لعبة الأسماء

الاثنين 2024/01/01
لوحة: إيمان عزّت

حاولت إقناع حبيب أن الأسماء التي نحملها ليست سوى لعبة يلعبها الأهل مع اللغة دون أن يكون لنا أي علاقة بها، وأننا نرثها عنهم كما نرث ملامحنا وأشياء كثيرة منهم في الحياة. بقي صامتا وهو يتمشى كأن ما قلته لا يعنيه أبدا. توقف فجأة وأخذ ينظر إليّ بحدة ثم قال: نحن لا نختلف على الأسماء، نحن نختلف على أدوارنا في الحكاية. أنت تعرف أننا شركاء فيها لكنك تحاول استبعادي لأنك تريد وحدك أن تكون البطل وصاحب الرواية.

قلت باستغراب: ما تقوله غير صحيح ولو كان ذلك صحيحا لما كنت تقف أمامي وتطالبني بحقك في الكلام.

اقترب مني أكثر وقال: أعرف أن سؤالي سيكون غريبا، لكن سأسأله.

قلت: ما هو.

قال: هل تخيلت يوما كيف يمكن للحياة أن تكون لو لم يقوم الأهل بتغيير الأسماء، فأصبح أنا اسما مجهولا من الماضي وأنت من يكون أن تواصل الحياة نيابة عني.

نظرت نحوه بدهشة وأخذت أسأل نفسي كيف لم يخطر ببالي مثل هذا السؤال يوما. هذه الفكرة تصلح لكتابة يمكن لشخصين فيها أن يرويا الحكاية من وجهة نظر كل شخص منهما.

عندما شاهدني واجما، قال: لماذا لا نحوّل الرواية إلى لعبة مع الزمن، كأن نجعل الماضي حاضرا أو الحاضر ماضيا.

سألته باستهجان: وما الغاية من هذا العبث؟

قال: لكي نتحرر من سلطة الزمن. نحن دائما أسرى عنده.

ضحكت من سذاجة طرحه، وقلت: نحن أكثر الشعوب التي تلعب هذه اللعبة معه.

سألنا باستغراب: كيف.

قالت: نحن أكثر المجتمعات التي تسير نحو الأمام وعيونها إلى الخلف. الماضي هو فردوسنا المفقود الذي ما زلنا نتقاتل على ملكيته. الحاضر أصبح مخيفا لنا لذلك نهرب منه إلى الماضي.

صمت قليلا قبل أن يسأل: هل تريد أن تقول لي إن ما أريد فعله لا يختلف عما يفعله الناس في الحياة.

أجبته بحزن: نعم. أنا وأنت شخصيتان دراميتان في حكاية عجيبة. لكن قل لي كيف استطعت بعد خمسين عاما أن تستدل إليّ.

لم يجب. ظل مطرقا طويلا دون أن يقول شيئا، كأن سؤالي كان عن شخص آخر لا يعرفه.

فجأة عاد يسأل من جديد: هل تظن أنني لو كتبت لي الحياة سأكون شخصا آخر لا يشبهك. أرجوك قل لي كيف ستكون الحياة لو تبادلنا الأدوار فيها.

صحت محتجا: ما حدث لن يغير شيئا في الواقع ما دامت الأسماء هي التي تغيرت. عشت لأدافع عن اسمي الذي هو أنا أو كلانا كما تقول. إذن ما الذي سيتغير من أقدارنا في لعبة الأسماء كما تحاول. كان قدرنا أن نولد في أزمنة سوداء. أعرف أنك لا تحسدني على سنوات عمري التي عشتها. أنا وأنت ضحايا وإن اختلفت الأسباب فلا تلمني على ما حدث. أنت أعفاك قدرك من التشرد والقهر والألم وضياع البلاد وأنا ما زلت أبحث عن أيّ أرض تحت أيّ سماء لأحتمي بها من قدري. فلماذا تأتي وتطلبني لكي نتبادل الأدوار والأسماء. هل تعرف ما هي الأسماء. هي مجرد كلمات تولد معنا دون أن يكون لنا حق في اختيارها. لكنها تصبح ما يدل علينا، نخاف عليها من العار لأننا نخاف على أنفسنا. لقد تحولت بعض الأسماء إلى أيقونات لا تسقط بالتقادم، لأنها تعني شيئا مهما في دراما الوجود الإنساني. قابيل وهابيل ونوح ويهوذا والأنبياء وغيفارا ونيرون، كلها.. كلها أسماء، هم لم يختاروها لكن القدر هو من اختار لهم الأدوار التي ارتبطت بهم. هي كانت حاجة لكي تكتمل تلك الدراما الني نعيش فصولها كل يوم.

تكلم. قل أي شيء. حتى الحياة هي اسم مؤنث هل تعرف لماذا. لأنها لا تتوقف عن الولادة. أنت كان عليك أن تموت وأنا كان عليّ أن أكبر وأواصل الحياة. هي هكذا لا تتوقف.

تقدم أرجوك وانظر من هذه النافذة: سترى حياة أخرى وبشرا آخرين. الجميع في سباق لكنها لا تلتفت إلينا ونحن نسقط دون أن ندركها.

بقي صامتا يتأملني، فكان عليّ أن أفاجئه بالسؤال: هل تعرف لقبي الذي حملته مذ كنت طفلا؟

نظر باتجاهي بدهشة وقال: كيف لي أن أعرف ولم أكن موجودا.

ضحكت وقلت له: كان لقبي هو المجنون. فهل ستكون شقيا مثلي وتحمل لقبي دون أن تغضب.

بدل أن يجيب سألني باستغراب ومن أعطاك هذا اللقب.

قلت: والدتي منذ كنت طفلا. هي من سمتني به لأنها كانت تعرف أن أقدارنا تولد معنا.

أنا يا صاحبي ما زلت ذلك المجنون الذي لم يعقل بعد. حاولت أكثر من مرة حين يدركني التعب أن أشفى. لكنني فشلت في كل مرة. شخص ما في داخلي كان يتمرد عليّ دائما. هل أدركت الآن ما الذي تعنيه أقدارنا. أنا وأنت نحن ضحايا أقدارنا. هل تخيلت يوما أن يكون قدرنا واحدا وأن نبقى ضحايا له. الطاغية الذي باع أرضنا وكان سبب تشردنا وقهرنا هو من زال يشردنا ويقهرنا ويغتصب وطننا، والعالم ما زال يكافئه على ما يفعله بنا. منذ عشر سنوات وأنا أركض تحت كل سماء وفي كل أرض ومعي الآلاف المؤلفة هل تستوعب ذلك. أنت ما زلت هناك الطفل الذي ضاع مني. وأنا هنا كل هذا الوجع والخيبات والألم. أنت طويت حكايتك معك واسترحت، وأنا ما أزال أتعثر بحكايتي وأنا ما زلت أطوف بها مثل طائر بجناحين متعبين في كل أرض.

ظل مطرقا يتأمل ما قلته له. انتظرت أن يقول شيئا أيّ شيء لكنه واصل الصمت. سار مطرقا نحو الباب، أغلقه خلفه واختفى. أحسست بالوحشة فكان عليّ أن أبدأ في كتابة الحكاية لعلني أستعيده.

كان المساء قد بدأ يطوف في الأرجاء، والمدينة تستريح من عناء يومها. ركضت وفتحت الباب لعله يعود ولا يجدني لكي أروي له حكاية ما عشت.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.