عندما توقف الزمن في القبو
(يوسف: شاب في أواسط الثلاثينات من عمره.. طويل، نحيل، شاحب، شعره منسدل على كتفيه بشكلٍ عشوائي، بلحية غير مشذبة).
(خشبة المسرح: غرفة تحت الأرض، في عمق المسرح جدار بألوان باهتة، تساقط الطلاء عنه من عدة مواقع، لتتشكل عليه بقع كبيرة وداكنة فوضوية الشكل وغريبة، تبدو وكأنها أشباحٌ ملتصقة عليه، بينها.. في منتصف الجدار، يوجد ساعة ضخمة قديمة معلقة، إنها من النوع الذي يعمل على حركة نوسان البندول أسفلها، تكّاتُ عقرب الثواني مسموعة دائماً بشكلٍ واضح، على يسار الساعة توجد لوحة لرجلٍ مبتسم جالس على كرسي بثياب أنيقة.
تحت الساعة توجد أريكة قماشها متهرئ، عليها وسائد متسخة وغطاء متواضع، أمام هذه الأريكة توجد طاولة على سطحها فوضى هائلة للأشياء، قناني: بعضها فارغ وبعضها ممتلئ، كؤوس وفناجين ملوثة ببقايا نبيذ وقهوة، صحون فيها بعض الأطعمة المتعفنة، أرغفة خبز، أوراق وقلم، صحن سجائر وعلب سجائر، صورة صغيرة للأم، حبل قصير، كتاب.
بين ازدحام هذه الأشياء يوجد قفص داخله قطّ مسجون، متوسط الحجم، ليس كبيراً ولا صغيراً.
على يمين الطاولة يوجد كرسيان، أحدهما ملقىً أرضاً.
في المقدمة، بجانب حافة المنصة يوجد تمثال حجري نصفي لامرأة عارية من الوجه حتى سرة البطن دون ذراعين، وبنهدين مكسورين حول الحلمتين، فتبدو بنهدين مشوهين، رأسها مائلٌ إلى كتفها.
على يسار الخشبة في تلك الزاوية البعيدة طاولة ثانية أصغر من الأولى عليها أدوات نحت فوقها غبارٌ كثيف.
أرضية الغرفة مليئة بالأوساخ المتناثرة هنا وهناك، وفي المنتصف يوجد حجر).
تبدأ المسرحية بخمسة مشاهد سريعة متتالية، تحددها الإضاءات والإطفاءات المتعاقبة.
ـــ إضاءة 1:
عقارب الساعة تشير إلى السابعة تماماً، يخرج عصفورٌ من باب صغير أعلى الساعة، يزقزق قليلاً ثمَّ يرجع.
يوسف واقف منتصف الغرفة بثيابه الرثة، يبدو متعباً، يعبُّ من سيجارته ويتأمّلُ الفراغ أمامه بصمت. /إطفاء/
ـــ إضاءة 2:
عقاربُ الساعة تشير إلى الثامنة تماماً، يخرج عصفورٌ من باب صغير أعلى الساعة، يزقزق قليلاً ثمَّ يرجع.
يوسف على الأريكة، يشعل سيجارة ويعبُّ منها، يلتقط كأس نبيذ عن سطح الطاولة ويشرب، يلتفت إلى رجل اللوحة، ثمَّ يزفر الدخان بحنقٍ من بين شفتيه عالياً. /إطفاء/
ـــ إضاءة 3:
عقارب الساعة تشير إلى التاسعة تماماً، يخرج عصفورٌ من باب صغير أعلى الساعة، يزقزق قليلاً ثمَّ يرجع.
يوسف أمام الساعة، يتصاعد منه الدخان، يتأمل العقارب ثمَّ يبدأ جسده بالنوسان مع البندول على إيقاع تكّات عقرب الثواني.
ـــ إضاءة 4:
عقارب الساعة تشير إلى العاشرة تماماً، يخرج عصفورٌ من باب صغير أعلى الساعة، يزقزق قليلاً ثمَّ يرجع.
يوسف مُنحَنٍ على الطاولة وقد اتّكأ عليها بكفّيه، سيجارتُه تتدلّى من زاوية فمه بلا مبالاة، يتأمل القطّ المسجون في القفص، ثمَّ ينفث عليه دخانه وهو يضحك. /إطفاء/
ـــ إضاءة 5:
عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة تماماً، يخرج عصفورٌ من باب صغير أعلى الساعة، يزقزق قليلاً ثمَّ يرجع.
يوسف جالس على حافة المسرح متربعاً على الأرض، جانب التمثال النصفي للمرأة، يتأملها بحزن.. يأخذ السيجارة من بين شفتيه.
يوسف: آآآآه.. لو أنني أستطيع أخذك إلى أريكتي..
/إطفاء/
ـــ إضاءة.
(يوسف على الأريكة، يرفع وجهه من بين كفيه، يطفئ سيجارته بنزق وهو يتأفف بصحن السجائر، يأخذ القنينة ويسكب كأساً آخر، يشرب، يمسح بكفه على شفتيه)
يوسف: (يتنهّد) أين أنت يا أمي؟.. لقد تأخرت كثيراً هذه المرة، لم يعد هنالك الكثير من الطعام والشراب والسجائر هنا، أرجوك.. تعالي، اشتقتُ لكِ ولصوتكِ وأدعيتك، أرجوكِ تعالي ومعكِ المذياع كما أوصيتكِ في زيارتك الأخيرة (يتنهد مجدداً) أكاد أختنق.. أمعقولٌ أن تكون قذيفة مجنونة قد سقطتْ على بيتنا وقتلتْ أمي؟ (يتوتر وتتشنج أطرافه) لا.. لا، أمي لا تزال على قيد الحياة رغم أنف هذه الحرب المجنونة، وسوف تأتي قريباً لزيارتي كعادتها ومعها الكثير من الطعام والشراب والسجائر والمذياع والأدعية الجميلة والابتسامات.. لكن لماذا تأخرتْ هذه المرة؟ (يدسّ أصابعه في شعره الكثيف ليحكّ رأسه) في السّابق أتذكّر أنني كنت أشرب تقريباً ثلاث قناني نبيذ وأدخّن تسع علب سجائر على ما أظنّ بين زيارتين لها، هذه المرة شربتُ أكثر ودخنتُ أكثر ولم تأتِ.. أرجوك، كوني بخير يا أمي (ينهض ويمشي وهو يتحدث مع نفسه) ضوء النهار لا يصل إلى هذا القبو البشع، هنا لا أعرف النهار من الليل، ولا الجمعة من السبت من الأحد، الأيام المقدسة لدى الشعوب، في هذا القبو الكريه تفقد الأيام أسماءها وتفقد قدسيّتها (ينظر إلى الساعة) إنها الحادية عشرة، لكن صباحاً أم مساءً؟ لا أعرف.. متى يكون اليوم صباحاً ومتى يكون مساءً لا أعرف، الذي أعرفه من كلِّ هذا أننا الآن في الشتاء.. أشعر بالبرد (يصل إلى رجل اللوحة) لا تلُمْني أيها الحقير، الحربُ هي التي أجبرتني على الهروب واللجوء إلى هذا القبو، إنها ليست حربي.. مؤلمٌ أن تموت في حربٍ ليستْ حربك، أخذوا أخي ليصير جندياً غصباً عنه وعنّا، ثمَّ انقطعتْ أخباره نهائياً بعد أسابيع قليلة، لم أحاول أن أقنعْ أمّي بمقتله.. أنا متأكد من أنه قد قتل (بغضب) عليك اللعنة، تختبئ داخل لوحة مثل فأرِ وسخ وتسخر منّي ومن هروبي.. لو أنكَ مكاني لهربتَ إلى أول قبوٍ يصادفك، اللعنة عليك وعلى قبوك هذا أيها النحاتُ الفاشل (يشير بيده إلى تمثال المرأة دون أن يستدير إليها) روح مشوّهة كروحك هي فقط من ينحتُ مثل هذه المرأة المشوّهة، ما أبشعكَ وأبشعها.. أكيدٌ أنكَ استطعتَ أن تهرب مثل أغلب الناس هنا من الحرب.. والآن تتمشّى في شوارع مدنٍ بعيدة أو دول أخرى، تبتسم ببلاهة للبشر وترمي بنصائحك عليّ هنا (يبصق على وجه رجلِ اللوحة ويصرخ بغضب) اصمتْ، لا تنظر إليَّ هكذا أيها الوضيع، أنا لستُ جباناً.. إنها ليستْ حربنا، أنتَ الجبان، أنتَ الجبان، أنتَ الجبان.. اللعنة على ابتسامتك البشعة (بغضبٍ يدسُّ سيجارته في ابتسامة الرجل ليطفئها ثمَّ يبتعد) كلّ الأشياء البشعة في هذا القبو بكفّ، وابتسامة هذا الحقير بكفّ، لم أعد أحتملها.. ابتسامته كارثة مثل قذيفة (يلتقط سيجارة أخرى بنزق عن الطاولة، يشعلها ويعبُّ منها) اللعنة على الحرب، كم هي قاسية (ينحني على القط المسجون في القفص) كانت لديّ حياة جميلة أيها القط التعيس، كنا مجموعة من الشباب الرائعين.. نذهب في رحلات ونسهر ونلهو ونشرب، نطارد الفتيات الجميلات ونتغزل بهن (يصمت قليلاً) أين هم الآن؟ هل نجوا من هذه الحرب أم قتلوا؟ هل هم الآن في قبورٍ أم في مدن بعيدة أم مثلي في أقبية بشعة؟ (يتنهد.. يبتعد عن الطاولة، يصرخ) أريد مذياعاً.. أريد موسيقى.. لقد اشتقتُ للموسيقى (بحزن) هل اشتاقت الموسيقى لي؟ (يعبُّ من سيجارته) الموسيقى الوحيدة هنا هي تكّات هذه الساعة العتيقة.. آآآآه، أريد أن أرقص، اشتاقَ جسدي للرقص (يبدأ جسده بالتمايل ليرقص بشكلٍ عفوي وهو يدندن بلحنِ أغنيةٍ لا يجيد كلماتها كثيراً) تيرارااا تيرارااا (يتوقف) سوف ألهو قليلاً، أنا لا أزال على قيد الحياة (يضحك، يسرع إلى الحجر يرفع ساقه اليسرى ويبدأ بالقفز وهو يركل الحجر، ليلعب لعبة الحجل وكأنّه يحاول أن ينسى شيئاً ما، بعد بضع قفزات يقف فجأة وتختفي ابتسامته وكأنه قد استيقظ) كلّ ما أفعله هنا وهم، وهمٌ كبير.. أنقذيني يا أمّي، سوف أموت.. تعبتُ، تعبتُ كثيراً.. كلّ شيء هنا وهم، الحرب فقط هي الحقيقة الوحيدة هنا في الأسفل وهناك في الأعلى (يهتز القبو بسبب انفجارات قويّة في الأعلى، يسرع يوسف ليجلس بخوف أسفل الطاولة) القذائف التهمتْ بشراهة خلال أشهر قليلة كلّ الأبنية هنا ولم تشبع بعد، لا أحد ينجو منها الآن سوى الموتى ورجل أبلهٌ يبتسم في لوحة، وقطٌّ تعيسٌ مسجون في قفص، وامرأةٌ بنهدين مشوهين، وأنا (يغصّ.. يعبّ من سيجارته، تداهمه نوبةُ سعال حادة، يطلع من تحت الطاولة ويشرب قليلاً) ما رأيك بسيجارة أيها القط؟ لماذا لا تدخّن؟ أنت لست صغيراً ووالدك لن يشاهدك وأنتَ تدخّن، هيّا دخّن.. لا تريد (يضحك.. ويبدأ بجنون ببث دخان سيجارته من بين شفتيه على القفص ليعذّب القط وهو يعبّ منها بشكل سريع) استمتع بهذا الضباب أيها التعيس.. أنت الآن بعيد عن الحرب، أنت الآن على جسر لندن، استمتع بضبابها (تختفي ضحكاته، يحدث القط بشكلٍ جدّي) أتريد الخروج من هذا القفص أيها التعيس؟ لنعقد اتفاقية مع بعضنا، إن استطعت أنا الخروج من هذا القبو، سوف أخرجك من هذا القفص، يصيرُ العالم العلوي ملكي ويصير هذا القبو كلّه ملك، وتصبح تلك المرأة المشوّهة حبيبتك.. لكن طالما أنا هنا لن تخرج من هذا القفص أبداً، يا غبيّ أنت طاردتْني وأنا أركض بين الشوارع المدمّرة إلى هنا، أجمل شيء فعلته منذ التجأت إلى هنا هو أنني التقطتكَ لأسجنكَ في هذا القفص، كان قفصاً دون سجين، مثل إنسان دون حلم جميل، القدر اختاركَ لتكون سجينه، أنت الآن الحلم الجميل لهذا القفص (يضحك) أنا بريءٌ أيها التعيس، أنا أداةٌ تنفّذ إرادة القدر.. لا تشتُمْني، عليكَ أنْ تلومَ قدرك (ينتبه لوجود صورة أمّه على الطاولة، ينسى القطّ ويلتقطها، يمشي وهو يتأملها باشتياق) اشتقت لكِ يا أمّي.. أين أنتِ؟ (يجثو على ركبتيه يضمّ الصورة إلى صدره ويتحدّث كحالم) اشتقتُ لحنانك، لابتسامتك، لحضنك الدافئ، اشتقت لحكاياتك في طفولتي، اشتقت كثيراً لنفسي وأنا أراقبك خلسةً وأنت تصلّين بخشوع، ما أجملك يا أمي وأنتِ تصلّين، عندما كنتُ أصلّي لم أكن أشعر بالطمأنينة، لكن عندما كنتُ أراقبكِ كنتُ أشعر بالطمأنينة، صلاتي الحقيقية والممتعة كانت عندما أراقبكِ وأنتِ تصلّين، شكلكِ الأبيض وأنتِ تصلّين يجعل الروح تحلّق عالياً، عالياً، عالياً، دفء، دفء، دفء (يصمت وكأنه استيقظ من حلمه وينهض) للأسف يا أمّي، كلّ صلواتك وصلوات الناس لم تمنع الحرب من أن تأتي وتدمّر كل شيء، الحرب بقذائفها المجنونة أقوى من كلّ الصلوات بخشوعها الجميل، الصلاة لا تنهي حرباً، لكنّ حرباً واحدة تنهي ألف صلاة(يمشي بهدوءٍ إلى الطاولة، يضع الصورة فوق الكتاب، يأخذ الكأس ويشرب، يشعل سيجارة ويمشي وهو يتمايل فيصل إلى تمثال المرأة، يجثو أمامها، يمسح بحنان على رأسها) كم أنتِ جميلة يا أميرتي، أنثى فاتنة، ما أحلاك يا ندى، أحب أن أسمّيك ندى، ذلك الحقير الذي نحتك لم يمنحك اسماً، أنتِ حلوةٌ كصحن كرز على طاولة في حديقة بيتنا الجميل(يصمت، ينحني إليها ويهمس مبتسماً بخبث) تعالي معي إلى أريكتي لنلهو قليلاً، هيا.. لماذا؟ مممم (يلتفت بسرعة إلى الرجل في اللوحة ثمَّ إليها مجدداً، هامساً) أنت تشعرين بالخجل منه، لا يمكنك أن تنامي مع شاب أمامه، هو والدك لأنهُ نحتكِ، لا تهتمي يا حلوة، سأتخلّص منه (يغمزها بعينه، يسرع إلى الأريكة ليلتقط الغطاء ويخفيه خلف ظهره وهو يقترب بابتسامة مصطنعة من رجل اللوحة، يقف أمامه، وفجأة يرمي بالغطاء على اللوحة ليغطيها، يرجع بفرح إلى تمثال المرأة، يجثو أمامها وهو يضع كفّيه على كتفيها) هيا يا حلوة، لنسرع إلى أريكتي ونلهو قليلاً، لقد تخلّصتُ منه، هيا، تعالي معي.. الحبُّ والدفءُ والمتعةُ ينتظروننا هناك (يشير بيده) على تلك الأريكة (ينحني ويقبلها في شفتيها الحجريتين الباردتين) أرجوك، أنا بحاجة للدفء والحب، تعالي معي يا حبيبتي.. أحبكِ يا ندى، سأمنحك ألف قبلة (بتوسّل) على أريكتي سنخلق معاً عالماً دافئاً، هيا تعالي (بغضب) تعالي معي يا غبية، اللعنة عليك أيتها العاهرة، سوف آخذك إلى أريكتي غصباً عنك (يحاول عبثاً عدة محاولات يائسة أن يحمل تمثالها الثقيل فيفشل، يسقط جانبها، يحبو على أطرافه بقهر مبتعداً عنها إلى تحت الطاولة حيث يبكي بصوت مخنوق، سرعان ما ينهض ويقف وكأنه استعاد ثقته بنفسه، يمسح دموعه) لن تعثري على شاب آخر يقبلُ أنْ يحبّكِ أيتها البشعة، من هو الغبيّ في هذا العالم الذي يمكن أن يشارك أريكته مع امرأة بنهدين مشوّهين؟ لن ينام معك أحدٌ أيتها البشعة، ولا حتى أنا، أينقصني أنْ تنجبي لي تماثيلَ صغيرة مشوهة مثلك، يا عين! (يضحك بصخب) تتدللين عليّ ولديك نهدان مشوهان! ماذا لو كنتِ جميلة؟ (يقترب من التمثال وينحني عليه وهو يهزّ بسبابته) أتعلمينَ كم فتاةً جميلةً في حارتنا أحبّتني؟ كنّ يشهقنَ عندما أمرُّ بهنّ، عليكِ اللعنة، يا غبية.. أعظم أشكال التمرد، هو أن يتمرد تمثالٌ على من نحته (يركلُ التمثال ثمَّ يسرع إلى اللوحة ليرفع الغطاء عنها ويغطّي به رأسه، يرجع إلى الطاولة، يشرب قليلاً) ياااااه، لم أعدْ أعرف من أنا! أشتاق للصلوات النقية لأمّي الطاهرة، وبذات الوقت أشتهي جسد هذه المشوهة (يصفع جبينه عدة مرات) من أنا؟ من أنا؟ من أنا (يصمت، ثمَّ يستدرك مع ضحكة مجنونة) أنا الحلم الجميل لهذا القبو البشع، لا أحد نحتني، وهذا أبشع ما فيّ، أو يمكن.. كوابيسي، الحرب، هذا القبو الموحش، هي من نحتني.
لوحة: ربيع كيوان
(يرجع إلى رجل اللوحة) عليك اللعنة أيها الفاشل، لولا أنك بشع لما استطعت أن تنحت مثل هذه المرأة البشعة، لقد صنعت امرأة بلا روح، جسدها مشوّه، أثرُكَ يدلُّ عليك، يشبهكَ، مثلك تماماً (يبصق عليه ويمشي مبتعداً عنه، يتوقف في منتصف القبو، يتنهّد بعد صمت طويل) اشتقت لوجهي، منذ زمن لم أشاهده، لو أنّني أشاهده ثانية، ما أقسى أن يعيش الإنسان دون مرآة (يصمت، يداعب بسبابته ملامحه، يستدرك) وامرأة (يشرب، يعبّ من سيجارته) هل هذا القبو هو اللعنة التي حلّت عليّ؟ أم أنني أنا اللعنة التي حلّت على هذا القبو؟ فلينقذني أحدكم، أريد مذياعاً، أريد موسيقى، أريد أمّي، أريد امرأة جميلة، أريد أن أرى وجهي (يصمت قليلاً، فجأة يتذكر، يبتسم) لماذا لا أرقص؟.. نعم، أريد أن أرقص (تعلو في المكان صوت أغنية، يبدأ بالتمايل عليها ويحرّك أطرافه بشكل متشنّج، يرقص بشكل كوميدي قليلاً، سرعان ما يتعب، يتوقف وهو يسعل، يتأمل مبتسماً رجل اللوحة وقطّ القفص وتمثال المرأة) هل أعجبتكم رقصتي؟ أعجبتكم! (تحتفي ابتسامته، بغضب) يا إلهي ما أبشعكم! كيف يمكن لرقصة بشعة أن تنال إعجابكم، عليكم اللعنة.
(يسرع إلى الأريكة حيث يرمي جسده عليها وفوقه يرمي الغطاء، يرفع رأسه ويخاطب قطّ القفص على الطاولة) أيها القط التعيس، إن جاءت أمّي أثناء نومي أيقظني في الحال (يدسّ رأسه تحت الوسائد وينام).
(صوت تكّات الساعة يعلو، الأشباح الداكنة على الجدار تبدأ بالتحرك بقهقهات مخيفة تعلو ببطء، صوتُ طفلٍ يبكي يعلو ببطء، صوتُ صلوات أمّ يعلو ببطء، صوت لهاثِ امرأة تمارسُ الحبّ يعلو ببطء، صوت آلام إنسان جريح يعلو ببطء، صوتُ مذيع نشرة أخبار يعلو ببطء، كلّ هذه الأصوات تعلو مع بعضها، وجسدُ يوسف على الأريكة يتلو ويتشنّج تحت وطأة كوابيسه، انفجاراتٌ تهزّ القبو فيستيقظ يوسف مرتعباً لتختفي كل الأصوات، ويبقى صوتُ تكّاتِ الساعة، يشربُ النبيذ بعطشٍ ويشعل سيجارة ليعبّ منها بشراهة).
اللعنة عليك أيّتها الأشباح، لا هواية لديك في هذه الحرب غير التسلّي بروحي وكأنها كرتكِ المفضلة (يتأمّل أمامه شيئاً ما وهو يحرّك رأسه، يبدو وكأنّه يراقب شبحاً ما، بغضب) اللعنة عليك أيها الشبح، سأقتلكَ وأجعل بقية الأشباح تتّعظ من جثتك (ينهض بجنون عن الأريكة ويبدأ بمطاردة شيء غير مرئي في أرجاء القبو، وهو يلكمُ ويركل بغضب الفراغ، يقفز على الكرسي ثمَّ على الأريكة ليلكم الشبح اللامرئي)
لن تنجو من لكمتي أيّها الوغد، سوف أقتلك (قبضته ترتطم ببندول الساعة فتكسره من أعلى ساقه، يسقط البندول بعيداً لينكسر، تتوقف السّاعة عن العمل، يتأمّلها بهلع) أرجوك أيتها الساعة، لا تتوقفي عن العمل، أرجوك.. كلّنا في هذا القبو نحتاج لزمن، أتوسّل لك (يجثو على الأريكة) يا إلهي.. أريد زمناً هنا، دون زمن سأختنق، بدون ساعات ودقائق وثواني يصير هذا القبو وكأنه يسبح في عتمة الفراغ الكوني المخيف (ينزل عن الأريكة) يجب أن أعيد الزمن إلى هنا بأيّ طريقة (يسرع إلى البندول المحطّم على الأرض، يحاول إصلاحه فيفشل، يبتعد عنه إلى الطاولة ويشرب كثيراً، يشعل سيجارة) سأموت رعباً دون تكّات الساعة، سوف يقتلني هذا الفراغ المخيف، يجبُ أنْ ترجع الساعة لدورانها (يشرب أيضاً ثمّ يخبط بقبضته على الطاولة بمرارة) أشعر بالاختناق، الفراغ يعصر بقبضته رقبتي، أريد زمناً ينقذني منه (يشرب مجدداً، يلتفت إلى رجل اللوحة ثمَّ إلى قط القفص ثمَّ إلى تمثال المرأة، يقول بألم) عليكم اللعنة، لن يهمّكم توقف الزمن هنا، شيء طبيعي، لأنّكم موتى (ينتبه لوجود الحبل على الطاولة، ينظر إلى القط في القفص، يبتسم ابتسامة مخيفة، يشرب، يلعق شفته السفلى) فكرة! يمكن أن تساعدني في إرجاع الزمن إلى هذا القبو! (يضع الكأس جانباً، يأخذ بهدوء بيسراه الحبل وهو يرمق القطّ بنظرة مخيفة، ثمَّ بيمينه وبشكلٍ جنوني يفتح باب القفص ويدخلها ليلتقطه من رقبته ويعصرها بفظاعة، القط يموء كثيراً يغرز مخالبه بأصابع يوسف، سرعان ما يختنق ويوسف يقهقه بجنون، انفجارات تهز القبو، تتوقف، ترتخي جثة القط).
(يوسف غير مهتمّ للدماء التي تسيل من أصابعه، يخرج جثة القط من القفص، يربط طرف الحبل حول عنق الجثة، يقفز على الأريكة ليعلّق الحبل من طرفه الآخر أسفل الساعة، ينتهي.. يتأمّل جثة القط المتدلّية أسفل الساعة، تقترب كفه اليمنى من الجثة، يضربها بهدوء من جانبها، تبدأ الجثة مع حبلها بالنّوسان تماماً كبندول الساعة، عقرب الثواني يتحرك، يوسف يجنّ فرحاً وهو يضحك ويتنفس الصعداء).
لقد نجحت، لقد نجحت.. عاد الزمن إلى هنا، أعتذر منك أيها القط التعيس، سوف أسمّيك: شهيد عودة الزمن (يقهقه ويبدأ بجسده بالنوسان بنشوة فوق الأريكة مع الجثة، ينزل عن الأريكة، يشعل سيجارة ويمشي).
لا أعرف كم توقف الزمن هنا، نصف ساعة، ساعة، يوم، أكثر، أقل، لا يهمّ.. المهم أن الزمن قد عاد، أظن أن الزمن في الأعلى يسبق زمني هنا بقليل.. لا يهمّ، المهمّ أنه لديّ زمن هنا (يصل إلى أقسى زاوية اليسار، جانب الطاولة الصغيرة التي عليها أدوات النحت، منتشياً، مخموراً، ورغم تأثير الخمر، يشد جسده، يصير كرمح منتصب هنا، يرفع كأسه عالياً ويصرخ بقوة) نخبك يا زمني..
(لا يشرب، يرفع رأسه، بينما كفه المرتفعة عالياً بالكأس، تميل بكفه ليسكب نبيذها على ملامحه ببطء، فيغسل سائل النبيذ وجهه).
/إطفاء/
تنتهي المسرحية بخمسة مشاهد سريعة متتالية، تحددها الإضاءات والإطفاءات المتعاقبة.
ـــ إضاءة 1:
عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة تماماً، لا يخرج العصفور ليزقزق من أعلاها، جثة القط أثناء نواسانها أسفلها تموءُ بحقدٍ قليلاً ثمَّ تصمتْ، معلنةً تمام الساعة.
يوسف واقف منتصف الغرفة بثيابه الرثة، يبدو متعباً، يعبُّ من سيجارته ويتأمل الفراغ أمامه بصمت. /إطفاء/
ـــ إضاءة 2:
عقارب الساعة تشير إلى الواحدة تماماً، جثةُ القطّ أثناء نواسانها أسفلها تموءُ بحقدٍ قليلاً ثمَّ تصمتْ، معلنةً تمام الساعة.
يوسف على الأريكة، يشعل سيجارة ويعبّ منها، يلتقط كأس نبيذ عن سطح الطاولة ويشرب، يلتفت إلى رجل اللوحة، ثمَّ يزفر الدخان بحنق من بين شفتيه عالياً. /إطفاء/
ـــ إضاءة 3:
عقارب الساعة تشير إلى الثانية تماماً، جثة القط أثناء نواسانها أسفلها تموء بحقد قليلاً ثمَّ تصمتْ، معلنة تمام الساعة.
يوسف أمام الساعة، يتصاعد منه الدخان، يتأمل العقارب ثمَّ يبدأ جسده بالنوسان مع البندول على إيقاع تكات عقرب الثواني. /إطفاء/
ـــ إضاءة 4:
عقارب الساعة تشير إلى الثالثة تماماً، جثة القط أثناء نواسانها أسفلها تموء بحقد قليلاً ثمَّ تصمتْ، معلنة تمام الساعة.
يوسف منحن على الطاولة وقد اتكأ عليها بكفيه، سيجارته تتدلى من زاوية فمه بلا مبالاة، يلتقط صورة أمه عن الطاولة، وبهدوء يدسّها في القفص ثمَّ يغلق عليها الباب، ويبدأ بنفث دخانه من بين شفيته عليها بلا مبالاة. /إطفاء/
ــــ إضاءة 5:
عقارب الساعة تشير إلى الرابعة تماماً، جثة القط أثناء نواسانها أسفلها تموء بحقد قليلاً ثمَّ تصمتْ، معلنة تمام الساعة.
يوسف جالس على حافة المسرح متربعاً على الأرض، جانب التمثال النصفي للمرأة، يتأملها بحزن، يأخذ السيجارة من بين شفتيه.
يوسف: آآآآه، لو أنني أستطيع أخذك إلى أريكتي، وقتها.. متأكد، سوف تنتهي هذه الحرب…
(ستار)