أرصفة الرّغبات
الشّاطئ مهجور. انسحب المصطافون بهدوء بعد أسابيع من الشّموس الحارقة والرّمال المتوهّجة. لملمت الأجساد غاياتها وسمرتها وتراجعت بكل هدوء نحو الحياة الأخرى حيث المشاغل والاستعدادات للموسم الدّراسي المقبل. الرّياح الخفيفة تكفّلت بمحو الخطوات فغاب بعضها وبقي بعض أثر لبعضها الآخر. ذلك لم يكن هاجس الرّجل الذي يراه العابرون يمشّط الشّاطئ طولًا وعرضًا ولا حتّى هاجسه هو نفسه، فهو ابن المدينة الصّغيرة. ابن هذا الشّاطئ شبه المهجور الآن بعد انقضاء موسم السّباحة وفي انتظار صيد المحّار.
لا أحد يتعلّم المهن البحريّة فهي تولد وتتربّى وتكبر معهم. غير أنّ البحر بقي في ذاكرة الجميع أشبه بالغول أو بالآلهة. غول لا يرحم، يفترس الجميع ويستفرد بالجميع حين يقرّر على حين غفلة أن يتحوّل الصّخب في جوفه إلى رقصة للدّراويش، فتدور الأجساد تدور وهي في طريقها إلى التخلّص من أرواحها، وإلى إخماد دقّات القلب وامتلاء الرّئتين بالماء الذي منه جعل كلّ شيء حيّا إلى أن يغرق فيه الشّيء فيصبح آلهةً، ويصبح كل شيء ميتًا. هو نفسه لم يتعلّم مهنة البحّار، ولكنّه ركب البحر مرّات قليلةً جدًّا، صاحبه فيها قيء شديد وألم في المعدة ودوار في الرّأس، مما جعله غير قادر على مواجهة الفراغ الذي يحيط بمركب الصّيد الصّغير، الذي كان يقلّه صحبة الرّيّس الكبير، الذي تولّى تدريب كلّ بحّارة المنطقة. تلك المرّات القليلة كانت كافيةً ليتخلّى عن حلم المركب والشّبكة العامرة والصّيد الوفير. وقاده الأمر على مرارته إلى الاكتفاء بالمشي على رمال الشّاطئ.
في خلال جولاته الصّباحيّة الباكرة أو المسائيّة المتأخّرة أو حتّى تلك التي يقوم بها وقت القيلولة حين يتحوّل الشّاطئ إلى جنّة العشّاق، حتّى وإن كانوا قلّة قليلة جدا، تبتعد به الذّاكرة إلى ذلك الحدث، حين ضبط حبيبين متلبّسين بالحديث الذي يحوّل البريق في العيون إلى دموع، كما حدث أن اكتشف أجساد النّساء وهي تغطس في الماء، وتظهر متخفّفةً على غير العادة من بعض الثّوب، كما حدث أيضًا أن اكتشف مخبأ قوارير البيرة غير بعيد من مركز حماية المصطافين. لكنّه أبدًا وإطلاقًا لم يتمعّن في جسد إحداهن، ولا كشف سرّ اثنين كانا قد هربا من موانع المجتمع إلى تسامح البحر.
البحر نفسه غول وآلهة، فهو عندما يبتلع الصّغار والكبار يكون غولًا، وحين لا يأكل ضحاياه يتحوّل إلى آلهة تحرس الحياة، وتؤمّن لها استمرارها، ولا تسأل عن حلال ولا عن حرام. لم يتساءل يومًا إن كان لهذا البحر أُذن تسمع بكاء الآباء والأمّهات، أو همسات المحبّين والمحبّات وهم وهنّ على فراق. كان هو أيضًا يشبه هذا البحر، منبسط صامت قادر على طيّ حكايات الذين وثقوا به، وهرعوا إليه ممتلئين بالرّجاءات والرّغبات.
في جولاته تلك كان يجمع المحار، فالصّيد، وإن لم يتمكّن من ممارسته عرض البحر وفي أعماقه البعيدة عرضًا وعمقًا، فقد ظلّت مهنة البحّار تناديه، وتستحوذ عليه فكرة الشّعور بالحريّة وفتنة المشي على بساط خفيف من الماء في أوّل البحر، أو على رماله المنبسطة الرّطبة.
المحار، يأخذ في تأمّله حين ينتهي من ملء السّطل الكبير، يأخذه واحدةً واحدةً بين أصابعه ويقلّبها يمنةً ويسرةً ثم يعيد رميها في مستقرّها. يعرف ما سيكسبه من بيع محصوله اليوميّ خلال الموسم، ويخطّط لصرف ذلك المكسب على أجزاء: جزء للمأكل والمشرب، وجزء للوازم الأطفال، وإن بقي باقٍ فهو بالضّرورة سوف يخفيه عن أعين الرّغبات ويدّخره للحاجة. لا يذكر أنه استمتع يومًا بطبق المحار المخلّل في ماء البهارات واللّيمون، مصحوبًا بحفنة من البطاطا المقليّة كما يرى على صور المجلات أحيانًا، وعن طريق الصدفة، أو كما يسمع من حديث الشّراء والبيع في سوق السّمك المركزيّة. هذا المنتوج لم يخلق للفقراء، كغيره من المنتوجات التي ينحنون لجمعها، بينما يستمتع بها الأغنياء والوافدون من بلاد البرد البعيدة حين يأتون في المواسم، وما بينها للاستمتاع بغلال البحر الطّبيعية. كذلك كان يواسي نفسه كلّما اشتدّت به الرّغبة في اكتشاف تلك اللّذّة التي لم يدرك كنهها إلّا في بعض المسامرات البعيدة والنّادرة التي كانت قد جمعته بأهل الكيف، وعلب البيرة على غير طلب منه، بل على سبيل اعترافهم له بفضله وقدرته على فعل الكتمان الذي برع فيه.
في الآونة الأخيرة لم يعد سطله يحتوي على المحار وحسب، فقد قلّ ابن البحر وكثر ابن الأرض التّائه في عرض البحار والصّحارى. هل عافت الحيتان قاع البحر وما فيه فانتقلت إلى بحار بعيدة لم يصلها التّلوّث بعد، أم ماتت جرّاء ما تبتلعه غذاءً؟ لم يكن يدور بخلده كلّ ذلك السّؤال المتعلّق بالبيئة، إذ هو نفسه يعاني من انكسار سلسلة التّغذية، فلا هو باللّاحم ولا بالعاشب، بل يراوح بين الحالتين مراوحةً تزداد تعقّدًا وتعقيدًا ومباعدةً، لكنّه يواجه ذلك بالبحث الدّائم عن مورد رزق جديد. هكذا استفاق يومًا على رغبة جامحة في تغيير واقعه. هذا البحر الممتدّ صار شحيحًا، وهذه الرّمال الرّطبة لم تعد تؤوي فضلات المصطافين، ولا عظام السّمك المتروكة هنا وهناك، بل كثرت على صفحتها الأقدار المبتورة.