آيس كريم

الخميس 2016/12/01
لوحة: فادي يازجي

كان بائع الآيس كريم (الدوندرمة) في حارة المسيحيين في ديركا حمكو، ولداً يتيماً يعيش عند جدَّته لأمه، الجدَّة العمياء التي ابتلت بأفعاله، «كابي» الذي طالما أثار حفيظتي بينما كنت صغيرة لا أدرك فحوى مشاعري التي اتجهت منذ سن مبكِّرة إلى أنسنة الجمادات والموجودات من حولي لعزلة عشتها في كنف عائلة كبيرة، أتوسط البنات فيها فسميتُ نفسي واسطة العقد رغبة مني ليكون مكاني مميزاً، أو لأعيد الاعتبار لشخصي في حياة عشتها سنين طويلة على هامش العائلة التي لم تشعر بوجودي إلا متأخرا، وحين حدث وأدركوا أنني احتلُّ حيزاً من الفراغ في البيت الكبير، كانت حقائبي معدَّة للرحيل عنهم إلى عالمي الخاص الذي خضت فيه معركتي، التي كانت قد بدأت منذ سنيّ الطفولة ولم تكن قد حُسِمت بعد، في ما بعد بالكتابة وحدها استطعتُ إعادة الاعتبار لنفسي التي عاشت القهر بكل صنوفه لأسباب أجهلها حتى الآن، ثم قالوا عني بالمانشيت العريض إنني كاتبة تجاوزت الخطوط الحمراء والمحظور، لم أعلم سبب جرأتي التي استدعت مني تناسي المجتمع من حولي، متجاوزة المحظورات بتحدٍ شرس، علماً أنني كنت خجولة لدرجة الضياع، طويلاً عشتُ حياتي كطيف يرى كلَّ شيء، ولا يقول أيّ شيء، لعل انطباعاتنا المستقبلية ركيزتها الماضي الموغل في البداية، ربَّما كانت بعض الأحداث سبباً جوهرياً في الرغبة من الانعتاق من قيد ما أدمى الروح وعطَّب الذاكرة.

وقت الظهيرة في صيف ديركا حمكو حيث أنتمي كان قيظاً لا يُطاق، والتقليد العائلي كان يقتضي أخذ القيلولة بعد وجبة الغداء الدَّسمة التي كانت تعدُّها لنا أمي الماهرة، كانت تحرص في هذا الوقت على ألا تسمح لنا بالخروج من البيت، وقد كنَّا أطفالا أشقياء لا نترك للوقت مجالا ليفلت من بين أيدينا، لنمارس فيه فوضانا وعبثنا، كنتُ تابعة لأطفال الحي في الشقاوة ولم أكن صاحبة قرارٍ يوماً، بينما كانت أمي تهيئنا للنوم في ذلك اليوم، سمعت صوت بائع الآيس كريم «كابي» ذاك الذي كنت أخافه دوماً، وللمصادفة صار زميلاً لمقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية، بالرغم من أنَّه كان يكبرني بسنوات نتيجة رسوبه المتكرر في الصف السادس، كنتُ قد ادخرت 20 قرشاً من مصروفي الأسبوعي واستبدت بي شهوة للآيس كريم، لازلت حتى هذه اللحظة آكل الجليد كعامل يطفئ حرارة نوبات الغضب التي تنتابني.

خرجتُ خلسة من الباب الكبير لبيتنا حافية القدمين، لألحق ببائع الآيس كريم، حين وجدتهُ كان قد وصل إلى التقاطع الثاني للشارع الأمامي لبيتنا الذي كان يقع على ثلاثة شوارع رئيسة، كان الشارع خاليا تماماً وحرُّ الصيف يُلهب الرؤوس، حين سمع صوتي أنادي عليه توقف في مكانه منتظراً وصولي إليه راكضة

والقروش العشرون في قبضة يدي المحكمة عليها، وصلت إليه منقطعة الأنفاس ألهث:

- أريد بعشرين قرشاً، طلبت منهُ.

- أي، معليش، ردَّ علي.

ثم فتح البراد الصغير الذي يحتوي بوظا الآيس كريم (الدوندرمة) وأخذ قرناً من الكيس الذي يرافق البراد، ثمَّ وضع فيه مقدار ملعقتين صغيرتين من الدوندرمة.

- خدي، قال لي.

بينما وهو يناولني قرن الدوندرمة بإحدى يديه، امتدَّت يده الأخرى إلى ما بين فخذي ليلمسني، تحاشيته وتراجعت إلى الخلف، الأمر الذي جعل قرن الدوندرمة يسقط، لم أعلم حينذاك لم تحاشيته، ربَّما هي أمور نفطر عليها في مجتمعاتنا على أن هناك مناطق خاصة في جسدنا هي التابو الذي لا يمكن الحديث عنه أو الاقتراب منه، ظلَّ هذا المفهوم يرافقني حتى يوم زواجي.

لبراءتي طلبت منه أن يمنحني قرناً آخر، ولكنَّه قهقه بصوت عالٍ ودفعني لأسقط أرضاً، ثمَّ حمل برَّاده على كتفه ومضى، بقيتُ للحظات على الأرض أبكي، ثمَّ لملمت خيبتي، فقد كانت القروش العشرين قد ذهبت ولم أحصل على الآيس كريم أيضاً، عدت خلسة إلى البيت لأختبئ حتى غروب الشمس خلف كوخ المونة خوفاً من العقاب الذي سأناله إذا ما علمت أمي بما حدث معي، حدث ذلك بينما كنت في المرحلة الابتدائية، مضت الأيام لتعلِّمني فيما بعد أن مابين الفخذين يكمن شيء يدعى الشرف للمرأة، ولكنِّي في ذلك اليوم حزنت على قروشي العشرين أكثر من محاولته لمس ما بين فخذي، لأنَّني لم أكن أعلم أنَّ ذلك المكان هو السبب في بلاء البشرية.

بالعودة لبائع الآيس كريم (الدوندرمة) سأشكره دوماً لأنَّه زرع لديّ أولى بذور تشكيل مفاهيم الحنق على مجتمعٍ كانت المرأة هي شماعة الشرف فيه، وستتوالى الأحداث التي ستكون الركيزة التي جعلت منّي ما أنا عليه الآن.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.