ســـر الأدب
لماذا الأدب سرٌّ، أو بالأحرى أين يكمن سرُّ الأدب، وبقولٍ آخر ما الذي يضخُّ الأدب بهذه اللذّة التي لاتنقطع عبر تاريخ النَّوع الأدبي؟ إنّ الأدبَ تاريُخهُ تاريخُ اللذة أي تاريخ «السرِّ»؛ وعليه، فاللذة المندلقة من جسد النَّصِّ الأدبي ليست في واقع الحال إلا مفعول الـ«سرِّ» الذي ينطوي عليه النصُّ. فهل من سرٍّ يلوذ ببنية النصِّ ذاتها، لكي تغدو فضاءً لأركيولوجيا البحث عن أسرار هذا السر ذاته؟
في محاولةٍ لترصُّد جينالوجيا(نسابة) كائن «السِّر»، فإنَّ المعرفة المعجمية ترشقنا بحزمةٍ من الدَّلالات المصاحبة لتجليات هذه المفردة: الإخفاء، الإعلان، الإفضاء، الجوف، السرور، الأصل، الأفضل، ….إلخ. فهذا الفضاء الدَّلالي يكشف عن كينونة كائن «السرِّ» من حيث تقلُّبُهُ بين التخفي والإظهار، التَّحَجُّب والإعلان؛ فالسرُّ الذي يُتقن التخفي لابدَّ أن تأتي اللحظة التي يفضي فيها عن بعض سرِّه سواء أكان كائناً أم حدثاً؛ فالإفضاء قرين خفاء السر وانكماشه على ذاته:أسرَّ الشيء: كتمه وأظهره. إذ لا«تخفٍّ» دون «إفضاء»، فكلٌّ منهما يقود إلى الثاني في لعبة أبدية. ومن هنا إنْ كانت المجاهدة تسيِّج لحظة «التخفي» بالنسبة للباحث في شؤون سرِّ السِّرِّ؛ فإنَّه في لحظة «الإظهار» ينزلق على مدارج اللذة، متفجِّراً بالسرور، فلا لذةَ دون سرٍّ، ولا سرَّ دون لذّةٍ، ولهذا: يُطلق «السرُّ» على أحداث التواصل الحميم بين الأنثى والذكر تسميةً، بمعنى أنَّ نشدان اللذة والفرح تتم في السرِّ مكانياً، ولهذا يندرج السرير في المجال اللفظي والدلالي لمفردة «السرِّ» في العربية، بل أنَّ الجارية تسمى سُرِّيَّة تنسيباً إلى السرِّ بمعنى الجماع أو سميت بذلك لأنها موضع سرور الرجل [ لسان العرب]. ومن هنا اقتران السرِّ باللذة والسرور وكذلك بـ«الآخر». أما لماذا «الآخر» فلأنَّ السرَّ هو «هذا» الآخر ، يكتب جاك دريدا:«الآخر سرٌّ لأنه آخر»، فالآخر ـ مهما كان هذا الآخر: نصاً، كائناً، شيئاً، …هو مسعى البحث عن السرِّ، إذ ينطوي على السرِّ، على سرِّه الذي يتوجب احترامه، ومن دون ذلك؛ لايمكن للآخر أن يفضي لنا بسرِّهِ، حيث يبقى منغلقاً مستلذّاً بفضاء التخفي:« الآن قد يكون ـ يقول دريدا ـ هناك واجب أخلاقي وسياسي لاحترام السرِّ، ونوع من الحق في نوع من الأسرار»، وهذا الاحترام يتجلَّى من خلال الحوار بدلاً من ممارسة العنف والاعتقال لإجبار الآخر على إفشاء السر والإعلان عنه، فالحوار هو الطريق إلى لذة السرِّ أو سر اللذة، فمن خلال الحوار وعبره يتكشّف السرُّ لدى الآخر.
وإذا كان ذلك كذلك؛ فلنذهب إلى هذا «الآخر» الذي يُسمَّى «أدباً» نستقصي شؤون السِّرِّ فيه متتبعين خطى جاك دريدا:« يحتفظ الأدب بسرٍّ لايوجد، إذا جاز لنا قول ذلك. خلف رواية أو قصيدة، خلف ما يشكِّلُّ غنى معنى يحتاج إلى التأويل، لا وجود لمعنى سريٍّ يتعين البحث عنه. فسرُّ شخصية ما، على سبيل المثال، موجود، إذ ليس لها أيّ عمق خارج الظاهر الأدبية. فالأدب سرُّ كلُّه، وليس هناك سرٌّ خفي خلفه». إنَّ جاك دريدا بهذا الإقرار يخضع الخطاب الأدبي لمفهومات التفكيك فيما يخصُّ ثيمة «السرّ»، فالسرُّ الذي ينطوي عليه النصُّ الأدبي يندرج في اللعبة التي تُديرها العلامات فيما بينها بعيداً عن بلادة الخارج النصي؛ حيث يمكن أن نحدِّد هذه اللعبة بـ«النَّصيةtextuality» أو نصية النص، كما لو أنَّ النَّصية هي موطن «السرِّ» ــ وهي كذلك فعلاً ـ بمعنى أن النَّصيَّة تمثلُّ جانباً مهماً من طاقة النَّص الأدبي على تصنيع «السرِّ»، وتسييج النَّص في وجه محاولات إباحة أسراره وهتكها. وعليه فالنَّصية هي التي تجعل النَّصَ نصاً، وبالتالي تمنحه القدرة على الاحتفاظ بسرِّهِ الأبدي، فلايمكن أن يكون ثمة نصُّ ــ كما يقول دريدا ــ إلا إذا حجب عن قارئه قانون تركيبه وقواعد لعبته، أي النَّصيّة التي بموجبها يلتفُّ على سرِّهِ، وهذا لايعني بحال أن هذه النَّصية تبقى عصية على الفهم، فالسرُّ لابدَّ له أن يعلن عن شيء من أسراره؛ ليستمر النَّصُّ في اللعب بالقارىء قراءة إثر قراءة، فقانون النَّصيّة يقوم على التوتر بين التخفي والإظهار، التحجب واللاتحجب، الحضور والانسحاب، وبالتالي لايمكن بحال التحكُّم في النَّصِّ، ومن هنا يكون الامتناع عن الحسم الدَّلالي في صلب كينونة النَّصيّة للإبقاء على ديمومة طاقة النَّصِّ على إنتاج السرِّ وبقاء العمل الأدبي لغزاً لاينفك يعبث بجهد القارىء ومحاولاته الحثيثة في القبض على ذا «السرِّ» الذي لاسرَّ له أصلاً. فالسرُّ يكمن في هذه «النَّصيّة» التي تمنح النصَّ القدرة على الإفلات من الحسم والقطع والحصار والتمرد والتأويل االلانهائي. وبناء على ذلك يسكن النصُّ ــ أتحدّث عن النّصِّ المختلف ــ فضاء التردُّد والتأجيل حيث تمنع النَّصيّة النَّص من الانزياح إلى حدٍّ دون آخر: الوضوح دون الغموض، الداخل دون الخارج، المرئي دون اللامرئي. وهكذا يتموقع النصُّ خارج الثنائيات المتعارضة، ليحتفظ بسره الدفين.
لوحة: نصير حسين
لكن كيف تتحقّق «النَّصيّة» في النَّصِّ، ومن ثم تؤسِّس لـ«سرِّ» النص ذاته؟
في هذا الإطار تتجه القراءة نحو استكشافات جاك دريدا في الحقل التفكيكي، ذلك أن النَّصيّة هي وليدة الاشتغال التفكيكي، فالنصية ـ بوصفها المأوى الذي يستوطن فيه «السرُّ» ويمارس ألاعيبه على القارىء ليلج متاهة التأويلات اللانهائية ـ هذه النصية تتكىء على جملة قوانين بعضها أضحى متداولاً في الحقل الأدبي وبعضها الآخر برسم الاستكشاف. وتزعم القراءة الراهنة أن «النَّصيّة» أنطولوجياً تتمظهر عبر قوانين: الاخـ(تـ)ـلاف differ(a)nce والتشتُّت dissemination والأثرtrace، وهي التي تتولى مسؤولية تأسيس «السِّرِّ» في النص الأدبي، ذلك أن السرَّ ليس هبة من قوةٍ ميتافيزيقية تلج النص كما يُزعم بقدر ما تتولى النَّصيّة تنشئته وتنميته؛ ليغدو كائناً غير مرئي يَهَبُ اللذة للقارىء ويقذفه في أتون الحيرة والدهشة، لهذا فغياب أيٍّ من هذه القوانين يموقع النَّصَّ في فضاء الموت والمؤقت والنسيان، وما أكثر النصوص الموات في هذه الآونة التي لاتحتفظ بأي سرٍّ؛ لكونها لم تنجح في تأسيس نصياتها أصلاً حتى تتلفع بالسرِّ الذي يقيها من النسيان. إن الاخـ(تــ)ـلاف differ(a)nce بهذا الشكل غير الاعتيادي كتابةً يحقق للنص الأدبي بعدين يتوقف عليهما إلى حدٍّ كبيرٍ كينونة السرِّ بوصفه خفاءً وإظهاراً؛ حيث تتشظّى المفردة إلى كائنين: الاختلاف ـ بتثبيت التاء ـ وهذا يعني أن يمارس النصُّ اختلافه ولايكون متشابهاً مع غيره من النصوص؛ فالاختلافdiffer يضمن للنص هويةً متباينة، والهوية المختلفة أولى شروط النَّصيّة، ومدماك السرِّ في النص، فالسرُّ لايمكن أن ينمو في النص مالم يكن ثمة كينونة نصية مختلفة، حيث السر يتستّر في الاختلاف ويعشقه، ومن هنا الاشمئزاز الذي تبديه النصوص المتماثلة تجاه السرُّ، إذ التماثل يتخذ من الاختلاف ـ ومن ثمَّ السرّ ـ عدواً لدوداً له، لذلك كان الاختلاف موطناً للسرِّ يمارس فيه كينونته.
وإذا عرجنا على التفريع الثاني سوف نجد أنفسنا إزاء: الإخلاف ـ بإسقاط التاء ـ لتفيد المفردة دلالات الإرجاء والتأجيلdefer وهكذا فالنَّصُّ من خلال هذين العاملين يتمتع بطابع مكانيٍّ عبر الهوية المتجسدة (الاختلاف) وآخر زماني عبر التأجيل والإرجاء أي أنَّ السرَّ يحضر من خلال الاختلاف/ الهوية؛ لينسحب عبر التأجيل بإرجائه لدلالات النص وتأخير حضورها؛ ليضمن السرُّ سريته عبر الزمن. ومن خلال هذا الحضور والغياب يعكف النصُّ على صون السرِّ فيه، ولايتيح للقراءات أن تستهلكه وترميه خارج دائرة الخلود. وحتى تمتلك النَّصيَّة طاقة أكبر على صناعة السر؛ فإنها في الواقع تواشج بين العاملين السابقين و قانون الأثرtrace، فالأثر هو الذي يتيح ترسيخ السر في النص الأدبي من حيث إن الأثر يشير إلى أنَّ الدلالة النصية لايمكن أن تكون ممكنة إلا بدخول النص في علاقات تناصية مع النصوص الأخرى؛ بمعنى أنَّ النصَّ لايمكن أن يحضر إلا من خلال حضور النص الآخر وفي الوقت ذاته يترك نفسه مشرعاً لآثار النصوص اللاحقة. وهكذا يتحرك النصُّ في دوامة أبدية بين آثار الماضي والحاضر والمستقبل؛ ليكون أثراً لآثار آثار، ويزداد سريةً وتخفياً وانسحاباً، فالبحث عن السرِّ يتطلب قروناً لفكِّ نسيج/ أسرار الآثار الأخرى، حيث الآثار تغطي الآثار مما يجعل من قبيل الاستحالة الوصول إلى الأثر/ السّر ــ الأصل، ذلك أنه «لا ــ أثر ــ أصل» في الواقع، لأننا نجد أنفسنا إزاء متاهة تتداخل فيها الآثار.
وبناء على ذلك، فتاريخ السر من تاريخ «الأثر» ذاته، إذ يغدو معرفة السر والقبض عليه من إدراك الطبقات الجيولوجية للأثر النصي، وهذا من المتعذِّر الوصول إليه. بيد أنَّ النَّصيَّة تتكىء على قانون الشتُّت dissemination ليغدو سرُّ النص الأدبي أكثر خفاء وعصياً وصعوبةً لإدراك طبيعته، فالتشتُّت (= الانتشار/ الانتثار) يعني قدرة نصية النص ـ نتيجة التعاضد المقدس بين الاختلاف والإخلاف والأثر ـ على الفيض الدلالي والانتشار والتكاثر بصورة لايمكن معها السيطرة على النص الذي يحيا حالة فيضان دلالي. ومن هنا فالفيض الدلالي من خلال انتثاره يربك القارىء ويجرفه في اتجاهات غير محسوبة؛ ليكون مؤشراً آخر على اشتغال نصية النص وفق سرٍّ لانعرف إلا القليل عن طبيعته. ولكن إذا كانت النصية هي اللاحسمُ indecidable، فإنَّ اللاحسمَ ذاته هو الذي يودع السرَّ في النص، إذ به يصونُ السرُّ ذاتَهُ من الاندلاق على حوافِّ النصِّ، ليكون قرين المستحيل، فالسرُّ هو استحالة النص على الحسم، وهو سرُّ الاخـ(تـ)ـلاف وخيانة الحضور.