نبيل المالح السيد الدمشقي والحوار الممنوع
أحدهم اكتشف صيغة لعبارة يصف بها نبيل المالح يوماً ما، فقال إنه “فهد السينما السورية”. هل أنت فعلا كذلك؟
المالح: في هذه الأيام لم نعد نعرف. كنت أعتقد أنني من الممكن أن أكون فهد السينما السورية لفترة طويلة، وأتحرك دوماً كفهد. لكن حين أنظر إلى مشهد السينما اليوم. أصاب بالحزن إلى حد أنه حتى هذا الفهد ينظر إلى تاريخه ويتساءل: أين أخطأنا؟ أين كان المنعطف الخاطئ في هذا الطريق؟ لم يجد الصورة التي تمناها. ليس هو فقط عليه أن يكون فهداً. على الكل أن يكونوا كذلك. يبدو أن القوى التي لا أعرف كيف أسمّيها؟ قد تكون لعبت ليس بالمشروع السينمائي وحده. بل لعبت بكل المشاريع الأخرى.
أيّ قوى تقصد؟
المالح: ضمن تركيبة مجتمعات العالم الثالث لا تستطيع أن تضع يدك على نقطة ما وتقول هذا هو الخطأ. هي عبارة عن نسيج. هذا النسيج ليس مؤلفاً من خيط واحد فقط. بل من الآلاف من الخيوط والآلاف من الألوان والآلاف من الأشكال. وخلل النسيج قد يكون من تقاطعات كبيرة جداً، تنتج ثقباً هنا أو اهتراء هناك أو كسراً في هذه الزاوية أو تلك. وقد تصنع أيضاً نسيجاً متيناً في أشياء أخرى.
لدينا إشكالية كبيرة جداً في سوريا. بلدي الذي لا أملك في العالم سواه في النهاية، لا البيت ولا ملابسي ولا أي شيء. لا أملك سوى هذا الوطن وما أنتجته في عملي. تجد أنك مصاب بالإحباط. لأنك حامل لأحلام. أنت سألتني مرةً “من هو نبيل المالح؟”، جوابي الآن هو: نبيل المالح شخص مجنون. من لمّا كان عمره عشر سنوات وهو يحلم. صار في الخامسة عشرة واستمر يحلم. يحلم ويحلم ويحلم ويحلم. واليوم وأنا في هذا العمر وبعد السنوات الطويلة اكتشفت أني مجنون مستمر في الحلم، مثابر على الحلم. ويبدو أن القوة الوحيدة التي أملكها هي قوة الحلم.
الحلم لا يعني أبداً أن “تتوهّم أوهاماً”. عليك أن تجد للحلم معادلاً. المعادل يقول أنا حين أحلم بالحصول على الماء لا بد وأن أحفر الأرض لأصل إلى النبع وأحصل على الماء لأشربه.. في البداية تكون الفنون صورة مجردة. وكل الفن هو تشخيص لصور مجردة. تبدأ في العقل، ثم تصبح حقيقة، ككل العلوم والمخترعات والمكتشفات وتطور العالم. كل شيء بدأ من فكرة صغيرة. أحدهم فكّر: لماذا لا نصنع دائرة؟ لماذا لا نصنع مثلثاً؟ لماذا لا نصنع صورة؟ لماذا لا أرسم صورتي المنعكسة على سطح الماء. هي كلها تصورات. لكنها قدرت أن تكوّن الحضارة البشرية.
هؤلاء الذين تتحدث عنهم في تجارب المثلث والدائرة والصورة المنعكسة على الماء، لا بد وأن معوقات وقوى ممانعة كثيرة قد واجهتهم. لماذا تبدون أنتم أعني السينمائيين السوريين في حالة نكبة دائمة؟
المالح: صحيح نحن نوّاحون بشكل دائم.
كنت أظنك مستثنى من هذا.
المالح: أنا مستثنى بالطبع.
الجديد: لكنك بدأت حوارنا بالحزن.
المالح: لا أبداً.. أنا حزين على الوقت الضائع. أنا مستثنى لأنّي حرّ. وقليلون هم الأحرار في عالم السينما.
أنت قلت لي قبل سنوات طويلة “أنا الوحيد بين السينمائيين الذي لم يكن لديه أحد أعلى منه في يوم من الأيام”.
المالح: نعم. ولا أزال أقول هذا.
ماذا يعني هذا؟
نبيل المالح:يعني أني كنت سيّد نفسي على الدوام. وكنت سيد قراري دوماً. لم تبتعثني دولة ولا حزب لدراسة السينما. لم يرسلني أحد إلى مهرجان. ولم أكلّف أحداً قرشاً واحداً. كل حركتي في حياتي هي قراري الذاتي. ومغامرتي الشخصية، دفعت ثمنها غالياً، واستمتعت بها كثيرا. وسأستمتع بها كثيراً في حياتي القادمة. المشكلة أنك حين تقول إنك سينمائي تصبح ضمن مشروع وطني. ماذا يعني هذا؟ يعني أن حزنك ليس على نفسك. بل على المشروع الوطني. المشروع الوطني ماذا يعني؟ أنا درت العالم ورأيت الدنيا. الآن بكبسة زر واحدة، تفتح شاشة التلفزيون وترى أيّ مكان في العالم. وتصبح أينما شئت. أنت تريد أن ترتقي. لكنّ ارتقاءك ليس لنفسك فقط. بل هو للكل. لوطنك وللناس. للمجموعة كلها. تمشي مع بعضه البعض. ترى أياماً أجمل. ترى علاقات أجمل. بلادك أنظف وأجمل ولها خصائص وقيمة. حين تجد بعض الخلل في حركة هذا المشروع، لا يعود الموضوع شخصياً.
بالنسبة إليّ، أستطيع أن أصنع أفلاماً في أيّ وقت. يمكنني الذهاب إلى أيّ بلد، ويتم استقبالي بحفاوة. ولكن ليس هذا هو همي. الموضوع هو أننا صنعنا كذبة كبيرة. في السبعينات اعتقدنا أننا نخلق مشروعاً سينمائياً. ومع الأيام تبعثرنا. وكثيرون منا، باستثنائي، أصبحوا موظفين. ويمكنك أن تتخيل ما معنى أن يصبح الفنان موظفاً. فنان موظف. أن تكون فناناً موظفاً فيها اختصار وتصغير لحجمك.
في يوم من الأيام كتبت مقالاً، بعد رجوعي من تشيكوسلوفاكيا. طلب منّي صديقي ممدوح عدوان مقالات لجريدة الثورة السورية. فكتبت ما يلي”قبل أن تحصل الثورة، أيّ ثورة، يكون الناس حالمين بصنع تلك الثورة، لتحقيق الواقع الحديد. وحين تتحقق الثورة يتحول المقاتلون السابقون إلى موظفين عند الثورة، فتتوقف الثورة. وتتوقف حركة التاريخ. لأن الموظف يصبح مضطراً للمحافظة على ما بلغه. وهذه هي مشكلات الثورات في معظم الأحيان. إنها تتوقف عند نقطة انطلاقها. وعند نقطة انتصارها تتوقف عن الحركة. هذه المشكلة جابهت كثيراً من النماذج التاريخية الواضحة أمام أعيننا. الثورات من الثورة الفرنسية وحتى الآن.
أنت تعمل على شخصيات ثائرة دوماً، الشخصيات النسائية والأطفال في الأفلام الروائية والوثائقية. نجد هذا حتى في تجارب معظم المخرجين السينمائيين السوريين. الكل يتحدث عن الثورة. أنتم كلكم ثائرون.. السؤال الآن.. ما هي الملليمترات التي قطعتموها في هذا الطريق إلى الثورة؟
المالح: لم نقطع شيئاً.. نحن لم نقطع أيّ مسافة. يقول سارتر “كنت أعتقد أن قلمي سيفاً في يدي. فإذا بي أكتشف أنّه مبرر لوجودي”. اتضح أنه ليس سيفاً. مبرر لوجودي. أنا مبرر وجودي هو عملي. مبرر وجودي أن أمرّ في هذه الحياة، وبهذا الوطن. وأقول “شكراً لك لكل ما أعطيتني إياه. حاولت أن أنقل لك الشكر بطريقتي”. هناك حزن عميق على مشروع. هذا يقودنا إلى الكثير من الأسئلة. حول ما هو الوطن؟ وما هو المشروع؟
المالح يتحدث إلى إبراهيم الجبين في بيته بدمشق 2009
أنا أنتظر ذهنك ليقودنا إلى السؤال :ماذا كان المشروع وما هو المشروع اليوم؟
المالح: سأربط مجموعة من الأمور ببعضها، وهي بالنّسبة إليّ مفتاح أساسي. أنت ما الذي تملكه أنت كوطن؟ أليس لكل بلد إمكانات وخصائص وملكيات؟ دولة لديها بترول. دولة لديها موقع استراتيجي. دولة لديها منظومة قادرة على الإنتاج مثل ألمانيا أو اليابان. لكن أنت ما الذي تملكه؟ نحن ماذا نملك؟
لديّ إجابات ولكن أريد الاستماع إلى إجابتك.
المالح: نحن نتابع وزاراتنا، وزارة الاقتصاد ووزارة التجارة ووزارة النفط. نكتشف أننا ننتج القمح. ولكنّنا منذ سبعة آلاف عام ننتج القمح. ودائماً كان المنتج يرتفع وينخفض وفق مشيئة الله أو المطر. نصنع منسوجات. قطناً وقماشاً. ولكن هذا يسمى “الاقتصاد الفقير البدائي” ولكننا نملك أشياء تسمى “القيمة المضافة”. الدول الآن، وبعد توقف المجتمع الزراعي والإقطاعي عن أن يكون المحرك، وبالانتقال إلى المجتمع الصناعي الذي خلق علاقات جديدة، أنظر ماذا تملك دولة مثل فنلندا. بلد صغير ثلاثة أرباعه مغطاة بالثلج. ماذا تملك؟ تملك “نوكيا”. وكما سمعت فإن منتجات نوكيا في ذروتها تعادل اقتصاد العالم العربي كله بما فيه البرتول. دولة مثل بلجيكا عدد سكانها ثلاثة ملايين إنسان. محصلتها الاقتصادية تعادل اقتصاد الوطن العربي كله الذي يعد أكثر من 270 مليوناً. المنتج الزراعي لهولندا التي سكانها لا يتجاوزن الثمانية ملايين إنسان، يعادل المنتج الزراعي للعالم العربي كله. من أين أتت هذه القيمة المضافة. هي ليست فقط ما تعطيه الأرض. بل ما يعطيه العقل. ما تعطيه المواد التي تملكها أنت، بإمكانك أن تصنع منها قيمة مضافة. ما هي القيمة المضافة التي نملكها والتي لا يفكر فيها أحد. وعادة ما يعامل الأدب والثقافة والفن على أساس أنه من الجيد أننا نرضى عنكم ونقدركم ونمنحكم جائزة هنا أو هناك.
القيمة الأساسية التي تملكها سوريا هي عقول البشر. حسب قناعتي لدينا قيمتان. أولاً، أريد أن أسألك.. ما الذي ورثته أنت؟ لم ترث شيئاً. أنت وارثٌ لحضارات متراكمة من ستة آلاف أو سبعة آلاف سنة لا فضل لك فيها نهائياً. حضارات موجودة. تجد هنا مدرجا رومانيا، مدنا منسية، آثار تدمر، إيبلا، هذه موجودة. كما هي الأرض موجودة. ماذا فعلت بها؟ أنت تمكلها. نفس هذه الثروة موجودة في أسبانيا أو في المغرب، بإمكانهم أن ينتجوا بسببها عشرين مليار دولار سنوياً. نحن نكتشف أن هذه القيمة المضافة لا نعرفها. ثانياً وعلى سبيل المثال، نسأل لماذا كثير من مثقفي بلدنا يعيشون في بلاد عربية وأجنبية للبحث عن لقمة العيش؟
لقطة لأديب قدورة بطل فيلم "الفهد" 1968
جوابي شخصياً على هذا السؤال أن المثقفين مثلهم مثل غيرهم من الناس. ظروف الناس عموماً لم تتحسن. وهؤلاء منهم.
المالح: بالمناسبة المثقفون ليسوا شريحة لها قيمة استثنائية. بل العامل الصغير له قيمة استثنائية. نحن في الصناعات لنا قيمة كبرى. ما أدعو إليه أننا علينا أن نخرج من عقليات بيروقراطية. خارج المنظومة التقليدية في سوريا التي نقوم اليوم بترقيعها دون جدوى.
نحن لم نفعل شيئاً. ليس لدينا أيّ “براند” أو ماركة تجارية. لم نستطع صناعة صورة سياحية لسوريا. مئات الملايين تصرف في بلاد العالم لتصوير الأفلام السينمائية العالمية. بينما كما تعلم سوريا هي أستوديو طبيعي عملاق. لكن لا أحد يأتي لتصوير أفلام فيها.
الجديد: لماذا لا يحصل هذا؟
المالح: لأن لديهم موّال آخر. والمسؤول عن هذا يفكر في أمور أخرى.
من تقصد؟
المالح: ولاً المسؤولون عن السينما في الدولة. مؤسسة السينما التي تقيّد حركتنا وتدعو أصدقاءها للمهرجانات، للمجاملات فقط.
دعني أقاطعك هنا عذراً. أعلم أن هذا الحديث يطرب كثيرين ومنهم أنا شخصياً حين ينتقد مخرج كبير وأستاذ مثل نبيل المالح مؤسسة السينما. لكن هذا الحديث بات دريئة مستمرة بحيث وضعتم أمامكم مشكلة احتكار الدولة لصناعة السينما وتوقفتم عن العمل وواصلتم الشكوى منها طيلة الوقت. أما آن أن تتخلصوا من ذلك الفخ الذي علقتم به، هو صنم ترجمونه. بينما لديكم أشياء أخرى تفعلونها. في بلدان أخرى لا تدعم الحكومات صناعة السينما؟
المالح: الإجابة سهلة وبسيطة. نحن لا نعتبر مؤسسة السينما السورية رديئة. وإنجاز المؤسسة حين تأسست في العام 1963 إنجاز مهم جداً على مستوى العالم، أن يوجد مؤسسة تنتج أفلاماً جادة.
أفلاماً “جادة”؟ كما تقول مصطلحاتهم.
المالح: بالمناسبة تعبير “جادة” تعبير سخيف. لماذا لا تكون الكوميديا جادة أيضاً. لنقل هادفة وجادة معاً. هذه كانت الفكرة الأساسية. وحين تحولت تلك المؤسسة إلى الحصان الذي يكبو في كل مراحله اتضح أن الفكر كان تجارياً حتى النهاية. وعملياً تم تدمير الذائقة السينمائية.
“حادثة اغتيال” كان رد الفعل عليه كبيراً. والمقصود “اغتيال نهر العاصي”. الشريط يقول إن كل من يشرب من مياه نهر العاصي أو يأكل من منتجاته، فهو يتناول سموماً. العمل تسبب بهزّة كبيرة، وشكلت لجنة نيابية لدراسة الفيلم وهذا يعني أنه خلق رد الفعل المطلوب
تنتقد الفكر التجاري. لكن ألا تتهم أنت بأنك تاجر؟
المالح: لا أفهم ماذا تقصد؟
الجديد: ألست مالكاً لشركة إنتاج؟ أنت تاجر إذن.
المالح: أملك شركة إنتاج وأبيع أفلامي.
وقعت عقداً معهم لتوزيع أفلام جميع المخرجين السوريين. لماذا فشل هذا المشروع؟
المالح: لم يفشل. بسببي حصل ولأول مرة بتاريخ السينما السورية، أن يجري بيع هذه الأفلام، وقمت ببيع 32 فيلماً.
يعني أنت تنتقد التفكير التجاري، بينما دخلت معهم في شراكة تجارية؟
المالح: هذه تجربة قمنا بها مرة بالعمر. ولن نكررها. وليست مهنتي هي التجارة. لو كنت تاجراً، لاشتغلت أفلاماً من نوع آخر وكان منتجي الفكري اتخذ شكلاً آخر.
دعني آخذك إلى مكان آخر. حين اشتغلت أنت في أعمالك على الإنسان السوري، منذ الفهد وتجربتك مع استثمار شخصيات دريد لحام ونهاد قلعي، ثم في فيلم «الكومبارس» كأنك كنت تريد أن تعطي لذلك الإنسان المتأتئ كما في حالة بطل فيلم الكومبارس، فرصة ليكون شيئاً ما.. هل هذا ما تريده؟
المالح: أنا بصراحة، عشت وتنقلت كثيراً خارج سوريا. وأكتشف دائماً أن لديّ ذلك الشوق المضني. لمن أشتاق؟ يقول الناس إنه اشتياق للحارة وللجبل وللسوق الفلاني. أنا أشتاق لهذا الإنسان السوري الصغير. اليومي. الذي أراه والذي أتعامل معه. والذي أعرف جيداً أن أحلامه أكبر بكثير مما هو ممكن من واقعه. هذا شوقي للبشر العاديين الصغار، وهذا الشوق له علاقة بنشأتي. كان ظرفنا العائلي جيداً، والدي الدكتور ممتاز المالح كان شخصية مرموقة، ووالدتي من عائلة سياسية ذات مناصب كبيرة.
والدتك دخلت عالم السياسة؟
المالح: لو كانت والدتي دخلت عالم السياسة لكانت اليوم معتقلة. كان لديها في غريزتها عنصر الرفض. وعنصر “لا” التي علمتني إياها. وأسوأ شيء أورثته لي أمي كلمة “لا”. لأن العنصر القائم غير مقبول. ويمكن أن يكون أفضل. ولذلك عليك أن تقول لا للأشياء التي حولك. وهذا ترك لديّ طريقة تفكير. وهي التي قد تكون أعطتني ثروتي الأساسية في عقلي. وسببت لي أكبر عدد من المشاكل في حياتي. لأني أقول دائماً “لا”.
الإنسان البسيط العادي هو الملك. هو ملك مساحة ذهني. والرغبة هي صبيانية. لم يكن لديّ رغبة بأن أكون مليونيراً. ليس ضمن همومي. كنت أحب. وكنت أحلم بالسفر. وحققت هذا بشكل واسع وكبير منذ صغري. وسعيد جداً لأني رأيت الدنيا كلها ومررت بكل التجارب.
لقطة من فيلم "بقايا صور" 1973
حدثتني مرة عن مغامرتك في أوروبا على دراجة نارية ولم يكن لديك سوى عشرة دولارات.
نبيل المالح: أحد عشر دولاراً.
كنت تبيع قصصاً للمجلات كي تواصل الرحلة.
المالح: كنت أرسم اللوحات وأبيعها في الطرقات. تصادف أن أول مدينة وصلت إليها كانت نورنبيرغ. صرفت فيها أربعة دولارت. بقي لديّ سبعة دولارت. أكلت وملأت خزان الدراجة بالبنزين. ثم وصلت إلى برلين. واستطعت بيع كمّ كبير من اللوحات. كان المخطط أن تكون الرحلة أربعاً وعشرين ساعة. فاستمرت رحلتي مئة يوم ويوم. ثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً. درت فيها كل أوروبا الغربية. كانت تلك أول تجربة مغامرة. كما لو ألقى الإنسان نفسه في البحر. عشت بعدها عشر سنوات في تشكيوسلوفاكيا، وعشر سنوات في أوروبا الغربية، عشر سنوات في اليونان، سنة ونصف في أميركا.
حين فعلت هذا كله كنت تحاول التخلص من الكومبارس الذي يسكن داخلك؟ أم كان هذا من أجل الكومبارس الذي سميته أنت الإنسان الصغير؟
المالح: في داخلي لا يوجد كومبارس.
لماذا إذن تتهم الآخرين بأن في داخلهم “كومبارس؟
المالح: هذا التعبير زئبقي. إن كنت أخذته على مستوى حسّنا الداخلي نحن أقرب إلى دون كيشوتات صغار. دون كيشوت أيضاً، هو بطريقة ما كومبارس ولكنه كان مقاتلاً. أي أنه كان يملك فكرة أو صورة في ذهنه يلاحقها. الكومبارس المشكلة في بلادنا وفي العالم كله. هذا النمط من البشر، مهمّشون دون رغبة منهم. بسبب الشرط الإنساني الذي وضعوا فيه. الكومبارس أو ما يسمى بالمواطن العادي من لمّا يكون عمره 14 عاماً، يريد أن يتحول إلى رجل فضاء أو مهندس أو مخترع أو يكون أقوى رجل في العالم، وحين يصبح في سن العشرين، يكتشف أنه غير قادر على دخول الجامعة. وحتى يستطيع تأمين أكله اليومي، يكتشف أن هناك مشكلة جديدة. فيصرف النظر، لا يعود يرغب بالتحول إلى بطل أو ينقذ العالم، ولا يعود يرغب بأن يكون ذلك المهم. أصبح يهمه فقط البقاء اليومي. لدينا كثيرون في سوريا يموتون في سن الثلاثين والخامسة والثلاثين. ومن يتابعون بقية الحياة، يتابعونها هكذا.. مجرد متابعة. يتزوجون ويلبسون البيجامات والشحاطات ويتناولون العشاء مساءً، وينتظرون اليوم التالي والتالي والتالي. هي حالة موات. كيف يمكن أن يخرج الإنسان من هذه الحالة؟ لماذا توجد أماكن في الدنيا تقتل ذلك المقاتل فيك؟ ما الذي يقتل في نفسك ذلك الزهو وذلك الجمال وطيران سن المراهقة. لنعدّد الأشياء التي حولنا. ذلك الكف (الصفعة) على وجه بطل فيلمي «الكومبارس» هذه الصفعة يتعرض لها الإنسان يومياً، وليس بالضرورة بصورة فيزيائية. اليوم مرت بجانبي سيارة شرطة مرسيدس، ماشية بسرعة مئة كيلومتر ودون أن يضع سائقها حزام أمان. وقفت بجانبه وقلت له “أخي.. أنت تقود بسرعة مئة كيلومتر وهذا ممنوع هنا في هذا الشارع السكني. كما أنك لا تضع حزام الأمان أيضاً”. كان لطيفاً واستجاب لي. ووضع حزام الأمان.
ربما لأنك كاتب سيناريو، قمت بتغيير نهاية القصة. هل هذا ما حصل فعلاً أم أنهم كان لهم رد فعل آخر؟
المالح: الظاهر أنهم لم يكونوا من أصحاب المناصب. لكن بشكل عام هذه صفعة لي. وأكبر من ذلك، أن يأتي إنسان عقله قزم، ويتحكم بمصائر أفراد أكبر منه، فهذه صفعة يومية. في بلدنا سوريا، لدينا هذه الصفعات اليومية، ليس لي لوحدي، كلنا نشعر هكذا. أنت تشعر أنك تهان شخصياً، كرامتك تهان شخصياً، بمجرد أن ترى. بقناعتي أن الصغار في داخلهم لا يمكنهم صناعة أشياء كبيرة، والمؤسف أن في سوريا كثيرون، في مواقع صنع قرار، هم صغار. وسوريا تحتاج لأرواح كبيرة.
ولكن أريد أن أعترف لك بأن سؤالك عن الشخص يزعجني. لأن هذا ليس ضمن همومي. ليست مشكلتي.
نحن أقرب إلى دون كيشوتات صغار. دون كيشوت أيضاً، هو بطريقة ما كومبارس ولكنه كان مقاتلاً. أي أنه كان يملك فكرة أو صورة في ذهنه يلاحقها. الكومبارس المشكلة في بلادنا وفي العالم كله. هذا النمط من البشر، مهمّشون دون رغبة منهم. بسبب الشرط الإنساني الذي وضعوا فيه
ما هي مشكلتك؟
المالح: الجرّاح يتمنّى أن يجري العملية التي لم يجرها بعد، الرسام يتمنى أن يرسم اللوحة التي لم يرسمها بعد، لا لشيء فقط من أجل ذلك العالم الذي يغلي داخلنا. نقوله ونقول جزءاً منه. أعيد الكلام دائماً، الناس تموت مقهورة، لأنها غير قادرة على إخراج سوى جزء صغير من ذواتهم. أنا سينمائي، وبالنسبة إليّ السينما هي لغة كونية استثنائية فيها مجالات لا تنتهي، وأجد نفسي الآن في سوريا، بموقع ضيق جداً عليّ، أحمّل مسؤولية هذا للمنظومة العامة التي تتحكم بنا.
الحكومات تعتقد أن بتحكمها بالسينما، يمكنها أن تقدّم أفلاماً ذات رسالة، ولكن هذه الأفلام ليست جماهيرية. في الماضي كانت لدينا تقاليد والمجتمع يذهب بشكل عائلي لحضور الأفلام في الصالات. الآن هذا كله لم يعد موجوداً.
المالح: هذه النقطة أختلف فيها معك، ومع كثيرين أيضاً. الفن الجيد لا مقياس مسبق له. ولا أحد يستطيع أن يحدد لي سلفاً ما هو المقياس المسبق للجاد والجيد. أنت تشاهد عملاً كوميدياً، وبالمقياس العام هو فيلم غير جاد. لكن قد يكون هذا الفيلم جاداً أكثر بخمسين مرة من أفضل فيلم جاد مصنوع بشكل رديء. عظيم الأفكار ورديء الصنع. في الفن لا أحد يملك في الكون كله، قرار كيف يجب أن يكون الفن.
أنت، هذا الفن يستطيع أن يرتقي بك، يعطيك المتعة، يفتح لك عينيك، يعطيك اتساعك الإنساني. الأفلام الخيالية غير جادة. لكن الأفلام الخيالية فيها الكثير من الرسائل قد تكون ممتعة ولذيذة وتكشف لك عن عالم. ليس هناك قانون، متى وجد قانون للفن، إنسَ الفن. لم يعد فناً. حينها يصبح ختماً سخيفاً.
صنعت وتصنع أفلاما، سينما ديجتال، مثل “فيديوكليب” و”غراميات نجلا” وأفلام أخرى. أنت كمنتج وككاتب ومخرج، ما هي الجدوى من هذه الأفلام؟ ومن يشاهدها؟ أم هي مصنوعة للمهرجانات؟ أم هي لتلبي لك حلمك السينمائي الذاتي؟
المالح: لم يعد أحدٌ يعرف كيف شكل حلمه السينمائي. تعرف أني أكتب شعراً وأرسم وأكتب المقال والقصة، كل هذا بحاجة لورقة وقلم. حتى لمّا أرسم أحتاج أدوات صغيرة، تكون في بيتك ويكون بإمكانك أن ترسم أو تكتب. السينما مشكلتها أنها إنتاج ضخم. هي كمّ هائل من الأموال. السينما في سوريا تمرّ بمرحلة صعبة جداً. تحتاج أدوات كبيرة. في مصر ليست مشكلة، والوضع يختلف. لديك ثمانون مليون مشاهد، والسوق موجودة. على سبيل المثال أحدث فيلم من أفلامي هو الكومبارس عرض في أكثر من خمسين دولة في العالم. بينما لم تقبله أيّ دولة عربية.
لماذا تم رفضه؟
المالح: رفضوه رقابياً، بينما اشترته المغرب فقط، على قناتها المشفرة الدوزييم. الدول العربية الأخرى تعرضه في حفلات خاصة، ولكن تجارياً لا. هذه مشكلة. أنا أفكر دوماً في أن الفيلم السينمائي السوري القويّ، سوقه الحقيقية عملياً خارج المنطقة العربية، وحتى تصنع فيلماً جيداً عليك إذن أن تتجه نحو أوروبا. وإذا اتجهت نحو أوروبا والشرق الأقصى، عليك أن تقدم فيلماً مهماً جداً، مبتكراً، وإذا كنت تنوي أن تحكي لهم حكاية، فإن لديهم حكايات تكفي لعشرة قرون قادمة. التلفزيون يقدم لك كل يوم مئات الحكايا.
إذن.. السينمائي لا بد له من أن يصنع سينما. ولا يجب أن يكون حكواتياً. هذه النقطة مهمة، وحتى تصنع سينما، وتباع منتجاتك لا بد أن تذهب إلى مهرجان ما. هناك سيسأل الناس ما الجديد الذي ستقدّمه؟ تحصل على جائزة في ذلك المهرجان مهم، فتفتح بذلك أبواب التسويق. دولتان أو ثلاث دول أوروبية بوسعها أن تغطي لك تكاليف الإنتاج. لكن كيف ستفعل هذا إن لم تكن تنتج سينما نوعية راقية؟ وفي الوقت الذي لا تستطيع أن تكون فيه مختلفاً. أن يكتشفوا شيئاً جديداً في فيلمك. لغة أخرى. شكل آخر موضوع آخر لا يعرفونه. أما إذا أردت أن تكرر المعادلة الحكواتية التقليدية فسيقال لك أخي لدينا من الحكايا ما يكفي.
الجديد: إذن أنت لست ضد إنتاج أفلام سينمائية مصممة سلفاً للمهرجانات؟
المالح: هذا معيب جداً.
لكن أنا قرأت لك من قبل، رأياً مختلفاً. أنت قلت لدينا في سوريا والعالم العربي، مخرجون يصنعون أفلاماً خاصة بالمهرجانات كي يحصلوا على جوائز فقط ويعودوا بها وانتهى الأمر. وكنت غاضباً من هذا.
المالح: هذا أمر شرعي نوعاً ما.
من أين تأتي شرعيته؟
المالح: شرعيته تأتي فقط من أنه يحاول أن يخلق سينما جيدة.
هل عرفت لماذا ليس لدينا تقاليد سينمائية؟ لأنكم تصنعون أفلاماً بمعايير الخارج، ولا تخاطبون المشاهد والنقاد والمجتمع هنا.
المالح: لا ليس للخارج. حديثي عن الناحية الإنتاجية.
لا تلوموا الناس أنهم لا يذهبون إلى دور السينما ولا يشاهدونكم.
المالح: لا ليس بالضرورة. لا يعني إطلاقاً. إذا حصل الفيلم على جائزة هذا لا يعني أنه ليس جماهيرياً.
من منع لك فيلمك “عالشام عالشام” من العرض؟
المالح: لا أعلم.. إحساس عام أنه يستحسن ألا يعرض.
إحساس عام!
المالح: نعم. عادة هذا ما يفعلونه. عندما منع فيلمي “السيد التقدمي” لم يكن هناك أيّ قرار مكتوب. لكن قالوا إنه ممنوع من العرض. سؤالك محرج. ما أعرفه أن شخصيات هامة شاهدت الفيلم. كانت لديها ردود فعل إيجابية جداً. وأصبح هناك آلية للتعامل مع الفيلم وقراءته ودراسته ورد الفعل عليه. الفيلم عن الهجرة الكثيفة من الريف، التي تحصل باتجاه المدينة، باتجاه الشام (دمشق) يعني وراء “حلم الشام”. ثم اكتشاف أن هذا لم يكن حلماً، بل هو كابوس. وهذا يعني أن هناك مشكلة. الفيلم يتحدث عن حالة اجتماعية اقتصادية وحتى ثقافية، تتسبب بهذه الهجرة. وحتى أهرب من قريتي أو من منطقتي، فهذا يعني أن هناك مشكلة. مشكلة اقتصادية، مشكلة في المدارس، مشكلة فرص العمل، مشكلة في البيئة. وما أعرفه أن الفيلم شوهد من قبل أعلى الجهات في سوريا. وقد لا يكون لدى تلك الجهات رغبة بأن يشاهد الفيلم جماهيرياً، لأنه قد يكون مثل فيلم آخر لي، فيلم “حادثة اغتيال”، وكان رد الفعل عليه كبيراً. والمقصود “اغتيال نهر العاصي”، وكان الفيلم يقول إن كل من يشرب من مياه نهر العاصي أو يأكل من منتجاته، فهو يتناول سموماً. هذا الفيلم تسبب بهزّة كبيرة. فتمّ تشكيل لجنة نيابية في مجلس الشعب، لجنة لدراسة الفيلم. فهذا يعني أنه خلق رد الفعل اللازم. وقد يكون مرعباً.
أرى أنه من الطبيعي أن يخلق فيلم من هذا النوع ردود فعل، وإلا لماذا نصنعه؟
المالح: لا ليس طبيعياً. لا بد من ردود فعل على المستوى الرسمي. أنا أريد أن أحرّض في الأفلام. وأنا بهذه الأمور عندي قدرة على التحريض. وكما كانت لديّ القدرة على التحريض على احترام مرحلة هامة من تاريخ سوريا، وأعني فيلمي “شيخ الشباب” الذي تناول مرحلة العشرينات وحتى الاستقلال من خلال شخصية “فخري البارودي”، فترة مغفلة تماماً. وبإمكان السينمائي أن يسلك الضوء على مواقع الخلل كما يفعل تجاه مواقع الفخر. وهي مسؤوليته كمواطن. لديّ أفلام أفتخر بها صنعتها في سوريا، مثل «الكريستال المقدس» أو “باقة دمشقية”، ولكن هناك أيضاً دور آخر. دور نقدي، المفروض أن أكشف فيها نقاطاً معينة، ليس بشكل متحيّز أو بحكم مسبق. لكن هذا ما أجد أنّ عليّ فعله كسينمائي. وهي الحالة التي تقدم ذاتها.
أنت كتبت مقالاً بعنوان “الدمشقيون كومبارساً”.
المالح: نعم. ولا أزال مصراً على أن الدمشقيين مجرد كومبارس اليوم.
اسمح لي أن أقول لك إني استعملت هذا التعبير في أحد حواراتي، ولكني أشرت إلى أنه لك، “الدمشقيون كومبارساً”.. وكنت أرمي إلى أنكم أنتم أصحاب هذه الآراء. تقبلون بدور الكومبارس. ولستم من يدير الحراك الثقافي.
المالح: نعم لماذا لا تخبرني بهذه الأسرار؟ كتبت هذا المقال بمناسبة كون دمشق عاصمة للثقافة العربية العام 2008. هو ليس موقفاً. بل هو تحليل. وكانت لديّ رغبة بعد سنوات طويلة أن تتاح فرصة للجميع أن يكون هناك فرح حقيقي، ليس فرحاً مزوّراً مفبركاً أو منظماً. وأن يأتي الفرح من قلب المدينة دمشق. مع الأسف ما حصل هو أن هذا تحوّل إلى حالة نخبوية جداً. وأنا نزلت إلى الطريق. في دمشق وليس في الحسكة. وحملت الكاميرا، وسألت الناس من المهندس إلى البائع إلى الصغير والكبير، ماذا يعني لك أن تكون دمشق عاصمة للثقافة؟ لم يعرف أحد ماذا يعني هذا. أتوا بمسرحيات وعروض هامة. ولكن إذا حسبتها بأن عدد سكان دمشق أربعة ملايين إنسان، ومن يحضر هذه العروض لا يزيد عددهم عن ألفي إنسان. فهذا لا قيمة كبيرة له.
أقاموا حفل افتتاح كلّف ثمانين مليوناً. في الهواء الطلق. في البرد. ولم يشاهده سوى من وقفوا حوله. تعال لنتخيّل لو أنه تمّ توزيع هذه الثمانين مليونا على ثمانين حارة في دمشق. لتقدم كل حارة حفلها وبهجتها بدمشق. بنفسها وبأهلها. هذا فقط بالنسبة إلى حفل الافتتاح. ناهيك عن بقية ما فعلوه.
عرضت عليهم فكرة فيلمي åالكريستال المقدسò عن التعدد والتنوع في سوريا. وهذا كل ما حصل. ولم يتصل بي أحد. اتصلت بي الدكتورة حنان قصاب حسن بعد مقالي “الدمشقيون كومبارساً” وكانت غاضبة جداً. لكن لم يكلّف أحد منهم نفسه حتى باتصال عادي.
مسلسل “أسمهان”.. الذي كان مشروعك نصاً وإخراجاً. ثم أصبح سيناريو وحوار نبيل المالح وعرض. ما الذي تركه عندك.. من خلال الاسم الذي منحته إياه “أسطورة امرأة”؟
المالح: المرأة الشرقية فيها شيء عجائبي. لم أر امرأة لها ألوان مختلفة كالمرأة الشرقية. هي عاطفية، هي قاسية، هي مقاتلة. قد يكون فيها سبع نساء أو عشر نساء في اللحظة ذاتها. كل الدراما العربية تقدم المرأة العربية، على نمط واحد، هذه شريرة، هذه طيبة، هذه معذّبة. في مسلسل “أسمهان”، جاءتني الفرصة لأقدم روحاً حرة، امرأة حرّة. قد تكون حرّة أكثر من اللازم.
تقصد آمال الأطرش.
المالح: آمال الأطرش أو أسمهان، هي لا شك بالنسبة إليّ، تمثل المرأة الشرقية كما أراها، استطاعت في منعطفات حياتها، أن تتعامل مع الأدوات التي وصلتها. وصلها الغناء، وصلت العائلة، وصل التأزم، وصلت المرحلة التاريخية الاجتماعية الاقتصادية في المنطقة. وهي كانت ابنة تلك التحولات، وهي ممثلة لها. فوجدت نفسي في مكان رحب. أمام امرأة استثنائية وحدث استثنائي. أنا وقعت في غرام أسمهان. وهذه كانت واحدة من مشاكل الكتابة. وحتى حين كنت أبحث عن بطلة، لم أكن أرى سوى البطلة التي أقوم بكتابتها. وكان العمل مكلفاً جداً، الأماكن، الأزياء والشخصيات وغيرها. وأنا استغرقت كثيراً في العمل. بينما كان الشركة المنتجة تلحّ عليّ. فاعتذرت وفكرنا معاً بمخرج، وتم اختيار المخرج التونسي شوقي الماجري، وأنا أعتقد أن الماجري من أهم المخرجين العرب. وسيكون مخرجاً سينمائياً مهماً يوماً ما.
لماذا عمل نبيل المالح لم يتحوّل إلى مدرسة؟ يفترض أن تكون مشعاً لمن حولك؟ ويتعلم منك الآخرون. تأثير صورتك وليس تأثيرك الشخصي.
المالح: أنا لم أكن مستقراً في سوريا. ثم هناك تركيبتي الشخصية. تأثير صورتي، بقناعتي، وقد يكون في هذا تضخيم للذات. لكن أقول هذا، يأتي من فيلمي “إكليل الشوك”، الذي كان جديداً ومختلفاً تماماً عن كل ما ينتج سينمائياً في العالم العربي. ثم أخرجت “رجال تحت الشمس» ثم “نابالم” ثم “الفهد”، يمكنك أن تلاحظ أن كل إنتاج السينما السورية، وبنيتها الجمالية، وكيف ترى السينما، قد تحدّدت بهذه الأفلام، وإذا درست هذا بدراسة نقدية بحثية تشريحية ستجد أن “الفهد” صنع ما يمكن أن نقول عنه، كيف تسير السينما. كانت فيه ميزة مهمة جداً؟ فأنا كما تعلم كنت قد درست في أوروبا الشرقية، وحين رجعت إلى دمشق، لم أخرج فيلماً متأثّراً بمدارس ولا بأساتذة السوفيات، ولا فيلماً يشبه الأفلام الغربية أو المصرية المسيطرة علينا. خلقت صيغة مختلفة مستقلة لفيلم سوري، كنت حراً فيه، ودخلت في مغامرة. ولذلك حين حصل “الفهد” على جائزة مهرجان اليوبيل الفضي، وكان رئيس لجنة التحكيم هو أندريه تاركوفسكي، قال تاركوفسكي وقتها إن هذا الفيلم “شيء أصيل وليس نسخاً أو نقلاً عن شيء، حتى في بنيته السردية”. هذا كوّن نوعاً من التوجّه، أن السينما السورية هكذا، مثل الفهد.
مَن تعتقد مِن بين السينمائيين السوريين تعتقد أنه قد سار خلفك؟
المالح: لا أريد لأحد أن يسير خلفي. ولا خلف أيّ أحد.
أنت قلت “الفهد” كوّن بنية السينما السورية.
نبيل المالح: نعم كوّن البنية الجمالية.
هل ترى قرباً بين “أحلام المدينة” و”الفهد”؟
المالح: لا. على الإطلاق.
بفلسفة الصورة على سبيل المثال.
المالح: بفلسفة الصورة نعم. “أحلام المدينة” صنع بعد “الفهد” بعشر سنوات. وأقدّر قيمة هذا. لكن الشباب الذين اشتغلوا سينما في السينما، اشتغلوا على هذا الطريق. وكانت في كل أعمالهم المختلفة والمتنوعة تلك الميزة التي تحدثت عنها، وهي أنها كانت “أفلاماً سورية”، وهذا ما رسّخه وقدّمه لأول مرة فيلمي “الفهد”.
تعمل على أفكار غرائبية أحياناً. وأذكّر هنا بعمل لك، كان مسلسلاً صامتاً سمّيته “حالات”. السؤال، لماذا تريد التأثير على المشاهد بهذه الوسيلة، بالصمت؟
المالح: لنتفق على شيء أساسي. كل شيء سبق وأن صنع أحدٌ ما مثله، هو مجرد استنساخ. التجربة الأولى هي الفن. بالنسبة إليّ كل فيلم هو تجربة جديدة. عليّ أن أحاول فيه محاولة جديدة، بالشكل بالتعبير بالبنية بالطريقة السردية، أقترب من مناطق مجهولة بالنسبة إليّ أن أكتشفها أنا والمشاهد معاً. “حالات” هو مسلسل من ثلاثين حلقة. ثلاثون قصة مختلفة، من الدرامي للكوميدي للتهكمي إلى غيره. كل واحدة معالجة بطريقة مختلفة. رجعت في هذا المسلسل، إلى تجربتي الأولى في السينما حين بدأت، إنك تدخل في مغامرات كما لو كنت تدخل مغامرة حب. مغامرة الحب تحمل الكثير من الخيال، تحمل الكثير من الوهم، الكثير من الآمال والأحلام. فيها الكثير من الكذب، والحقيقة والضنى والألم والفرح. فكيف علاقة السينمائي مع الفيلم، كعلاقته مع المرأة. فكانت الفرصة في ثلاثين حلقة أن نجرّب قول شيء، وقول شيء مهم.
وقول صامت أيضاً.
المالح: وقول صامت. كانت هذه هي ميزة التجربة. البديع في العمل السينمائي ألا تكرّر نفسك، أنت لست محكوماً بالفشل، لماذا؟ بمجرد أن تكون مختلفاً وجديداً، هذا يعتبر وحده نجاحاً، وليس بالضرورة كما يقال إن الفيلم “ضارب” وحقق ريعاً كبيراً. النجاح الحقيقي، أن تقدّم اكتشافات داخل العمل. وهذا ما يحزنني في السينما السورية، السينمائيون السوريون نشاطهم عقلي، بحثي، كبير جداً. ولكن هم في النهاية لم يتمكّنوا من إنتاج كمّ كبير. وأنا أعتب عليهم. إذا لم تأتيك الفرصة لتحقيق فيلم سينمائي روائي كبير يمكنك أن تصنع فيلماً من ثلاث دقائق أو من دقيقتين. عمل السينما مثل عزف الكمنجة. لا يمكنك أن تترك عزف الكمان فترة طويلة. عازف الكمان الجيد لديه ست ساعات يومياً من التدريبات. في السينما الأمر أصعب. لأنّ عليك أن تخلق النوتة الخاصة بك. بينما العازف لديه نوتة موسيقية ـ مؤلف موسيقي. أنت عليك أن تخلق مؤلفك البصري الذي يحتوي كل العناصر.
هل تعلم أنك كررت كلمة وهم في هذا الحوار أكثر من خمس مرات حتى الآن؟ قلت لي من قبل إن لديك مشروعاً خاصاً جداً، سميّته لي وقتها “سينما نبيل المالح” وقلت لي إنه عمل عن الوهم. أين أصبح هذا المشروع؟ هل أنت مسحور بالوهم؟
المالح: نعم. هناك وهم، وهناك انكسار في الوهم. لدينا مشكلة، أنك تفاجأ في لحظة ما، في يوم من الأيام أن عمرك أصبح ستين سنة. كنت راكضاً خلف أشياء كثيرة، لكن لا شيء منها قد تحقق. أنا خلفي أكثر من 150 فيلماً سينمائياً بين روائي وتسجيلي وقصير وطويل، ثم أكتشف وهماً، أنّي عملياً لم أبدأ بعد. كما حين تشعر بلدان بنفسها أنها كبيرة، وفي الواقع هي صغيرة جداً. هنا في الشرق الأوسط بلدان تعتقد أنها قادرة على تدمير العالم، وهي غير قادرة سوى على تدمير ذاتها. بلدان رغم كل ما تملكه من قيم، هي تأكل نفسها، وتذوب، كمشروع حضاري ومشروع إنساني وكوجود في كون متحرك.
بالنسبة إليّ، هناك الوهم، وهناك الخيال. الوهم هو حالة الكذب على الذات. الخيال هو الحالة الوحيدة الحقيقية في الإنسان، لأنها هي التي تصنع منه إنساناً، ما الذي يريد أن يكونه. خيالنا هو ما يجرّ بلادنا إلى الأمام، وليس الوهم.
أين أصبح هذا المشروع؟
المالح: سأحاول إنجازه قريباً. لكنه ليس كل شيء. الآن لديّ مشروع معرّض للوحاتي. وأيضاً طباعة مجموعتي الشعرية.
نقاد السينما يقولون عنك، وأعرف أنك لن تنزعج مني لقول هذا، يقولون إنك حين تحضر فيلماً سينمائياً، تخرج من القاعة بعده، وتشكر المخرج وفريق العمل، ولا تقول رأيك. حريص على علاقاتك مع الآخرين. هل أنت كذلك؟
المالح: لا. لكن أنا بصراحة، لا أؤمن أن كل رسام موجود حولنا هو بيكاسو أو رامبرانت. أو كل موسيقي عزف قليلاً صار كذا. ليس لديّ هذا الوهم. أنا أعرف الجهد الذي يمكن أن يتطلبه عمل سينمائي. أعرف شروطه. سواء لدى الكاتب أو المخرج أو الممثل. الشرط الحالي صعب جداً. وبغض النظر عن ذلك، ليس كل عمل يتم إنتاجه يخرج عبقرياً وعظيماً. عظمة العمل الفني أنه مفاجأة. أعمال كثيرة لم يكن من المتخيل أن يكون لها قيمة، أصبحت مثل الشهاب، وأعمال كثيرة صرف عليها أموال طائلة، خرجت عادية.
أنت تنتقد السلطة ولا تنتقد السينمائيين.
المالح: نعم هؤلاء السينمائيون بمواجهة مع سلطة قمعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. بينما من يتحكم بهم مصيره سيكون مزبلة التاريخ. هناك كثيرون من بين السوريين لم تتح لهم الفرصة، ليس فقط في السينما، في الصناعة، في البذار، في الزراعة والسماد. عندما تأتي إدارة تلغي القيم المضافة لصانعيها، أنا أعتبرها خيانة عظمى. الخيانة العظمى ليس أن تسرّب أسرار الدولة للأعداء. الخيانة العظمى أن تخرّب. تخرب خلايا هذا البلد.
سمعت صوتك الغاضب الآن.. وسمعته جيداً. ما هي رؤيتك التي لا تتحدث عنها؟
المالح: رؤيتي بسيطة. أنا أريد مثل أيّ مواطن. كان في الزمان القديم. قبل أن نصل إلى عصر الحزب الواحد في سوريا. كان هناك أحزاب، وكل إنسان كجزء من مواطنته، كونه مواطن. يريد أن ينضوي ضمن أيّ مشروع. هذا يسمي نفسه بعثياً، وآخر يسمي نفسه شيوعياً وذاك قومي سوري، وهذا اشتراكي إلى آخره. لكن هؤلاء لا يكسبون شيئاً من هذا سوى رغبة الانضواء مع الآخرين ضمن مشروع. وكلهم لا يحق لهم أن يتّهموا بعضهم البعض بالخيانة. كلهم مشروعهم وطني، ولكن يرونه بصور أخرى. ثم توحّد المشروع قسراً كما تعلم. ماذا حصل؟ لم تخلق الحواضن الحقيقية لصنع مشروع وطني ينضوي الجميع تحته، لا يكونون مثل بعضهم البعض. بل يكمّلون بعضهم البعض. ونحن حتى إذا أردنا أن ننشئ مجموعة أو حركة تشكيلية، مكونة من رسامين، لا نقول لهم: والله هذه السّنة سيكون اتجاهنا في هذه السنة تكعيبيا، أو تجريديا. هذا عبث. كل واحد في اتجاه. ولكن أن أنضوي ضمن حركة ثقافية، تقول أنا صادر من سوريا، أنا وجه من وجوه سوريا الخلاقة. هذا المشروع الوطني بقناعتي. ليس الأمور اليومية. لكن الرؤية. إلى أين؟ أمنيتي أن توجد منظومة راعية تستطيع أن تنهض بالقيم المضافة لسوريا، كما قلت في البداية. سوريا تملك المؤهلات. تملك العقل الإبداعي، تملك الموقع الجغرافي. تملك الإنسان. أنا أدعى إلى كندا وأميركا وأوروبا كخبير محترم ومقدر. ولكن أنا لا قيمة لي سوى هنا. في دمشق.
الحوار أجري في دمشق