عولمة الثقافة ثقافة التصنيع
هذه الأطروحات وغيرها شغلت عددا كبيرا من المفكرين وعلماء الاجتماع وبخاصة، رواد مدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع الذين وضعوا صياغة نظرية نقدية تقوم على الفهم الجدلي للعلاقة بين النظرية والممارسة، من خلال الفهم الذاتي، الذي لا يصف الصيرورات الاجتماعية والاقتصادية للحاضر فحسب، بل وإدراك قوتها الحقيقية المتحولة وتأثيراتها في الصراعات والتحولات الرئيسية في العصر الحديث. وكان على رأس هؤلاء المفكران ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو، اللذان وجها نقدهما الجذري، ليس إلى الواقع الاجتماعي فحسب، بل إلى عملية التغبية التي تعوق تقدمه. ولكي يكون المجتمع قويما لا يكفي التنظير، وإنما ربط النظرية بالممارسة العملية ربطا جدليا محكما، وأن تكمل عقلانية الوسائل، عقلانية الأهداف التي تتيح للإنسان الكشف عن إمكاناته اللامحدودة وتقديم الحلول الممكنة التي تساعده على تكوين وجود عقلاني حقيقي منوّر.
وقبل أكثر من نصف قرن انتقد هوركهايمر وأدورنو الثقافة السائدة في المجتمع الصناعي في كتابهما المشترك “جدل التنوير” (1947) موضحان فيه خصوصيته، من خلال ما تفرزه التكنولوجيا المتقدمة من آثار: فإذا كان العلم قوة لها سلطة لا تعرف الحدود، فإن التكنولوجيا هي جوهر هذا العلم، وبذلك تصبح السلطة والتكنولوجيا مترادفتين، حيث يظهر التسلط في المشاركة الجبرية للملايين في عملية الإنتاج والاستهلاك وإعادة الإنتاج والاستهلاك. ومع أن مستوى الإنتاج ينبع أصلا من حاجات المستهلكين، غير أننا نجدهم مضطرين دوما للموافقة على ذلك ومن دون مقاومة. وهذا الواقع هو في الحقيقة دورة من الخداع ورد فعل للحاجات الاستهلاكية اللانهائية التي تجعل النظام الاقتصادي أكثر قوة وتماسكا.
تصنيع الثقافة
إن صياغة أدورنو لمفهوم “الثقافة المصنعة ” أعطتها بعدا أيديولوجيا شموليا بيّن بوضوح قوتها وسيطرتها وآثارها التي تظهر في المشاركة الجبرية للملايين في عملية الإنتاج والاستهلاك وموافقتهم عليها دون مقاومة.
تاريخيا، لم تكن الثقافة يوما ما بضاعة أو إنتاجا صناعيا واسعا كما هي اليوم. فمنذ القديم وحتى منتصف القرن الماضي بقيت الثقافة بناء فوقيا حتى في عصر التنوير واتخذت محتوى ارتبط بالبنية الفوقية وأنتجت تاريخا وأدبا وفنونا، ولكن منذ الحرب العالمية الثانية اندمجت التكنولوجيا بالثقافة، عن طريق الإنتاج الآلي الواسع وإعادة الإنتاج والاستهلاك، وأصبحتا واحدة لا يمكن التمييز بينهما.
إن عولمة الثقافة عن طريق النزعة الاستهلاكية ووسائل الاتصال والإعلام وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات جعلت من الصعب التمييز بين الإنتاج الصناعي ومحتواه الثقافي وحوّلته إلى بضاعة.
لقد تحوّل الإنتاج الثقافي والفني إلى آلية مستوعبة للمجتمع الصناعي وفكره التخديري الذي يتمثل بثقافة شعبية جماهيرية تشبع حاجات جماعية ولكنها تتحول إلى وسيلة هيمنة وتسلط وذلك بسبب تطور التكنولوجيا تطوراً لاعقلانياً وسيطرتها غير المباشرة على الناس.
الثقافة المصنعة تُنتجُ اليوم بمصانع تبيع سلعاً ثقافية مغرية تهدف إلى التلاعب بأفراد المجتمع وجعلهم سلبيين وعاجزين عن طريق استهلاك المتع السريعة التي تبثها وسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي تمتلخ الأفراد من واقعهم وتجعلهم يركضون لاهثين وراء بضائع المدنية البراقة بغض النظر عن ظروفهم المعيشية وحاجتهم إليها. والخطورة التي تسببها تكمن في السلع الثقافية التي تخلق حاجات نفسية لا يمكن إشباعها إلاّ من خلال المنتجات الصناعية.
في المجتمع الصناعي تحوّلت الثقافة اليوم إلى بضاعة واتخذت معنيين، الأول له محتوى واضح ينتج وباستمرار تواريخ وآدابا وصورا وموسيقى من أجل عرضها للبيع في السوق. أما الثاني فيتمثل في الإنتاج الآلي الواسع وإعادة الإنتاج والتوزيع بطريقة تكنولوجية بحيث أخذت التكنولوجيا تندمج بالثقافة بالتدريج حتى أصبح تأثيرها واضحا وأخذت تنتج أفلاما وأجهزة استنساخ وتسجيل أغان وألحان وتكبس كاسيتات ودسكات وغيرها. وهذا يعني أن محتويات الثقافة اُنتجت بوسائل تكنولوجية وأعيد إنتاجها وتوزيعها بنفس الطريقة.
سوسيولوجيا، يعود خضوع الثقافة إلى التكنولوجيا إلى تنامي قطاع وسائل الاتصال والإعلام التي أخذت تنتج بضائع تفرض نفسها اليوم بسبب محتواها الثقافي. كما تظهر الأجهزة الإلكترونية والأدوات واللوازم التي ترتبط بالكومبيوتر والإنترنت والإعلام الرقمي وغيرها التي تحتوي على معلومات وأخبار وصور وألعاب ورموز، وكذلك ما تقوم به شركات الدعاية والاعلام وأكاديميات الفنون الجميلة ومدارس الديكور والموضة وغيرها. لقد تحولت الثقافة اليوم إلى شيء نستخدمه ونستهلكه ونعيد إنتاجه، ولم يعد هناك نقد حضاري وثقافي ولا نقد سياسي كما كان سابقا، وبخاصة بعد أن تحوّل نقد الثقافة والفن والسياسة إلى نقد إعلامي. كما انهارت فئة المثقفين التي تعيش على أكتاف الثقافة المصنعة التي أصبحت شكلا من أشكال الإنتاج المستقبلي لعصر ما بعد الحداثة.
تحوّل الإنتاج الثقافي والفني إلى آلية مستوعبة للمجتمع الصناعي وفكره التخديري الذي يتمثل بثقافة شعبية جماهيرية تشبع حاجات جماعية ولكنها تتحول إلى وسيلة هيمنة وتسلط وذلك بسبب تطور التكنولوجيا تطوراً لاعقلانياً
في عصر الثقافة المصنعة أصبحت تقنيات الكومبيوتر تدمج التسلية بوسائل الاتصال الإلكترونية والتكنولوجيا بالثقافة، بحيث تصبح شيئا واحدا ولا يمكن التمييز بين واحد وآخر. في النصف الأول من القرن الماضي كان الإنتاج التلفزيوني الأميركي واسع الانتشار يتبع المحتوى. وكان المنتجون يملكون الأستوديوهات التي تنتج البرامج ويتم توزيعها إلى جميع أنحاء العالم بواسطة محطات الإرسال وعبر الأثير، أما اليوم فكل شيء يتم على عكس ذلك. موغلن وتيد تورنر مطمئنان من تأثيرهما على شبكات الكيبل ويستطيعان توجيه CNN وESPN بشكل جيد. في بريطانيا أسّس روبرت مردوخ، أحد بارونات الإعلام، شبكة اتصالات BSKYB ترتبط بالفضائيات وأصبحت احتكارا له منذ بداية التسعينات بعد أن اشترت حقوق ملكية كاملة للنقل المباشر لمباريات الفريق الإنكليزي الأول لكرة القدم، وسرعان ما حصلت على أرباح تصاعدية بعد أن اشترك فيها حوالي خمسة وعشرين بالمئة من البريطانيين ووصلت مدفوعاتها السنوية إلى أكثر من مليار جنيه إسترليني. ومثل مردوخ يسيطر سليفيو بيرلسكوني على شبكات التلفزيون في إيطاليا وكذلك راندولف هيرست صاحب سلسلة الصحف والمجلات والدوريات الملوّنة.
وهناك احتكار آخر يتمثل بما يقوم به تورنر ومردوخ وكذلك بريتش تيليكوم. B.T لاحتكار “تيلكوم- تكنولوجي” والتلاعب “بمحتواها”. كما بدء ماكسويل أيضا ببناء إمبراطورية للإعلام عن طريق احتكاره “لمحتوى” دار åبيرغامون بريسò وشراء حقوق ملكية الكتب العلمية والطبية والخاصة التي كانت ملكيتها تعود أصلا إلى أشخاص ودور نشر ثم أخذ يرفع أسعارها بلا مبالاة بعكس ما كان عليه الإنتاج الواسع في مرحلة التصنيع الكلاسيكية. وما كان ينتجه ماكسويل سابقا أصبح اليوم “المحتوى الثقافي” لـ “ريد اللزفير”، الذي ينتج معلومات إلكترونية خاصة، في محاولة لأن يجعل من وسائل الاتصال من أكبر الاحتكارات في المستقبل.
أما النموذج الثالث من الاحتكارات في تصنيع الثقافة فقد بدأ بتكنولوجيا المعلومات الإلكترونية. فبالنسبة إلى برنامج الكومبيوتر “سوفت وير” الذي يستخدم في المؤسسات الصناعية وغيرها، لم يعد المرء بحاجة إلى “مايكروسوفت” فحسب، بل أيضا إلى åمايكروسوفت أوفسò، الأول يستخدم عمليا في جميع الكومبيوترات، وهو عامل بيع استهلاكي مستمر.
ومنذ دخول العالم عتبة القرن الواحد والعشرين فإن جميع أشكال الثقافة تتحول إلى إعلام رقمي Digital Media، فقد تحولت مباراة كرة القدم، منذ نهاية الثمانينات إلى “ثقافة مصنّعة” وأصبح لها سوق ينقل المباريات الرياضية إلى جميع أنحاء العالم عن طريق الفضائيات وشبكة الكيبل. وقد أبرمت شركة سكاي عقدا مع المنتخب الإنكليزي الأول بلغ مليارات الدولارات. وكانت النوادي الرياضية سابقا شركات مساهمة يتراوح رأسمالها بين ثلاثة إلى أربعة ملايين جنيه إسترليني. وكانت الأسهم تعرض في البورصة، وتصل أرباحها إلى نصف مليون دولار سنويا. لقد تغير ذلك اليوم حتى أن نجوم كرة القدم أصبحوا مثل فرقة “Spice Girls” نماذج إعلامية عالمية تختلف في عروضها عن الفيلم والأغنية والرواية، لقد تحولوا إلى مجرّد نماذج للدعاية. وحين يشاهد المرء اليوم مباريات لكرة القدم، فإنه يشاهد عرضا من نوع جديد، يهتم بقواعد اللعب والتقنيات وحركة الكرة، في حين كان المرء يشاهد عروضا ثقافية من نوع آخر يندمج فيها المرء مع محتوى اللعبة كمعجب وليس كمشاهد فقط، وكان المشجعون الذين يجلسون في مدرجات الملعب يشاركون ويناقشون ويشرحون “محتوى” اللعبة وكأنهم جزء منها، فهم ليسوا مجرد مشاهدين أو مستهلكين وإنما متفاعلون معهم، لأن المشجعين كانوا ترسانة المباراة، كما كان الحال في منتخب بروسيا دورتموند في ألمانيا.
يرى بورديو بأن آليات التلفزيون المعقدة لا تشكل خطرا على مستوى الإنتاج الثقافي فحسب، بل أصبحت تهدد الحياة السياسية والديمقراطية أيضا. والمشكلة، كما يقول بورديو، أن التلفزيون ومعه الصحافة هي وسائل مدفوعة بمنطق الركض واللهاث وراء مزيد من الجمهور
في عصر الإعلام الكلاسيكي كان جوهر الثقافة يظهر على شكل أفلام وبرامج تلفزيونية ومسرحيات وروايات وأغان وغيرها. أما في عصر الإعلام الإلكتروني فيبدو أن الأمر مختلف حيث تظهر الثقافة فيه كأشياء تكنولوجية ليس من السهولة رؤيتها أو مشاهدتها وقراءتها أو سماعها، لقد أصبحت شيئا آخرا نقوم باستخدامه. ففي الوقت الذي كان موقف المشاهد في الإعلام الكلاسيكي إما سلبيا أو إيجابيا، أصبح اليوم شيئا نتبادله Interactive. وهكذا أخذ الإعلام يستهلك اليوم محتوى الأشياء وكذلك التكنولوجيا، ولم نعد كقراء أو مشاهدين أو مستمعين، وإنما كمؤثرين ومستهلكين. وقد رأى أدورنو بأن محتوى الثقافة اعتمد في عصر غوتنبرغ على فن الطباعة، حيث سيطرت الصورة والصوت والنص على الجميع.
لقد ازدادت منتوجات الثقافة المصنعة اليوم: بضائع استهلاكية سريعة، أسماء لماركات كبيرة، مغنون من فرق البوب ونجوم كرة قدم أصبحوا اليوم جزءا من وسائل الإعلام، أما نايك وسوج وكوكا-كولا فقد أصبحوا أسواقا عالمية وتحولوا إلى أجزاء من محتوى الثقافة العالمية.
كما ترتبط اليوم منتوجات السوق التجارية العالمية مع الرياضة ووسائل التسلية واللهو والفيديو والكاسيت وألبومات نجوم الغناء والجنس وحيثما يذهب المرء يلاحظ بأن الأولاد في الشوارع يرتدون أحذية نايك، حتى أولاد الطبقة المتوسطة ترمي اليوم جاكيتات “تومي هلفيغر” جانبا. هذه الحالة لا ترتبط بالغنى أو الفقر، بقدر ما ترتبط بنماذج “أيقونة” يتم بموجبها تمثيل رموز المجتمع الاستهلاكي وثقافته المصنعة وتأثيرها على الأفراد. كما أن ” ثقافة السوق ” هي ليست عروضا تجارية بالدرجة الأولى بقدر ما هي تكنولوجيات و”أشياء” تستعمل وتستهلك يوميا.
في كتابه “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول” فضح المفكر الفرنسي بيير بورديو وسائل الاتصال والإعلام الحديثة وخاصة القنوات التلفزيونية الفضائية منها التي لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج تسلية وتثقيف فقط، بل تحولت إلى أدوات ووسائل أكثر مساهمة وفاعلية في الضبط والتحكم الاجتماعي. وقد أطلق بورديو على وسائل الإعلام وأدواته بأدوات “العنف الرمزي” الذي تستغله الطبقات الاجتماعية المهيمنة لتسيير خدماتها ومكتسباتها ومن ثم إشباع مصالحها. كما يرى بورديو بأن آليات التلفزيون المعقدة لا تشكل خطرا على مستوى الإنتاج الثقافي فحسب، بل أصبحت تهدد الحياة السياسية والديمقراطية أيضا. والمشكلة، كما يقول بورديو، أن التلفزيون ومعه الصحافة هي وسائل مدفوعة بمنطق الركض واللهاث وراء مزيد من الجمهور. كما أطلق بورديو على الدور السلبي الذي تلعبه وسائل الإعلام ومن يتبعها من المثقفين لقب “كلاب الحراسة” الذين يرسخون مصالح الطبقات المهيمنة ويلعبون بالعقول عن طريق إنتاج بضائع ثقافية مصنعة.
الثقافة الشعبية
تغمر الأسواق اليوم ثقافة شعبية تجارية لا تنبع من حاجة الجماهير التي تستهلكها، وإنما من شركات رأسمالية كبرى عابرة للقارات تصنعها وتسوّقها وتدعمها وسائل إعلام ودعاية مبرمجة ومكثفة ومغرية تجعل الإنسان يركض وراء بريقها الأخّاذ لاهثا عن طريق التلفزيون والسينما والإنترنت ووسائل الاتصال والتواصل الاجتماعية الأخرى. ويعمل متخصصون من فنيين وصحفيين ومصورين بالدعاية والإعلان التجاري الأخّاذ لتسويق هذه الثقافة الشعبية وترويجها وغسل العقول وتشكيلها وفق مقاسات استهلاكية معيّنة تساعد على خلق ميول لتقبل البسيط والساذج وحتى الرديء وتشكيل عقل شعبي جمعي يتلقى الثقافة الشعبية المصنعة دون تفكير وحسّ جمالي رفيع وتسيطر على آليات توجيهه وتحريكه اجتماعيا وسياسيا ضد مصالحه وبوسائل وأساليب ناعمة تدغدغ عواطفه وتثير غرائزه الأكثر بدائية.
الثقافة المصنعة، بحسب أدورنو لا تشبع بكل بساطة حاجات المستهلكين، وإنما تدفعهم إلى الاندماج في النسق الاجتماعي العام، الذي يرتبط بالثقافة السائدة، التي تتجدد باستمرار وتندمج بالنسق العام بحيث لا تترك لعفوية الجماهير أيّ أثر يذكر
في عصر الإعلام الكلاسيكي كان جوهر الثقافة يظهر على شكل أفلام وبرامج تلفزيونية ومسرحيات وروايات وأغان وغيرها. أما في عصر الإعلام الإلكتروني فيبدو أن الأمر مختلف حيث تظهر الثقافة فيه كأشياء تكنولوجية ليس من السهولة رؤيتها أو مشاهدتها وقراءتها أو سماعها، لقد أصبحت شيئا آخرا نقوم باستخدامه. ففي الوقت الذي كان موقف المشاهد في الإعلام الكلاسيكي إما سلبيا أو إيجابيا، أصبح اليوم شيئا نتبادله Ineractive. وهكذا أخذ الإعلام يستهلك اليوم محتوى الأشياء وكذلك التكنولوجيا، ولم نعد كقراء أو مشاهدين أو مستمعين، وإنما كمؤثرين ومستهلكين، كما كان محتوى الثقافة في عصر غوتنبرغ الذي اعتمد على فن الطباعة، حيث سيطرت الصورة والصوت والنص على الجميع.
وكنموذج آخر للثقافة الشعبية المؤدجلة يأتي أدورنو بأمثلة عديدة، منها موسيقى الجاز في أميركا. فموسيقى الجاز لا تبقى مصدرا للرعب فحسب، لأنها لا تستطيع رفع الاغتراب الذي يعاني منه الزنوج، بل وتقوم بتقويته وترسيخه. فالجاز أصبح بضاعة بالمعنى المطلق للكلمة وذلك لأن وظيفته الاجتماعية لا تعدو أن تجعل المسافة التي تفصل بين الفرد المغترب وحضارته قصيرة وبأيديولوجية شعبوية. كما أن الجاز في الحقيقة يوصل شعورا خاطئا يتمثل بالعودة إلى الطبيعة، في الوقت الذي ينبغي أن يكون الجاز نتاجا اجتماعيا رقيقا يحوّل الفنتازيا الفردية إلى فنتازيا اجتماعية. ومن جهة أخرى، فإن تنوع موسيقى الجاز إنما يعكس تحررا جنسيا كاذبا وتتحول رسالته إلى عملية “إخصاء”، لأنه يربط بين ما يعد به من تحرر وما يقوم به من رفض تقشفي.
وفي الحقية، فإن الوظيفة الأيديولوجية للجاز تقوّي أسطورة “الزنجي الأسود” وتكشف عن التشابه بين بشرة الزنجي السوداء واللون الفضي القاتم لآلة الساكسفون. وبهذا المعنى السيكولوجي نوع من أنواع المازوشية.
الموسيقى عند أدورنو، كالنظرية، يجب أن ترتفع على الوعي السائد للجماهير، لأنّ البحث عن العواطف الحقيقية والعميقة لا يمكن التحقق منه في المجتمع الاستهلاكي المعاصر بسهولة، وربما يكون ريتشارد شتراوس آخر موسيقي برجوازي له أهمية، ولكن في ذات الوقت يجب القول، بأنه لا توجد في موسيقاه، كما أشار إلى ذلك أرنست بلوخ، أيّ سلبية، وأنها خالية من أيّ بعد جمالي.
إنّ الثقافة المصنعة، بحسب أدورنو لا تشبع بكل بساطة حاجات المستهلكين، وإنما تدفعهم إلى الاندماج في النسق الاجتماعي العام، الذي يرتبط بالثقافة السائدة، التي تتجدد باستمرار وتندمج بالنسق العام بحيث لا تترك لعفوية الجماهير أيّ أثر يذكر، وتجعلهم يتحركون في فضاء لا يستطيعون فيه تحقيق استقلاليتهم.
لقد عمل” تصنيع الثقافة” على إيجاد اإكانية جديدة هي عدم التمييز بين محتوى “الثقافات”. ويعود ذلك إلى نوعين من أنواع التكنولوجيا المتقدمة: تكنولوجيا الاتصال وتكنولوجيا المعلومات الإلكترونية. كما أن الثقافة الشعبية التي تطوّرت بصورة عفوية من قبل الجماهير هي مشكلة بذاتها، لأن الجماهير في الواقع لا تتكون من أفراد مستقلين، وإنما من ذوات مدفوعين، بتبعيتهم الاقتصادية وبشروط العمل السائدة في المجتمعات الصناعية الليبرالية، إلى الركض وراء التيار الجارف مثلما يحدث مع موسيقى التسلية المخادعة.
إنّ الثقافة الشعبية المصنعة على نطاق واسع إنما تمثل خطراً على الفنون الرفيعة ذات الجوهر الفكري والفني الرفيع. فعلى العكس مما تشبعه الثقافة المصنعة على نطاق واسع من سلع، فإن الحاجات الاجتماعية والنفسية الحقيقية هي الحرية والاستقلالية والإبداع التي تشيع السعادة الحقيقية.
لوحة: سمان خوان
العولمة والثقافة المصنعة
يطرح سكوت لاش في بحثه “نحن نعيش في عولمة تصنيع الثقافة” (1998) سؤالا هاما: إلى أين تسير أوروبا في عصر ثقافة التصنيع؟ ومع أن جوابه غير كاف ودقيق، فإنه يقول بأن تأخر أوروبا في تكنولوجيا المعلومات من الممكن أن يعود إلى رهان الإعلام المتعدد وأهميته الفكرية حيث تكون “عولمة” اللاعبين هنا شركات وليس أفرادا: بيرتلزمن، ريد اللزفير، نيوز-كورب، بي تي، تيليكوم الاأمانية وليو كرش، في حين يواصل الأميركيون واليابانيون تطوير تكنولوجياتهم الاعلامية الى مدى بعيد.
غير أن لاش يؤكد في ذات الوقت، بأن الاوروبيين هم أكثر غنى وحيوية في تراثهم ومؤسساتهم من حيث المحتوى الثقافي، كما يظهر ذلك في إنتاجهم الذي يرتبط بأكاديميات الفنون الجميلة، وكذلك بالرواية والفيلم والأزياء والرسم والنحت وغيرها. هذه الأنظمة الجديدة تختلف تماما عن نظام السوق وذلك لوجود إمكانية في استمرارها وهو عكس ما هو موجود في الولايات المتحدة الأميركية حيث يسيطر عراب الرياضة “نايك” على أسواق عديدة وكذلك على نجوم الرياضة. كما تختلف أيضا عن “الرأسمالية الحثيثة” للبنوك الخمسة العالمية الكبيرة. فالبرازيل وروسيا والصين والهند وكذلك أندونيسيا تمثل اليوم نصف طاقات القوى العاملة في العالم، وسوف تحتل عام 2020 نصف تجارة العالم. وإذا كان الاقتصاد الأوروبي بطيئا غير أنه مستمر، وهاتان الخاصيتان إنما تعكسان تأثير التراث الثقافي وطول عمر الحضارة الأوروبية وتوحيدها منذ عصر غوتنبرغ، مثلما حققت صناعة الإعلام في الولايات المتحدة الأميركية “وحدتها الثقافية” وإذا كان الخمسة الكبار قد نجحوا في تقدمهم الاقتصادي، فقد تم ذلك في عصر الإعلام الرقمي.
ومع أن السوق العالمية ستكون في المستقبل للخمسة الكبار الجدد، وبخاصة الصين، فإن لأوروبا فرصة أخرى تستمدها من القوة الإيجابية لمحتوى ثقافتها والتي من الممكن أن تراهن بها في عصر الإعلام الثاني.
الحداثة الفنية والثقافة المصنعة
مفهوم “الثقافة المصنعة” لأدورنو له معنى خاص في الحداثة الفنية لا يخرج عن سياق نظرته الجمالية. فهو ينطلق من أن العمل الفني والتجربة الجمالية في عصر الحداثة والمجتمع الصناعي المتقدم تعيش في وضع متأزم، لخضوعها إلى تقنيات غير مرئية يحددها ويسيّرها المجتمع الرأسمالي. وإذا كانت هذه الأزمة لا تمثل “نهاية الفن”، فإن الفن فقد وظيفته الاجتماعية وأصبح موضوعا هامشياً وزائداً عن اللزوم في تحرير الحاجات الجمالية. فالرياضة والإعلام والتلفزيون والموضة وغيرها من وسائل الدعاية تقدّم للأفراد بدائل جديدة وذلك بسبب التغيرات التكنولوجية التي “ثوّرت” الإمكانات التقنية وقادت إلى توسيع وامتداد كبير للفنون وخاصة في تقنيات الطباعة وفن التصوير والفيلم، وأخيرا تقنيات الصوت والصورة، ولكن في ذات الوقت، أدّت إلى تجزئة الفنون وتحوّلها إلى بضاعة تباع في الأسواق مما يساعد على انتشار الفنون الترفيهية بدلا من التمتع بالفن الرفيع والتبصّر العميق فيه.
فبواسطة التقنيات الجديدة للثقافة الجماهيرية أصبح الفن “البرجوازي” عتيقا ولم تعد له تلك “الهالة والفرادة والأصالة” الفنية التي دعا إليها فالتر بنيامين، وهذا في الحقيقة مؤشر على انحطاط الذوق الجمالي الذي كان يقوم على النظرة الطبيعية والمباشرة وكذلك على الرصيد الاجتماعي لأيّ عمل فني. وبدلا من ذلك ظهر الفن المجزّأ إلى الوجود والموجّه إلى الجماهير، كما في الفيلم والتصوير، الذي يطلق العنان للفئات غير الواعية، ويجعل من عناصر الواقع الجديدة في متناول الجميع تقريبا، ومن منظور زمني ولكنه مشوّه. ومن هنا يبدو لنا أن أدورنو لا يهتم بالفن الجماهيري بقدر ما يهتم بصحة واستقلالية العمل الفني وتحرره من تصنيع الثقافة وتسطيحها الذي يظهر في الفنون الرفيعة وفي الموسيقى على وجه الخصوص، التي تمنح للفنون الحس المعاصر والحديث وذلك برفضها الواقع من أجل إعادة إنتاجه وتغييره وخلق “الفن الأصيل” الذي يحمل إمكانية هدم ما هو قائم، والذي يمثل جميع أنواع الخلق الفني وليس التشكيلي وحده، الذي يتشبّه بكل ما هو راهن وساخن ومغترب ويتطلب الجدّة والتفرّد والدينامية والتنافر، لأن الطابع المميّز للتجربة الفنية هو المغايرة لما يجري في الواقع.
وينطبق رأي أدورنو على الموسيقى أيضا، التي يفترض بها أن تظلّ وفيّة على إعطاء مصداقية لقول الحقيقة، لأنها آخر التعبيرات البريئة عن الحقيقة في الفن.
ولكن الموسيقى الحديثة وكذلك الفنون التشكيلية والأدب، تقف اليوم على حافة ما يمكن تسميته فناً، لأنها تجعل من الصدفة أو الحادثة أحد العناصر الأساسية فيها، وهو نزوع نحو وظيفة جديدة في المجتمع الاستهلاكي الحديث بعد أن فقدت مواقعها القديمة لصالح سلطة وسائل الدعاية والإعلان.
يقول أدورنو إن “امتلاخ الفن من قبل الفن نفسه” لا يعني إخراس الفنون، وإنما يصبح الفن، بواسطة الثقافة المصنعة، فناً غير مرهف ويتحول اليوم إلى بضاعة، كاسيتات (CD) لبيتهوفن وشونبيرغ، وأعمال لغوية وكتب يمكن شراؤها على شكل كتاب للجيب. وفي نفس الطريقة الميكانيكية تقدم فنون الثقافة الأخرى.
والشيء الحاسم، كما يقول أدورنو، ليس بيع الثقافة والفنون والاتجار بها، وإنما الطريقة التي تتغير بها الفنون والثقافة لتصبح منتجات سلعية تعرض كبضاعة مصنعة، وكذلك تغير الثقافة لتتحول إلى بضاعة شعبية رائجة.
واليوم حيث يقوم التصنيع على تصاميم وعمليات إنتاج وإعادة انتاج وتوزيع واستهلاك سلع جاهزة، تتبع الثقافة التصنيع أكثر ممّا يتبع التصنيع الثقافة. وما تنبأ به أرنوا قبل أكثر من نصف قرن، أصبح اليوم حقيقة قد لا يقبلها البعض، ولكن من المؤكد إنه لا يوجد طريق آخر يتلاءم مع ما نعيشه في عصر عولمة الثقافة وثقافة التصنيع.