عالم الرواية
تمثّل الرواية نوعاً من الذاكرة الجمعيّة المميّزة لكلّ جغرافية بشريّة: الرواية في هذا الإطار تصبح بمثابة (خزانة الحكايات) التي تحفظ المزايا المجتمعيّة والأنثروبولوجيّة لكلّ جغرافية بشريّة، وتمكن من خلالها الإطلالة على العادات والتقاليد وأنماط العيش وفنون الطبخ والأزياء والملابس السائدة في كلّ عصر إلى جانب كلّ التفاصيل الحياتيّة الأخرى الخاصّة بالحب والزواج والصداقة والرفقة والسفر.. ومن المثير هنا الإشارة إلى حقيقة أنّ معظم المتعلّمين والخريجين الذين غادروا الدراسة الثانوية والجامعيّة منذ عقود بعيدة قد نسوا تقريباً كلّ ما سبق لهم دراسته باستثناء الأعمال الروائيّة التي مرّت عليهم أثناء دراستهم مثل روبنسون كروزو، بلد العميان، حرب العوالم، جزيرة الكنز..الخ. وغالباً ما يستذكرونها بنوع من النشوة العميقة كمن طاف في عالم ساحر لا نظير له. يظنّ الكثيرون أنّ الأعمال الروائيّة لعصرنا ستنهض في الألفيّات القادمة بذات الدور الذي نهضت به الرّقم الطينيّة والسجلّات الآثاريّة التي أمدّتنا بكنز لا ينضب من المعلومات حول الحضارات القديمة.
فضاء ميتافيزيقي
الرّواية في عالم اليوم تؤدّي الوظيفة التي نهضت بها الأسطورة من قبلُ: غدت الرواية، على الصّعيد الفرديّ، بمثابة (الفضاء الميتافيزيقيّ) الذي يلجأ إليه الأفراد للحصول على فسحةٍ من (فكّ الارتباط) مع الواقع الصلب واشتراطاته القاسية، والإبحار في عوالم متخيّلة لذيذة تشبه حلم يقظةٍ ممتدّاً، ويستوي في ذلك مبدعو الأعمال الروائيّة وقارؤوها. يمكن عدّ الرّواية في هذا المجال، وفي عصر العقلانيّة العلميّة الصّارمة، البديل الأكثر جدارة وقدرة عن الأسطورة التي ساهمت -مع فنون السّحر البدائيّة- في تعزيز الصلابة الداخليّة للفرد البدائيّ وترصين بنيانه الذهني والسيكولوجي وتمكينه من مواصلة العيش بطريقة مشرّفة بعيداً عن التخاذل والانكفاء أمام المصاعب والأهوال التي كانت شائعة مذْ وجِد الإنسان على الأرض، ومن الطبيعي للغاية القول إنّ الرواية خليقة على النهوض بكلّ المهام التي نهضت بها الأسطورة من قبل.
ترياق مضاد
الرّواية عمل تخييلي يبدأ بالمخيّلة ويتطوّر داخل فضائها: يعدّ الخيال المجال الحيويّ الخصب الذي تعمل داخله -وفي إطاره- العناصر الروائيّة على تشكيل العمل الروائيّ بغَضّ النظر عن تجنيس الرواية، وبهذا ينظَرُ إلى الرواية كوسيلة ترتقي بالخيال البشريّ وتمنع انزلاقه في مهاوي الركود وبخاصّة بعد طغيان الإنجازات العلميّة والتقنيّة التي تعمل على تنميط الحياة وتحويلها إلى سلّة خوارزميّات (Algorithms) محدّدة بطريقة قبليّة (apriori) وعلى نحو صارم، ويغدو الأمر أكثر خطورة مع عصر التقنيّات الرقميّة التي تأسّست أصلاً على مفهوم النظم المحدّدة Discrete) Systems) المحكومة بخوارزميات فائقة التحديد والصلابة بحيث بات الأمر يهدّد النزعة التحليليّة التي تعدّ ميزة فريدة للعقل البشريّ. تمكن الإشارة أيضاً إلى خفوت المؤثرات الحسيّة وتبلّد الخيال البشريّ وانكفاء شعلة الشغف والإحساس بالمغامرة (الذهنيّة والواقعيّة)، وهنا صارت الرواية تخدم كنوعٍ من ترياقٍ مضاد لهذا الخنوع والانكفاء الذي أصاب الخيال البشريّ وعطّل توهّج الحواس واندفاعتها البدائيّة الباعثة على أعلى أشكال اللذّة التي باتت اليوم مُفتقدَة على نحو مُحزن للغاية.
الرواية لعبة ذهنيّة (Intellectual Game) في المقام الأوّل: يعمل الفنّ الروائيّ على إشاعة نوعٍ منعش من الحيويّة الذهنيّة والعبقريّة الإنسانيّة المميّزة إذا ما نظرنا إليه كنوعٍ من ألعاب ذهنيّة ترتقي بالفعاليّات العقليّة المعروفة، ولا غرابة أن تقترن الأعمال الروائيّة العظيمة بالمجتمعات التي حقّقت أعلى درجات الإنجاز العلميّ والتقنيّ والاقتصادي والسياسيّ، وفي الوقت ذاته نلمح تراجع الفن الروائيّ في المجتمعات التي تعاني نكوصاً ثقافيّاً وحضاريّاً واقتصار ذلك الفن على بعض التوثيقات التسجيليّة الساذجة والتلفيقيّة التي لا ترقى إلى مهارة وجمال وحبكة حكايات (الجدّات) و(الأمّهات) الشائعة.
استجلاب البصيرة
الرّواية يمكن أن تكون علاجاً في حالاتٍ خاصّة: ثمّة جانب براغماتيّ مرتبط بالفن الرّوائيّ الذي يمكن أن يوفّر في حالاتٍ خاصّة علاجاً وافياً لبعض الاضطرابات الذهانيّة وبخاصّة لتلك الحالة الإكلينيكيّة المسمّاة الذهان الهوسي- الاكتئابي (Manic -Depressive Psychosis) التي تعرَف بين العامّة بالاكتئاب ثنائيّ القطب (Bipolar Disorder): تلك الحالة كثيرة الشيوع والمدمّرة لحياة الأفراد وبخاصّة الأفراد الذين يتوفّرون على قدر عالٍ من الذّكاء والألمعيّة والذين تتسبّب هذه الحالة في تعويق قدراتهم بطريقة خطيرة للغاية. ثمّة حالات موثّقة حكى فيها بعض كتّاب الرواية عن تجاربهم الخاصّة وكيف ساهم انغماسهم في العمل الروائيّ على تخطّي الأطوار الصعبة من اضطراباتهم الذّهانيّة المدمّرة وبشكلٍ عجز عن إنجازه عقار (بروزاك Prozac) الذي بات الخصيصة التي تسِمُ الثقافة المعاصرة إلى حدّ صارت تدعى معه ثقافة البروزاك (The Prozac Culture). ذهب بعض الأطبّاء السيكولوجيّين إلى إمكانيّة اعتماد الكتابة الروائيّة كوصفةٍ علاجيّة -في حالات محدّدة بعينها-، وربّما يكمن السبب وراء قدرة الكتابة الروائيّة على اجتراح علاج لبعض الاضطرابات الذهانيّة في الطقوس الحتميّة المقترنة بتلك الفعاليّة المدعمة بالانضباط والصرامة المعهودة في كلّ جهد روائيّ، وقد يعمل هذا الأمر على كبح التشويش الخارجيّ مع الضوضاء البشعة المقترنة به، ودفع الأفراد نحو التركيز المجرّد على سماع أصواتهم الداخليّة الثريّة والمدفونة تحت غبار الإهمال والتجاهل، الأمر الذي قد يتسبّب في تنشيط النواقل العصبيّة الدماغيّة (مثل السيروتونين والدوبامين) التي تتحكّم في الكيمياء الدماغيّة المكيّفة للمزاج البشريّ وتقلّباته وتدفع به نحو آفاق النشوة والإحساس الغامر بالسعادة غير المرتبطة بمؤثّرات فيزيائيّة خارجيّة، وقد تتماهى تجربة الكتابة الرّوائيّة في هذا الإطار مع الكشوف العرفانيّة والفيوض التصوّفية المقترنة بها والتي حكى عنها عرفانيّونا الأكابر والمعتزلة الأجلّاء، وربّما يدعم هذا الرأي كون أغلب الكُتّاب -وبخاصّة الروائيّات والروائيّين- المُجيدين والمميّزين ذوي تجارب مفارقة للوعي البشريّ العاديّ وأقرب إلى استجلاب البصيرة بطرقٍ غير مألوفة، ويمكن تعداد الكثير من الأسماء الروائيّة في هذا الميدان: هيرمان هسّه، دوريس ليسنغ، نيكوس كازانتزاكيس. ولم يغفل هؤلاء عن توثيق تجاربهم الكاشفة القريبة من الفيوض العرفانيّة في بعض الحالات.
لا غرابة أن تقترن الأعمال الروائيّة العظيمة بالمجتمعات التي حقّقت أعلى درجات الإنجاز العلميّ والتقنيّ والاقتصادي والسياسيّ، وفي الوقت ذاته نلمح تراجع الفن الروائيّ في المجتمعات التي تعاني نكوصاً ثقافيّاً
كتابة الرواية
الرواية معلمٌ حضاريّ وثقافيّ تنهض به العقول الراقية في مختلف الاشتغالات المعرفيّة: من المؤكّد ثمّة روائيّون محترفون يكتبون الرواية ويحقّقون أعلى المبيعات، ولكنّ الغالب أنّ أفضل الروايات ليست تلك التي تحقق أعلى المبيعات لمجرّد معرفتها بشروط السوق وألعابها التجاريّة، بل يمكن -على العكس- ملاحظة أنّ كلّ العقول الراقية التي أسهمت مساهماتً ثوريّة في الحقل العلميّ أو التقنيّ أو المعرفيّ بعامّة ساهمت بكتابة عملٍ روائيّ أو أكثر لكلّ منها، وربّما كان الأمر يعود إلى حالة البهجة والنشوة المفارقتين للحالات العابرة والمقترنتيْن بكتابة العمل الروائيّ الذي يمتلك خوارزمياته الساحرة والجاذبة لكلّ عقل شغوف خبر الكتابة الروائيّة ولذّتها الفردوسيّة. أذكر في هذا المقام، مثلاً، عالم الرياضيّات العبقريّ الأمريكيّ نوربرت واينر (Norbert Wiener) (1894-1964) واضع أسس علم السيطرة الآليّة Cybernetics، الذي كتب رواية ( المُغويThe Tempter) المنشورة عام 1959، وكذلك أذكر الفيلسوف البريطانيّ الأشهر برتراند راسل الذي نشر رواية له بعنوان الشيطان في الضّواحي (Satan in the Suburbs )، كما أذكر البروفسور مارفين مينسكي (Marvin Minsky) أستاذ الذكاء الاصطناعي والروبوتات في معهد ماساتشوستس MIT الأميركيّ ذائع الشهرة، وجون كينيث غالبريث ( John Kenneth Galbraith) عالم الاقتصاد والأستاذ الجامعيّ المرموق والذي عمل سفيراً كذلك: هؤلاء كلهم وآخرون كثيرون نشروا أعمالاً روائيّة مرموقة إلى جانب اشتغالاتهم المعرفيّة الرائعة، ولن أنسى بالتأكيد الكثير من الفيزيائيّين الذين نشروا أعمالاً روائيّة وسأذكر بعضاً منهم في الجزء الثاني من هذا التقديم. هنا لا ينبغي الظنّ في هذا الموضع بأن هؤلاء كتبوا الرواية في إطار رواية (الخيال العلميّ) القريبة من اشتغالاتهم المعرفية بل هم كتبوا روايات في كلّ الأجناس الروائيّة المعروفة وما كانت أعمالهم مفتقدةً إلى الصنعة الفنيّة والحرفنة المهنيّة التي تتطلّبها الكتابة الروائيّة الخلّاقة.
التنبؤ بالمستقبل
الرواية جهد خلّاق يرمي إلى فتح آفاق جديدة أمام الوعي البشريّ والخيال الإنسانيّ: وصف أحد الروائيّين مرّة الرواية الرصينة بأنّها مثل آلة إينيغما (Enigma) التي استخدمها الحلفاء في فكّ شفرة الحرب الألمانيّة في الحرب العالميّة الثانية، وأظنّه كان موفّقاً غاية التوفيق في وصفه هذا، فالرواية باتت اليوم مصنعاً يعجّ بالخبرات التي يتعامل معها الروائيّ ليخرج في النهاية بعملٍ يصبُّ في هدف فتح آفاق جديدة أمام الوعي البشريّ وتوصيف خارطة التضاريس التي تواجه الجنس البشريّ بكلّ معوقاتها، بل ذهب البعض إلى أنّ الرواية الجيّدة المصنوعة بشغف يمكن عدّها فرعاً من الدراسات الخاصّة بالتنبّؤ بالمستقبل (علم المستقبليّات Futurology) وبات ينظرُ إلى الروائيّ المتمكّن كفرد موسوعيّ المعرفة تمتلئ خزائنه بالكثير من العناصر المعرفيّة حتّى غدا يمتلك بصيرة رائية ترى تضاريس المستقبل في الوقت الذي يحكي فيه عن الحاضر.
عولمة الرواية
الرواية أداة “ناعمة” من أدوات العولمة الثقافية: ثمة ملاحظة في تاريخ الرواية العالمية تدعو إلى إعمال فكرٍ ونظرٍ كبيرين، إذ في الوقت الذي خدمت فيه الرواية الوعي القومي وتَشَكُّل ما يسمى (الضمير الجمعي للأمة) وبخاصة إبان نشوء مفهوم الأمة- الدولة Nation – State وبزوغ عصر الدول القومية في القرن التاسع عشر، وفي الوقت الذي كانت الرواية الناطقة بالإنكليزية توصف بِـ(الرواية الإمبراطورية) تنسيباً لها إلى فضاء الثقافة الإمبراطورية البريطانية، فقد بتنا نرى اليوم اتجاها روائياً معاكساً يميل إلى عولمة الأفكار والثقافات والاتجاهات الروائية بدلاً من مركزتها في شكل استقطاب أحادي اللون والنكهة الثقافية. لا تخفى بالتأكيد الجوانب الإيجابية للعولمة التي تفوق سلبياتها المدّعاة بكثير -على خلاف العولمات الاقتصادية والتجارية المتغوّلة-، كما لا تخفى القدرة الفائقة للعولمة الثقافية في نزع فتيل التأزم الروحي والعقلي (بل حتى الذهاني) الناجم عن الشعور بالدونية الثقافية وعدم نيل الفرص المشروعة وبخاصة أمام جيل الكتّاب المنتمين لفضاء الثقافات الهامشية طبقاً لنظرية المركز-الأطراف الثقافية، ومن الواضح للغاية أن الرواية تشكل القاطرة الثقافية القادرة على جرّ عربة الثقافة العالمية بسبب النزوع العولمي الطبيعي للرواية في تناول مسرات الإنسان ومكابداته.
من المؤكّد ثمّة روائيّون محترفون يكتبون الرواية ويحقّقون أعلى المبيعات، ولكنّ الغالب أنّ أفضل الروايات ليست تلك التي تحقق أعلى المبيعات لمجرّد معرفتها بشروط السوق وألعابها التجاريّة
II الرّواية وثورات عصر الحداثة
يُنظَرُ إلى الرواية على أنّها إحدى المنتجات الأكثر تميّزاً التي جاء بها عصر الحداثة مع بدايات القرن العشرين، القرن الذي شهد ثوراتٍ عظيمة ساهمت في إعادة رسم المشهد الروائيّ بالكامل.
الثورة الأولى
أولى هذه الثورات هي الثورة في ميدان الفيزياء النيوتنيّة التقليديّة، والتي قدحت زنادها النظريّة النسبيّة (Relativity Theory) التي أعادت تشكيل صورتنا المفاهيميّة، وبشكل خاصّ، عن طبيعة الزمان والمكان وأبانت العلاقة المتلازمة بينهما. أمّا النظريّة الثانية التي ساهمت في الثورة الفيزيائيّة فكانت النظريّة الكمّية (Quantum Theory) التي نسفت مفاهيمنا السائدة بخصوص التزامن (Simultaneity)، والسببيّة ( Causality)، وطبيعة المادة والضوء، وعملت بشكلٍ أساسيّ في تهشيم مواضعاتنا الراسخة حول الحتميّة الفيزيائيّة وأحلّت محلّها القوانين الإحصائيّة والاحتمالية. عملت هذه الثورات الفيزيائيّة على تغيير نظرتنا إلى الواقع وتغيير طريقتنا في التعامل معه وكيفيّة تناوله، الأمر الذي ترتّب عليه حتماً تغيير طبيعة الاشتغالات الروائيّة لأنّ الطبيعة المفاهيميّة للواقع تعدُّ نقطة الشروع الفلسفيّة التي تخدم كأرضيّة (أو خلفيّة) يقيم عليها الروائيّون هياكلهم الروائيّة في كلّ العصور منذ بدء الفنّ الروائيّ وحتى أيّامنا هذه. إنّ المفهوم السائد عن الواقع في أيّ عصر هو بالتأكيد العنصر الأساس الذي يحدّد طبيعة الرواية وكيفيّة اشتغالها باعتبارها فنّاً يتأسّسُ على رؤية فلسفيّة حول المظهر، والواقع، والأفراد وطبيعة علاقاتهم، وكيفيّة التعامل مع الزمان والمكان، والصور الذهنيّة التي يكوّنها الأفراد عن العالم المحيط بهم، وتلك موضوعاتٌ تجعلنا نديم التساؤل حول الموضوعات الفلسفيّة الممتدّة منذ نشأة الفلسفة الإغريقيّة وحتى هذا اليوم. ربّما يكون من المثير أن أذكر في هذا المقام أنّ بعضاً من أفضل الروائيّين كانوا فيزيائيين متمرّسين ذوي باعٍ وخبرة في حقلهم الفيزيائيّ، وأذكر من هؤلاء: اللورد سي. بي. سنو (C. P. Snow) المعروف بكتابه الأشهر “الحضارتان العلميّة والأدبيّة: نظرة ثانية“، وأرنستو ساباتو صاحب الروايات الشهيرة، ومن الفيزيائيين-الروائيين المحدثين أذكر آلان لايتمان (Alan Lightman) أستاذ الفيزياء في معهد ماساشوستس التقني MIT ومؤلّف رواية “أحلام آينشتاين Einstein”s Dreams“ ذائعة الصيت، وكذلك ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين (Rebecca Newberger Goldstein) التي بدأت فيزيائيّة وانتهت فيلسوفة وأستاذة جامعيّة وأذكر من رواياتها “خواص الضوء: رواية عن الحبّ، والخيانة، والفيزياء الكميّة” (Properties of Light A Novel of Love , Betrayal and Quantum Physics).
الثورة الثانية
ثمّة ثورة ثانية كان لها أبلغ الأثر في تحديث شكل الرّواية: الثورة التقنيّة التي بدأت بواكيرها منذ عصر الثورة الصناعيّة (التي تعدُّ المكائن البخاريّة والقطار أهمّ معالمها المميّزة) وتبلورت مع بدايات القرن العشرين مع بعض الشواهد التقنيّة التي ربّما تكون الطّائرة، ووسائل الاتصال، والسيّارات العاملة بمحرّكات الاحتراق الداخلي أهمّها إلى جانب التقنيّات العسكريّة القاتلة التي شهدنا نتائجها المهلِكة مع الحرب العالميّة الأولى. أبانت الثورة التقنيّة أمام الإنسان القدرات الهائلة التي يجترحها في فعل الخير والشرّ معاً وربّما كانت قصيدة “الأرض الخراب” ( Waste Land) لإليوت تصف بطريقة رائعة المشهد الإنسانيّ والخراب الذي رافقه بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى. أعادت الثورة التقنيّة على وجه التحديد تشكيل صورة الإنسان عن المكان والزمان -لا على المستوى المفاهيميّ مثلما فعلت الثورة الفيزيائيّة بل على مستوى الإحساس الفردي والتعامل اليوميّ- بعد أن انتشرت سكك الحديد بخاصّة ومن هنا صار يُنظر إلى القطار (إلى جانب السكك الحديديّة) على أنّه واحدٌ من أهمّ وجوه الحداثة التي ساهمت في إعادة ترتيب المشهد الروائيّ بسبب انتشارها ورخص كلفتها التي باتت في متناول الجميع بعكس الطائرة التي انحصر استخدامها بين بعض الطبقات الثريّة ولم تصبح وسيلة متاحة أمام الكثيرين إلّا مع منتصف الخمسينات في القرن العشرين بعد تطوير المحرّكات النفّاثة.
الثورة الثالثة
أمّا الثورة الثالثة التي كان لها أبلغ الأثر في تثوير المشروع الروائيّ وتحديثه فهي الثورة السيكولوجيّة التي أعادت تشكيل مفاهيم العقل (Mind)، والحتميّة ( Determinism)، والإرادة الحرّة ( Free Will)، والدوافع ( Motivations)، والحاجات ( Needs)، وربّما تكون السيكولوجيا الماسلويّة (نسبة إلى عالم النفس المعروف أبراهام ماسلوAbraham Maslow ) هي الإنجاز الأكثر أهمية في الميدان السيكولوجي في القرن العشرين -من وجهة نظر تأثير السيكولوجيا في الرواية- بعد أن جاء ماسلو بمفهوم التدرّجية الهرميّة للحاجات الإنسانيّة (Pyramidal Heirarchy of Human Needs )، وكذلك بمفهوم الطبيعة الروبوتيّة الشبيهة -بوضعيّة الطيّار الآلي- التي يعيش معظم البشر حيواتهم فيها وهم يعانون من أقصى درجات الضجر واللامبالاة، ومن الطبيعيّ أن تكون مفردات مثل الحاجات الإنسانيّة، والضجر، واللامبالاة… موضوعات دسمة أمام الرّوائيّ المنشغل بالحياة ومعضلاتها السائدة.
حافظت الرواية ما بعد الحداثية على سمات التشظي الزماني والمكاني والسيكولوجي وأوغلت فيه كثيراً، لكنها من جانب آخر باتت تركّز في معالجاتها الروائية على ثيمات أصغر بكثير من الثيمات الكبرى
الثورة الرابعة
ثمّة ثورة رابعة على المستوى الفلسفيّ طالت الاشتغالات الفلسفيّة التقليديّة وأثمرت كشوفات فلسفيّة جديدة لعلّ حركة التحليل اللغوي ( Linguistic Analysis) والنزعة التحليليّة (Analiticity) في الفلسفة بعامّة تعدُّ أهمّ معالمها، وقد ساهم فلاسفة مثل برتراند راسل ( Bertrand Russell ) ولودفيغ فيتغنشتاين ( Ludwig Wittgenstein) في قيادة ركب الفلسفة التحليليّة إلى جانب جمهرة مميزة من أساتذة كمبردج وأكسفورد، ولا يخفى حتماً التأثيرات التي جاء بها هذا الاتجاه التحليلي الفلسفيّ-اللغوي إلى اللغة الروائيّة التي نزعت عنها ثوب الرّطانات اللغويّة المفخّمة والاستعارات البلاغيّة المحتشدة التي كانت سمة الرواية الفكتوريّة، وحلّت محلّ هذا لغة مقتصدة تحتكم إلى معايير الانضباط ومقاربة الأهداف بلا وسائل التفافية على صعيد اللغة. ينبغي التنويه هنا إلى العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والأدب بعامّة -والفلسفة والرواية بخاصّة- ويمكن إيراد قائمة طويلة بالفلاسفة الروائيّين، لعلّ أيريس مردوك ( Iris Murdoch) تقف في طليعتهم، ولازالت رواياتها تلقى صدى طيّباً حتى يومنا هذا رغم أنّ بعضها وضعتْه الكاتبة في مطلع الخمسينات من القرن الفائت.
لا ينبغي في هذا الميدان إغفال الثورة الليبرالية التي تعاظم مدّها في القرن العشرين بعد وضع قواعدها التأسيسية الأولى في القرن التاسع عشر على يد آبائها المؤسسين وفي طليعتهم الفيلسوف التنويري جون ستوارت ميل( John Stewart Mill). تعدّ الفردانية ( Individuality) التمظهر الأجلى المقترن بالليبرالية والميزة الأساسية لها، وبات في عداد الحقائق الواضحة التي ترقى إلى مستوى البديهيات أن الفرد مسؤول مسؤولية تامة عن صناعة حياته وتشكيل مستقبله، وأن كل النظم الحكومية ينبغي أن تساعده في تحقيق فردانيته المميزة والثمينة، وظهر تأثير تلك الميزة في أوجه عدة: في الحقل السياسي قادت الليبرالية إلى توسيع المشاركة الفردية في الحياة السياسية، وتحجيم الفكر الشمولي والطغياني (وبخاصة الفكر الديني العقائدي)، والمشاركة الواسعة للنساء في المشهد السياسي، وتخفيف غلواء البيروقراطية الحكومية، والتأكيد على حقوق الطفل، والتركيز على حقوق الإنسان. على الصعيد الاقتصادي قادت الليبرالية إلى الإرتقاء بنوعية الحياة، وظهر إلى العلن مفهوم دولة الوفرة (Welfare State)، كما تم تحديد ساعات العمل اليومية والحد الأدنى للأجور، وطبّقت برامج الحماية الاجتماعية وبرامج التأمين الصحي (في القارة الأوربية بخاصة)، الأمر الذي ساهم في تعزيز قدرة الفرد اقتصاديا وتعزيز شعوره بالأمان الذاتي تجاه المجاعة والفاقة، وتمكينه من الاستمتاع بوقت الفراغ المتاح له، وتدعيم فضائه الذهني ونوازعه العقلية العليا بعيداً عن المكابدات اليومية المرتبطة بتأمين الحاجات البيولوجية البدائية. أما في ميدان الثقافة فقد فتحت الثورة الليبرالية آفاقاً واسعة أمام أنماط تجريبية مستحدثة من الأفكار والفلسفات، وما عادت الأطر والمؤسسات القديمة ممّا يمكن -أو ينبغي- العمل في ظلّها، وهنا تمكن ملاحظة الحقيقة الواضحة في أن بدايات القرن العشرين التي شهدت نشوء الرواية الحديثة هي ذاتها التي شهدت ولادة وانطلاق الحركات الثقافية ذات الطبيعة التثويرية مثل السريالية، كما شهدت ظهور المدارس الحديثة في الرسم مثل التكعيبية. ساهم الحسّ الفرداني بتهشيم القيود الثقيلة التي كانت تكبّل الفرد من جهة، والتي عملت في الوقت ذاته على تشظية فضائه العقلي والنفسي وأطاحت بحس الطمأنينة والسكينة والانتماء التي اعتادها في أحضان عائلته أو التشكيلات المؤسساتية التقليدية (مدرسة، جيش، مزرعة، مصنع، كنيسة…)، وهو الأمر الذي انعكس في طبيعة الاشتغالات الروائية التي تحتّم على الرواية الحديثة أن تتعامل معها بجدية فائقة.
III ماذا بعد الرواية الحديثة؟
لم تزل الرواية الحديثة بسماتها المعهودة سائدة في المشهد الروائي العالمي ولها حضورها المميز فيه، ولكن الرواية الحديثة ذاتها ساهمت وبقوة في تخليق أنماط روائية جديدة يمكن عدّها امتدادات طبيعية لها وليست تطوّراتٍ منقطعة الجذور عنها. يمكن في هذا الشأن معاينة الأشكال الروائية التالية التي تعتبرُ ولاداتٍ طبيعية للرواية الحديثة، باستثناء الرواية الرقمية:
تمثل النصوص التشعبيّة الفائقة افتراقا صارخاً عن كل الأشكال الروائية المتداولة وانغماسا فائقاً في عصر التقنية الرقمية، ونشهد في هذه النصوص موت المؤلف
الرواية ما بعد الحداثية (Postmodern Novel)
تطورت الرواية الحديثة إلى أنماط ما بعد حداثية في الجغرافيات التي كانت توصف في العادة بالإمبراطوريات أو الكولونياليات المهيمنة، أو ما بات يُعرَفُ بالمراكز الثقافية طبقاً لنموذج المركز-الهوامش الثقافيّ، وتعدّ الثقافتان الأنكلوساكسونية والفرانكوفونية -إلى جانب الثقافة الجرمانية- الميدان الأرحب الذي نشأ فيه هذا الفن الروائي. ليس ثمة سمة مشتركة خالصة تجمع بين الأنواع الروائية ما بعد الحداثية سوى مخالفتها الصريحة للرواية الحديثة في جانب، وتناغمها معها في جوانب كثيرة أخرى: حافظت الرواية ما بعد الحداثية على سمات التشظي الزماني والمكاني والسيكولوجي وأوغلت فيه كثيراً، لكنها من جانب آخر باتت تركّز في معالجاتها الروائية على ثيمات أصغر بكثير من الثيمات الكبرى أو-ذات الطبيعة الملحمية أحياناً- تلك التي تعهّدتها الرواية الحديثة برعايتها القصوى من قبل، وقد تنوّعت موضوعات الرواية ما بعد الحداثية وبلغت تخوماً تبعث على الإدهاش مثلما نرى – مثلاً- في مقاربة علاقة الإنسان بالبيئة وموضوعة التلوث البيئي الطاغي بعامة والتي استحالت لوناً روائياً متفرداً يمكن وصفه بالرواية البيئية، ونلمح في جانب آخر -كمثال أخر أيضاً- التأثير الذي جاءت به إلى الفن الروائي حلقة تقنية محددة (مثل التقنية الصاروخية أو تقنية الرقائق الإلكترونية المُدمجة)، أو المعضلات الإنسانية التي تنشأ في أعقاب الكوارث الطبيعية مثل التسونامي، والكوارث النووية. اختصت المعالجة الروائية ما بعد الحداثية على مقطع زمني ومكاني صغير ولمعضلة محددة ولم تعد تتناول الحالة المرجعية بأكملها (مثل التقنية على اختلاف أشكالها، أو الكوارث الطبيعية كلّها) مثلما كانت تفعل الرواية الحديثة.
الرواية ما بعد الكولونيالية ( Postcolonial Novel)
نشأت هذه الرواية في الجغرافيات التي كانت تُعتبرُ تقليدياً جزءا من المستعمرات الكولونيالية المهيمِنة، ويلاحظ فيها -وبخاصة في بواكيرها- غلبة الاشتغالات السياسية عليها إلى جانب النزعة التطهيرية المتطرفة التواقة لإحداث فصام كامل مع تراث الماضي الكولونيالي بطريقة غاية في التطرف إلى حدّ بات معه بعض أقطاب هذا اللون الروائي يدعون إلى قطيعة مع لغة المستعمر السابق وإحلال لغات محلية بدلاً عنها، ولكن هذه النبرة المتطرفة خفتت كثيراً في العقود اللاحقة للاستقلال عن المراكز الكولونيالية السابقة بعد تسارع وتيرة التلاقح الثقافي وخفوت حدّة النزعة الثورية الراديكالية العالمية ونضوب خزين (المأزوميّة) في أرواح كُتّاب ما بعد الكولونيالية وبخاصة الأفارقة منهم.
ثمة في هذا المجال ما ينبغي إيلاؤه اهتماماً مضاعفاً: سمحت هجرة بعض الأفراد من جغرافيات الهوامش إلى المراكز الكولونيالية بنشوء أطفالهم في بيئة ثقافية هجينة (Hybrid) تحوز سمات كلّ من ثقافة المركز والهامش معاً، فتطوّر بعض هؤلاء واستحالوا كُتّاباً أبدعوا في كتابة الروايات التي باتت تُعرَف بالرواية ما بعد الحديثة – ما بعد الكولونيالية، ونضج هذا اللون الروائي كثيراً حتى أن الغربيين أنفسهم باتوا يرون فيه شكلاً روائياً باعثاً على أعلى درجات الاهتمام لميله إلى إعلاء شأن قيم التسامح والتعدد الثقافي ولركونه إلى تجارب وخبرات بشرية لم يختبرها العقل الغربي وَلا يمكن له إغفالها أو نكرانها.
رواية التعددية الثقافية (Multicultural Novel)
نشط هذا اللون الروائي في العقود الأخيرة التي شهدت إعلاء فكرة التسامح والتعددية الثقافية والحفاظ على موروثات الشعوب -بما فيها البدائية- وطقوسها الفلكلورية لما تحمله من خبرات وثقافة ثرية ومكتنزة. يمكن تمييز أنواع ثلاثة في هذا الشكل الروائي:
أ- الرواية التي تعتمد على الموروثات الشفاهية البدائية
يمثل هذا اللون الروائي صوتاً ناطقاً للثقافة الشفاهية (Oral Culture) لبعض الجماعات التي لازالت محافظة على ثقافاتها البدائية وترى فيها ترياقاً ناجعاً للكثير من الأمراض التي تعانيها الحضارة الحديثة نتيجة انقطاع جذورها بالأرض التي تعدُّها هذه الأقوام (أمّنا المقدسة)، أمّنا التي أساء لها الإنسان المعاصر إلى أبعد حدود الإساءة.
ب- الرواية المهاجرة ( Immigrant Novel)
يرمي هذا اللون الروائي -على وجه التحديد- إلى استكشاف المعضلات التي يعانيها المهاجرون بين جغرافيات ثقافية مختلفة، وقد نشط هذا اللون الروائي كثيراً بعد طغيان العولمة الثقافية وتزايد موجات الهجرة -حتى بين المراكز الكولونيالية السابقة ذاتها- وما توفره تلك الهجرات من انفتاح على خبرات ثقافية جديدة وإن كانت لا تخلو من مكابدات سيكولوجية وجسدية واقتصادية.
ج- رواية جماعات الأقلية (Minority Groups Novel)
تعتبر الأقليات في عالم اليوم بمثابة صوت ثقافي ضمن الأصوات الثقافية السائدة في فضاء أية ثقافة رئيسية، وما عادت مفردة الثقافة المهيمنة محبذة في هذا الإطار بعد أن صارت تشي بميل إلى تهميش الثقافات الأخرى. انتعشت هذه الرواية بخاصة في الفضاء الأوروبي كدلالة على قيم التسامح والتعايش بين الثقافات، وللتأكيد على أحقية الأقليات في توكيد صوتها الروائي المتفرد.
الرواية الرقمية (Digital Novel)
تمثل النصوص التشعبيّة الفائقة افتراقا صارخاً عن كل الأشكال الروائية المتداولة وانغماسا فائقاً في عصر التقنية الرقمية، ونشهد في هذه النصوص موت المؤلف –أو الأدق نشوء مؤلفين كثيرين للعمل ذاته، ونعني بذلك القرّاء أنفسهم- والارتقاء بدور القارئ إلى مستوى تحديد المسار الروائي بسبب الطبيعة التفاعلية (interactivity) لهذا النوع من النصوص، وغياب الحبكات الثابتة وتلاشي النهايات المُحكمة المغلقة وحتى المفتوحة بسبب الخيارات الهائلة -غير المحددة عملياً- للإمكانيات التي يمكن أن يسلكها النص بحسب خيارات القارئ وطريقة استخدامه للروابط الفائقة. يشكل هذا اللون الروائي تطوراً ثورياً سنلمس -حتماً- تبعاته الهائلة وتطوره إلى أشكال لا تخطر لنا ببال في يومنا هذا.