أبعد مما نقول.. أقرب مما نعتقد
الاستعارات ليست مجازات شكلية، بل هي تصورات فكرية، سواء أكان ذلك في الأدب أو الخطب السياسية أو في الحياة العادية. وقد يتوازى إلى حد بعيد الجمود اللغوي مع الجمود الفكري، فلكي تقول شيئاً مختلفاً عليك استخدام كلماتٍ أو استعاراتٍ مختلفة، والتي تحيل بدورها إلى تصورات جديدة حصراً للنفس والعالم والكائنات. العملية عكسية أيضاً: فلكي تستخدم تعابير مختلفة يجب أن تمتلك تصورات مختلفة ترغمك على تناول اللغة بحذر وبجدية أكبر، ولنقل أن تلجأ لصيغ لغوية مُتحررة من مخلفات الثقافة. وإن كان بإمكاننا غالباً الانتباه إلى ما نقول، ففي الاستعارة أو الرمز لا يمكننا أن نكون واعين تماماً للموروث الثقافي المرافق لقولنا. وقد تفيدنا هنا إشارة بول ريكور إلى أن “الطرق الجديدة لاستخدام اللغة تتطابق مع التغيرات في طريقة إدراكنا للعالم”. أما العفوية المدعاة في الكلمات والاستعارات فهي إدانة شخصية للقول والفكر معاً لأننا، كما يشير إلى ذلك أيضاً الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي لوسيان غولدمان نكتب شيئاً فتُكتب مع كتاباتنا أشياء أخرى كثيرة. أو لنوسعها أكثر: نقول شيئاً، فنقول أكثر مما قلناه جهراً.
لكي نذهب خطوة أبعد من الكلمات يمكننا القول إن ما نكتبه/نقوله بغير وعي هو الذي يديننا، أي بمعنى أن إبقاءنا على التصورات الفكرية والعقائدية والتحيزات الاجتماعية وترك كل شيء في خزانة المتفق عليه هو الذي يُديننا. نسمع في تحليلات الأدب عادةً عبارات من مثل تفكيك البنى الفكرية، “تعرية” الأنظمة والسياسات، وهذه كلها فحولات فكرية (أستخدمها هنا بوعي ليتناسب قولي مع الفكرة) لا يجب الاكتفاء بإثباتها على مستوى الحدث والإدانة العلنية ولكن بالنبش عنها من خلال الكتابة نفسها، ومن خلال اللغة وما أخُفي فيها. والسبب أننا لا ندين فعلاً أو سياسة ما عبر قصص صريحة فحسب، بل بالنبش في بنيتها ومن خلال اللغة والتراكيب أولاً. فتكون الأسئلة المهمة لمعرفة إلى أيّ مدى استطاع كاتب مّا تفكيك البنى الفكرية القمعية أو “تعرية” السياسات السائدة لا من خلال قوله الجهوري أو إيراد أحداث وأمثلة تحدث كل يوم ويعرفها الجميع، بل من خلال الحساسية اللغوية. أي من خلال لاوعي النص. في أيّ قراءة مباشرة، يمكننا إدانة البشاعة إدانة صريحة وواضحة ونحن نفعل ذلك على الدوام، لكن الإدانة تبقى على السطح ما لم تتشكل رمزياً داخلنا، أي أنها لا تصل إلى عقولنا ما لم تحل إلى رمز مناقض للرموز التي اعتدنا عليها، فتخلق عندئذ صدمة في تصوراتنا المتوارثة. هل تمكّن كاتبٌ مّا بحق من خلق فوضى على المستوى اللغوي؟ هل عرض الحدث كما يعرضه الواقع أم ذهب خطوة أبعد وتعامل بحكمة مع الموروث الثقافي المستتر وراء القول الصريح؟ هل تمكن من بعث شرارات هنا وهناك من خلال رموز واستعارات وعلى المستوى المبطّن؟ اللغة وحدها تقول لنا ما قاله وما لم يقله الكاتب. فقد يقوم كاتب مّا بإدانة سياسة مّا عن طريق تراكيب ثقافية واستعارات تستحق هي الأخرى إدانة من نوع مختلف، أي أن هذا النوع من الانتقاد يدين على جبهة ولكنه يدين نفسه على الجبهة الأخرى. مثال ذلك ربط رمزية السلطة بالجنس، وعوض فضح السلطة بطريقة خلاقة جديدة، يلجأ الكاتب إلى قصة رمزية جنسية حصراً، وعلينا كقرّاء أن نفهم أن هذه الإدانة تساوي تلك. لكن يتضح لنا أن ما يعارضه الكاتب على مستوى السلطة يفضحه إخراج القيح المتراكم على مستوى التفكير الجنسي أو التحيز الجندري.
أذكر أني حضرت يوماً أمسية شعرية وكانت إحدى القصائد تُشبّه القُدس بالفتاة والغزاة بالمغتصب، وعنوان القصيدة كان “ليلة الدخلة”. ورغم ما تبدو عليه هذه الاستعارة من ابتذال، إلا أنه ابتذال نابع من وضوحها، أما الاستعارة في حد ذاتها فهي من أكثر الاستعارات المستخدمة عند الحديث عن الأرض أو الوطن. ضجت القاعة بأكملها لدى سماع هذا التشبيه الخارق، كان بإمكانك إعطاؤهم البارودة واحداً واحداً وإخراجهم من قاعة الشعر إلى الجبهات على الفور. للأسف هذه ليست غاية الأدب المُتقن، غايته بالدرجة الأولى كسر الروابط الرمزية في فكرنا. ربط القدس أو الأرض بالمرأة بطريقة وصائية وتشبيه الاحتلال بالاغتصاب الجسدي وربط السلطة بالجنس عامةً هو رمزية متكررة وباهتة إلى درجة الملل. وهذه الرمزية إذ تعتقد أنها تدين المغتصب على جبهة فإنها تستبقي على التصور الذهني المتحيّز من خلال فحوى الاستعارة ذاتها على الجبهة الأخرى. هذه الصور المتكررة في الخطابات والأدب والأناشيد والأشعار وحتى في النُكت والحياة العادية تخلق هيجاناً دون أن تُقدم شيئاً ناضجاً ومثمراً على مستوى التفكير. بل على العكس تستبقي التحيزات ذاتها فتخنق الفكر النقدي مقابل لحظة عاطفية عمياء.
مثل هذه الاستعارات كثيرة إلى الدرجة التي يمكننا إن فجرناها أن ننقذ اللغة ومن ثم تفكيرنا من الكثير من السموم فيها ونبني فكراً سليما وبنّاءً إلى حدٍ بعيد. فالكثير من الإسقاطات تشوه الفكر وتحمّس العقل الجماعي لكنها لا تسعف العقل الفردي على التمييز ولا تحرضه على التفكير الحيوي. وقد لا نبالغ إن قلنا إننا نحمل العنصرية والتحيز في خطاباتنا وموروثنا اللغوي أكثر مما نحمله في سلوكياتنا اليومية. وإن كان الخطاب ساماً إلى هذه الدرجة أفليس أولى بنا أن نحرره أو نسعى على الأقل إلى زرع فكرة التشكك فيه قبل قبوله أو الخضوع له. الحقيقة أننا كائنات لغوية لم تنتبه إلا قليلاً إلى السكين الذي يزرعه الخطاب فينا هنا وهناك بينما نعتقد أننا نداوي الجرح بالقول.
هناك مقولة وردت في فيلم منسوبة لتروتسكي يقول فيها “الثورة كالمرأة، إنها في حاجة إلى رجل حقيقي. كونوا رجالاً! خصّبوها وهي ستنجب لكم عالماً جديداً، عالماً عادلاً”. لننظر فيما تتضمنه هذه الاستعارة بعيدا تماماً عن فكر تروتسكي نفسه، لأن العبارة هي التي تهمنا وهي وإن نُسبت إلى فرد فإنها من العبارات المألوفة التي يمكن أن يكون أياً كان قائلها.
تعطينا هذه العبارة نموذجاً واضحاً لتلك المقولات التي تبني على طرف وتهدم على الطرف المقابل، أو التي تقول شيئاً واضحاً تريدنا أن نفهمه كما هو، بينما تحافظ على تصورات بالية ومتحيزة تجاه المرأة. ففي مقابل تعظيم “الثورة” هناك توضيع للمرأة: تشبيه الثورة بالمرأة يضع الرجل في مكان الفاعل والمرأة في مكان المفعول به. ونعرف أن ثنائية الفاعل والمفعول به أثقلت ولازالت الحمل على رؤيتنا لكلا الجنسين، فالذكر هو الفاعل، المؤثّر الإيجابي، بينما الأنثى تمثّل السلبية والتلقي المرتبطان بالرحم، لأن “التشريح هو القدر” حسب الزعم الفرويدي. “خصّبوها” كفعل إنتاجي تذكّرنا بالأبقار أكثر منها بالنساء، “كونوا رجالاً” تنفي النساء كاملاً من أرض الثورة مع أن النساء ثرن إلى جانب الرجل أو عملن على الجبهة الأخرى، جبهة الإنجاب والتربية. وأقول الجبهة الأخرى لأن الإنجاب ليس عملية تلقائية لاواعية كما يحب الكثيرون اعتباره، بل جبهة حقيقية تتطلب التضحية والعمل والثبات والاستمرارية لتكون. عبارة “تحتاج إلى رجل” تنفي المشاركة وترسخ قصور المرأة: فهي تحتاج، مع أن الفرق بين المرأة والثورة، هو أن الثورة تحتاج بحق إلى أبنائها ورجالاتها ونسائها، لكن المرأة لا تحتاج بنفس الدرجة إلى أحد، وذلك لأن الثورة “مفهوم”، أي لا تُوجد إلا من خلال حراسها وخطاباتها ومن يؤججها رجالاً كانوا أم نساء، بينما المرأة موجودة دون عامل خارجي لأنها “كائن حقيقي” من لحم ودم وليست مفهوماً مجرداً، كما أنها فاعل يؤثر في الأشياء والمفاهيم والأفكار تماماً كما الرجل. “الثورة ستنجب لكم عالماً عادلاً” تحيل بدورها إلى بنية فكرية أخرى تخص الإنجاب، فتوحي أنه لمجرد أن تنجب تنتهي مهمتك كأب، كفاعل. أما حدود مهمتك فهي بأن تُلقي أولاداً في المكنة التي وضعت فيها بذرتك. لكن الأمر ليس ذاته لا على مستوى الثورة التي إن خصبتها لن تجني ثمارها بتركها بل بملاحقة مكتسباتك ولا على مستوى إنجاب طفل. ففي الحالتين أنت المسؤول، وحتى إن أدرت ظهرك فما أنجبته يلاحقك، يتشبه بك، يقيدك ويفسر وجوده بناءً على وجودك. لكن هذه الإحالة هي للأسف تصوير حقيقي لما يحدث في الواقع. وقد يفيد أن نتذكر أن الثورة المندلعة تصبح بعد وقت لعبة الرجال، الأوصياء على الثورة والمرأة، ولكنها تلقي بكل وبالها على النساء والأسرة والأطفال لأنهم يُخرجون من اللعبة ويتبقى لهم الواقع أو كواليس المسرح المُهدّم. والخروج خارج اللعبة هو أيضاً رسالة إلى المرأة تفيد بأن قواعد اللعبة باتت ذكورية، ما يعني أن النساء لسن لامباليات بل مقصيات. وفي صدد قواعد اللعبة، كتبت المؤلفة والشاعرة والقيادية في الحركة النسائية الدولية روبن مورغان عملاً تحليلياً فذاً يمكنه أن ينسف تصورات كثيرة في أذهاننا بخصوص العنف والحرب ووجهة نظر النساء فيه، وهو بعنوان “عاشق الشيطان”. تقول الكاتبة “فنحن لم تكن لدينا فرصة للتأثير على عجلة الثورة أبداً، فهي تدور بين الأب والابن. ونحن غير قادرات على إدارتها ولا على ركوبها، لأننا لسنا عليها، لكننا على أيّ حال، قد وقعنا في شراكها… ويتطلب التحول إدراكنا بأن غضبنا المبرر ضخم جداً بحيث لا يحتمل أن يتمكن العنف المجرد من التوجه إليه.”
بالعودة إلى مثال القصيدة والمقولة الواردة في الفيلم، ننبه إلى أنه يمكن لأيّ أحد أن ينتقد هذا التفكيك والتحميل الزائد للكلمات لمعانٍ يبدو أنها لم تقلها حرفياً، لكن هنا يكمن سر ضرورة الانتباه للتراكيب والأفكار المتخفية خلف استعاراتنا التي نعتقد ببداهتها وعفويتها. المنتقد لا يعلم أننا نفهم عن طريق إنشاء الروابط، والتي تسمح بدورها بتكريس رؤى نمطية، تقليدية، غير عادلة تماماً للكائنات الأخرى وتجعل الفكر يدور في عجلة هامستر لانهائية. هذه الروابط تُظهر شيئاً تريدنا أن نفهمه وأن نخطو بعيداً في اتباعه وإجلاله، بينما تتضمن في نفس الوقت مضامين متخلفة لو انتبهنا لها. ولنلاحظ هنا أن الحميّة والفحولة التي تستدعيها مثل هذه الشعارات تقوض قبل أن تبني لأنها تجعل غليان الدم في العضلات سببا لبرودته في الرأس.
يجدر بنا القول هنا إن تفكيك الرمز في الأدب والشعر والخطابات الثورية وفي الحياة عامةً هو ضرورة لنزعنا من البراءة الأولى ووضعنا على طريق كشف توجهنا الذي أخفته الاستعارة طويلاً. كشف توجهنا الكامن خلف استخدام الرمز سيقول لنا الكثير عما سيّرنا دون وعي منا ودون إدراك حقيقي لتفضيلاتنا.
الوصول إلى بنى التفكير يمر باللغة إذن، ولكي نفككها علينا تفكيك اللغة فيها، فهذه الطرق في تناولنا لمواضيع عديدة ليست مجرد طريقة رمزية جمالية لربط شيء بشيء. ففي مثال المرأة والثورة، لا يعني ربطهما ربط شيئين عزيزين علينا (المرأة والثورة) أو شيئين نخاف عليهما، ولكن لأننا نفكر بهذه الطريقة الوصائية في المرأة والثورة. في مثال الشاعر والمثال المنسوب لتروتسكي واضحٌ أنهما لم يختارا هذه الكلمات بالذات لأنها جميلة لغوياً أو ملهمة بل لأن النسق التصوري أو التفكير الكامن خلفهما يعمل بهذه الطريقة.
قد يقول قائل “لكننا لا نفكر هكذا، لم يخطر في بالنا أننا نضعف قيمة المرأة بأيّ من تعابيرنا”، وهذا كلام صحيح بقدر ما هو سطحي، والسبب هو أن المدعي لا يعرف بعد كيف تُسهم الكلمات في تشكلنا. يشير الناقد عبدالله الغذامي في حديثه عن النقد الثقافي إلى أنه “مع كل خطاب لغوي هناك مضمر نسقي، يتوسل بالمجازية والتعبير المجازي، ليؤسس عبره قيمة دلالية غير واضحة المعالم، ويحتاج كشفها إلى حفر في أعماق التكوين النسقي للغة وما تفعله في ذهنية مستخدميها.”
وأيّ كشف في بنية اللغة والمجاز سيخبرنا أن الكلمات ليست تعابير محايدة، بل هي أيضا إسهاماتنا ورؤيتنا للعالم وللآخرين. ومن هذه الزاوية يمكننا القول بكل ثقة إننا لا نُوجد إلا عبر اللغة، عن طريق كلماتنا نبني أنفسنا ونبني الآخر ونبني العالم. إن كوناً أخرس ليس كوناً إنسانياً، لأنه كونٌ بلا أحكام، بلا تواصل، بلا قوة بنائية. العالم الذي نعيشه يشبهنا جداً، لا لأنه فُصّل لنا، بل لأننا نحن من أنشأناه، حرفياً، وبالكلمات أولاً.