فواز طرابلسي الفكر والعاصفة
يحاول الغرب قراءة الثورات العربية، وهناك ثقة لدى الكثير من الباحثين العرب بالدراسات الغربية فيأخذون مقولاتهم ويبدأون بتصديرها على واقعنا بغض النظر عن كونها تنطبق أم لا، فالثورات العربية حصلت في بلاد عربية وشهد عليها العرب، ولكن مع ذلك نجد من يقول إن الثورات العربية بحسب دراسات غربية هي حركات اجتماعية، ما رأيك بموضعة الثورات العربية داخل إطار الحركات الاجتماعية وأن مقوّمها الأساسي مقوّم عاطفي وهو الثأر؟
طرابلسي: صدرت في البلدان الغربية قراءات متباينة للثورات العربية، والأهم أن معظمها جرى تبنّيه محليا على نطاق واسع.
إذا كانت شعارات الملايين من الذين اجتاحوا الشوارع والساحات ذات دلالة، طالما أنها ترددت من البحر الأحمر إلى الأطلسي ومن تونس والقاهرة إلى الشمال السوري، فإنها تقدّم لنا تعريفا للثورة وأهدافها والمشكلات والأزمات التي تريد التعبير عنها لا يحتاج إلى كثير من التنظير.
«الشعب يريد إسقاط النظام» يستعيد فكرتين محوريّتين تعودان إلى حقبة التحرر الوطني وإلى الفكر الجمهوري الديمقراطي في آن معا: الشعب (حلّ محله المجتمع المدني) والإرادة الشعبية بما هي مصدر السلطة، وهي جوهر الديمقراطية، دون أن تكون مفردة أثيرة لدى الليبراليين ودعاة التعددية والتنوع. وإسقاط النظام (والتمييز واضح بين نظام ودولة) بما فيه من فعل إرغامي. إلى ذلك كانت هتافات «عمل، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية» بمثابة برنامج أهداف هو نفسه تشخيص لأسباب الثورة: البطالة الاستبداد، الفوارق المناطقية والطبقية، امتهان الأفراد في قيمتهم الإنسانية.
طغت تسمية «الربيع العربي» التي أطلقتها الصحافة الغربية على كل المسمّيات والأفدح أن تصوير الثورة على أنها حدث «طبيعي» حوّلها الى حدث دوري تكراري لا يحمل أيّ مفاجأة وكأنه لا يتطلّب البحث في أسبابه أو مساراته أو مآلاته. وإنه لمعبّر جداً أن يجري اختيار شعارين من الشعارات الأربعة الرئيسة هما «حرية وكرامة» وسرعان ما جرى تجيير كل هذه الشعارات إلى هدف أوحد: «الانتقال الديمقراطي». صارت الحرية تعادل الانتقال الديمقراطي. أما «الكرامة» فقد شاع استخدامها وسهل القبول بها بما توحي به داخليا من «شيمة» أو قيمة يجري بواسطتها توطين الثورات عربياً ، محلياً، وتلقى صدى استشراقياً إيجابيا في الدوائر الغربية.
عن «الحركات الاجتماعية» نموذجاً نظرياً لفهم الثورات العربية يجب القول إنها في الأصل منتوج سوسيولوجي في الغرب الصناعي بعد السبعينات، شديد التأثر بانتفاضات ربيع 1968 الفرنسية والعالمية، أريد منه تعديل أحادية الجانب في اعتبار الطبقة العاملة الطبقة الوحيدة المؤهّلة للثورة والتغيير، والإشارة إلى وجود تركيبٍ من القوى المجتمعية والعمرية قابلة للعب هذا الدّور. على أن الحركات الاجتماعية عادة ما تقتصر أدوارها كحركات احتجاجية أو مطلبية أو إصلاحية، ونادرا ما تتطرّق للتغييرات البنيوية أو الجذرية أو تطرح مسألة السلطة إضافة إلى طابعها السلمي الغالب. بهذا المعنى يصعب اعتبار الثورات «حركات اجتماعية».
لا زلت لا أفهم تماماً ما المقصود بفقدان الكرامة واستعادتها في مجتمع حديث. اللهم إلا إذا كان المقصود تعيين أصالتها بردّها إلى الشيمة التقليدية العربية إياها ففي الأمر استشراقية مبتذلة. أما إذا كان المقصود اختزال الكرامة بامتهان الفرد في قيمته كإنسان – فيصبح السؤال: أليس الفقر والقمع والبطالة والتمييز الطبقي والمناطقي والإثني والمذهبي – منوعات من الانتقاص من كرامة البشر؟ في إحدى الندوات عن الثورات، المنعقدة مؤخراً ببيروت، سمعت أحد كبار موظفي إحدى المؤسسات التنموية وهو يعرّف الثورة السورية على أنها ثورة كرامة، مستثنياً سائر التفسيرات، ليعلن أن الشعب السوري كان راضياً بحكم بشار الأسد لولا أنه كان يحتاج إلى الكرامة. والرجل سوريّ بالمناسبة. وينتمي إلى هذا الفصيل التحليلي المجابهة بين الخبز والكرامة بإنكار أن الثورة في سوريا هي ثورة من أجل الخبز – أي القضايا المعيشية – وهي فقط من أجل الحرية والكرامة.
إذا كان المقصود اختزال الكرامة بامتهان الفرد في قيمته كإنسان – فيصبح السؤال: أليس الفقر والقمع والبطالة والتمييز الطبقي والمناطقي والإثني والمذهبي – منوعات من الانتقاص من كرامة البشر؟
هكذا خصمت من شعارات الثورات رموز العمل والعدالة الاجتماعية وجرى الاكتفاء برمزيْ: الحرية والكرامة. وإنه لمعبّر جداً أن من تمسك بشعاري الحرية والكرامة هي قوى محافظة حتى لا أقول يمينية ممن أراد احتواء الثورات وإفراغها ممّا فيها من مطالب وحقوق. عندما انتفض سكان الأرياف والأطراف والعاطلون في القصرين خلال فبراير 2016 تحت شعاري «التشغيل والتنمية» لم يجد القائد السبسي رئيس الجمهورية التونسية، وأحد أركان الردة ضد الثورة التونسية، أكثر من أن يذكّر المنتفضين بأن الثورة قامت من أجل الحرية والكرامة.
وثمة محاولات تطبيق لمقولة «الحركات الاجتماعية الجديدة» على الحالة العربية والجديد هنا هو قراءة الحركات الشعبية الاحتجاجية من خلال المشاعر التي تعبّر عنها أو تسودها. فبعد «الكرامة» لديك «العيب»، الذي اكتشف المستشرق فؤاد عجمي أن الشعوب العربية قد تحررت منه بعد أن كان العقبة الجوهرية التاريخية أمام الانتقال الديمقراطي، ولديك الغزل على منوال «كسر الخوف» ناهيك عن تفسير للثورات يردّها إلى الكبت الجنسي لدى شباب عربي مسلم مكبّل بتحريمات الدين والعادات والتقاليد، وصاحب التفسير المستشرق برنارد لويس، مستشار الرئيس بوش الأب والابن وأبرز دعاة احتلال العراق. وها هو شعور «الثأر» يجري على المنوال ذاته من الاستشراق المضروب بالثقافوية البعد حداثية، يدلو بدلوه في تحرير الثورات من المصالح والتطلعات والحقوق.
هل تتفق في رأيك مع عزمي بشارة في كتابه الصادر عام 2014: “سورية: درب الآلام نحو الحرية” بأن الثورات العربية تمر في مرحلة انتقالية؟ كيف ترى وتصف ما تمر به الثورات العربية، لا سيما الثورة السورية؟
طرابلسي: مرحلة انتقالية، نعم. إذا شخصنا معالم الانتقال من أين إلى أين.
لنتفاهم أولا على أننا بصدد ثورات. أي انفجارات شعبية، على عفويتها، تجهر بنيّتها إسقاط السلطات القائمة، وإحلال سلطات بديلة محلها، بقصد تغيير الدولة والمجتمع تغييراً جذرياً بقوة الملايين من أبناء الشعب، من الشباب خصوصاً. لم تكتف تلك الجماهير بهذا وإنّما جاهرت بأهداف جذرية تنمّ عن مشكلات جذرية. فشعارات عمل-حرية-عدالة اجتماعية-كرامة إنسانية، التي ترددت من المحيط إلى الخليج ومن اليمن إلى سوريا، أعلنت أيضا أسباب الانفجارات: البطالة، الاستبداد والقمع، نمو الفوارق الاجتماعية والمناطقية، والاستهتار بالأفراد وحقوقهم. أما انتقال هذه الحركات من طابعها السلمي إلى العنف فمرهونٌ بطريقة استجابة أو عدم استجابة النظام القائم لمطالبها.
كان التدخل الأميركي المبكر على نمط واحد، تمّ باسم الهدوء والاستقرار وأمن الأنظمة والحدود (خصوصا حدود إسرائيل)، ومؤداه التضحية بالرئيس عند الضرورة لإنقاذ النظام، (ومعبّر جدا أن يكون هذا الإجراء هو ما يأخذه فلاديمير بوتين على أوباما!). أمكن تطبيق ذلك في أربع حالات: ليبيا، اليمن، مصر، تونس: بالقتل في ليبيا وبالتنحي في حال مبارك، المختلف مع الجيش على موضوع التوريث، وبن علي، الذي تخلّت عنه القوات المسلحة وقسم كبير من حزبه، وعلي عبدالله صالح الذي قضت المبادرة الخليجية في اليمن منحه الحصانة لقاء تخلّيه عن الرئاسة وتسليمها إلى نائبه. وجرى دعم الإخوان المسلمين للارتقاء إلى سدّة الحكم، على اعتبارهم «الإسلام المعتدل»، في نظرة للمنطقة كانت ولا تزال مرتهنة لأولوية «الحرب الكونية ضد الإرهاب». في مصر وتونس، تولّى فرعا الإخوان المسلمين الحكم بعد الفوز في انتخابات نيابية ورئاسية. وفي اليمن، حيث انشق الجيش، على موضوع التوريث، فجرى دعم حزب الإصلاح اليمني، التحالف بين زعماء قبيلة حاشد مع الإخوان المسلمين، للوصول إلى الواجهة. في المعارضة السورية، ألقي الثقل وراء قيادة «المجلس الوطني» التي شكّل الإخوان المسلمون أبرز قواه.
بدل عمومية الانتقال، الأحرى القول إن الثورات استولدت ردّات مضادة للثورة، أو ثورات مضادة، حسب التعبير الدارج. وهذه لها أشكال مختلفة، ناعمة نسبياً في مصر، حيث الانهيار السريع لحكم الإخوان تحت الضغط الشعبي فصادره الجيش الذي أمسك بالسلطة ساعياً إلى تجديد الحكم الفردي. في تونس نجحت النقابات المهنية وجمعية حقوق الإنسان في عقد تسوية أنتجت دستوراً جديداً وانتخابات رئاسية ونيابية ما لبثت أن جاءت بتساكن بين قسم من النظام القديم وحركة النهضة الإسلامية. ولكن ما لبثت سياسات التحالف النيوليبرالية وإهمال المطالب الاجتماعية والمعيشية للتونسيين أن أدى إلى انطلاق حركات الاحتجاج في منتصف يناير في منطقة القصرين فحشدت شبانا عاطلين عن العمل وجماهير ريفية مهمشة أدت إلى اشتباكات مع قوى الأمن. وتوالت حركات الاحتجاج والتضامن في أكثر من 16 ولاية تونسية بما فيها المدن الساحلية والعاصمة تتحرك تحت شعاري «التشغيل والتنمية»..
ما سبق قوله يعني أن الانتفاضات كانت في الأصل متعددة المكونات والقوى يتنازعها تياران على الأقل: تيار حداثي يريد تغيير الأنظمة وتطوير الدولة ذاتها، باتجاه دولة ديمقراطية ذات توجه إنمائي اجتماعي، وتيار يرى في السيطرة على السلطة وسيلة لتحويل طبيعة الدولة ذاتها إلى دولة إسلامية بتطبيق الشريعة. هناك أنواع من الثورات المضادة أو من قوى الردّة، فنجد في منوعات دفاع الأنظمة عن بقائها تجديد العصب الزيدي للسلطة بواسطة انقلاب الحركة الحوثية المسلحة في اليمن، واحتلالها العاصمة واندفاعتها للسيطرة العسكرية على البلد كله ما استدعى التدخل السعودي الخليجي ووقوع أفقر بلد عربي في هذا المزيج المأسوي من حرب أهلية وتدخل خارجي. وهناك دفاع نظام عن نفسه على طريقة البحرين، مدعوما بالتدخل العسكري السعودي وبتواطؤ وإهمال كبيرين في المنطقة والعالم. ولقد أسهبت أعلاه عن سوريا فلن أزيد.
اليسار والثورات
غياب الفكر اليساري أحد التهم التي توصم بها ثورات الربيع العربي وأحد الأسباب التي يتكهن بها المحللون لسيادة الديني على الساحات بدلاً من الحزبي الثقافي والفكري، هل ترى في الاتهام والسبب المتنبأ به وجهة نظر؟ وإن كان الأمر كذلك لماذا لم يتجنب لبنان الطائفية والفئات الجهادية بالرغم من أن الأحزاب اليسارية المتنوعة تلعب دوراً رئيسياً فيه من مثل الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي وغيرهم كثر.
طرابلسي: في السؤال سؤالان، أبدأ باليسار والثورات.
عندما باشرنا بإصدار مجلة «بدايات» الفصلية الفكرية الثقافية في مارس2012، منبراً يسارياً يواكب الثورات العربية، كتبنا أن الثورات فرصة تاريخية لإعادة بناء اليسار، ليوضح هويته الفكرية، ويجدد تمثيله الاجتماعي للفئات الكادحة والمهمشة في المجتمع، ويعيد الاعتبار لترابط قيمتي الحرية والمساواة، ويعمد إلى إعادة بناء عتاده النظري ورؤيته وبرامجه رداً على تحديات عصر جديد هو عصر العولمة النيوليبرالية. ودعونا إلى يسار يضمن استقلاله الفكري والسياسي والتنظيمي، ويبتكر استراتيجيات ووسائل النضال وأشكالا تنظيمية أكثر ملاءمة لما تحوّل في الفكر والمجتمعات والسلطات.
عن الثورات، أول ما يجب قوله إن شباب وشابات اليسار العربي كانوا سبّاقين إلى النزول إلى الشوارع والساحات منذ الأيام الأولى للانتفاضات. وتعرّضوا إلى جانب رفاقهم من كافة التيارات والاتجاهات للاعتقال والقتل ولازالوا يتعرّضون للتشريد والاضهطاد. وطبيعي أن لا تقتصر مشاركة اليساريين واليساريات على الشباب. لكن عنصر الشباب أسهم في إعطاء الثورات زخمها وشعاراتها وأشكالا مبتكرة وخلاقة في التنظيم والتضامن والتفاني والإخلاص.
على الصعيد السياسي، وصل اليسار إلى الثورات بما هو بقايا أحزاب وتنظيمات مثخن بعقود من القمع، والنزاع مع السلطات الحاكمة، قبل أن يتلقّى ضربة انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته.
لم يكن أداء اليسار الحزبي بمستوى التوقعات قياساً إلى جذرية العمليات الثورية ذاتها ولا كان بمستوى تطلعات وآمال وحماس منتسبيه أو المتطلعين إليه من الشباب خصوصا. رأت بعض أحزاب اليسار في الثورات مناسبة للمشاركة في السلطة. وفي معظم الحالات، ارتضى يساريون أن يختزلوا هويتهم بالعلمانية وأن يصنّفوا أنفسهم طرفاً في ثنائية علماني/إسلامي، والتركيز على معارضة الإسلام السياسي، حتى لو اضطرهم الأمر إلى التحالف الانتخابي مع قوى النظام القديم أو الانحياز له ضد الاسلاميين. والأفدح هو أن هذا الاختزال للنفس بالعَلمانية أدى للارتضاء بتغييب القضايا الاجتماعية المتعلقة بالبطالة والفقر والتفاوت الطبقي والمناطقي وغيرها.
هنا أودّ القول إن من أراد منافسة حركات الإسلام السياسي كان الأحرى به أن ينافسها في الشارع وبين الناس وأن يسدّد ضرباته إلى نقاط ضعفها الفعلية، أي إلى البطن الرخو لكل مشاريع الإسلام السياسي الذي هو القضية الاقتصادية الاجتماعية، لا لأن تلك القوى مبدعة في السياسة والثقافة ولكن لأنها تكاد تكون مفلسة اقتصادياً واجتماعيا، اللهم إلا إذا اعتبرنا تأتأتها النيوليبرالية وخدماتها الخيرية والإحسان مشروعاً اقتصادياً واجتماعياً. وليس أدل على ما أقول من انهيار عهد الإخوان المسلمين في مصر أمام العجز عن التقدّم بأيّ فكرة وأيّ مشروع لمعالجة قضايا البلد المزمنة والمتفاقمة، ومثله عجز حركة النهضة التونسية ما دفع إلى تصاعد الدّعوات في أوساطها للاعتراف بالفشل في تحمّل المسؤولية والانسحاب من الحكم.
ثمة مشكلة أخرى سيطرت على معظم قوى اليسار عشية الثورات بعدما رفع الغطاء الأيديولوجي السوفياتي عنه هي انشقاقه بين تيارين: تيار قومي ذو خطاب فج معاد للكولونيالية يغرّب المشكلات الداخلية تحت عنوان مطاردة «مشاريع» استعمارية ضد المنطقة (ليس أنها غير موجودة، بل لأن التشخيص والتعيين قاصران أيما قصور عن تبيّن المرحلة الجديدة من الامبريالية) وهو تيار وقف في معظمه إلى جانب أنظمة الاستبداد بحجة أن الرجعية العربية والولايات المتحدة تناصبها العداء (مثلا موقف اليسار التونسي المؤيد لنظام البعث ودكتاتورية بشار الأسد الذي حظي بتأييد تيارين قديمين من تيارات اليسار السوري) وتيار ليبرالي يتوهم أن الديمقراطية سوف تأتيه محمّلة على أساطيل وطائرات ودبابات أميركا والحلف الأطلسي. الأقلية هم من نجح في اللقاء خارج هذا الاستقطاب.
اليسار بحاجة إلى إعادة تأسيس يقوم على تعاقد جديد بين أفراده ومكوناته يحلّ محلّ التعاقدات القديمة التي تغيّرت معطياتها إلى أبعد حد. هذا هو التحدي التاريخي الذي يواجهه. لست واثقا من أنه يمكن بناؤه بالحجارة القديمة. لكني أتمنى أن يعاد تأسيسه على يد جيل جديد من اليساريات واليساريين، يواكب ما يولد الآن من تنظيمات يسارية تنهض ضد الاستبداد والنيوليبرالية في كافة أنحاء العالم، مزيجاً من بقايا يسار قديم، أمكنه العبور إلى الحاضر والتطلع للمستقبل، ومن جيل جديد من اليساريات واليساريين قادم من تجارب جديدة وأفكار جديدة ووسائل عمل جديدة. والمشجّع أن مثل هذا اليسار قابل لأن يولد بسرعة ويصل إلى كسب شعبية سريعة، في حال التقط القضايا المركزية التي تهمّ الأكثرية الشعبية، كما هو حال تنظيمات من مثل سيريزا اليونان وبوديموس أسبانيا وجبهة اليسار الموحّد في البرتغال. ويجب القول إن ألواناً من الماركسية الحيّة المتجددة، بعد السوفياتية، تشكل مصدر الاستلهام الأساسي لتلك التنظيمات والتجارب سابقة الذكر.
لا أدري تماما كيف يمكن أن تتم هذه العملية. ما أعرفه أن ثمة حاجة لمعارضة الاستبداد والنيوليبرالية من موقع ديمقراطي تقدمي وعلماني. وأن هذه الحاجة سوف تفرض البحث في كيفية تلبيتها. ولكني واثق من أن هذه العملية سوف تكون متفاوتة بين بلد وآخر ويترتب عليها التعامل مع عدد من العقبات هي:
الأولى: تجاوز الاستقطاب التّبعي لليسار بين ميل قومي وميل ليبرالي مذكور أعلاه وانتزاع استقلال اليسار الفكري، وهو قاعدة استقلاله السياسي والبرنامجي والتنظيمي، بالتمايز عن هذين الخطين، مع تركيز خاص على التحرر من أيديولوجيا المجتمع المدني وإشكاليات الهوية والثقافوية.
ثانيا: ضخامة الجهد المطلوب لكي يجدّد اليسار تمثيله الاجتماعي وقد فعلت الفورات النفطية والحراكات الطبقية فعلها في تغليب أبناء الطبقات الوسطى الدنيا والوسطى على انتمائه الاجتماعي؛ واستعادة تمثيله الفعلي، لا الأيديولوجي (أي ادعاء حمل «فكر الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين الثوريين» )بإعادة توطّنه في أوساط الطبقات الشعبية التي قد تحوّلت هي نفسها أيّما تحول، وأن ينجح اليسار في مدّ جذوره في أوساط العاطلين عن العمل (بمن فيهم الخريجون العاطلون عن العمل) والعاملين بالأجر، من نظاميين وغير نظاميين، والفقراء واختراق عوالم المهمشين اجتماعيا والعودة إلى العمل في الأرياف والأطراف، ومعظم تلك المناطق والفئات ترتع فيها حاليا جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الجهادية أو قوى الردة المضادة للثورة.
ثالثا: في المسألة التنظيمية، لا إصلاح ولا تغيير دون أحزاب. المطلوب أحزاب من نمط جديد كل الجدّة، لقد انتهى دور الحزب الطليعي وجاء دور الأحزاب الجماهيرية المبنية من القاعدة فصاعداً، واسعة الديمقراطية، متعددة المنابر تحمل برامج وخطط عمل وأساليب نضال مبتكرة. أقول هذا وأفكر بالنفور الشديد عند الشباب في منطقتنا من الأحزاب السياسية والهيئات النقابية. يعود ذلك لأسباب متعددة منها خيبة الآمال من الأحزاب لعدم الاقتناع بفكرها أو سياساتها أو أشخاصها، عدم الثقة بفاعليتها أو نظافتها أو الاحتجاج على عدم اتساعها لتعدد الآراء وطابعها الأوامري، الخ. لكن المشكل أن هذا النفور يختلط أحيانا كثيرة مع رفض أيّ شكل للتمثيل والتنظيم عموماً بناء على حدّ أدنى من التراتب والتكليف والتوكيل والتمثيل لقاء المساءلة والمحاسبة اللاحقتين. إلى هذا يجب أن يضاف نمو النزعة الفردانية التي تتغذى من تذرذر الانتماءات الاجتماعية والمهنية وغياب التمركز في أماكن العمل إلى النفور من الأحزاب الأوامرية، بالتجربة أو السمعة، وصولاً إلى التأثر بثقافة الفردية الليبرالية.
العقبة الرابعة: هي ميل واسع لدى الشباب الراديكالي خلال الانتفاضات إلى رفض التعاطي مع الدولة وتصوّر إمكان بناء عالمه الخاص تحت سقفها وباستقلال عنها، فينتهي الأمر إلى شللية مهووسة بالتنظيمات الأفقية رافضة لأيّ تراتب تمثيلي لا تلبث أن تنفرط حالما تنمو وتتوسع عددياً أو تضطر لاتخاذ موقف مشترك لا يقوم عليه إجماع.
العقبة الخامسة: ولعلها أبرز نقطة في المسألة التنظيمية هي تنظيم العلاقات بين أحزاب اليسار وتنظيماته وبين منظمات المجتمع المدني إلى حيث هاجرت أعداد كبيرة من اليساريات واليساريين حتى تحولت منظمات المجتمع إلى أطر الالتزام الاجتماعي والسياسي الأبرز بالنسبة إليهم.
إن شباب وشابات اليسار العربي كانوا سبّاقين إلى النزول إلى الشوارع والساحات منذ الأيام الأولى للانتفاضات. وتعرّضوا إلى جانب رفاقهم من كافة التيارات والاتجاهات للاعتقال والقتل ولازالوا يتعرّضون للتشريد والاضهطاد
***
الطائفية معوّق أم حلّ
بالنسبة إلى الشطر الثاني من السؤال، أعتبر نفسي في حالة بحث مستمرة في مسألة الطائفة والمذهبية والجماعات المماثلة. اختصارا للوقت هذا مدخل إلى المسألة الطائفية من وجهة نظر معاكسة بعض الشيء للسائد، أقتطفها من مقابلة لي مع الصديق محمد العطار منذ أكثر من سنتين تسعى للإحاطة بما بيّنته تجارب الثورات العربية ايضا:
«… أريد أن أتوقف عند كلمة طائفي.. أعتقد أن إنكار الطائفية قيد التنفيذ هو أفضل طريقة لتكريسها. التصرف مع الطائفيّة على أنها آفة ولوثة ودليل تخلّف وفتنة لا نحب الكلام عنها ونضع المفردة ذاتها بين مزدوجين، يعني أن ننكرها ولا نفسرها أو نفهمها. أما… اعتبارها دائماً جريرة الآخر، فهذا لن يسمح بمعالجتها. حقيقة الأمر هو أنه توجد مسألة طائفية، عندما تشتبك مواقع جماعات، بما هي جماعات، في مواقع الامتياز أو الحرمان من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافيّة. ولا أعرف في التاريخ ولا في الواقع الراهن حالة تشكلت فيها مسألة طائفية أو مذهبية أو جهوية أو قومية أو إثنية أو قبلية، أي جرت الاستعانة بهذه التركيبات الأهلية أو الارتداد إليها أو إعادة إنتاجها في ظروف الرأسمالية المتعولمة، إلا وتغذت تلك المسارات من تفاوت أو تمايز – أو امتيارات أو حرمان – تتعلق بست مجالات أوجزها هنا بما هي رؤوس أقلام للقياس فقط.
أولاً: التفاوت بين جماعات من حيث الموقع من السلطة السياسية، أي من التحكم بعلاقات القوة والقرار في المجتمع.
ثانيا: التفاوت في الإمساك بالسلطة الأمنية والعسكرية (قرار استخدام العنف) أو الحضور فيها بما يفيض أو يقصّر عن نسبة الجماعة إلى السكان.
ثالثا: التفاوت والتمايز، وما يقابلهما من حرمان، في الموقع من موارد الدولة ومن خدماتها ووظائفها.
رابعا: التمايز والفروقات بين الطوائف من حيث آليات توزيع الثروة.
خامسا: التفاوت المناطقي بذاته، خصوصاً عندما تكون للمناطق ألوان طائفية محددة.
سادساً: التفاوت في توزيع رأس المال الثقافي وفرص تحصيل العلم.
إذا صح ذلك، الأحرى مقاربة هذه المسألة من زوايا إلغاء الامتيازات ولكن وفق معادلة صعبة هي تشريع المساواة للجميع في الفرص والحقوق السياسية والقانونية على الأقل. وهذا يجب أن يترافق مع التمييز الإيجابي للجماعات التي كانت ضحية الحرمان والمظلومية من جهة وإيجاد آليات وضوابط لحماية من ستلغى امتيازاته».
أود أن أستخلص من المطالعة أعلاه الآتي:
ثمة حاجة لمعارضة الاستبداد والنيوليبرالية من موقع ديمقراطي تقدمي وعلماني. وأن هذه الحاجة سوف تفرض البحث في كيفية تلبيتها. ولكني واثق من أن هذه العملية سوف تكون متفاوتة بين بلد وآخر
1) لا بد من إزالة الالتباسات العالقة بموضوع الأقليات والأكثريات. خصوصاً في ضوء عودة القوى الغربية، في خطابها السائد، إلى موضوع حماية الأقليات. أول مدخل إلى المساواة هنا التمييز بين أقلية مضطهَدة وأقلية في موقع السلطة والأمر ذاته ينطبق على الأكثرية، ثمة أكثريات مضطهدة ومقصيّة عن المشاركة الفعلية في السلطة وأكثريات طاغية. إذا كانت الديمقراطية هي حكم الأغلبية وحقوق الأقليات فإنها تعني هنا الأغلبية البرلمانية والأقلية البرلمانية. ولا يستوي حكم الأغلبية إلا إذا قدّم ضمانات فعلية للأقلية/يأتي خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بغلبة الهوية الإثنية أو الطائفية أو المذهبية على أيّ منها. وهذا يعني أن الأقليات في الحكم ليست هي ذاتها الأقليات المضطهدة، وأن الأكثريات (العددية، أو المفترضة) يمكن أن تكون في موقع الحرمان من المشاركة السياسية. وتبرز هنا الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في البنية المركزية المفرطة للسّلطة، بعدما انهارت من جهة وباتت تهدّد تماسك الكيانات السياسية والمجتمعات ذاتها من جهة أخرى. إن تنامي المشكلات الناجمة عن ذلك يملي إعادة تشكيل الكيانات على قواعد من اللامركزية بل والفيدرالية، بغية إعادة تركيب وحدة السلطة والمجتمع. وبديل ذلك هو دفع الأقليات المتوطّنة جغرافيا إلى الانفصال لا محالة.
2) الجواب الأول على الأنظمة الطائفية، بما هي أنظمة امتياز/تمييز متعددة الأوجه بين الجماعات، هو الديمقراطية قبل أن يكون العلمانية. فتجاوز على الامتياز/التمييز في مواقع الجماعات الطائفية (وسواها) من السلطة والإدارة (ومن القانون والثروة والموارد والتعليم وسواها) هو تشريع ومأسسة المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين بما هم أفراد، بما يتضمّن ذلك من تكريس للسيادة الشعبية مرجعاً للتمثيل وللنظام الانتخابي ولفصل السلطات وتداول السلطة ومساءلة الحكام. بهذا المعنى كنت ولا أزال أقول إن الديمقراطية ثورة في بلادنا لأنها ترمي إلى اقتلاع جذور الاستبداد والحكم الأسري والدكتاتورية الفردية والتمييز السياسي والقانوني بين الناس على كافة المستويات وإعادة صياغة الدولة والنظام السياسي والتشريعي على أسس جديدة كل الجدّة. أما العلمانية – وما يعنيني منها هنا هو التدبير السياسي/التشريعي الذي يؤمّن الحياد الديني للدولة – فهي إجراء مكمّل للديمقراطية (على اعتبار أننا نتحدث عن علمانية ديمقراطية) يمسّ بالدرجة الأولى قوانين الأحوال الشخصية (أي تحرّر المواطن من تحكّم المؤسسات والتشريعات الدينية بحياته الشخصية وتمييزها القانوني بين المواطنين بناء على تعدد تلك المؤسسات والتشريعات وإخضاعه لأنظمة وتشريعات تسري على الجميع) بقدر ما تمسّ تمييز مواقع رجال الدين والمؤسسات الدينية من السلطة.
3) إن قسطاً كبيراً من المعالجة للمسائل الطائفية-المذهبية يمكن أن يتم بالمعالجات غير المباشرة، أي تلك التي لا تكتفي بإلغاء التمييز/الامتياز في السياسية وأجهزة العنف والأمن، والاهتمام بتوسيع دائرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، طالما أن الامتياز/التمييز السياسي-القانوني يتداخل مع الامتياز/الحرمان على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والمناطقية والثقافية والتعليمية، الخ. إن محاربة الفقر مساهمة في القضاء على الطائفية-المذهبية، وكذلك خلق فرص عمل وبناء اقتصاديات تنتج تلك الفرص، ونمو الفرص المتكافئة في العمل والعلم والسكن والصحة مساهمة في التخفيف من الاحتقان الاجتماعي الذي يسهل عليه التفجّر عند نقاط الالتحام الأقدم بين الجماعات أي الطائفية-المذهبية؛ وتعميم الضمان الصحي والتوزيع الأعدل للثروة والموارد والمداخيل بين المواطنين يسهم في الغرض ذاته.
4) لا يمكن الانتقال إلى مرحلة المساواة الاقتصادية والسياسية – أي الطموح إلى بناء نظام اشتراكي، أي نظام متكامل من العدالة الاجتماعية – من دون المرور بمرحلة الديمقراطية السياسية والقانونية. وليس صدفة أن الاسم الأصلي الذي أطلقه الاشتراكيون الأوائل، على اختلاف مشاربهم بمن فيهم ماركس والماركسيون، على مذهبهم والمجتمع الذين ينوون تشييده هو الديمقراطية الاجتماعية.
لبنان والطائفية
في عودة إلى لبنان. لم يكن الأمر يتعلّق بتجنيب لبنان الطائفية بل بكيفية المساهمة في تجاوز النظام الطائفي. خلال عقد من الزمن 1964-1974، شهد لبنان سلسلة من الحركات الاجتماعية والسياسية الجماهيرية لم يخلُ الأمر من مشاركة أيّ كتلة أو مجموعة أو فئة أو منطقة أو قطاع مهني. وقد أرّختُ لتلك الفترة بشيء من التفصيل في كتابي عن تاريخ لبنان الحديث.
انطلقتْ تلك الحركات في جو من الرَّسملة المتسارعة للاقتصاد والمجتمع واشتداد أزمة الطبقة الحاكمة والزعامات الطائفية وتوليد الحراك الاجتماعي لفئات وجماعات أخذت تطرق بقوة أبواب التمثيل السياسي والمشاركة في الحكم والسلطة. أفضى هذا المسار إلى انتفاضة لجأت فيها الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية إلى الاستقواء بالسلاح الفلسطيني من أجل حماية حق الفدائيين الفلسطينيين في العمل انطلاقا من الحدود اللبنانية ومن أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي المتجاوز للنظام الطائفي، في مقابل تجييش الميليشيات اليمنية المبكر باسم الحفاظ على السيادة ورفض الوجود الفلسطيني المسلّح وتحريم أيّ بحث في الإصلاح والمساس بالنظام الطائفي بحجة قداسة الدستور. هكذا انقسم الجمهور اللبناني بين معسكرين أهليين ومسلحين، بين دعاة سيادة ودعاة تغيير. واتخذ النزاع أكثر فأكثر مظاهر الحرب الأهلية ذات الألوان الطائفية ثم المذهبية. في حصيلة ما سمّي «حرب السنتين» 1975-1976، خسر تحالف المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية المعركة تحت وطأة التدخل العسكري للنظام السوري ضدها بتغطية أميركية ودعم سعودي وعربي عام. وأخلي المجال أمام سير الاحتراب الأهلي وحروب التدخل على وقع الصراعات الإقليمية والدولية.
خسرت القوى الداعية إلى تجاوز النظام الطائفي وانهزمت في معركة غير متكافئة. أتحاشى الحديث عن فشل، لا من قبيل المكابرة، ولكن لأنه في مثل هذه المواجهات ليس من هزيمة كاملة ولا انتصار كامل. حتى المهزومون يتركون بصماتهم على الحلول. والذين يتعنّتون في البدايات ويرفضون التنازلات الجزئية والإصلاحات، مهما كانت هيكلية، غالباً ما يضطرون إلى تقديم تنازلات وتضحيات مضاعفة في نهاية المطاف. وهذا ما حصل في الأزمة اللبنانية. في مؤتمر الطائف العام 1989، أعيد البحث في المشروع الذي طرحته الحركة الوطنية لتجاوز النظام الطائفي في السياسة والإدارة واعتماد قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية. أقر المؤتمر إلغاء الطائفية السياسية والإدارية، ورفض أيّ مساس بقوانين الأحوال الشخصية العائدة للطوائف. هكذا فرض دستور الجمهورية الثانية على رئيس الجمهورية تشكيل هيئة لإلغاء الطائفية السياسية والإجراءات الزمنية المطلوب التقيّد بها لأجل ذلك، ابتداء من العام 1992. والأهم أن الدستور شرّع لتجاوز الطائفية باعتماده سلطة تشريعية من مجلسين اثنين: مجلس نواب يجري انتخابه خارج القيد الطائفي (ليمثّل المواطنين بما هم أفراد) ومجلس شيوخ يمثل اللبنانيين بما هم جماعات مذهبية، تنتخبه الجماعات المذهبية مباشرة. لكن التواطؤ كان كاملا على منع تطبيق هذه البنود من الدستور، بين سلطات الانتداب السوري والفريق الميليشياوي والاقتصادي والسياسي الذي ارتقى إلى الحكم بعد الحرب، بتعدّد المذاهب والطوائف والتنظيمات التي مثّلها وبمن فيه رجال وعلماء الدين. وكان توازن القوى مختلاً على نحو كاسح لقوى المحافَظة على الأمر الواقع فترة بعد الحرب وهو لا يزال قائما إلى يومنا هذا. ولا تزال السلطات المتعاقبة على الحكم في لبنان تحكم بناء على دستور تمتنع عن تطبيق أبرز مواده.
أثمان باهظة وأدوار مترقبة
تم دفع ثمن غال للثورات من قبل الشعوب العربية وتم إنهاؤها بالعنف أو الاحتيال السياسي أو التدخل العسكري، وهناك قراءة ترى أنه حان دور المفكرين والمثقفين وحتى الأدباء في تنظيم الخلايا الخاملة التي تم استبعادها خارج دولها أو حيّدت بحيث يتم تأهيل المجتمعات بتنمية المجتمع المدني وإحياء الثورات دون عسكرة؟
طرابلسي: تدفع الشعوب عادة أثمانا باهظة عندما تثور لتغيير أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية فتضطر إلى اللجوء إلى القوة والعنف لتحقيق ذلك. لا أعرف ثورات في التاريخ تشذّ عن هذه القاعدة. يتضاعف الثمن عندما تضطر هذه الشعوب إلى خلخلة أو حتى اقتلاع أنظمة متجذرة في الزمن تتغذى من عصب جماعات بعينها وتستقوي بالجيش المسيّس والأجهزة الأمنية عميمة الوجود والسطوة والبطش. خصوصاً عندما تكون تلك الأنظمة منخرطة في منظومات إقليمية ودولية تمنحها الشرعية الخارجية والدعم الخارجي. وهذه الشرعية الأخيرة بالغة الأهمية في المنطقة العربية حيث باتت بديلاً عن أيّ شرعية داخلية بتواطؤ كوني. ويصبح الثمن فادحاً عندما يفضي النزاع بين قوى الثورة، وقوى المحافظة على الأمر الواقع، وقوى الرّدة المضادة للثورة، إلى حروب أهلية. ولا تؤدي إلى حسم لصالح قوى التغيير، بل يمكن القول إنه حتى لو أنها أفضت إلى انتصار لهذه القوى فسوف يكون مشروعها التغييري قد تشوّه وتشوّهت قواها ذاتها. فثمة فارق كبير بين التظاهرة والاعتصام والتنسيقية والحزب والميليشيا.
لا بد من إزالة الالتباسات العالقة بموضوع الأقليات والأكثريات. خصوصاً في ضوء عودة القوى الغربية، في خطابها السائد، إلى موضوع حماية الأقليات. أول مدخل إلى المساواة هنا التمييز بين أقلية مضطهَدة وأقلية في موقع السلطة
آمل أن لا يكون القصد من سؤالك القول إن العامة ورّطت البلاد في حروب يقع على المثقفين انتشالها. المثقف الذي يحترم نفسه، وله حدّ أدنى من قيم يدافع عنها، والملتزم بشعبه، والمهموم بهَمّ التغيير، يفترض أنه قد انخرط في الثورة منذ البداية، يمارس فيها كل الأدوار الفكرية والعملية والتنظيمية والإعلامية والإنسانية والتضامنية المطلوبة بما فيها القتال. وهذا ما قام به عدد كبير من المثقفين في الثورات كافة ولا يزالون وقد قضى العديد منهم في المعتقلات أو ساحات القتال وثمة من يواصلون النضال وما بدّلوا تبديلا.
أتحفظ على مصطلح «العسكرة» إلا إذا تم في إطار تحديد المسؤولية، مسؤولية الأنظمة المعنية في دفع المعارضين السلميين إلى اللجوء إلى السلاح. هذا مع عميق وعيي لما ترتّب على عسكرة الثورة لاحقاً في سوريا من انطفاء مشروع التغيير والتقدّم بسبب طغيان أهداف ومصالح مناقضة له فرضتها أنظمة إقليمية وسواها من الأنظمة المتدخلة في الصراعات السورية بما فيها الجمهورية الإسلامية الإيرانية وروسيا الداعمتين للدكتاتورية. وأحسب أنه من السذاجة – بعد أكثر من أربع سنوات من تحول بعض الثورات إلى الاحتراب الأهلي – أن نظل نفترض بأنه تمكن العودة إلى وضع سابق على الثورة يستأنف فيه النضال السلمي وكأن شيئا لم يكن. لست أحسب أن هذه القراءة عن أن سوريا المجتمع والدولة والكيان قد انقلبت رأساً على عقب بحيث يصعب تصوّر ما الذي ستكون عليه الحالة فعليا حين تصمت الأسلحة. ولكن ما آمله هو أن لا تكرر سوريا التجربة اللبنانية في الإعمار.
ولكن قبل كل هذا، إنّ أيّ حريص على مستقبل سوريا واليمن وليبيا والبحرين وأيّ بلد عربي آخر عرف الانتفاضات يجب أن يتحوّل في اعتقادي الآن إلى داعية سلام لا لسبب إلا لوقف القتل العبثي وذلك بعد أن صادرت قوى إقليمية ودولية مصائر تلك الشعوب، تتسابق جميعا باسم خدمة الحرب الكونية ضد الإرهاب، التي غلّبت الجيوسياسة على السياسة والخارج على الداخل، ومعست كل مطلب وكل حق وكل تطلّع نحو المستقبل لدى شعوبنا.
من تاريخ نزاعات جيل لبنان أودّ الاستشهاد بهذه الحكمة لشيخ درزي قال عن الحرب الأهلية «الخاسر فيها خسران والرابح فيها خسران».
فاعلية المجتمع المدني
أما عن «تأهيل المجتمعات» على يد «المجتمع المدني» فلا أرى في هذه الصيغة فارقا كبيراً عن فكرة الطليعة البعثية، اللهم إلا أنها مسكوبة في لغة النيوليبرالية ومنظمات المجتمع المدني ناشرة الوعي عند فاقديه ومتولية تدريب شعوب قليلة الدربة. لست مقتنعاً بأن ما حصل للثورات ناتج عن قلّة وعي لدى «العامة». بل العكس، إنه نتج عن فائض في الوعي الشعبي ونقص في الوعي والحيوية لدى النخبة والخاصة. ونادرا ما نتناسى دور قطاعات واسعة من برجوازية سوريا وطبقاتها الوسطى في دعم النظام أو التواطؤ معه بالاستكانة. مثلما نتناسى أن الذين يقتلون ويتقاتلون في سوريا واليمن وليبيا هم الفقراء من مختلف الأطراف. وهم الذي شكلوا الجسم الأوسع للثورات مثلما هم يشكلون الآن وقود الحروب الأهلية.
المثقف الذي يحترم نفسه، وله حدّ أدنى من قيم يدافع عنها، والملتزم بشعبه، والمهموم بهَمّ التغيير، يفترض أنه قد انخرط في الثورة منذ البداية، يمارس فيها كل الأدوار
أنا من نقّاد المجتمع المدني كنظرية وتطبيقات وتنظيمات وجمعيات.
وعندي أن نظرية المجتمع المدني جزء مكوّن من النيوليبرالية يقوم شقّها السياسي والاقتصادي على قسمة المجتمع إلى نقيضين دولة/مجتمع مدني حيث الدولة هي التسلط والاستبداد تعريفاً وكل ما يضعف دورها يعزز حريات الأفراد مثلما يعزز الحرية الاقتصادية. والخلط بين النطاقين الاقتصادي والسياسي هو عين الدعوة النيوليبرالية. انظري إلى العراق حيث دمّر الاحتلال الأميركي ليس فقط دكتاتورية صدام حسين ونظامه (وكلاهما يعود الآن، في صيغةٍ تكرر المهزلة بمأساة، من خلال داعش) وإنما الدولة العراقية في أبرز مؤسساتها: حلّ القوات المسلحة وتسريح أقسام كبيرة من الإدارة وتحريم حزب البعث وتجريمه. ماذا كانت النتيجة؟ لم يسهم هذا في نمو حريات الأفراد وتعزيزها، بل أسهم في إطلاق شياطين المناطقية والإثنية والمذهبية التي أطبقت على ما كان الأفراد قد تحرّروا منه سابقاً من انصياع وولاء للجماعة وإذا بتدمير الدولة يعاد تحشيدهم تحت ألوية العائلة والعشيرة والقبيلة والمذهب والمنطقة والاثنية والدين. إن أول ما تتغاضى عنه نظرية الدولة/المجتمع المدني هو حقيقة أن الدولة ناظمة للمجتمع وحاوية مؤسسات وقوانين وحدته.
تقوم الآلة السحرية للسوق، الأقنوم الأول للنيوليبرالية، على فرضية أن التنافس بين الوحدات الاقتصادية، ونمو ثروات الأثرياء، لا تلبث أن تؤدي إلى تسرّب البحبوحة الاقتصادية من قمة الهرم الاجتماعي إلى قاعدته، على ما يجرى دقّه في رؤوسنا خلال ربع قرن. دعيني أسألك: لو أن ربع قرن من تطبيق النيوليبرالية كان بهذا النجاح في نشر البحبوحة والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، لماذا انفجرت الأزمة المالية العالمية للعام 2008؟ ولماذا تنمو الفوارق الطبقية والمناطقية على الأصعدة العالمية والإقليمية والوطنية بأحجام لا سوابق لها في التاريخ؟ وكيف يحصل في ظل العولمة وآليات السوق السحرية أن نصل إلى وضع يملك فيه 63 فردا من الثروات ما يوازي ثروات نصف سكان المعمورة؟ وكيف يحصل في ظل النيوليبرالية وفي ظل سياسيات المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمها البنك الدولي وصندوق النقد ووكالات التنمية، التي قررت «وأد الفقر المدقع» على الصعيد العالمي (أي الإنفاق الذي لا يزيد عن دولار واحد باليوم) في العام 2015 أن لا تفشل في تطبيق القرار وحسب بل أن تكون نتائج جهودها تناقص ممتلكات الفقراء حسب تقرير منظمة أوكسفام؟ ولماذا تضطر المؤسسات الدولية الى إعادة الاعتبار لمقولة العدالة الاجتماعية بعد الثورات العربية – ولكن بعد خصيها وقلبها رأسا على عقب ونزع مفهوم للحقوق منها – لو كانت تطبيقات الإصلاح الهيكلي وزيادة نسب نمو الدخل الأهلي والآليات السحرية للسوق هي الكفيلة بحمل البحبوحة الاقتصادية والرخاء الاجتماعي؟
وعلى صعيد محلي، إذا كانت سياسات النيوليبرالية التي طبّقها بشار الأسد باسم «اقتصاد السوق الاجتماعي» (وقد أعلن التخلي عنها منذ أيام لصالح اقتصاديات «التضامن الوطني») ناجحة لماذا انهارت الزراعة السورية وألقت إلى الجوع والفقر والتشرّد ملايين السوريين الذين نزحوا إلى المدن وتكدسوا في الضواحي وأرياف العاصمة والمدن والعشوائيات؟ وإذا كانت آليات المنافسة الاقتصادية مقدسة كيف نفسّر وجود كائن مثل رامي مخلوف يتباهى بأنه يسيطر على 60 بالمئة من الاقتصاد السوري؟ ألم يكن السوريون مدركين أنهم يثورون ضد هذه الأمور أيضاً؟ إني أتساءل. وهل ننسى أن أهالي درعا حطموا وأحرقوا مكاتب شركة سيرياتل للاتصالات التي يملكها مخلوف عند انطلاق انتفاضتهم؟
على امتداد أكثر من ربع قرن كانت عشرات الألوف من منظمات المجتمع المدني تعمل في عدد من الدول العربية (17 ألف في تونس و8 آلاف في لبنان على سبيل المثال) وتتحكم بأجزاء حيوية من حياتنا وتتولّى الوعظ والتبشير ونشر الوعي والتدريب والتمكين وقد حوّلت مصطلحاتها إلى تمائم ومقولاتها إلى ما يشبه اليقينيات الإيمانية بالسوق وآلياته السحرية وبالانتقال إلى الديمقراطية. لست أريد الاستخفاف بدور عدد كبير من تنظيمات المجتمع المدني في الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق النساء والعمال المنزليين والمعوقين (مع إهمال شديد للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) ولن أغفل التقدير العميق لكافة المؤسسات والمنظمات العاملة في مجالات الإغاثة ومساعدة اللاجئين والتعليم وسائر أنواع المساعدات الانسانية.
لكن ماذا نقول عن أن معظم منظمات المجتمع المدني يبشّر بالديمقراطية، بل التعددية والتنوّع، وبالكاد يمارس الانتخابات أو تداول السلطة وتجديد القيادات؟ حتى أنها قد أعفت نفسها من المساءلة تجاه أعضائها والجمهور، فكأنّ المساءلة لا تمارس إلا تجاه المموّلين. ثم إن أعداداً كبيرة من العاملين في تلك المنظمات باتوا محترفين يتقاضون الأجور لقاء أعمالهم، مع أن الفكرة الأساس للعمل المدني هي العمل التطوعي. وأخيرا ليس آخراً، تدّعي تلك المنظمات في مجالات التنمية والخدمة العامة مثلاً أنها تقوم مقام الدولة الغائبة، مع أنها تعرف تماماً أنها موجودة لتحلّ محلّ الدولة المغيّبة، بفعل أوامر البنك الدولي وصندوق النقد والهيئات التجارية والتنموية الدولية، وأنها موجودة لملء فراغات لن تستطيع ملأها، بديلا عن دولة ألزمت على الانسحاب من مجالات الخدمة العامة والتعليم والصحة والنقل والسكن، ومن الاشكال المختلفة الأخرى من التوزيع الاجتماعي.
قبل إيكال مهمة «تأهيل» منظمات المجتمع المدني لـ«المجتمع»، حريٌّ بها أن تقدّم جردةً بإنجازاتها والإصلاحات والإخفاقات في نحو دزينة من المجالات التي تعمل فيها خلال ربع القرن الأخير. فمن تكلّفينه بالتأهيل حريٌّ به أن يكون مؤهلاً أصلاً للمهمة الموكلة إليه. ولكن، هل إن منظمات المجتمع المدني قوى تغيير أصلاً؟ أنتِ الآن في هولندا. هل إن التغيير هناك تصنعه منظمات المجتمع المدني أم الأحزاب السياسية؟ هل إن ما تتمتعون به من حقوق معزول عمّا تبقى في الدول الأوروبية من أدوار لدولة الرعاية الاجتماعية في التعويض عن البطالة وتوفير الحد الأدنى للأجور والضمانات الصحية والتعليم المجاني وسائر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية؟ وهي إجراءات فرضتها أحزاب ذات توجه اشتراكي واتحادات نقابية عمالية ومهنية ونضالات وتراكمات على امتداد عقود من الزمن؟
وسؤال أخير عن منظمات المجتمع المدني: لو أنها حققت ما انطلقت أصلا لممارسته من إصلاحات، وادّعت القدرة عليه، هل كان من حاجة لأن تتفجّر ثورات شارك بها عشرات الملايين من العرب، والشباب خصوصاً، وبهذا القدر من الجذرية والعنف؟
اختزال الفكر بالمفكرين
يتم الحديث عن تنميط المفكرين العرب بالدعوة إلى القطيعة مع التراث الديني كدعوة علي حرب، والدعوة إلى إعادة تفسير النص الديني مثل نصر حامد أبو زيد أو الحث على قراءة بنية العقل العربي من مثل ما ذهب إليه عابد الجابري، بوصفك مفكراً عربياً لك متابعوك أين تجد موقع هذا النوع من التنميط في داخل النسق الثقافي العربي وداخل منظومة التلقي له.
طرابلسي: لا مجال للتنميط في الفكر وخصوصاً أنه لا مجال لاختزال الفكر بمساهمات، على قيمتها، في تأويل الإسلام. عاشت المنطقة خلال ربع القرن الأخير في ظل خطاب مهيمن هو خطاب العولمة النيوليبرالية وردود الفعل عليه، ولم يكن الفكر الإسلامي، أو التفكير في الإسلام، بمنأى عن هذا المناخ.
على أهمية انتشار ظاهرة التديّن وتنامي دور الإسلام السياسي شعبياً وتنظيمياً، لا يحتكر الفكر الديني العوالم الفكرية في العالم العربي. إلى هذا إن الظاهرتين تنضويان في منظومة أوسع هي تنامي التديّن وتزايد تديين الحركات السياسية والاجتماعية في ظل الفكر الأوحد المسيطر على العالم وهو العولمة والنيوليبرالية.
الثقافوية هي الوجه الأيديولوجي للعولمة النيوليبرالية القائم على تغليب النظرة الثقافية للحياة، وملحقاتها من نظرية صدام الحضارات، وإشكالية الهويات. وإنه لمعبّر جداً أن يكون التعبير والتبرير الأيديولوجي للسوق النيوليبرالي وتسليع كل أوجه الطبيعة والحياة، هو الثقافة وعمادها الدين. قدّم صموئيل هانتينغتن وأنصاره هذه النظرة للحياة بما هي البديل عن نظرتين يرى أنهما «سقطتا» في التجربة: النظرة الاقتصادية التي سقطت في عرفه مع انهيار المعسكر السوفياتي؛ ونظريات التحرر الوطني التي انتهت فاعليتها مع انحسار الاستعمار عن معظم الأراضي في القارات الثلاث. ولقد وقع عدد كبير من المفكرين العرب والمسلمين، بمن فيهم إسلاميون إيرانيون (كالإصلاحي محمد خاتمي مثلا) في فخ صموئيل هانتينغتن هذا. أخذوا من المعادلة مفردة «الصِدام» واستهولوها ليدعوا في المقابل إلى «الحوار»، حوار الحضارات الذي سرعان ما انحلّ إلى حوار بين ممثلين عن الديانات التوحيدية الثلاث. أي أن دعاة الحوار ارتضوا تعريف هانتينغتن الاختزالي للبشر بما هم مجموعات تتمايز وتكتسب هويتها بما هي «حضارات» تقوم على جواهر وثوابت هي المذاهب الدينية. وهذا ما يفسّر تقسيم هانتينغتن للحضارات إلى أرثوذكسية، أي روسيا وملحقاتها، ولاتينية كاثوليكية – أي أميركا اللاتينية – وكونفوشية – الصين – ومسلمة. وتكفي نظرة متمعنة إلى هذه الجيوستراتيجيا الكونية أنها تصنّف «الحضارات» من منظار الولايات المتحدة الأميركية والتحديات بل الأخطار التي تواجه «الغرب» بقيادتها. حيث تعادل الأرثوذكسية الخطر الروسي، والكاثوليكية الهجرة من أميركا اللاتينية والكونفوشية يطل من خلالها شبح الجبروت الاقتصادي الصيني والإسلام.. الإرهاب.
ولا بد من الإشارة إلى المفارقة الفاغرة في الثقافوية: إنها تحوّل الثقافة – التي هي ذاتية تخييلية إبداعية انشقاقية شابحة إلى المستقبل – إلى نقائضها، أي إلى جواهر وخصائص تكرارية ثابتة تتحكم بالبشر، يشكل الدين نواتها الصلبة، وتشدّها إشكاليات الهوية الى الأصول والجذور والالتفات الدائم إلى الوراء، إلى الماضي.
من السذاجة – بعد أكثر من أربع سنوات من تحول بعض الثورات إلى الاحتراب الأهلي – أن نظل نفترض بأنه تمكن العودة إلى وضع سابق على الثورة يستأنف فيه النضال السلمي وكأن شيئا لم يكن
لنقل إن هذا هو الإطار الكوني لظاهرة محلية هي النمو غير المسبوق للتديّن الشعبي وظاهرة الحركات والتنظيمات الإسلاموية الجهادية التي تسوّغ العنف وتمارسه خلال العقود الثلاثة الماضية. أما على الصعيد المحلي، فقد نشطت الحركات الإسلامية ابتداء من السبعينات والثمانينات في مطلع العهد النيوليبرالي وترعرعت خارج إطار الدولة والقطاع العام والبيروقراطية. أي أنها عاشت في الهوامش بمعنيين: من خلال ارتباطها بالقطاع الرأسمالي الخاص، بما فيه التجارة الداخلية أو تجارة التجزئة والخدمات وكل ما أفلت من سيطرة القطاع العام، هذا من جهة ولكنها عاشت أيضا في الهوامش الاجتماعية وسط الطبقات الشعبية وخصوصاً وسط الفقراء والعاطلين عن العمل أو الفئات المهمشة في الأرياف والأطراف. وهذا ما لوّن اقتصاد الإسلاميين بألوان نيوليبرالية معادية للتوزيع الاجتماعي، وتوسيع دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع.. يحضرني خطاب لافت لأسامة بن لادن عشية الانتخابات الرئاسية التي جاءت بأوباما إلى الرئاسة الأميركية، دعا فيه الأميركيين إلى اعتناق الإسلام والإغراء الذي قدّمه لهم: أن لا ضرائب في الإسلام! إن هذا الميل النيوليبرالي للإسلام السياسي يتجلّى لدى حزب العدالة والتنمية التركي، مثلما قد تجده لدى حزب الله اللبناني.
في عودة إلى موضوعنا المباشر، أقول إن محاولات تأويل النصوص الدينية عملية لا تنتهي. والسبب أن مبدأ التأويل هو إعطاء معان معاصرة لنص ليس معاصراً يفترض فيه أنه يقدّم نظرة إلى العالم ومبادئ إيمان وقواعد سلوك ونمط حياة صالحة لكل آن وأوان. في المقابل، ما لا تفسرّه تأويلات النص، أكانت صادرة عن علمائيين أو علمانيين، هو التأويل ذاته. أي تفسيرُ: لماذا يغلب هذه التأويل للنص في فترة زمنية معينة وليس في أخرى، وكيف ولماذا ينحسر نفوذه وتكون الغلبة لصالح تفسير آخر. والجواب على هذا لا يمكن في النص وإنما في الواقع أي في المجتمع والزمن.
بناء عليه، أودّ قلب المعادلة بحيث يصير السؤال: ما الذي يدفع بشراً، وشباناً بنوع خاص، إلى تبني هذا التفسير/التأويل الجهادي التكفيري للإسلام بما يمليه من استهانة مفرطة بالحياة الذاتية وبحياة سائر البشر بهذا القدر من التوحش غير المسبوق تاريخياً يزيد من توحشه استعانته بكل مستحضرات القتل التي ابتكرتها الحداثة.
هذا السؤال لا يجيب عليه نقص الوعي. أعتقد أن الناس يعرفون مصالحهم أكثر من الذين يريدون تعليمهم. وهو لا يفسّر بالعودة الى الماضي وإنما بالانطلاق من قضايا وتحولات وانقلابات الحاضر لتفسير استحضار الماضي في خدمة مشاريع في الحاضر أو تدّعي بناء المستقبل. فولاية الفقيه شرعنت للجماعة الشيعية توسّل السلطة، حتى لا نقول الاستيلاء عليها والاستئثار بها. وذلك في انقلاب كامل للفقه الشيعي السابق ولتصوّر الموقع التاريخي للشيعة بما هم المعارضون التقليديون للسلطات القائمة والضحايا المستكينين للتمييز والحرمان بانتظار عودة المهدي المنتظر ليحقق الانقلاب الألفي من ظلم وحرب إلى سلام وعدل على هذه الأرض. وقد جرى لهذا الغرض التوفيق بين السلطة الزمنية والنزعة المهدوية، بحيث صارت الوظيفة الرئيسة للسلطة الزمنية، لا مجرّد النيابة عن الإمام بانتظار ظهوره، وإنما التعجيل بعودة «صاحب الزمان» بواسطة ما تؤديه السلطة والمؤمنون معاً من أفعال.
قبل إيكال مهمة «تأهيل» منظمات المجتمع المدني لـ«المجتمع»، حريٌّ بها أن تقدّم جردةً بإنجازاتها والإصلاحات والإخفاقات في نحو دزينة من المجالات التي تعمل فيها خلال ربع القرن الأخير
والأمر نفسه يمكن أن يقال عن الجهادية السنّية، دون تناسي التباين في الفقه والموقف. فإن استدعاء الخلافة والسعي لتطبيقها انطلاقا من احتلال الأراضي في شمال العراق وسوريا، في القرن الواحد والعشرين، يرى فيه دعاته وممارسوه جواباً على مظلوميات جمعية معاصرة بحق السنّة، في العراق وفي سوريا خصوصا، يجري تصعيدها باتجاه تكريس الغلبة السنّية غير المنقوصة في صيغتها السلطانية.
لقلب المعادلة مترتبات لا تقتصر على النتائج المعرفية. وأبرزها أن لا حلّ عسكرياً للجهادية التكفيرية. ففي زمن مضى كثر الحديث عن «تجفيف منابع الإرهاب» وكان المقصود به السيطرة على شبكاته المالية. الآن مطلوب «تجفيف المنابع الاجتماعية والاقتصادية للإرهاب» وأبرزها البطالة، الفقر، انسداد الآفاق أمام الشباب، سوء توزيع الثروات لا سيما تلك الصادرة عن ريوع النفط والغاز، الهامشية الاجتماعية، انهيار الأرياف، نبذ الأطراف وتحويل قبائلها والعشائر إلى شبكات تهريب وميليشيات ومرتزقة لقوى الداخل والخارج، والمظلوميات أكانت تطاول أكثريات أو أقليات، الخ.
لو كانت الموارد النفطية والغازية الفلكية التي تملكها المنطقة قد وظفت لأغراض التنمية وتقريب الفوارق بين مدينة وريف ومركز وأطراف وتقليص الفوارق بين الطبقات والجماعات والمناطق وتأمين الحدّ الأدنى من ضرورات الحياة تليق ببشر للجميع، هل كنا شهدنا هذه الانفجارات الثورية وتسابق الميليشيات والمافيات للسيطرة على حقول النفط والغاز وأنابيبه وريوعه؟
مسار طرابلسي الفكري
معظم تجارب الشخصيات ذات الاهتمام بالشأن العام سواء كانت فكرية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية يطالها تغيّر بمرور الزمن، فهل فواز طرابلسي ممن أعادوا النظر في منظومتهم الفكرية والمعرفية؟ إن تم ذلك بالفعل فهل هو بفعل تغير الظروف المحيطة؟ أم أن بعض الأدوات المنهجية قد أفلست؟
طرابلسي: يعجبني الإلحاح الدائم على اليساريين للتأكد من أنهم راجعوا معتقداتهم ومارسوا النقد الذاتي. ولكن انقلب السحر على الساحر، فها هم يساريون سابقون يمارسون هذا الطقس الديني التكفيري الذي تعلّموه خلال فترة خدمتهم اليسارية (مثلما يقال عن «خدمة عسكرية») والذي يفترض أن اليساري المؤمن مذنبٌ ومنحرف بالتعريف ولا بد له من أن يرتكب خطأ أو خطيئة ما وأن يحيد عن الصراط المستقيم، ما يستوجب الاعتراف والعقاب. لست أعرف عن أسئلة مشابهة تتقدم بمثل هذه البداهة والإلزام إلى يمينيين أو ليبراليين أو وسطيين أو إسلاميين أو مؤيدين للسياسات السعودية والقطرية والأميركية في الحروب السورية، مثلاً، الخ.
المهم: الفكر بالنسبة إليّ ينمو وينضج ويتحول ويسعى للإحاطة بالمستجدات والمنعطفات الحاسمة ويراجع نفسه عند الضرورة. والماركسية هي المنهج الخصيب الذي قاد وألهَم ولا زال فكري وكتاباتي وممارساتي ونمط حياتي. والشاهد منذ نهاية الحرب الباردة على هذه الحقيقة: كلما أعلن عن موت الماركسية ودفنها كلما انتفضت بعزيمة متجددة تفاجئ أنصارها ذاتهم أحياناً. ماركسيتي ماركسية متعددة المصادر الخارجية والداخلية، تغتني بروافد متنوعة من سائر المذاهب والتيارات في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية ومن مخزون التاريخ العربي والتراث الفكري والثقافي العربي-الاسلامي. والماركسية شكلّت ولا تزال تشكّل عندي نقطة الانطلاق المنهجية والنظرية في البحث لا خاتمة المطاف. فهي كما عرّفها سارتر نظرية التجاوز، تتجاوز نفسها بنفسها باستمرار، لسوء حظ مَن لا يمارس هذا التجاوز في ماركسيته. وهذا ما أحاوله.
لم أنقلب من النقيض إلى نقيضه، خلافا للعديد ممن انقلب إلى ليبراليين وقوميين أو إسلامويين أوعلمانيين أصوليين، حتى لا أتحدث عن الذين صاروا من مثقفي السلاطين والسلطات. ولا أزال أتعجب من اتساع تلك الظاهرة وآسف لها، لا لشيء إلا لأن نقيض ما بات يعتبره المرء هو الخطأ نادرا ما يكون بالضرورة هو الأصح.
أنا مواطن لبناني عربي أتيح له الانغماس منذ المراهقة في تجارب سياسية وثورات ونضالات مختلفة. تفتّح وعيي الوطني مع العدوان الثلاثي على مصر 1956، ونما مع الثورة الجزائرية وعاصرتُ انطلاقة المقاومة الفلسطينية وشاركت فيها ومعها، وواكبت حركة التحرر الوطني اليمنية وارتبطت بعلاقة وثيقة بنظامها اليساري وزرت ظفار في زمن الثورة وكتبت عنها وناضلت إلى جانب كافة القوى الوطنية والتقدمية واليسارية في الجزيرة العربية والخليج وأسهمت في تأسيس تنظيمين يساريين وتحمّلت المسؤولية القيادية في كليهما كما في هيئات الحركة الوطنية اللبنانية. ولا بد من أن أسجّل أن فكري ووعيي في تلك الفترة نما ونضج من خلال المساهمة مع رفاق ورفيقات كانوا المحاورين والمثرين للفكر في «مجموعة لبنان الاشتراكي » وتالياً في «منظمة العمل الشيوعي في لبنان». وأنا مدين لهنّ ولهم بالكثير على الصعيدين الفكري والثقافي، حتى لا أتحدث عن الدَين النضالي. وأضيف أن النضج في العمر والفكر يعني أيضا اتّساع الصدر قدر اتساع الأفق.
يدور قسم كبير من نتاجي مدار محورين: الأول هو ما يمكن تسميته الفكر السياسي والاجتماعي، وأفضّل تسميته السوسيولوجيا السياسية والاقتصاد الاجتماعي. والمحور الثاني هو ما أسمّيه «تصنيع التجارب» همّي فيه هو إعطاء معنى، بل معانٍ، للتجارب التي عشتها.
بدأت التأليف متأخرا: خلال وبعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان ولبيروت العام 1982 وتجربة المقاومة الوطنية والإسلامية له. وقد صممت على الكتابة عن هذه التجربة وتجربة العنف الأهلي بعدة أساليب، منطلقاً من أن أضعف أنواع الكتابة في هذا المجال هي الكتابة السياسية المباشرة. كتبت المذكّرات باكراً في «صورة الفتى بالأحمر. يوميات في السلم والحرب» (1997). ودونت يوميات حصار بيروت العام 1982 في «عن أمل لا شفاء منه» (1984)، وقرأت الحرب الأهلية اللبنانية من خلال الحرب الأسبانية والفن في «غيرنيكا بيروت - الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو ومدينة عربية في الحرب» (1978). واشتغلت على الدراسة النقدية للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي اللبناني، من خلال حياة وأعمال ميشال شيحا، الصحفي والمصرفي والكاتب الذي قدّم أكبر مساهمة في بناء هذا النظام والترويج له، في كتابي «صلات بلا وصل. ميشال شيحا والأيديولوجية اللبنانية» (1999). وفي مجال قراءة التطورات السياسية والاجتماعية من خلال الفن أيضا كانت دراستي «مسرح فيروز والرحابنة: الغريب والكنز والأعجوبة» (2006)، ومجموعة مقالات ودراسات في الثقافة الشعبية بعنوان «إن كان بدّك تعشق» (2004). والذروة في هذا المسار هي مغامرة التصدي للتأريخ بما هو العِلم الذي يدمج سائر العلوم في كتابي «تاريخ لبنان الحديث. من إمارة جبل لبنان إلى اتفاق الطائف». وكان الدافع الأكبر لكتابته هو تأريخ الحروب الأهلية والخارجية 1975-1990. من حيث المنهج، حاولت التأريخ من منظار البلد ككل، ورفض اختزال تاريخ لبنان بتاريخ الطوائف أو بالتاريخ السياسي بل الربط بين الاقتصاد والسياسة والشغل على التاريخ الاجتماعي.
بدأت الكتابة السياسية باكرا. كتبت عن الثورة الجزائرية عشية الاستقلال وعن القضية الفلسطينية (1969)، وعن زيارتي لظفار زمن الثورة العام 1970. نشرت لاحقا بعنوان «ظفار شهادة من زمن الثورة» وكتبت مؤخرا شهادتي الشخصية عن حركة التحرر وحكم اليسار في اليمن الجنوبي «جنوب اليمن في حكم اليسار»، (2016). من جهة أخرى، تابعت الثورات العربية منذ انطلاقتها وكتبت وحاضرت ونشرت كتاباتي في «الديمقراطية ثورة» (2012) و«ثورات بلا ثوار» (2014)، الخ
لم أنقلب من النقيض إلى نقيضه، خلافا للعديد ممن انقلب إلى ليبراليين وقوميين أو إسلامويين أوعلمانيين أصوليين، حتى لا أتحدث عن الذين صاروا من مثقفي السلاطين
.
هذا بمثابة «سي. ڤي» للقراء الشباب منهم والأقل شباباً.
فاجأني انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره بل صدمني بالتأكيد، وتحداني على التفسير والتأويل. إلا أنه لم يترك عليّ الأثر الذي تركه على المؤمنين في الأحزاب الشيوعية العربية. لم أزر الاتحاد السوفياتي في حياتي وكنت عضواً في تنظيم ممنوع من الصرف في موسكو. وقد كتبت وترجمت عدة دراسات ومؤلفات نقدية عن التجربة السوفياتية. ودعوت باكراً إلى بلورة المكوّن الديمقراطي للاشتراكية، وانتقدت نمط البناء الاقتصادي الذي ساد الحقبة البريجنيفية في كتابي «الماركسية وبعض قضايانا العربية» (1985). كنت أنتمي إلى «اليسار الجديد»، أرى نفسي أقرب إلى أفكار تروتسكي وغرامشي وماو تسي تونغ وتشي غيفارا (الذي ترجمته باكرا) والثورات الصينية والفيتنامية والكوبية.
وقد تتفاجئين إذا قلت لك إن انهيار الاتحاد السوفياتي قد حرر الماركسية من عقيدة سلطوية و قوالب جامدة وإيمانية وأطلق موجة جديدة من النتاج الماركسي أكثر خيالاً وإبداعاً وثراءً.
أما بالنسبة إليّ، فلم أنتقل إلى الليبرالية، لتمييزي بين الديمقراطية والليبرالية واقتناعي بأن الثانية تؤدي إلى الأولى. ومن جهة أخرى لم أعتبر مرّة أن الهزائم تستوجب التراجع الفكري أو النظري أو المساومة على الفكر والنظرية.
تعلّمت بعض الدروس على الأقل في مراجعتي لتجارب الاشتراكية المتحققة.
الدرس الأول: أنه يجب النجاح في إنتاج الثروة (بالتنمية والتحديث وإعلاء قيمة العمل المنتج وغيرها) من أجل التمكّن من توزيعها بطريقة أعدل بين المواطنين. وقد أعانتني تجربتي اليمنية على اكتشاف هذه القاعدة وتطبيقها العكسي في المساواة في الفقر أو التقشف.
الدرس الثاني: هو ضرورة الاعتراف بلحظة الديمقراطية السياسية على أنها مرحلة تاريخية متكاملة. وأن حرق المراحل على افتراض إمكان القفز فوق تلك المرحلة إلى لون من ألوان الديمقراطية المسمّاة «مباشرة» (مجالسية مثلاً) لن يؤدي إلا إلى الدكتاتورية، كما حصل في التجربة السوفياتية. الدرس الثالث: إن تجاوز الديمقراطية السياسية-القانونية باتجاه الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتم إلا في إطار الديمقراطية السياسية.
الدرس الرابع: هو ضرورة اعتماد النظرة الجدلية إلى ثنائية الحرية والمساواة بما هما قيمتان لا يمكن التضحية بواحدة منهما لصالح الأخرى إلا بخسائر فادحة تصيب الاثنين. هذا هو الدرس الأبلغ الذي يعلّمنا إياه التاريخ.
في الآونة الأخيرة عدت إلى الماركسية منقبّا ومستلهماً في مسعى للرد على تحديين طارئين. الأول هو تحدي فهم العولمة والنيوليبرالية ورصد آثارهما على الإنسان والطبيعة، وتعيين موقع منطقتنا من هذه وتلك. وقد تجدّد اقتناعي بأن الماركسية، بما هي ذلك التراث المتعدد والمتنوع، لا تزال أبرز مقاربة نظرية لفهم اتجاهات الرأسمالية وقوانين تشغيلها، تطوّرها وأزماتها. أما التحدي الثاني فهو تحدي فهم وتقييم الثورات العربية والعودة إلى الماركسية في ذلك هو التبحّر في نظرية ثورية تولّت تحليل الثورات وتقييمها في الآن ذاته.
في مواصلة الشغل بوحي من الماركسية، أصدرتُ نهاية هذا العام دراستي «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان»، تنفيذاً لمشروع بحثي أتحفّز له منذ سنوات للخوض في الاقتصاد الاجتماعي (لا «الاقتصاد السياسي» فقط) وهو تتبع ما طرأ على البنية الطبقية والمجتمعية في لبنان من تحوّلات فترة ما بعد الحرب مع تركيز خاص على علاقة البنية الطبقية بالبنية الطائفية وعلى العلاقة بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية.
المتلقي وجهة الكتابة
يلاحظ على ما تكتبه من كتبك المتنوعة أنها محبوبة من الأكاديميين والقراء غير المتخصصين على حدّ سواء، فتؤرخ وتكتب في السياسة بأدوات جديدة تتناسب مع مفردات التلقي الحديثة من مثل ما نراه في كتاب “حديد وحرير” مثلاً، كما تختار عناوين كتبك بطريقة جاذبة، سؤالي كيف يكتب فواز طرابلسي وما هي رؤيته وموجّهه في الكتابة؟
طرابلسي: المضمون يفرض الأسلوب إلى أبعد حدّ أو يملي البحث عن أنسب الأساليب وطرائق السرد الأكثر ملاءمة له. إلى هذا «حرير وحديد» برهان على الأهمية البالغة للقراءة والبحث والتنقيب في التأليف. نشأ الكتاب من ملاحظات واستشهادات وأخبار وحكايات لملمتها على هامش الشغل على تاريخ لبنان. فرضت هذه النبذات نفسها كمشروع كتاب عندما رحت أكتشف التشابك المثير بين الأحداث والشخصيات في محيط البحر الأبيض المتوسط خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. والقرن التاسع عشر هو قرن الاستعمار بامتياز، ونمو النزاع الفرنسي البريطاني على وراثة السلطنة العثمانية. وهكذا تتضافر وتتشابك أقدار شخصيات – ليدي هستر ستانهوب الأرستقراطية البريطانية والأمير عبدالقادر الجزائري وجماعة سان سيمون الاشتراكيين الفرنسيين ونابليون الثالث وأحمد فارس الشدياق وآخرين – تدور حول المتوسط من بلاد الشام إلى القاهرة وتونس والجزائر، وصولاً إلى فرنسا وإنكلترا والأستانة العثمانية، وتتصل من مواقع مختلفة وطرائق متباينة بالتجاذبات والمنافسات والنزاعات المرتبطة بصفقة القرن آنذاك، امتياز شق قناة السويس. أملتْ هذه المادة أسلوبها: الحوليات. النص أقرب إلى رواية تاريخية واقعية دون تخييل. إذ تنتفي الحاجة للتخييل عندما يكون الواقع التاريخي أغرب من الخيال.
صدّقيني: كتابة النص الواضح يحتاج من الوقت والجهد والصحو والبحث والمراجعة وإعادة الصياغة أكثر بكثير من النص العويص المتحذلق المكتوب جرّة واحدة. أصعب ما في الكتابة التعبير عن فكرة معقّدة ليس بالضرورة بالبساطة وإنما بنص مركّب على وضوح. التّعبير عن فكرة معقدة بلغة مقعّرة يبتذل الفكرة ذاتها ويستغلقها ويفقدها تركيبها أي ثراءها.
أفهم أن وظيفة الكتابة والكاتب هي التوجّه إلى القارئ وإيصال الحد الأدنى ممّا يريده الكاتب إليه. لا معنى لكاتب ليس مهتمّا بالقرّاء، اللهم إلا المتعالي عليهم ينمّ عن عدم ثقة بالنفس. والذي يعنيني من القارئ هو القارئ العربي، أكتب بالعربية ومن أجل العرب. واللغة العربية لغة إيجاز واقتصاد ودقة واشتقاق وترادف وهي لغة الفعل. تلك هي روعتها. وهي لغة عظيمة ما أن نسبر بعض أغوارها ونحيط بعدد معقول من مكونات عبقريّتها فنظن أننا بتنا متمكنين بعض الشيء منها، نكون قد وصلنا إلى آخر العمر. ولكن في الشغل على اللغة وفي استنطاقها، متعة آفلة وشعور بالزهوّ قلّ نظيرهما.
أحسبني أتوسل السهل الممتنع في الكتابة ولكن ذلك ليس إلا نتاج شغل مضنٍ على اللغة لكي تتقبّل كل منوّعات الكتابة التي أمارس: السرد التاريخي والنقد الفني والأدبي واليوميات والكتابة النظرية والنص السياسي والاقتصاد الاجتماعي والصياغات السردية.
نعم، همّي الوصول إلى أوسع عدد ممكن من القراء بمن فيهم أولئك الذين يثمّنون القراءة والثقافة وهم الأقل حظوة أحيانا في الحصول على كتاب أو دخول مدرسة. علماً بأن ضيق دائرة قراءة الكتب لا تسمح بنشر أو بيع أكثر من بضعة آلاف كتاب في الإصدار الواحد. فيما حضور برنامج حوار تلفزيوني يبلغ مئات الألوف حتى لا نقول الملايين من المشاهدين. ونعم، أكبر تعويض عن هذا العناء المسمّى كتابة، هو حين يستوقفني قارئ – سائق سرفيس أو موظف في استقبال فندق متواضع أو طالبة من الجامعة اللبنانية – ليقول لي إنه قرأ كتابي عن تاريخ لبنان وأفاد منه ليعرف تاريخ بلده أكثر. هذا لكي آخذ مثالاً واحداً عن القراء وعن الكتب.
أجري الحوار في بيروت