الكتابة الجديدة وفكرة الانتهاك
هذه الادعاءات أصبحت تكسب النص الأدبي الشرعية الأدبية أو تنزعها منه، وفيما يلي بعض الخصائص المرتبطة بالكتابة أو اللاكتابة السوريّة والتي من المفترض أنها حديثة الولادة “حوالي خمس سنوات”.
شرعية الضحية
النصوص السورية الجديدة على اختلاف منصّات نشرها نراها تنتصر للضحية، الوَسم ووضعية المهزوم نراها حاضرة في النص بوصفها ضد المنتصر، أو بصورة أدق ضد القويّ، المتمثل “بالنظام” كموتيف يتغيّر ويأخذ أشكالاً متعددة بوجه هذه الضحية، التي أحياناً تغرق في الرومانسية، لترى أن العالم تكالب ضدها وضد أهوائها التي هي أيضاً رومانسية، فالضحيّة السورية (ضمن النص) بداية تتماهى مع “الوسيط MÉDIATEUR-/الثورة” لتحقيق أهدافها، ثم ترى فيه لاحقاً الاكتمال، لتتقمصـ(ه) –الوسيط- بعدها بوصفه النموذج ويغدو الهدف خفياً.
الضحية التي كانت في الهامش انفلتت من سيطرة المهيمن، صاحب الحقيقة الكليّة، وأصبحت تروي حكاياتها، هزائمها، تعاقب الموت والخسارات التي تعرّضت لها لكنّها لم تقدم سرديّتها بعد وضعية الضحية، بل تقمّصت هذه الوضعية، والأهمّ أن هذه الضحية تمتلك الشرعية بالحضور، لا أصوات لمنتصرين، لا أصوات قادرة على تجاوز مركزية الضحية بوصفها وضعية يختارها الراوي أو الشخوص أو حتى الأماكن، من هم ليسوا ضحايا هم بحكم المنطق الأرسطي منتصرون، والكتابة عن اللاضحية تعني نسيانها -الضحية-، لتسود صيغة التعاطف حين محاولة تجاوز هذه الوضعية، بوصف التعاطف لا مساواة، ونوع من التنازل بل وترسيخ لمفهوم الضحية، لتغدو الأخيرة دور رقيباً من نوع ما، “كيف تكتب وهناك من يموت..؟” هي العبارة الأشهر التي تدل على هذه الرقابة، لتنشأ تهم التخوين والانسلاخ عن “هناك”، عن سوريا الثورة، سوريا الموت اليومي.
وضعية الضحية أنتجت نصوصاً لا ترقى لأن تكون فنية أو أدبيةً، لكنها تتداول بدافع التعاطف لا اللذة والحساسية الأدبية، وذلك بحكم سيرة كاتبها لا بحكم قيمتها، وهذا نابع من التعاطف واقتسام المأساة، لا من الموقف الجمالي من النص.
القدسية الثورية
هذا الجانب مرتبط بالأول، مرتبط الثورة بوصفها آلية شرعنة مقدسة، والتي تأتي أيضا بمنطق يشابه منطق الإيمان الديني، النزعة نحو الانعتاق تدان بوصفها غير ثورية، محاولة تجاوز ثنائية الصراع، يُتهم صاحبها بالخيانة، النص الأدبي أًصبح شبه ملزم بتكوينات ومعان محددة كي يكتسب شعريته الأدبية، بغض النظر عن قيمته، بل بالتركيز على انتمائه، ما حوله أحياناً إلى (كيتش) ناتج عن طغيان مؤسساتي وأيديولوجي.
الكتابة، والمقصود الكتابة المحترفة، تقنيات وبناء فكري ماذا لو كانت ضد الفعل الثوري؟ وأقول ثوري لا بقصدي مع مفهوم النظام -وإن كان ذلك ممكناً- بل ببساطة “لا ثوري”، ماذا لو كان النص مكتوبا من قبل “مؤيد” حسب التعبير المتداول، هل يفقد نصيّته و”جماليته”؟ الجواب بحكم المنطق لا، لكن النزعة نحو تقييم ما هو غير ثوري على أساس سياسي تهيمن أكثر من التقييم على أساس فني وأدبي، لتكون الثورة فعلا مقدّسا أو مفهوما على رومانسيته عصيّا على الانتهاك أو الانتقاد فنياً، بوصف “الثورة” المرجع الذي يمنح الشرعية للنص.
المقدّس الثوري كرّس أسماء وأعطى اعترافات لمن لا يستحقونها فنياً، وحسب منطق بيير بورديو تحوّلت الثورة إلى مؤسسة بل إلى قطاع متكامل ذي رأس مال رمزي ومادي.
اليومي واللا انتماء
اليومي أصبح طاغياً في الكتابة السورية، لارتباطه بالذاكرة التي تتداعى، الفقدان والمنافي جعلت التفاصيل اليومية مركزية، انهيار العالم والمفاهيم من حول الفرد جعل التفاصيل اليومية هي ساحة القتال بوصفها مهدّدة بالغياب، لتنشأ أقاويل كالـ”بوكوفسكيون السوريين” نسبة للشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي أو مقاربات لجامعة البيت في أميركا، أفراد يصنفون أنفسهم كصعاليك وسفلة يكتبون يومياتهم أو تفاصيل حيواتهم اليومية في المنافي أو الداخل.
الضحية التي كانت في الهامش انفلتت من سيطرة المهيمن، صاحب الحقيقة الكليّة، وأصبحت تروي حكاياتها، هزائمها، تعاقب الموت والخسارات التي تعرّضت لها لكنّها لم تقدم سرديّتها بعد وضعية الضحية
هذه الظاهرة مرتبطة بالشلل، عدم القدرة على التغيير، إلى جانب اللاستقرار جعلت اليومي هو الطاغي بوصه المتوافر، هو ليس خيارا في كثير من الأحيان، بل هو الواقع، اللاتعيين المكاني والنفسي الطاغي على حيوات البعض جعل النص يتمسك بآنيته، ليكون الخط الفاصل بين ما هو أدبي/شعري وما هو مبتذل دقيقاً، وأحياناً يصعب التمييز بين الاثنين بسبب الكمّ الهائل من جهة ذلك بسبب تقنية الانتشار نفسها التي جعلت منصات التواصل الاجتماعي (أحياناً الصحف) مرتعاً لهذه النصوص، لتكون الكلمة الطاغية بوصفها سمة للتقييم السلبي “هذا بوست فيسبوك وليس شعرا”، بالتالي الوسيط الرقمي فرض تقنية في التقييم أو موقفاً جمالياً نتيجة آلية وسيلة التواصل في تسجيل “اليومي” بوصف سؤال الفيسبوك الأكثر شهرة هو “بماذا تفكر الآن..؟”.
كذلك الأمر مرتبط بدعاوى اللاانتماء، والرغبة لدى الكثيرين لأسباب عديدة منها السياسي ومنها الفكري، بتجاوز ثنائية “ثورة/نظام” والكتابة لمجرّد الكتابة، دون الانخراط أو الميل نحو أيّ خطاب سياسي يصنّف النص تحته، أي الرغبة باللاتصنيف، لأن هذا سيؤدي حتماً إلى التحول من التقييم الأدبي الصرف إلى ذلك السياسي والعقائدي.
ضد التخييل
الخيال لم يعد العامل الحاسم في الكتابة، أو التخييل -fictionalization وعوالمه الروائية، لتكون المرجعية الواقعية هي الطاغية، بوصف التخييل أو “الابتعاد عن المرجعية السوريّة” يمكن أن يتحول إلى تهمة، بحيث يحكم الواقع-الصراع على الكتابة بأن تكون ذات مرجعية واحدة، أمّا إنتاج عوالم مغايرة فقد يعني تجاهل الموت، بل والتخوين أحياناً، لكن هذا لا ينفي وجود تقنيات التخييل في بعض النصوص السورية رواية أو قصة قصيرة، لكن إعادة إنتاج عوالم متمايزة عن “الآن/هنا” وخصوصاً من قبل الكتّاب المنخرطين في الصراع أصبح شبه مستحيل عدا بعض الاستثناءات.
ماذا لو أن كاتبا سوريا قرّر أن يكتب رواية خيال علمي وكانت على قيمة فنيّة عالية، هل ستُنشر..؟ هل ستُقرأ..؟ هي سيتهم صاحبها بأنه لا وطني وبأنه يتجاهل دم الأطفال؟
لوحة: خالد عقيل
شعرية الحكاية
هذه الخاصية مرتبطة بتقنيات السرد، والتي لا تنتشر بكثرة، فالتقنية لم تعد الأساس في بناء الرواية، بل ما يهم الآن هو الحكاية، التخييل وصناعة الرواية طغت عليها الحكاية بكل رومانسياتها، بوصف أن الواقع مليء بالحكايات الصغيرة، لنرى أكواما من الحكايات التي لا تُنفى أهميتها، لكنّها لا “تُسرد” عبر تقنية متميّزة المرتبطة بصنعة الرواية أو القصة والتي من شأنها -التقنية- أن تطوّر وتشكل تراكم التجربة وتمايزها لا الحكايات التي تحويها، وهي التي تصنع الفرق بين الروائي وبين اللاروائي، بوصف الأول محترفا فنياً والثاني يعتمد على متعة “الحكي” المرتبطة باللغة وشعريّتها والحكاية ولذّتها، لا الرواية كبنية متكاملة، فتداخل الأشكال الأدبيّة،”أُقدّر” أنه في أغلب الأحيان لا ينبع من المعرفة بها و”الاحتراف” في تكوين تقنيات جديدة، بل من الاستسهال والعمل على المتوافر وليد البرهة، لا البحث العميق في بنية كل نوع أدبي.
تهمة الجغرافيا
الجغرافيا وثنائية داخل/خارج أصبحت حقيقة نقدية عوضاً عن وضعية إنسانية، من يكتب في الداخل هو حكماً إما خائف أو موال، ومن يكتب من الخارج هو حكماً لا يشعر بما يحدث في الداخل، فالداخل يدّعي شعرية البقاء والنجاة “ضحية” والخارج أيضاً يدّعي شرعية النجاة “أيضاً ضحية” بعيداً عن التهم المتبادلة، التي أصبحت وسيلة للسخرية أو التقييم، لا يُنكر أن الخارج يحوي حرية لا متناهية في التعبير لغياب الخوف من الأذى الجسدي، لكن هذا لا يعني أن الداخل عقيم، لا يتمايز عن خطاب السلطة، والمقصود أفراد لا مؤسسات، والأمر ينطبق على الخارج، لا يعني أن الكتابة من الخارج تعني “الإبداع″ أو تجاوز حضور الطاغية لإنتاج الروائع، بل تسيّس الكتابة في الخارج والداخل جعل مفهوم النص يخضع لعوامل غير فنيّة، ليكون مكان توليد النص الجغرافي هو ما يتحكّم بجماليته، لا المنتج النهائي بعيداً عن فعل الممارسة الآني للكتابة المرتبطة بالتواجد الجسدي.
المؤسسة والترويج
هذا العامل الأهمّ في الكتابة في سوريا بوصفها محكومة بالنهاية بمؤسسات (لا أتحدّث عن المدوّنات والمحاولات الفردية التي تنتهي أغلبها بالاحتضان المؤسساتي)، فالتبنّي وخصوصية السوري الآن حوّلته إثر الخصائص السابقة “ثوري-ضحية-ناج” إلى وسيلة للترويج، سلعة إنسانية يتمّ تبادلها لا لمضمونها بل لشكلها، ينسحب الأمر على النص، والصفات التي اكتسبها البعض “كاتب-مفكر-شاعر” دون أن يحاكموا نقدياً، وهذا ما جعل الهدف من الكتابة أحياناً هو استجرار الشفقة، وذلك في سبيل التورّط ضمن القطاع “ثورة -نظام” في سبيل الربح، لسنا بصدد التقييم الأخلاقي، لكن القيمة الفنية أضحت تبادلية وتُكتسب عبر شروط بيروقراطية لا عبر شروط فنية، فالمعيار سياسي وليس أدبيا.
غياب الانتهاك
لا تشكيك فيما “حدث” في الكتابة السورية، الـparody والغروتيسك لا تحضر، بوصفها تحمل أبعاداً سياسية، إعادة إنتاج البنى السابقة ومحاكاتها للتشكيك بأحقيّة الضحية أو أحقيّة المنتصر نادرة، وتقتصر على المحاولات الفردية، وهذا ما سيشكّل لاحقاً مشكلة ثقافة مرتبطة بالهوية، نحن أمام جسدين للذاكرة السورية ذويْ مرجعية فنية أدبية (بعيدا عن الإعلام الذي أيضاً يشارك في بناء هذه الذاكرة)،الأول يمثله النظام وخطابه، والثاني تمثله الثورة وخطابها، الأول يشكك به دوماً، لكن الثاني، مقدّس، لكن هذا لا ينفي أن الاثنين سيكونان الصورة المستقبلية عن سوريا للسورين الذين لم يعيشوا في سوريا، فالأجيال المولودة في المنافي والمخيمات، وكلا هذين الجسدين قائمان إما على السرد أو التخييل أو الكذب أو الوثائق التي أيضاً لا بد من التشكيك بها حتى لو كان مصدرها خطاب الثورة.
محاولات التشكيك بخطاب الثورة غائبة، لأن التدوين بحدّ ذاته هو تأريخ، والتشكيك به أو محاكاته بصورة ساخرة يعني التشكيك بتاريخانيّته، وهذا ما لا نراه إلا عبر جهود بسيطة وفردية (مقالات وتدوينات) لا بجهود مؤسساتية كجهود التكريس المتّبعة من الطرفين.
لاحقاً الهويات السوريّة ستصنع على أساس متخيّل، سردي، مقدّس، لا يخضع للمحاكمة مرجعيته جسد الذاكرة الذي يكوّن الآن عبر النصوص والصور.