملًا فهو يهدف أساسًا إلى الوصول بهذا الفكر إلى عامة الناطقين بالفرنسيّة. إضافة إلى أن النشر بالفرنسيّة سيُعرّف بالكواكبي وبفكر هذه الحقبة لدى الكثيرين في إفريقيا وكندا وغيرهم ممن ينطقون بالفرنسيّة إلى جانب الفرنسيين بتنوعاتهم كافة”.
سلام الكواكبي
الفكر الحقوقي الكوني
وتسأل “الجديد” سلام الكواكبي هل إن عودة الكواكبي بحلّة فرنسية من شأنها أن توقظ العالم لينتبه إلى أفعال الاستبداد الشنعاء التي باتت تتخذ لنفسها أشكالًا جديدة في منطقتنا العربية. فيجيب: لا يمكن لهذه الترجمة المتميزة أن تدّعي القيام بمثل هذه المهمة الجبّارة. وإنما هي مساهمة لتوضيح طبيعة الوعي المبكر بأنواع الاستبداد ومضارّه على البلاد والعباد في كل الدول عمومًا وفي سوريا خصوصًا. كما أنها تسلّط الضوء على دور المظلومين في منع أو استمرار الاستبداد السياسي أو المالي أو الديني.
ليس من الغريب التنويه بهذه المناسبة إلى أن اسم الكواكبي عاد للتداول سياسيًا، بعد اقتصار ذكره على الجانب التاريخي والتراثي، عبر مجموعات شبابية سلمية للحوار في بداية ما سمي بربيع دمشق في الألفية الثانية، كما أنه عاد من خلال مجموعات إعلامية سلمية أيضًا في بداية الحراك الاحتجاجي في سوريا.
يتابع الكواكبي الحفيد قائلًا: الفكر الواعي المتربّص بالاستبداد وبالتخاذل يبقى مطروحًا في عصرنا الحالي على الرغم من أن ما كتب في هذا الكتاب يعود إلى أكثر من قرن. إن التنوير والتمييز بين الأدوار السياسية والروحية ومفهوم الإصلاح القائم على التغيير الجذري لكل أسس ودعائم الاستبداد، وغيرها، ما زالت أسئلة مطروحة في الدول العربية. من المهم أن يطلع القارئ الفرنكوفوني على هذا الإرث الفكري التأسيسي بسبب انتقال الجدال حول الكثير من الأمور المرتبطة بظلامية الفكر الديني المشوّه إلى أوروبا عمومًا وإلى فرنسا خصوصًا مع الإرهاب الذي يُسيئ للمسلمين والإسلام قبل غيرهم.
ويعتقد سلام الكواكبي أن هذا الكتاب يساهم في التعريف بجانب واع ومتنور وإصلاحي وتقدمي من الفكر العربي والإسلامي. وبالتالي، فهو يمكن أن يرفد حجج أصحاب الميل إلى تلاقح الثقافات أمام من يسعى ويروج إلى صراعها. وبالنظر إلى الإنفتاح المبكر الواضح في النص على مفكري عصر النهضة والتنوير في أووربا، كما على الإصلاحيين في الإمبراطورية العثمانية، حيث يرد ذكر رموزهم في نص الكواكبي مرارًا، يُشكّل هذا النص دليلًا قاطعًا على دور الانفتاح والحوار والتبادل والتأثر والتأثير في بناء عالم أكثر وعيًا وقبولًا للآخر. كما تعتبر مساهمة النص في تحديد طبائع الاستبداد وتوضيح طرائق التخلص منه، كما في توضيح حقوق الناس وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ، هامة للغاية لرفد الفكر الحقوقي الكوني بمصادر غير عربية. وكما نعلم، تستند النصوص الحقوقية غالبًا إلى مصادر غربية عمومًا. مع هذه الاضافة الواسعة، صار بإمكان العاملين في مجال حقوق الإنسان أن يعتمدوا نصوصًا واضحة وصريحة لمفكرين غير غربيين. بعض المصابين بالرهاب من الإسلام يدّعون خلوّ التراث العربي والإسلامي من أية مرجعية حقوقية. هم الآن أمام نص صريح العداء للاستبداد والظلامية وللانتهاكات خطّه في بداية القرن العشرين مفكر سوري.
فاروق مردم بيك
في مواجهة مناخ “الإسلاموفوبيا“
“الجديد” التقت أيضًا بناشر الكتاب المثقف السوري فاروق مردم بيك (المقيم في فرنسا)، الذي قال إن هذا الكتاب لم يُترجم، على حدّ علمه، إلى أيّ لغة من اللغات الأوروبيّة، ولذلك فإنّي أعتزّ فعلًا بنشره في السلسلة ألتي أُشرف عليها في “دار أكت سود”. وقد تمّ إنجاز العمل بالتعاون المستمرّ مع المُترجمة هالة قضماني والباحث سلام الكواكبي، من أحفاد المؤلّف المتشبّعين بأفكاره، لا أستطيع الحكم بعد على كيفية تلقّي الجُمهور الفرنسي، فالكتاب في الأسواق منذ الأسبوع الأول لشهر يناير/ كانون الأول الماضي فقط، ولكنّي آمل أن يلقى صدىً واسعًا في الصحافة وإقبالًا في المكتبات. وستُنظّم عدّة لقاءات حوله في غضون الأشهر القادمة.
ويشير مردم بيك إلى أن الكتاب يضمّ، بالإضافة إلى نص ”طبائع الاستبداد”، بعض النصوص المُختارة من أعمال الكواكبي، منها فصل من كتابه الثاني المشهور “أمّ القرى”، يُعدّد فيه الأسباب الدينيّة والسياسيّة والأخلاقيّة لتردّي أحوال العالم الإسلامي.
ويوضح مردم بك أنّ اسم عبد الرحمن الكواكبي لم يغب لا في الدراسات الجامعيّة ولا في الحقل العام، وأنّ أعماله طُبعت أكثر من مرّة، ولكنّ قضيّته المركزيّة التي قُتل من أجلها، الإطاحة بالاستبداد وإقامة نظام دستوري تعدّدي، هي التي غُيّبت في العالم العربي بتضافر عدوّي الحرّية: الأنظمة القائمة والرجعيّة المتحكّمة بالدين بجميع أشكالها. كثيرون يتكلّمون عن الكواكبي، مدحًا أو ذمًّا، من دون أن يتعرّفوا إلى أفكاره على حقيقتها، وكثيرون يعرفونها ولكن يستخلصون منها ما تتضمّنه من نقد صارم لأوضاعنا الحاليّة.
وعن أهمية صدور هذا الكتاب لقراء الفرنسيّة في هذه الفترة الهامة والحساسة وخاصة بعد ما شهدته باريس من أحداث إرهابية، وما هو أهم ما أراد الناشر إيصاله للقارئ الفرنسي في هذا الإصدار؟ يقول: أردتُ من نشر الكتاب أولًا أن أُعرّف القارئ الفرنسي، في ظل مناخ “الإسلاموفوبيا” السائد، بمُفكّرٍ عربيّ مسلم من أواخر القرن التاسع عشر حمل بشدّة على جميع أنماط الاستبداد، ودافع بحماسة عن الفصل بين السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة، وكذلك عن الفصل بين السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، وبيّن أنّ انحطاط الأمم سببه استبداد الحاكمين، وبالأخص استئثار شخصٍ واحد بالسلطة المُطلقة. والمُهمّ في هذا الصدد أنّ الكواكبي دعم أفكاره التحرّريّة، المُتقدّمة جدًّا في عصره، بمرجعيّة إسلاميّة تستند إلى مقاصد الشريعة، وتتناقض مع ما كان وما زال، رجال الدين والدعاة الرجعيّون يُقنعون به الناس على أنّه الإسلام الصحيح.
الغرض الثاني من نشر الكتاب في هذا الوقت هو مواكبة الثورة السوريّة على الاستبداد، وثمّة فقرات يُمكن أن تؤخذ كما هي لتوصيف النظام السوري في علاقته مع الشعب، وفي بنيته الداخليّة، والإسراف في تمجيد المستبدّ، ونهب الثروات العامة، إلخ.
ويرى الناشر مردم بيك، أنّ الترجمة عن اللغة العربيّة متأخّرة جدًا، ليس إلى الفرنسيّة فقط بل إلى جميع اللغات. وأنّ نسبة الكتب المُترجمة إلى الفرنسيّة لا تتجاوز واحد في المائة من مجموع الكتب المُترجمة إليها، وما يُترجم إلى الإنكليزية والإسبانيّة والإيطاليّة والألمانيّة أقلّ من هذه النسبة، وقد لا يتجاوز النصف. وأغلب ما يُترجم في دور النشر الكبيرة التي تبذل جهدًا في تسويق الكتاب روايات مُعاصرة وقلّما تجد في قوائم الناشرين أعمالًا من التراث، أو حتّى من الإنتاج العربي قبل الحرب العالميّة الثانية. والسبب اقتصادي قبل كلّ شيء، وليس سياسيًّا أو أيديولوجيًّا، لأنّ هذه الدور مؤسّسات ربحيّة، تنشر ما يطلبه الجمهور، أو ما تعتقد أنّه أقرب إلى مزاج الجُمهور.
ما تُرجم حتّى الآن إلى الفرنسيّة وغيرها من اللغات الأوروبيّة من عصر النهضة لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة: كتاب واحد لكلّ من الطهطاوي والأفغاني ومحمّد عبده وفارس الشدياق.
هالة قضماني
رسالة عقلانية وفكر متنور
من جهتها، تقدم مترجمة الكتاب هالة قضماني كتاب الكواكبي بالقول: منذ الإعلان عن صدور الترجمة الكاملة الأولى بلغة أوروبية لهذا الكتاب المرجعي بدت المفارقة الملفتة للنظر في ردود الأفعال بين مفاجأة العرب الذين اكتشفوا واستغربوا أنه لم يسبق ترجمة هذا العمل الأساسي من قبل، بينما بدا عند الفرنسيين، بمن فيهم كثير من المثقفين، الجهل الكامل بشخصية عبد الرحمن الكواكبي وعصره وفكره وكتاباته.
ويشير هذا التباين في نظري، إلى غياب أساسي في التواصل والتفاهم حتى بين المثقفين المنفتحين من الطرفين على الثقافتين الفرنسيّة والعربية أو الغربية والإسلامية. فحين يستغرب العرب عدم توفر مثل هذا الكتاب بلغة متاحة للقراء في الغرب يعني أنهم لم يتساءلوا من قبل عن الأمر ولم يهتموا بمعرفة إن كان ما يحتويه من فكر نهضوي وعصري إسلامي قد وصل إلى الغرب. وحين يفاجأ الفرنسيون والغربيون الآن بوجود مثل هذا الفكر والتعبير العربي والإسلامي المتنور منذ أكثر من قرن فيعني أنهم يعتقدون بأن العرب والإسلام لم ينضجوا وينتجوا بعد فكراً متنوراً وعصرياً. فكر الكواكبي مثال معاكس. وفي كل الأحوال ما يأتي متأخرًا أفضل مما لا يأتي أبدًا” – كما يقول المثل الفرنسي- وهذه الترجمة لمؤلف الكواكبي تعوض تقصيرًا تاريخيًا وسد ثغرة في المعرفة.
وتضيف: لقد جاءت فكرة ترجمة ونشر الكتاب نتيجة خطوة عفوية صغيرة أولًا. فكان سلام الكواكبي ينشر في بدايات الثورات العربية والثورة السورية تحديدًا على صفحته على “فيسبوك” بين حين وآخر مقطعًا أو بضعة أسطر من “طبائع الاستبداد” ملائمة تمامًا لما كان يحدث. فكان يبدو أحيانًا المقطع في وصفه الاستبداد وكأنه كتب اليوم. وفي أحد أيام عام 2012 أدهشني أحد المقاطع الذي نشره سلام على صفحته إذ كان ملائمًا تمامًا للأحداث في سوريا ورأيت من الضروري أن يطلع الأصدقاء الفرنسيين على الكلام فقمت بترجمة المقطع من حوالي عشرة سطور إلى الفرنسيّة ونشرته على صفحتي بـ”الفيسبوك”. وحينها بادر سلام بإرسال المقطع المترجم للصديق فاروق مردم بيك وفورًا فرضت ضرورة ترجمة ونشر الكتاب كاملًا نفسها على الجميع. فسألني الصديقان فاروق وسلام إن كنت مستعدة لترجمة العمل الكامل وأعتبرت أن هذا شرف لي بالرغم من شعوري بالخوف من المسؤولية. وطلبت مهلة قصيرة لقراءة “طبائع الاستبداد” مجددًا بقصد التمعن في كيف يمكن أن يصاغ باللغة الفرنسيّة، لأرى إن كانت لدي الكفاءة اللازمة والكافية لترجمته.
شجعتني القراءة أكثر فأكثر فقد ادركت كم من الضروري أن يتاح هذا المحتوى للقارئ باللغة الفرنسيّة خاصة في ظل الظروف والأحداث التي كنا نعيشها يوميًا في ظل الثورات العربية من مصارع ضد أشكال متعددة من الاستبداد السياسي والديني والفكري والاجتماعي والتي ما زلنا نعيشها اليوم.
هذا الكتاب يساهم في التعريف بجانب واع ومتنور وإصلاحي وتقدمي من الفكر العربي والإسلامي. وبالتالي، فهو يمكن أن يرفد حجج أصحاب الميل إلى تلاقح الثقافات أمام من يسعى ويروج إلى صراعها
لم يغب عن ذهني لحظة خلال ترجمة الكتاب أهميته في وصف شنائع الاستبداد بالربط مع الثورة السورية وما تحولت إليه من صراعات معقدة. ولكن لا أعتقد مع الأسف أن كتاب الكواكبي سيساهم في ايقاظ أو تنبيه العالم حول فظائع الوضع في سوريا أكثر من الأخبار والمعلومات والصور الرهيبة والمتاحة للجميع. فالعالم اليوم لا ينقصه ما يتنبه إليه حول أشكال الدمار والاستبداد وإنما ما يمكن أن يقوم به لوقف هذه الأعمال. وهنا أرى أن كلام الكواكبي الأهم هو ما يتقدم به في الفصل الأخير من كتابه “الاستبداد والتخلص منه”. فدعوته ومخاطبته المباشرة للناس بضرورة مواجهة الاستبداد وكيفية التعامل معه والعمل للخلاص منه هو ما ينبه كل “أسير” للاستبداد كما يسميه الكواكبي وكل من يريد دعمه للمبادرة في الخروج من السلبية التي هلكت الجميع من مسؤولين في العالم ومن مواطنين.
وتبين قضماني أن القيمة الاستثنائية لكتاب الكواكبي هي فائدته وعبرته وإمكانية الإستفادة منه في كل الظروف والأحداث المعاصرة والساخنة وفي كل مكان فهو يأتي دائمًا في وقت مناسب.
أما بالنسبة للقارئ الفرنسي تحديدًا اليوم بعد أحداث باريس المرعبة وغيرها من أعمال الإرهاب المرتبطة بالإسلام، فنرى أن هناك اهتمامًا وفضولًا متزايدين لدى العديد من الفرنسيين لمحاولة الاطلاع وفهم كل ما هو مرتبط بالعالم الإسلامي والعربي وبتاريخه وتفكيره. فيأتي نص الكواكبي المتاح باللغة الفرنسيّة ليفتح أعين القراء المهتمين، وبأنه كان للإسلام في عصر آخر ليس بعيد فكر متنور ولغة مميزة ورسالة عقلانية لا علاقة لها بما يشاهده يوميًا من انغلاق وعنف وجهل وجنون.
أتمنى أن يصل هذا الكتاب إلى أوسع ما يمكن من الجمهور الفرنسي، أو على الأقل أن يسمع عنه معظم الفرنسيين، بمن فيهم الأكثر انغلاقًا وجهلًا ورفضًا وتطرفًا تجاه كل العرب والمسلمين في ظل تصاعد التطرف العنصري كي تتخلخل أفكارهم ومواقفهم الشمولية والمستبدة بشكل ما. وأفكر بشكل خاص ببعض المثقفين الفرنسيين الجدد والمنتشرين في وسائل الإعلام الفرنسيّة اليوم، الذين يدعمون الأفكار العنصرية المتطرفة بحجج وخطابات تركز على شيطنة كل الفكر والمعتقدات، بل الشعوب والأفراد المنتمين إلى العرب والإسلام.
كما يهمني بشكل خاص قراء الفرنسيّة من العرب والمسلمين وأذكر تحديداً القراء في المغرب العربي الذين يعرفون الكواكبي بالإسم والسمعة، ولكن لم يتح لهم أو لم يستطيعوا قراءة “طبائع الاستبداد” باللغة العربية.
وأما عن أسباب تأخير قراءة الكواكبي باللغات الأجنبية، فتقول المترجمة: أعتقد أن الفرصة أو الصدفة أو الإرادة لم تتوفر من قبل لدى الناشرين أو المترجمين. ولا شك أنه كان هناك تقصير خاصة من طرف المثقفين العرب في فرنسا والمستشرقين الفرنسيين القلائل الذين عرفوا عمل الكواكبي وقرأوه باللغة العربية، ولكن دون أن يبادر أحد منهم باقتراح ترجمته. ويأتي هذا التقصير أيضاً في رأيي الشخصي من ظاهرة كثيراً ما ألوم عليها المثقفين العرب والفرنسيين المستعربين والخبراء بالشؤون العربية، وهي العقلية النخبوية، وعدم اهتمامهم بالجمهور الواسع لمشاركته بما يعرفونه. وربما يأتي اهتمامي بهذا الرأي العام العريض من كوني صحفية وأهتم بنقل وشرح الواقع العربي للقراء الفرنسيين.
وتنطبق هذه الملاحظة أيضًا على تأخير صدور ترجمات لكتاب الكواكبي إلى اللغات الأوروبية الأخرى، فلم يتم، حتى الآن، على حد علمي ترجمة “طبائع الاستبداد” إلى الانكليزية. والأمل أن تشجع الترجمة الفرنسيّة بعض الناشرين باللغات الأخرى.
الكتاب يعد أحد عوامل النهضة في تاريخ العرب الحديث
صرخة فيلسوف مؤمن
يعد العلامة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي من ممثلي التيار والاتجاه الإسلامي التنويري والطليعة المثقفة الواعية، التي سعت إلى تلمس وتشخيص الداء في العطب الاجتماعي، واصطدمت أفكارها التجديدية ومعارفها العلمية وتطلعاتها الثورية نحو الحرية والديمقراطية بميراث الأمية والتخلف والاستبداد.
كان الكواكبي محاميًا وكاتبًا وصاحب علم شرعي، وقد ضمّن كتبه تحليلًا دقيقًا وعميقًا للأمراض والأوبئة السياسية والاجتماعية، وشن حملات شديدة وعنيفة على السلطة العثمانية القمعية، ودعا إلى الحرية السياسية واحترام النهج العقلاني في التفكير، وإلى الكفاح السياسي المنظم ضد السيطرة الاستبدادية التركية والاستعمارية الغربية، ولقد كان شعور الكواكبي بالظلم ورهافة إحساسه بالحرية وعشقه لها، الدافع الأول لمواقفه وآرائه التي جعلته يصارع طغيان العثمانيين، رغم ما قاساه من آلام الغربة والهجرة، ووحشة السجن وعذاب الاضطهاد، كما كان له إلى جانب ذلك تأييد الناس ومساندتهم لجهوده وجهاده.
نشر عبد الحمن الكواكبي كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” تحت اسم الرحالة ك، متسترا في البداية على نفسه خوفا من ظلم العثمانيين. وقد قام بدراسة وتحقيق النسخة التي بين أيدينا الباحث الأكاديمي محمد جمال الطحان، (مدير مركز أبحاث الوعد السوري)، ومحقّق الأعمال الكاملة للكواكبي. وهو صادر في طبعته السابعة في 2016، عن “دار صفحات للدراسات والنشر”، ويقع في (224 صفحة) من القطع المتوسط.
ويعد الكتاب أحد عوامل النهضة في تاريخ العرب الحديث ومرشدهم إلى التخلص من استبداد السلاطين العثمانيين. والجميل فيه أنّ مضامينه لا تصدر عن حقد، ولا تدعو إلى انتقام، وغير موجهة إلى حاكم بعينه، أو دولة محددة. إنه صرخة فيلسوف مؤمن، عالم متألم، يكشف أخطر داء يمكن أن يصيب شعبًا من الشعوب، ويصف له الدواء الشافي محاولًا عدم بتر أي عضو من أعضاء الجسم، وهو إلى يومنا هذا بمثابة شاهد عيان يتكلم عن وقائع وأحداث معاصرة.
يعالج الكواكبي موضوع الاستبداد، مستعرضًا طبائعه وما ينطوي عليه من سلبيات تؤدي إلى خوف المستبد وإلى استيلاء الجبن على رغبته إلى جانب انعكاسات الاستبداد على جميع مناحي الحياة الإنسانية بما فيها الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والترقي والتربية والعمران ومن خلال التساؤلات يشرح من هم أعوان المستبد وهل يمكن أن يتحمل الإنسان ذلك الاستبداد وبالتالي كيف يكون الخلاص منه وما هو البديل عنه.
بشرى سارة
صدور الكتاب باللغة الفرنسيّة، كما يرى طحان يكسر شوكة الأسى الذي نعانيه مما يحدث في العالم من قتل وتخريب وتهجير وتفجير واعتقال، فلعلّ عودة الكواكبي بحلّة فرنسية تساهم في يقظة المثقفين الفرنسيين لينتبهوا إلى أفعال الاستبداد الشنعاء التي باتت تتخذ لنفسها أشكالًا جديدة من تعميم القهر، وتغلغله عبر بلاد المشرق العربي. فهو من جهة يدقّ ناقوس الخطر، ومن جهة أخرى يقدم البرهان على أن الفكر العربي الحديث لم يكن بليدا ولا متخلفا عن ركب الفكر العالمي، ففي القرن قبل الماضي، وفي ظروف القهر والجهل والجوع، وتحت سياط الاستبداد، ومع غياب وسائل الاتّصال السريع، أبدع الكواكبي صحيفتيه “الشهباء” و”الاعتدال” بتمويل ذاتيّ وجهد فرديّ، حيث كان الكاتب والطابع والموزّع. كما ألّف “أم القرى” بشكل روائي جعل كثيرًا من الباحثين يظنوّن أنّه سجلّ لوقائع حقيقية. ووضع “طبائع الاستبداد” مبيّنًا علاقاته المختلفة، وفاضحًا الفجائعية التي يضفيها على العالم.
كم واحدًا منّا_ نحن المعاصرين_ يستطيع أن يحرّك الفكر من حوله بمقدار ما حرّكه الكواكبي؟. وهل نحن عاجزون، في ظل الاستقلال والتقنيّة الحديثة، عن إنجاز ما فعله أجدادنا، ولماذا؟ أتراها الهجمة المستعِرة على الاستهلاك، أم هو الاستبداد الذي يطبق على أفكارنا بحيث نعجز عمّا استطاعه مفكّرو القرن الماضي، بالرغم من ظروفهم العصيبة.
الكواكبي واحد من أجدادنا الأفذاذ-يتابع طحان- الذين حاولوا النهوض بالواقع إيمانًا منهم بمسؤوليّة العلماء في توعية الناس ليقدروا على المطالبة بحقوقهم بعد أن يدركوا أنّهم بشر وهم أحرار في صنع مـصائرهم.
وعلى الرغم من أن الكواكبي واحد من القلائل الذين تُذكر أسماؤهم في الكتب المدرسيّة، نكاد لا نعثر إلاّ على عدد ضئيل ممن يعرفون إسهاماته في محاولة تحقيق النهضة العربية تحت لواء علم عربي واحد، لا يتعارض وجوده مع رابطة تضمّ الشعوب الإسلاميّة، ولا يتنافى ودخول العرب في تحالفات مختلفة مع الآخرين. وكثير منهم لا يعرفون صيحاته التي تندد بالاستبداد، وتدعو إلى تحرير العقول من الجمود، وتطالب بضرورة الاجتهاد في الإسلام الذي وُجد من أجل سعادة الإنسان.
ذلك كلّه يمنح هذه الترجمة ، مشروعيتها، عسى أن ينتفع بها الباحثون ، ويتعرّف القرّاء في العالم _ من خلالها_ إلى واحد من أهم المفكرين المتنوّرين.